ملامح المجتمع الرسالي في فكر الإمام الصادق(ع)

ملامح المجتمع الرسالي في فكر الإمام الصادق(ع)

يحدّثنا الإمام الصادق(ع) في ما رُويَ عنه عن المؤمن وملامحه، في حركته في المجتمع، وحركته أمام التجربة، فيقول(ع): "المؤمن حسنُ المعونة ـ هو الذي لا ينكمش في ذاته، ولكنه يعيش مع النّاس ليعاونهم ويساعدهم في ما يحتاجونه من طاقته، أيّاً كانت طاقته ـ خفيف المؤونة ـ لا يُثقل على الناس، ولا يكلّفهم شيئاً كبيراً ليرهقهم في تحمّل مسؤولياته ـ جيّد التدبير لمعيشته ـ يعرف كيف يتحرّك في معاشه، سواء كان معاشاً في حجم تحصيل الرزق أو صرف ما رزقه الله، أو معاشاً اجتماعياً، فإنَّ المؤمن في هذا المجال ينبغي ألا يكون بسيطاً، لأنَّه يفترض أن يملك عقل المعيشة ويعرف كيف يحصل على رزقه من الحلال، وكيف ينفقه من دون إسراف أو تبذير في الحلال، ويعرف كيف يدير شؤونه وأموره في الحياة الاجتماعية العامة ـ لا يُلسع (يُلدغ) من جُحر مرتين". بل يستفيد من تجاربه، فإذا وضع يده في مكان ولسعته فيه عقرب، سواء كانت بشريّة أو حيوانية، فإنَّه يستفيد من هذه التجربة، ولا يضع يده مرة ثانية في المكان نفسه..

ثم يصوّر لنا شخصية المؤمن، فيقول(ع): "المؤمن له قوّة في دين وحزمٌ في لين ـ هو قويٌّ، لكن في إطار حركة الدين في معنى القوّة، وله حزمٌ حازم، لكنَّه لا يعطي معنى القسوة، بل لينٌ في أسلوب ممارسة الحزم ـ وإيمانٌ في يقين ـ هو مؤمنٌ يتعلّق إيمانه في داخل يقينه ـ وحرصٌ في فقه ـ يحرص على الأمور من حوله، في الدائرة التي يعرف فيها تكليفه ويفهم واقعه ـ ونشاط في هدى ـ فالمؤمن متحركٌ في خطِّ الهدى لا في خطِّ الضلال ـ وبرٌّ في استقامة، وعلمٌ في حلم ـ يملك العلم، ولكن مع سعة الصدر عندما يواجه التحديات ـ وكيّس في رفق ـ وهو التعقّل في رفق لا في شدّة ـ وسخاءٌ في قصد وقصدٌ في غنى ـ عندما يكون لديه غنىً في المال، فإنَّه يقتصد فيه ولا يبذّر ولا يسرف ـ وتجمّلٌ في فاقة ـ وإذا افتقر فإنَّه لا يسقط ولا يُذلُّ نفسه، بل إنَّه يتجمّل حتى يحسبه الناس غنيّاً في تعفّفه ـ وعفو في قدرة، وطاعةٌ في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورعٌ في رغبة ـ أي إذا انطلقت رغباته، فإنَّه لا يندفع معها، بل إنَّه يعيش الورع ـ وحرصٌ في جهاد، وصلاة في شغل، وصبرٌ في شدّة، في الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، ولا يغتاب ولا يقطع الرحم، وليس بواهن ولا فظّ غليظ، ولا يسبقه بصره ولا يفضحه بطنه، ولا يغلبه فرجه ـ عندما تثور غريزته ـولا يحسد الناس".

ثم يكمل الإمام الصادق(ع) مبيِّناً بعض صفات المؤمن في كلِّ مواقعه وأوضاعه، فيقول: "إنَّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلَّها ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً"(1)، فالله تعالى لم يعطِ المؤمن حريّة أن يذلَّ نفسه لأحد، لأنَّه سبحانه وتعالى يقول: {وللهِ العزّةُ ولرسولِه وللمؤمنين} [المنافقون:8] ثم يقول(ع): "فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، إنَّ المؤمن أعزّ ـ أقوى وأصلب ـ من الجبل، إنَّ الجبل يُستقلّ منه ـ ينقص منه بالمعاول ـ والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شي‏ء"، عندما تأتيه التحديات والإغراءات والضغوط لتقطع شيئاً من دينه هنا وهناك، فليس بإمكان أحد أن يقتطع شيئاً من دينه.. أمّا مسألة الإرادة، فإن الإمام(ع) يقول لك، كن قويَّ الإرادة ولا تحاول أن تضعف أمام التحديات، لأنّه "ما ضعف بدنٌ عما قويت عليه النيّة"، إذا كانت إرادتك في نفسك قويّة، فإنَّ قوّة إرادتك تمنح جسدك قوّة، بحيث يستطيع أن يقوم بما تنفتح عليه الإرادة حتى ولو كان جسمك ضعيفاً.. إنَّ طاقتك في جسدك تنطلق من قوّة إرادتك في عزيمتك، فإذا كنتَ الإنسان الذي يعزم على الأمور ويريدها، فلا مشكلة إذا كنت ضعيفاً في جسدك.

وهكذا كان(ع) يقول: "لا ينبغي للمسلم أن يُذلّ نفسه، بأن يدخل في شي‏ءٍ يعتذر منه"، فإذا أردت أن تبقى على عزّتك فوفّر على نفسك كلَّ ما يدفعك إلى الاعتذار، فكّر بكلِّ كلمة أو موقف قبل أن تنطلق به.

الأمور كلُّها لله

ويرى(ع) أنَّ من صفات المؤمن الرسالي، الاهتمام بقضايا المسلمين، فيستشهد بكلام رسول الله(ص) في هذا المجال، فيقول: "مَن لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، إنَّ رسول الله(ص) قال: مَن أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس منهم، ومَن سمع رجلاً ينادي "يا للمسلمين" فلم يُجبه فليس بمسلم".

