نلتقي في هذه الأيام بذكرى ولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) وهو الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، ونحن عندما نتطلع إلى المرحلة التي عاشها نجد أنها أغنى المراحل في الواقع الإسلامي آنذاك، لأنها كانت تمثل عصراً مليئاً بالحركة العلمية، خاصة وأن "المأمون" وهو خليفة تلك المرحلة كان من الخلفاء الذين عاشوا الاهتمامات العلمية المتنوعة.
ولاية العهد
وعندما ندرس عصر المأمون فإننا نجد أنه عصرٌ مميز في مرحلة الخلافة العباسية، وقد عاش الإمام الرضا "سلام الله عليه" في قلب الساحة من خلال الظروف المتنوعة التي أحاطت بالخلافة العباسية آنذاك في الصراع بين الأمين والمأمون، الذي انتهى بانتصار المأمون على الأمين وببعض التعقيدات في جو الواقع العباسي العائلي.
من أجل ذلك بادر المأمون إلى أن يجعل ولاية العهد من بعده للإمام الرضا(ع) على اعتبار أنه الإنسان الأفضل الذي يستحق هذا الموقع كما جاء في بعض كلمات المأمون. ويختلف الناس في سر قبول الإمام ولاية العهد بين من يقول أنه قبلها تحت تأثير الضغط وبين من يفسرها بتفسيرات أخرى، وبين من يعتبرها حالة طبيعية لا تمثل اعترافاً بشرعية الخلافة بمقدار ما تمثل انفتاحاً على الواقع كله الذي يمكن للإمام أن يأخذ من خلاله فرصته الكبرى، في إغناء الواقع الإسلامي بعلمه وثقافته وروحانيته وكل ما تمثله الإمامة في شخصيته من أسرار إلهية وأسرار عامة، لسنا في مقام الحديث عنها.
الإمام المعصوم
إننا يمكن أن نختصر المسألة بأن الأقوال مهما اختلفت فإن الإمام يملك من معرفة الله ويملك من عصمته ما يجعل كلّ عملٍ يقوم به عملاً منسجماً مع عمق الإسلام ومع امتداده، وعندما ندرس تاريخه من خلال شهادة كثيرين من الناس الذين يمكن أن نقول عنهم أنهم من الحياديين، فإنهم يقولون أنه "ما سئل عن شيء إلا علمه" وما حاوره عالم وجادله إلا اعترف له بالفضل واعترف بتقصيره أمامه، وقد أحصى بعض رواته خمس عشرة ألف مسألة مما سئل عنها وأجاب عنها، كما أن المأمون كان يحشد له أصحاب الديانات والمتكلمين وأصحاب الفلسفات وكانوا يسألونه مختلف الأسئلة التي قد تتصل بالجانب الفلسفي في بعضها الآخر، فكان يجيبهم جميعاً ويعطيهم الكلمة الفصل في ذلك كله، ومن الأمور التي يذكرونها عنه أنه كان لا يجيب عن مسألة من المسائل إلاّ وينتزعها من القرآن، بحيث كان القرآن هو المصدر الذي يمثّل كل ما تختزنه تلك المسائل من معارف وأفكار، وإذا عرفنا تنوع تلك المسائل تبعاً لتنوع ساحات الصراع ومواقع الصراع في ذلك العصر، فإننا نعرف من خلال ذلك كله كيف هو وعي الإمام للقرآن في عمقه وفي كل أسراره.
وقفة مع كلمات الرضا(ع)
وفي هذه الوقفة القصيرة نريد أن نعيش مع كلماته التي تبقى في مدى الزمن، فهناك كلمة حدّث الناس بها عن رسول الله(ص) عن الله، وهناك كلمة انطلق بها من خلال ما يريده الناس من فهم للحياة ومن مسؤولية الإنسان للحياة، ومن تفسير معنى أن يحيا الإنسان حياته.