إنَّ هذه الكلمة تعني نفي صفة الإسلام عن الإنسان اللامبالي الذي مهما حدث للمسلمين من مآسٍ ومشاكل وهزائم، فإنَّ ذلك لا يحرّك عقله ليفكّر، ولا يحرّك عقله من أجل أن يتعاطف، ولا يحرّك موقفه من أجل أن يقف.. إنَّه يقول: صَلِّ ما شئت وصم ما شئت وحجّ ما شئت، فإذا وقفت موقف اللامبالاة أمام مشاكل المسلمين فلست بمسلم.. ثم يقول(ع): "اجعلوا أمركم لله ـ عندما تعملون في خطِّ الإسلام وأهل البيت(ع)، وتنطلقون في حركتكم في الواقع على المستوى الاجتماعي أو السياسيّ أو الأمني، اجعلوا كلَّ ذلك لله، واقصدوا به القربة له تعالى ـ ولا تجعلوه للنّاس، فإنَّه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله".

خف اللهَ كأنَّك تراه

ويحدّد(ع) صفات للمؤمن تختصرها هذه الرواية، حيث جاء عن أبي الربيع الشامي أنه قال: "دخلت على أبي عبد الله الصادق(ع) والبيت غاصّ، فيه الخراساني والشامي ومن أهل الآفاق، فلم أجد موقعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله وكان متكئاً ثم قال: يا شيعة آل محمد، ليس منا مَن لم يملك نفسه عند غضبه، ومَن لم يحسن صحبةَ مَنْ صَحِبه، ومخالفة مَنْ خالفه، ومرافقة مَن رافقه، يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم ولا حول ولا قوّة إلا بالله".

وكان(ع) يقول لمن يلتقيه: "خفِ الله كأنَّك تراه، وإن كنت لا تراه فإنَّه يراك، وإن كنت تعلم أنَّه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك"، لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يرتكب معصيةً واطّلع عليه أحدٌ حتى لو كان طفلاً فإنَّه يتراجع، ولكنَّ الله يرانا ونحن نعصيه جهاراً، فهو تعالى إن فعلنا ذلك جعلناه ـ وحاشا لوجهه الكريم ـ من أهون الناظرين إلينا.

الإنصاف في مفهوم الإمام(ع)

ونتوقف عند بعض القضايا الاجتماعية التي ينبغي للمسلم أن يعرف عمقها وطبيعتها، وهي التي تمسّ سلوكه مع مجتمعه وانفتاحه على طاعة ربِّه، فيقول(ع):

"سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشي‏ءٍ إلا رضيت لهم مثله ـ أن تكون منصفاً ولا تكون أنانياً بحيث تعيش ذاتك حتى على حساب الآخرين، لترتاح ويتعب الآخرون، وتسلم ولا يسلم الآخرون، وتريد للناس أن يحفظوا لك قضاياك ولا تحفظ لهم قضاياهم، أو تريد ألا يظلمك الناس وأنت تظلمهم.. عليك حسب توجيه الإمام الصادق(ع) أن تكون منصفاً، ومعنى الإنصاف أن تعتبر أنَّ الله تعالى لم يخلقك وحدك، وإنَّما خلق الناس كما خلقك، وإذا كنت تفكّر أنَّ من حقِّك أن تحيا، فمن حقِّ الناس الحياة أيضاً، وإذا كنت تفكّر أنَّ من حقِّك أن تأخذ حقَّك من الناس، ففكّر أنَّ الناس لهم الحقّ في أن يأخذوا الحقّ منك، وإذا كنت تفكّر أن يعدل الناس معك، فإنَّ عليك أن تعدل معهم.. وإذا كنت تريد ألا يغتابك الناس فلا تغتبهم، وإذا رغبت أن يذكرك الناس بالخير فاذكرهم بمثله، وإذا رأيت أنَّ من حقِّك على الناس أن تختلف معهم في الرأي، فتذكّر أنَّ لهم في ذلك الحقَّ أيضاً.. وإذا اختلفت مع الناس في شي‏ء أو اختلف الناس معك، فعليك أن تطلب من الناس أن يحاوروك في ما ينسبونه إليك، لا تقل: "أنا لا الآخر"، بل قل: "أنا والآخر"، لأنَّ الله تعالى كما خلقك خلق غيرك أيضاً، فالدنيا ليست لك وحدك، والحقّ ليس لك وحدك، وهكذا الحرية والعدل، وكلّ شؤون الحياة، فالخلق مشتركون فيها جميعاً.. وهذا هو الإنصاف.

ويكمل(ع) موعظته فيقول: ـ ومواساتك الأخ في المال ـ وإذا كان لك أخٌ في النسب أو الدين، وكنت تملك مالاً فائضاً عنك، ويمكن أن تؤثره، فحاول أن تواسيه به ـوذكر الله على كلِّ حال ـ وقد يفهم أحدنا أنَّ معنى ذكر الله، هو أن نسبّح الله ونحمده ونكبّره وحسب، ولكن ليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقط ـ ولكن إذا ورد عليك شي‏ءٌ أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ به أخذت به، وإذا ورد عليك شي‏ءٌ نهى الله عزَّ وجلَّ عنه تركته"، يعني أن تذكر الله في مواقع طاعته لتطيعه فيها، وفي مواقع معصيته لتجتنب المعصية.. أن تذكر الله عندما تتكلّم، فلا تتكلَّم إلا بما يرضيه، أن تذكره عندما تعمل أو تؤيّد أو ترفض أو عندما تُنشى‏ء العلاقات.. أن تذكره في عقلك حتى لا يتحرّك بفكر الباطل، وفي قلبك حتى لا تتحرّك عاطفتُك في خطِّ الباطل، وأن تذكر اللهَ في حياتك، حتى لا تكون حياتُك إلاّ على الصراط المستقيم..

القرب من الله

ثم يحدّث(ع) عن أقرب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة، وكلنا يحبّ أن يكون في هذه الدرجة، لأنَّ القرب إلى الله هو كلُّ السعادة والنجاة والفرح.. فمن هو الأقرب إلى الله يوم القيامة؟ يقول(ع): "ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عزَّ وجلّ يوم القيامة حتى يُفرَغ من الحساب: رجلٌ ـ وكلمة رجل يُقصد بها الإنسان، رجلاً كان أو امرأة ـلم تَدَعْهُ قدرتُه في حال غضبه إلى أن يحيف على مَنْ تحت يده ـ فنحن نعرف أنَّ هناك أناساً يملكون القوة، وآخرين يملكون الضعف، وقد يكون هؤلاء أولادك أو زوجتك أو جارك أو قريبك أو مواطنك، وما أكثر الضعفاء الذين يخضعون لتأثير الأقوياء.. فأحد الناس القريبين إلى الله تعالى يوم القيامة، هو الإنسان الذي عندما يغضب من كلِّ هؤلاء الضعفاء، فإنَّه يتوازن في غضبه، فلا يظلم مَنْ تحت يده، ويكون الإنسان الذي يحافظ على عدم انفلات عقله وأخلاقه وإيمانه ساعة الغضب، فيتوازن في حال قدرته وحال عجزه ـ ورجلٌ مشى بين اثنين ـ في صلح أو حُكم ـ فلم يَمِلْ مع أحدهما على الآخر بشعيرة ـ بحيث يبقى عادلاً في سعيه وحكمه وكلامه معهما، فلا يميل مع أحد، فيفضّله بالحل أو الحكم ولو بمقدار شعرة، فيعيش عدالة النظرة إلى الطرفين وعدالة الحكم بينهما ـ ورجلٌ قال الحقَّ في ما له وعليه". الإنسان الرسالي، هو الإنسان المتوازن الذي يعطي للآخرين حقوقهم، ويأخذ حقَّه من الآخرين، والله تعالى يقول: {يا أيُّها الذين امنوا كونوا قوّامين بالقِسط شهداءَ لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}[النساء:135].

ولهذا، كان(ع) يلتفت إلى أصحابه ـ ونحن من أصحابه ـ ويقول لهم: "اتقوا الله واعدلوا ـ في معاملاتكم وعلاقاتكم، وفي ما لكم من حقوق وما عليكم من واجبات ـ فإنَّكم تُعيبون على قومٍ لا يعدلون"، فنحن نهتف بسقوط الظلم وبحياة العدل، ننتقد الحكومة والسلطات والحاكم الظالم، وننكر الظلم الكبير، ولكن في الوقت نفسه نمارس الظلم الصغير.. فالعدل مبدأ، ولا فرق بين أن تعدل بليرة واحدة وبين أن تعدل بملايين، لأنَّ المبدأ واحدٌ في العدل، فإذا كنا ننكر على الحاكم أن يظلم شعبه ونريد منه أن يعدل، فعلينا أن ننكر على أنفسنا بأن نظلم الزوجة أو الولد أو مَن حولنا من موظفين وعمّال.

ثم يقول(ع): "عليك بالنصح لله في خلقه ـ كن الناصح للخلق في كلِّ ما يصلح أمرهم لتشير عليهم أن يفعلوه، وفي كلِّ ما يُفسد أمرهم لتشير عليهم أن يتركوه ـ فلن تلقاه بعمل أفضل منه". وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص) عندما سُئِل، ما الدين؟ قال: "النصيحة". ويُسأل(ص) عن أحبِّ الناس إلى الله، فيقول: "أنفع الناس أنفعهم للناس" الذي يقضي حوائجهم أكثر، ويدافع عنهم أكثر، ويثقّفهم ويعظهم وينصحهم ويوحّدهم ويجمع قلوبهم أكثر، ويدلّهم على الله أكثر.. فهذا هو أحبّ الناس إلى الله سبحانه، وقد ورد في الحديث عنه(ص): "الخلق عيال الله، فأحبُّ الخَلْق إلى الله مَن نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً".

رعاية الوالدين ولو كانا كافريْن

وهناك قصّة موحية جدّاً ينقلها أحد أصحاب الإمام الصادق(ع)، وتعلّمنا كيف يريد الإسلام من الإنسان أن يرعى والديه، حتى ولو كانا كافريْن، وكيف يوجّه الإسلام الإنسان لكي يستطيع أن يجذب الناس إلى الإسلام بأخلاقه، والقصّة هي أنَّ هناك شخصاً اسمه "زكريا بن إبراهيم"، قال: كنت نصرانياً فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد الله الصادق(ع)، فقلت: إنّي كنت على (دين) النصرانية، وإني أسلمت، فقال: "وأيَّ شي‏ءٍ رأيت في الإسلام"؟ لأنَّ بعض الناس يُسلم لأنَّه يريد أن يتزوج من مسلمة.. وهنا نقول للأهل: إنَّ عليكم أن تتوثقوا ممن يتقدّم لابنتكم، هل هو جادٌّ في هذا الأمر مائة بالمائة؟ لأننا ينبغي أن ندرك جديّته في إسلامه من عدم جديّته قبل الموافقة على الزواج من المسلمة.. وبعد أن يسأله الصادق(ع) يخبره بأنَّه وجد في دين الإسلام مختصراً في هذه الآية: {مَا كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَنْ نّشاءُ من عبادنا}[الشورى:52]، فالله تعالى أعطاني هذا النور وشرح صدري للإسلام، فقال(ع): "لقد هداك الله، اللهمّ اهدهِ (ثلاثاً)، سل عما شئت يا بنيّ" فقال: إنّ أبي وأمي على النصرانيّة وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: يأكلون لحم الخنزير؟ قال: لا ولا يمسونه، فقال: لا بأس، فانظر أمَّك فبرّها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك ـ كن أنت الذي تقوم بشأنها ـ ولا تخبرنّ أحداً أنَّك أتيتني حتى تأتيني في (منى) ـ في موسم الحجّ ـ إن شاء الله".