الكلمة الأولى قالها وهو في الطريق إلى "طوس" وقد اجتمع عنده الرواة قالوا: حدِّثْنا، فأعطى الحديث عناوين جعلت أحد أئمة المذاهب وهو "أحمد بن حنبل" يقول عن هذا الإسناد "أنه لو تُلي على المجنون لأفاق" قال: "حدثني أبي موسى بن جعفر قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدثني حبيبي رسول الله، قال: حدثني جبرائيل عن الله أنه قال: "كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمِن من عذابي"، لاحظوا اختيار الإمام "سلام الله عليه" هذه الكلمة أمام هذا الجمع الغفير الذي كان الرواة فيه يعدون بالآلاف وكل يمسك قلماً وقرطاساً لتدوين هذا الحديث الذي ينطلق مما يريد للناس أن يعوه وهو أن التوحيد بكل ما يحمل بداخله من أسرار، وبكل ما يفتح في الإنسان من آفاق، وبكل ما يتحرك من خلاله في الحياة من مسؤوليات, هو عمق الدين كلّه، ليس هنا إلا التوحيد ثم كل ما بعد التوحيد حركةٌ في خطه، ولذلك قال: "كلمة لا إله إلا الله حصني" هي الحصن الذي إذا دخله الإنسان أمن من عذاب الله، ونحن نعرف أن الدين هو حصن الله، فقد اختصر الله سبحانه وتعالى الدين بالكلمة الأصل التي انفتحت في خط الامتداد على الواقع {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت:30].
"ربنا الله" هي الحقيقة، هي كل شيء، وعندما يكون الله ربنا فإن معنى ذلك أن يكون الله وجهتنا، أن تكون طاعتنا له، أن تكون عبادتنا له، أن تكون محبتنا له، أن يكون توجهنا إليه، ألاّ نحب أحداً إلا من خلال حبه، وأن لا نطيع أحداً إلا من خلال طاعته، وأن لا ننطلق في غير خط شرعيته، أن يكون ربنا الله يعنى ألا نلتفت إلى غيره، فكلهم عباد الله، ولذلك نقول: "أشهد أن محمداً عبده ورسوله"، وهذا هو الذي يجعلنا ننفتح على كل أنبياء الله وعلى كل أولياء الله من خلال علاقاتهم بالله سبحانه وتعالى، وبذلك لا نشعر ونحن ننفتح على نبيٍّ هنا وإمامٍ هناك ووليٍّ هنالك أننا نبتعد عن التوحيد، لأننا نؤمن بالنبي أنه رسول الله، ونؤمن بالولي أنه ولي الله، فالله هو الذي أرسل هذا وهو الذي نصّب ذاك، ونحن نطيع الله في رسوله، ونطيع الله في وليّه عندما نتّبع الله الذي يقول:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [محمد:33].
عمق التوحيد
من خلال ذلك ـ أيها الأحبة ـ علينا أن نعيش عمق التوحيد عقلاً وعمق التوحيد قلباً وعمق التوحيد حركة، حتى نستطيع أن نوحد الله، وأن ننفتح على كل من يتحرك في خط الله من خلال الله وحده، لأنني إنما أستوحي ذلك من الإمام "سلام الله عليه" في اختياره هذا الحديث من أجل أن يوجه الناس إلى هذا العمق التوحيدي في الانفتاح على الله، حتى لا يستغرق الناس في أي شخصٍ في ذاتياته، وإنما ينطلقون به من خلال الله كما رُوي عن عليٍّ(ع) أنه قال "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه وخلفه أو معه"، بحيث كان كل شيء في الدنيا من إنسان وحيوان وسماء وأرض، يمثل وسيلة من وسائل اكتشاف الله في داخله باعتبار سرّ الله في الداخل.
الإيمان قولٌ وعمل
الكلمة الثانية التي رواها بنفس السند قال: عن رسول الله(ص): "الإيمان قولٌ وعمل" فليس الإيمان خفقة قلب وليس الإيمان كلمة تنطق بها، ولكن الإيمان ذلك كله، وهو أن تعقد قلبك منفتحاً على الله، وأن ينطق به لسانك، فلا يكفي أن تعيشه في عقلك، بل لا بد أن تؤمن في هدى قوله تعالى: {وأُمرت لأن أكون أول المسلمين} [الزمر:13]، وأن تعلن ذلك للناس ليؤكد موقفك، ليكون ذلك بمثابة الإيحاء النفسي الذي توحي به لنفسك أنك لا تتحمل مسؤولية إيمانك في داخل عقلك فحسب، ولكنك تسجل على نفسك إيمانك أمام الناس ليحاسبوك على أساسه، ثم تعمل على أن تتحرك في خط الإيمان، لأن قيمة الإيمان هي بمقدار ما يحركك وبمقدار ما يجعلك تستقيم في الطريق في كل مواقعه.