يقول الرجل: فأتيته بـ"منى" والناس حوله وكأنَّه معلّم صبيان، وكنت عندما أتيت الكوفة ألطفت لأمّي ـ عاملتها بأخلاق ولطف فوق العادة ـ وكنت أطعمها وأُفلي رأسها وثوبها وأخدمها. فقالت: يا بنيّ، ما كنت تصنع هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرتَ ودخلت في دين الحنيفيّة؟ فقلت: رجلٌ من وُلْد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبيّ؟ فقلت: لا، ولكنّه ابن نبيّ، فقالت: إنَّ هذه وصايا الأنبياء، فقالت: يا بنيّ، دينُك خير دين فاعرضه عليَّ، فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام، وعلّمتها، فصلّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض عليها عارضٌ في الليل، فقالت: يا بنيّ أعد عليَّ ما علّمتني، فأعدته عليها، فأقرّت به وماتت. فلما أصبحت كان المسلمون هم الذين غسّلوها، وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها".

ونفهم من هذا التوجيه أنَّ علينا أن نحسن أخلاقنا مع المؤمنين والكافرين، حتى نعطيهم الصورة المشرقة عن الإسلام، لأنَّ الناس إذا رأوا منّا الأخلاق الطيّبة والسلوك الحسن والعدالة معهم، فإنَّ ذلك يكون خيرَ دعوة للإسلام، وهذا ما قاله الصادق(ع): "كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع، فإنَّ ذلك داعية" ويقول(ع): "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، حتى يقول الناس رحم الله جعفر بن محمّد فلقد أدّب أصحابه".

الخروج من ولاية الله إلى ولاية الشيطان

ونبقى في الحديث عن المنهج التربوي للإمام الصادق(ع)، ونتوقف عند موقفه من القضايا السلبيّة التي يمكن أن تصدر من مؤمن ضدّ مؤمن آخر، فكيف ينظر(ع) إلى ذلك، يقول: "مَن روى على مؤمنٍ رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ـ أي هَدْمَ عناصر التقدير، وهي المروءة في شخصيته ـ ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان"(2).

ما يصوّره الإمام الصادق(ع) في هذه المسألة ينحصر في شخص يحاول أن يلتقط عيوبَ هذا المؤمن أو ذاك، ونقاط الضعف المستورة فيه التي يمكن أن تترك حالات سلبيّة على سمعته بين النّاس، ولا سيما إذا كان هذا المؤمن يملك موقعاً يستهدي به الآخرون وينفتحون من خلال مواقفه على أمور دينهم ودنياهم، وهو وإن لم يكن معصوماً في حركته، ولكن يُنْسَب إليه ما لم يَقُلْه ولم يفعله ليسقط من عيون الناس وليُهدم موقعُه ومجده.. فالذي يُقدم على ذلك "أخرجه الله من ولايته"، فالله لا يرعاه ولا ينصره ولا يرزقه ولا يعتني به كليّاً، لأنَّه سلك طريق الشيطان، فإذا ما التقى بالشيطان، فإنَّ الشيطان نفسه لا يقبله ويتبرّأ من عمله، ويخاطبه بأنني عصيتُ اللهَ بأمر ذاتي، أمَّا أنت، فإنَّك عصيت اللهَ بأن تهجّمت على وليّ من أولياء الله يحبه سبحانه، أو على مؤمن ينطلق في ولاية الله، فأنت عصيت الله كما عصيتُه أنا.. فأيُّ موقعٍ لمن يهدم كرامة مؤمن، خصوصاً أنَّ الشيطان نفسه لا يقبله؟

وفي حديث آخر عن بعض أصحابه، قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام ما معنى ذلك؟ قال(ع): "نعم، قلت: تعني سُفْلَيْه؟ ـ أي ما يستره الإنسان عن عيون الناس؟ ـ قال(ع): "ليس حيث تذهب، إنَّما هي إذاعة سرِّه"(3). إذا اطّلعت على سرٍّ من أسرار المؤمن، ولا سيّما إذا كان هذا السرُّ عيباً، فليس لك أن تذيع سرَّه.. وهكذا جاء في تفسير الحديث نفسه، عورة المؤمن على المؤمن حرام، قال(ع): "إنَّما هو أن تروي عليه أو تعيبه"(4).

إنّ هذه الأحاديث التي تركّز على هذا الجانب، تدفع بالإنسان لأن يعيش الرعب أمام تصرفاته التي تصدر منه من قبيل هذه المواقف، أو من قبيل احتقار مسلم ضعيف أو غير ذلك.

ففي الحديث عن أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "قال الله عزَّ وجلّ: ليأذن بحربٍ مني مَن آذى عبدي المؤمن، ولو لم يكن من خلقي في الأرض في ما بين المشرق والمغرب إلا مؤمنٌ واحدٌ مع إمام عادل، لاستغنيت بعبادتهما عن جميع ما خلقت في أرضي، ولقامت سبع سموات وأرضين بهما، ولجعلت لهما من إيمانهما أنساً لا يحتاجان إلى أنسٍ سواه".. فالله تعالى يقوّم إيمان المؤمن، بحيث لو أنَّ الأرض كلّها ليس فيها إلا مؤمنٌ وإمام عادل، فإنَّه سبحانه يجعل الأرض ممتلئةً بهما، ويرى أنَّ عبادتهما له من خلال إيمانهما، هي العبادة التي يُستغنى بها عن عبادة أيِّ مخلوق، لأنَّها تمثّل العلاقة العميقة بالله تعالى.. فلنفكّر أمام هذا الحديث كيف يمكن أن نعيب على المؤمن ونغتابه ونذيع سرّه؟!