إن المسألة هي أن الإيمان حالة في العقل وفي القلب ودليل الجدية فيها هي أن يتحرك الإيمان في الواقع، لأن الله لم يرد لك فقط أن تعيش معه في الأجواء الصوفية التجريدية لتتحدث عن حبك له وعن عشقك له وتنفصل عن الواقع، لكنه أعطانا معنى حبه، وهو ليس في نبضات القلب ولكنّه في حركة الواقع {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران:31]. فعلامة حب الله أن نتبع رسول الله في رسالته فذلك تأكيد على هذا الحب، وقد جاء في بعض الأبيات:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في الفعال بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحـبُّ مطيعُ
وقد جاء في بعض الأحاديث عن الإمام الصادق "سلام الله عليه" جواباً عن سؤال بعض الناس، قالوا: "إن هناك من يقول: إننا نرجو الجنة ونخاف من النار، قال: كذبوا، ليسوا براجين ولا خائفين، من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيء هرب منه"، أنتم ترون الجنة لكنكم لا تطلبونها فيما يهيىء لكم الطريق إلى الجنة، وتخافون من النار ولكنكم تندفعون في كل ما يقربكم من النار.
أحسن المعاش
الكلمة الثالثة، سأل بعض أصحابه ولم يرد له أن يجيبه، ولكنه أراد له أن يعيش الفكرة في نفسه قال: "مَن أحسن الناس معاشاً؟ ـ وكأني بذلك الشخص فكّر إن أحسن الناس معاشاً من كانت حياته رضية آمنة مليئة بكل ما يشتهيه وبكل ما يحبه من ماديات ومعنويات، إن الناس يفهمون من السؤال فيما يعيشونه في داخل واقعهم وداخل ذواتهم، قال: أنت يا سيدي أعلم، وكأنه أحسّ أن الإمام "سلام الله عليه" يختزن معنى آخر ـ قال: أحسن الناس معاشاً من حسُن معاش غيره في معاشه ـ قال: من أسوأ الناس معاشاً؟ قال: أنت يا سيدي أعلم ـ قال: من لم يعش غيره في معاشه"!!
هناك أناس يأتون إلى الحياة والحياة بشكل معين، ويتحركون ويعطون علمهم للجاهلين ويعطون قوتهم للضعفاء، ويعطون خبرتهم لمن يحتاج إليها ويحركون مالهم في حاجات الناس، ويحركون جاههم في خدمة الناس، ويؤسسون ويبدعون، وينطلقون ليكون كل زمنٍ لديهم وكل جهدٍ لديهم من أجل حياة أفضل، ولكي يجعلون واقع الحياة أرحم، فلقد جاءوا والحياة ضيقة وأصبحت الحياة بعد أن ذهبوا منها واسعة، بحجم ما وسّعوا فيها "من حسّن معاش غيره في معاشه" عاش وعاش الناس معه تماماً كما هو النبع الذي في أعماق الأرض، فهو يتدفق ويعطي الخصب هنا والرخاء هناك، والريّ هنا، وتأخذ منه فيبقى يتدفق.
فضل المجتمع علينا
وهكذا الإنسان الذي يعيش روحية إنسانيته في معنى الآخرين، الإنسان الذي يعتبر أن له صفتين: صفة ذاته الشخصية وصفة كونه إنساناً، صفة كونه إنسانا يشعر أنه مندمج بالآخرين وأنه ليس معزولاً عنهم, ولا بد أن نفكر أيضاً أننا عندما نعطي المجتمع، فنحن لا نتفضّل عليه، فلقد أخذنا من المجتمع الكثير، بدأ مجتمعنا مع أبوينا حيث كانا الوسيلة الإلهية لوجودنا وربيانا ورعيانا ثم دخلنا المدرسة التي بناها المجتمع، وتطببنا في المستشفى التي بناها المجتمع، وتحركنا في الأجهزة التي بين أيدينا التي صنعها إنسان هناك وانطلق بها إنسان هنا، المجتمع أعطانا بكله.