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع) أيضاً: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: الذي لا يقضي حاجة المؤمنين ويحتقرهم ولا يحترمهم، فيقوم قومٌ ليس على وجوههم لحمٌ، فيُقال: هؤلاء الذين اذوا المؤمنين ونصبوا لهم ـ العداوة ـ وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم، ثم يُؤمَر بهم إلى جهنّم".. وفي الحديث عن الصادق(ع) أيضاً في ما يرويه عن رسول الله(ص) قال: "قال رسول الله(ص): قال الله تبارك وتعالى: مَن أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي"، وفي الحديث عنه(ع): "مَنْ حقَّر مؤمناً مسكيناً أو غير مسكين، لم يزل الله عزَّ وجلّ حاقراً له ماقتاً حتى يرجع عن محقّرته إيّاه". وقال أيضاً: "إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: مَن أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي، وأنا أسرع شي‏ءٍ إلى نصرة أوليائي".

وفي هذه الأحاديث نشعر بمدى إعزاز الله تعالى للإنسان المؤمن، ونشعر أيضاً بأنَّ المبدأ الإسلاميّ يرفض مسألة احتقار المؤمنين وأذاهم من قِبَل الإنسان الذي يشعر بأنَّ له ميزة على أخيه الإنسان، ويؤكِّد ضرورة احترام المسلم بقطع النظر عن طبيعة الواقع الطبقيّ الاجتماعي أو طبيعة المميّزات التي تميّز المسلمين عن بعضهم البعض، حتى يكون إسلام المسلم وإيمان المؤمن هو الأساس في تقويمه واحترامه..

لا تتبعوا عورات المسلمين

وهناك حالةٌ ثانية ينبغي تسليط الضوء عليها لخطورتها الاجتماعية، وتتعلّق بتهيئة الوسائل التي يستغلّها البعض ليؤكدوا احتقارهم للمؤمنين، كأن يلاحقوا عثراتهم ومعايبهم وعوراتهم، ويتجسّسوا عليهم، مستغلّين مصاحبتهم لتسجيل كلِّ كلمة أو عمل يمكن أن يُنزل من مقامهم ويحقّرهم، من أجل إسقاط سمعتهم أو التشهير بهم.. فهناك مَن يعمل في المخابرات لحساب أجهزة أو حزب هنا أو منظمة هناك، وهناك مَن يعمل في المخابرات لحساب نفسه، فيتجسس على شخص آخر ويلاحق عثراته ليسي‏ء إلى سمعته ويحطّمه في المجتمع.. وقد اهتمَّ أئمة أهل البيت(ع) بهذا الموضوع اهتماماً كبيراً، وعلينا أن ننتبه إلى هذه النقطة جيّداً، لأنَّ هذه الأمور أصبحت في مجتمعنا كطعامنا وشرابنا، وأصبح شغلنا هو تمزيق صفوفنا وإسقاط رموزنا وشخصياتنا الصالحة والمُصلِحة في المجتمع، إما لحسابات شخصيّة أو لحقد شخصيّ أو لحسد، وإمّا لحساب أجهزة مخابراتية في الداخل والخارج.

وفي الحديث عن الصادق(ع): "أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين ـ والصديق ينكشف عادةً لصديقه ـ فيحصي عليه زلاته ليعنّفه بها يوماً ما". وهذه الآفة موجودةٌ في مجتمعاتنا، وقد نهى عنها رسول الله(ص)، حيث يروي عنه الإمام الصادق(ع): "يا معشر مَن أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ـ أي مَن كان مسلمَ اللسان وليس مسلم القلب، هؤلاء الذين أسلموا بألسنتهم يمثّل الإسلام بالنسبة إليهم كلمةً لا موقفاً، وفكرةً لا منهجاً، هذا خطأ، لأنَّ مسألة الإسلام هي أن يعيش الإسلام في عقلك ليكون عقلاً إسلاميّاً، وفي قلبك ليكون قلباً إسلاميّاً، وليعيش الإسلام في حياتك كلِّها.. ولذلك، أراد أن ينقد هؤلاء، لأنهم لا يعيشون الإسلام كعمقٍ في الذات، بل يعيشونه ككلمة في اللسان ـ لا تذمّوا المسلمين ـ لا تكن علاقاتكم بالمسلمين علاقة مَن ينهش أعراضهم ويسي‏ء إلى كراماتهم، ولا يكن أسلوبكم في الحديث عنهم أسلوب الذمّ، لأنَّ ذلك يُسقط معنويّات المسلمين ويثير البغض والعداوة في داخلهم ـ ولا تتبَّعوا عوراتهم ـ لا تعملوا على أن تتجسّسوا عليهم من أجل أن تكتشفوا بذلك عيوبهم لتتحدّثوا بها هناك وهناك، ولتسقطوا مواقعهم نتيجة عقدة نفسيّة أو خلاف شخصيّ وما إلى ذلك ـ فإنَّه مَنْ تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورتَه ـ والله تعالى يعرف عورات الإنسان، وهذا يعني أنَّه سيكشف هذه العورات ـ ومَن تتبّع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته".

فالمسألة، وبالإضافة إلى ما في ذلك من انحراف عن الخط الإسلامي في حفظ المسلم للمسلم، فإنَّ الله تعالى ينتقم ممن يكشف عيوب المسلم، فيفضحه ولو في جوف بيته.