فعندما نعطي المجتمع، فإننا نرد إليه بعض جميله على طريقة ذلك الحكيم الفارسي الذي سأله كسرى وقد كان فلاحاً حيث رآه يزرع النخل وكان عمره تسعين سنة: "هل تأمل أن تأكل من نخلك؟ ـ والنخل يحتاج إلى وقت طويل ـ قال: غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون"، فكل جيلٍ يتحمل كما تحملت الأجيال التي قبله، فصنعت لنا الكثير مما عشناه في الحياة، فعلينا أن نصنع للأجيال المقبلة ما يمكن أن تعيش فيه ليعطي كل جيلٍ إبداعه للجيل الآخر ويعطي طاقته.
ونحن نعلم ـ أيها الأحبة ـ أن طاقتنا ليست ملكنا، كل طاقة من طاقاتنا هي أمانة الله عندنا، قوتك لك وللآخرين، علمك لك وللآخرين خبرتك، وجاهك، ومالك، لك وللآخرين، ليس هناك شيء اسمه الأمة معلقاً في الهواء، ليس هناك شيء اسمه المجتمع معلقاً في الهواء، فالأمة هي أنا وأنت والآخرون، والشعب هو أنا وأنت والآخرون، لذلك فإن طاقات الأمة عندي وعندك وثروة الأمة عندي وعندك، فإذا منعت الأمة ثروة علم وخبرة وقوة فقد سرقت ثروتها وأنت حينئذ سارق.
ولذلك وجدنا الآية الكريمة التي تلعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة:159]. ورأينا الحديث النبوي الشريف: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة الله"، لأنه ليس حراً في أن يكتم علمه، لأن علمه ليس له، بل له وللآخرين، وهكذا المال، فإن الله يقول المال ليس مالك في العمر: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33]. {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7]. وهكذا انطلقت النظرية الإسلامية من أجل أن تكون إنساناً وأن تكون مسؤولاً عن الإنسان حولك وعن الإنسان بعدك، وأن تعطي من كل نفسك. أما إذا كنت تعيش لنفسك وكنت الأناني البخيل بعلمك، البخيل بخبرتك، البخيل بقوتك، البخيل بجاهك، البخيك بطاقتك، وبكل ما عندك فأنت من أسوأ الناس معاشاً، لأنك سجنت نفسك في داخل زنزانة ضيقة هي ذاتك ولأنك عشت تماماً كما تعيش البِرْكة "الحوض" فيها ماءٌ تستعمله ولكنه بعد ذلك يتعفن، فهل تريد أن تكون كالحوض الذي يأسن أو تريد أن تكون في الأنبوب الذي يتدفق ويبقى يعطي مهما استعملته "أحسن الناس معاشاً من حسُن معاش غيره في معاشه، وأسوأ الناس معاشاً من لم يعش غيره في معاشه".
زيارة الرضا(ع)
أيها الأحبة، الكثيرون يقطعون المسافات لزيارة الرضا(ع) في غربته وعندما تذهبون إليه سيسألكم في عليائه، هل أنتم ممن حسُن معاش الناس في معاشهم، أو أنتم من أسوأ الناس معاشاً؟! قبل أن تقرأوا الزيارة وقبل أن تقوموا بكل الطقوس، زوروه في عقولكم، زوروا كلماته، زوروا مواعظه، زوروا مفاهيمه، فقيمة الزيارات كلها، للأئمة والأنبياء والأولياء، ليس أن تحدّق في القفص أو حتى أن تحدق في الجسد، حدّق في معنى النبوة في النبي، ومعنى الإمامة في الإمام، ومعنى الولاية في الولي، حتى تستفيد من ذلك ليكون فيك جزء من رسالية الرسول، ومن إمامة الإمام، ومن ولاية الولي، وعند ذلك يمكن أن تكون مقبول الزيارة، لا أن تزور بكلمات ترددها دون وعي وبفكرٍ بارد بعيداً عن الجو الروحي، فإن الزيارة هي من أجل أن نعيش من نزوره في كل مواقع العظمة فيه، وذلك هو ما نريد أن نثيره في ذكرى مولد الإمام الرضا(ع).