وهناك نقطةٌ أخرى، وهي موجّهةٌ إلى أولئك الناس الذين يصادقون بعضهم بعضاً، ولكنهم يمسكون قلماً وورقة من أجل أن يسجّلوا كلَّ ما يرونه بحكم الصداقة من أسرار الصديق وعيوبه، ويجمعون ذلك كلَّه في ذاكرتهم أو في تسجيلاتهم، فإذا تعقّدت العلاقة مع هذا الصديق، بدأوا بكشف عيوبه وأسراره... وهذا شي‏ءٌ موجودٌ في علاقات بعض الشباب مع بعض الفتيات، عندما يقدّمون لهنَّ ما يسمّى الحب، وهو موجودٌ أيضاً في المسألة الدينية والاجتماعية والسياسيّة، وهذا مرضٌ نعيشه، ولنستمع إلى ما يقوله الإمام الصادق(ع) في هذا الشأن: "أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين، فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعنّفه بها يوماً ما"، هذه الذهنية تؤدي بالإنسان إلى أن يكون قريباً من الكفر..

خوفاً من ذوبان الإيمان

وهناك من الناس مَن يتّهمون المؤمنين بغير حقّ، وعن هؤلاء جاء في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إذا اتهم المؤمن أخاه بما لا أساس له انماث الإيمان في قلبه ـ مات الإيمان في قلبه ـ كما ينماث الملح في الماء" تماماً كما يذوب الملح في الماء.. ومعنى ذلك أنَّك إذا اتهمت أخاك المؤمن بما لا حجّة لك فيه وبما يسي‏ء إليه، فإنَّ إيمانك يذوب كذوبان الملح في الماء.

ويقول أيضاً: "من اتهم أخاه في دينه ـ أي من نسب إلى أخيه ضعفاً أو عيباً في دينه من غير حقّ، سواء كان ذلك في عقيدته أو في عمله ـ فلا حرمة بينهما ـ تسقط الحرمة التي جعلها الله للمؤمن على المؤمن ـ ومَنْ عامل أخاه بمثل ما يعامل به النّاس ـ لا بدَّ للمؤمن أن يعامل أخاه المؤمن بشكل مميّز احتراماً لإيمانه، لأنَّ الإيمان هو القيمة الكبرى، لكنَّ بعض الناس يعتبر المؤمن وغير المؤمن على حدٍّ سواء ـ فهو بري‏ءٌ ممّا ينتحل" بري‏ءٌ من الإيمان الذي ينتمي إليه..

ترويع الناس من موقع القوّة

هناك حديثٌ عن الإمام الصادق(ع) يعرض فيه وضع أولئك الذين يملكون القوّة من خلال الموقع الاجتماعي أو العسكري أو السياسيّ، والذين يستغلّون هذا الإحساس بقوّتهم لينظروا إلى المستضعفين نظرةً يخيفونهم بها، فيقول(ع): "قال رسول الله(ص): مَن نظر إلى مؤمنٍ نظرةً ليخيفه بها، أخافه الله عزَّ وجلّ يوم لا ظلّ إلا ظلّه"، وهذا يسري أيضاً في نظرة الزوج إلى زوجته أو أولاده أو أيّ ضعيف آخر..

وعن الذين يحاولون من خلال مواقعهم الاجتماعية أو الأمنية أو السياسيّة ترويع المؤمنين بنقل أفعالهم ومواقفهم إلى الظالم الذي لا يرضى عن أفعالهم، من أجل أن يصيبهم منه مكروه، وهؤلاء هم الجواسيس الموظفون أو المتطوعون مجاناً، فيقول(ع): "من روّع مؤمناً بسلطان ـ صاحب سلطة اجتماعية أو أمنية أو سياسيّة يمكن أن تؤذي النّاس ـ ليصيبه منه مكروهٌ فلم يُصِبْه فهو في النّار، ومَن روّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروهٌ فأصابه فهو مع فرعون وال فرعون في النار".

سوء الشماتة

ومن بين النقاط التي نعيشها أحياناً في مجتمعنا، هي أنَّ الناس قد يختلفون مع بعضهم البعض ويتعادون ويتخاصمون، وقد يواجه البعض خسارةً أو فشلاً في بعض أوضاعه، فيعرف ذلك البعض الآخر من الذين يختلفون معه فيشمتون به، والشماتة تمثّل ظاهرة من ظواهر مجتمعنا، ولعلّها موجودةٌ على جميع المستويات بما فيها المستويات الدينيّة، وفي هذا المجال يحذّر الإمام الصادق(ع) من هذه الظاهرة السلبيّة حيث يقول: "لا تُبْدِ الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويصيِّرها بك"(5)، فالذي أُصيب بوضعه بخسارةٍ أو غيرها، فإنَّه قد يتذلّل إلى الله، فيرحمه الله ويعاقب مَنْ يشمت به، فيبتليه بما ابتلاه به.. لذلك يقول(ع) أيضاً في هذا المجال: "من شمت بمصيبةٍ نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يُفتتن"(6)، أي حتى يُبتلى بمثلها.. فكما أنَّ الله تعالى قد يعاقب الإنسان في الآخرة، قد يعاقبه في الدنيا، فيكون العقاب نتيجة لما عمل.. {ظَهرَ الفسادُ في البرِّ والبحر بما كسبتْ أيدي النّاس ليذيقَهُم بعضَ الذي عملُوا لعلّهم يرجعون}[الروم:41]، لأنَّ العمل يعطي مثلَ هذه النتيجة.

مخاطر السب واللعن

ونتوقف عند ظاهرة أخرى اعتاد عليها البعض، وهي مسألة السباب، فبعضٌ منا يُتقن كلَّ ألفاظ السباب الموجودة في القاموس، وربما يلجأ إلى لغاتٍ أخرى يستعير منها ألفاظاً.. فما هي نظرة الإمام الصادق(ع) إلى السباب؟ يقول(ع): "قال رسول الله(ص): سَبَّابُ المؤمن كالمشرف على الهَلَكة"(7)، مَن يسبُّ المؤمن يكاد أن يسقط من أعلى الجبل إلى أسفل الوادي، وفي هذا قال الإمام الباقر(ع) في ما يرويه عن رسول الله(ص): "سباب المؤمن فسوق ـ إذا كنت ممن يسبّون المؤمنين فأنت تستحق لقب "الفاسق" ـ وقتاله بغير حقّ وأكل لحمه بالغيبة معصية، وحرمةُ ماله كحرمة دمه" (8)، فأنت إذا أكلت مال المؤمن بالباطل، فكأنَّك في معصيتك قد أهرقت دمه(9)، لأنَّ حرمة المال كحرمة الدم..

فالسبُّ هو من الأساليب التي تعقّد علاقة الإنسان بمجتمعه، فينظر إليه نظرة عداوة وبغضاء.. فأنت عندما تسبُّ أحداً، فإنَّك تهينه وتسقطه، ومَن تحاول إهانته لا يمكن أن يتعامل معك بالمحبة..

وفي حديث أكثر خطورةً قال الإمام الصادق(ع): "إذا قال الرجل لأخيه المؤمن أفٍّ ـ وهي أقلُّ ما يُقال في مقام الإيذاء ـ خرج من ولايته ـ الولاية التي تربط المؤمن بالمؤمن ـ وإذا قال أنت عدوّي كفر أحدُهما ـ لأنَّ الله يقول: هذا أخوك، وأنت تقول هذا عدوّي، فمعناه أنَّك تناقض قول الله تعالى، وكلُّ إنسانٍ يقول قولاً يناقض كلام الله، فهو قول كفر بالله سبحانه ـ ولا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمرٌ على أخيه المؤمن سوءاً"، إذا كنت تحمل على أخيك المؤمن ضغينة أو حقداً أو سوءاً، اعملْ ما شئت، صلِّ ما شئت، وحجّ ما شئت، فإنَّ الله عزَّ وجلّ لن يقبل منك عملاً، إلا إذا طهّرت قلبك من نيّة السوء ضدّ هذا الإنسان المؤمن..

هذه بعض المفردات التي إذا استحكمت في مفاصل المجتمع، فإنَّها تُبعد هذا المجتمع عن الرساليّة في التوجّه والمنطلق، وتنفي عنه صفة الإيمان والخير والتقوى، وهكذا الإنسان، فإنَّ هذه الأخلاق السلبيّة تسلب منه ثبات الإيمان، وتبقيه إنساناً غير متوازن في الحياة..

ومن هنا، فإنَّ الإسلام يؤكّد ضرورة أن نخطّط لحياتنا، ابتداءً من صياغة أنفسنا إلى حسن إدارة العلاقة مع الناس ومع الأهل، حتى يعرف الإنسان كيف تكون حركته في الحياة، لأنَّه مسؤولٌ عن هذه الحركة، سواء كانت تتصل بنفسه أو بأهله أو بالناس من حوله.. فالإنسان المسلم ليس حرّاً في أن يتّبع هواه، بل لا بدَّ أن يتّبع ربَّه انطلاقاً من التزامه بميثاق العبودية له سبحانه..

ولهذا، فإنَّ الإمام الصادق(ع) يدلّنا على مفردات هذا المنهج الذي يحصّن المجتمع من الاختراق في أخلاقه وسلوكه..

العقل قرينٌ برٌّ وولد وأصل

في الحديث عن الإمام الصادق(ع) في العِشرة مع النفس يقول: "اجعل قلبك قريناً برّاً أو ولداً وأصلاً ـ والقلب في الكلمات القرآنية يُراد به العقل، والمعنى في هذا القول، أن تنظر إلى عقلك نظرتك إلى صاحبك الذي يسير معك لتستشيره كيف ترتّب حياتك وتميّز بين الحسن والقبيح، وأن تعتبره كما لو كان ولداً لك تحضنه، كما تحضن ولدك حقيقة، لأنَّ الإنسان عندما يخاطب عقله ويستشيره ويجلس معه، فإنَّ أخطاءه تقلّ، ولا سيما وأنَّ أكثر الأخطاء التي نرتكبها تصدر عن هوى النفس، أي عندما نقع أسرى غرائزنا، ونتحرّك على أساس الانفعال والغضب من دون تفكير في العواقب.. ولهذا، فإنَّ وصيّة الإمام الصادق(ع) أن يعيش الإنسان مع عقله، ليعتبره ولداً وأصلاً وقريناً برّاً يصاحبه، فلا يفارقه في أيِّ موقف من المواقف، بل يكون عمله وقوله وموقفه من خلال العقل، بحيث يشرف العقل عليه، لا هواه ـ واجعل عمَلك والداً تتبعه ـ لأنَّ عملك يمشي أمامك، فالإنسان يوم القيامة يتحرّك عمله أمامه ليحدِّد له الطريق، إمَّا إلى الجنّة أو إلى النّار، لذا، على الإنسان ألا يستهين بعمله، باعتبار أنَّه هو الذي يحدّد له مصيره: {فَمَنْ يعملْ مثقالَ ذرّة خيراً يَرَه* ومَنْ يعملْ مثقالَ ذرّةٍ شرّاً يَرَه}[الزلزلة:7ـ8] فنوعيّة عملك هي التي تحدّد لك نوعيّة مصيرك ـ واجعلْ نفسك عدوّاً تجاهدها ـ والمقصود بالنفس هنا، هو هذا الكيان الذي يتضمّن مجموعة الغرائز التي تدعوك إلى أن تشبعها وتلبيها على أساس أهوائها.. والله تعالى لم يُرِد لنا أن نكبت غرائزنا، ولكنّه سبحانه أراد لنا أن ننظّمها، فنحن نعرف أنَّ الغرائز قد أودعها الله في الإنسان من أجل أن تحفظ له حياته، ولكن على أساس تنظيمها، وألا يجعلها هي الحاكمة عليه، بل أن يعطي للعقل القيادة لهذه الغرائز، ليجلس مع كلِّ غريزة ليوجّهها، بأنَّ هذا الاتجاه يمكن أن يسي‏ء إليها وإلى الإنسان الذي يحملها، أو أنَّ ذاك الاتجاه يؤدي بها إلى الصلاح، تقول الآية الكريمة: {وما أبرّى‏ء نفسي إنَّ النفسَ لأمّارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربّي}[يوسف:53]، فعلى الإنسان ألا يستسلم لهوى نفسه، بل عليه أن يجاهدها ـ واجعل مالَكَ عاريةً (من الإعارة) تردّها"، لأنَّ الله تعالى أعطاك المال ليكون وديعةً عندك، فهو مال الله، وعليك أن تردَّ هذه العارية إلى من تنتقل إليه من بعدك، أو تردّها إلى الله من خلال ما تتمثّله من الأوامر التي كلّفك الله أن تطيعه فيها، في ما يتصل بمالك.

نفسُك رهينةٌ بعملك

وفي توجيه لتربية النفس، يقول الإمام الصادق(ع): "أقصرْ نفسَك عما يضرّها من قبل أن تفارقك ـ حاول أن تجنّب نفسك ما يضرّها في الدنيا والآخرة ـ واسعَ في فَكَاكِها كما تسعى في طلب معيشتك، فإنَّ نفسك رهينةٌ بعملك"، فأنت مرتهن {كلُّ نَفْسٍ بما كسبتْ رهينةٌ}[المدّثّر:38] ألا تسعى في الدنيا لفكِّ الرهينة على الدَّيْن؟ فكما تسعى إلى ذلك، عليك أن تفكَّ نفسك من الرّهْن الذي يحرّرك ويجعلك تنطلق في يوم القيامة حرّاً..

وفي حديث آخر عنه(ع) يقول: "خُذْ لنفسك من نفسك؛ خُذْ منها في الصحّة قبل السقم، وفي القوّة قبل الضعف، وفي الحياة قبل الممات"، لأنَّ الفرصة ربما تذهب منك.. فما دمتَ صحيحاً اعمل واغتنم فرصة الصحة، لأنَّك إذا مرضت، فإنَّك لن تستطيع أن تقوم بعمل الأصحّاء، وما دمتَ قويّاً فاستفد من قوّتك، وما دمت حيّاً فاستفد من حياتك.

ويحدّثنا(ع) عن عنوانٍ لا يزال العالم كلُّه يعاني من تأثيراته السلبيّة، ولا سيما المستضعفين، سواء كان هذا الاستضعاف في نطاق العائلة، أو في نطاق الجوار، أو في نطاق المواقع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة هنا وهناك، وهو عنوان الظلم.. فكيف يحدّثنا الإمام الصادق(ع) عن الظلم، وكيف يريدنا أن نبتعد عنه ونجتنبه في كلِّ مواقعه وموارده؟

المصادر:

(1)بحار الأنوار، ج:2، ص:99.

(2)بحار الأنوار، ج:77، ص:77.

(3)بحار الأنوار، ج:47، ص:349.

(4)بحار الأنوار، ج:74، ص:351.

(5)الكافي، ج:2، ص:359.

(6)الكافي، ج:2، ص:359.

(7)الكافي، ج:2، ص:359.

(8)الكافي، ج:2، ص:359.

(9)الكافي، ج:2، ص:361.

يحدّثنا الإمام الصادق(ع) في ما رُويَ عنه عن المؤمن وملامحه، في حركته في المجتمع، وحركته أمام التجربة، فيقول(ع): "المؤمن حسنُ المعونة ـ هو الذي لا ينكمش في ذاته، ولكنه يعيش مع النّاس ليعاونهم ويساعدهم في ما يحتاجونه من طاقته، أيّاً كانت طاقته ـ خفيف المؤونة ـ لا يُثقل على الناس، ولا يكلّفهم شيئاً كبيراً ليرهقهم في تحمّل مسؤولياته ـ جيّد التدبير لمعيشته ـ يعرف كيف يتحرّك في معاشه، سواء كان معاشاً في حجم تحصيل الرزق أو صرف ما رزقه الله، أو معاشاً اجتماعياً، فإنَّ المؤمن في هذا المجال ينبغي ألا يكون بسيطاً، لأنَّه يفترض أن يملك عقل المعيشة ويعرف كيف يحصل على رزقه من الحلال، وكيف ينفقه من دون إسراف أو تبذير في الحلال، ويعرف كيف يدير شؤونه وأموره في الحياة الاجتماعية العامة ـ لا يُلسع (يُلدغ) من جُحر مرتين". بل يستفيد من تجاربه، فإذا وضع يده في مكان ولسعته فيه عقرب، سواء كانت بشريّة أو حيوانية، فإنَّه يستفيد من هذه التجربة، ولا يضع يده مرة ثانية في المكان نفسه..

ثم يصوّر لنا شخصية المؤمن، فيقول(ع): "المؤمن له قوّة في دين وحزمٌ في لين ـ هو قويٌّ، لكن في إطار حركة الدين في معنى القوّة، وله حزمٌ حازم، لكنَّه لا يعطي معنى القسوة، بل لينٌ في أسلوب ممارسة الحزم ـ وإيمانٌ في يقين ـ هو مؤمنٌ يتعلّق إيمانه في داخل يقينه ـ وحرصٌ في فقه ـ يحرص على الأمور من حوله، في الدائرة التي يعرف فيها تكليفه ويفهم واقعه ـ ونشاط في هدى ـ فالمؤمن متحركٌ في خطِّ الهدى لا في خطِّ الضلال ـ وبرٌّ في استقامة، وعلمٌ في حلم ـ يملك العلم، ولكن مع سعة الصدر عندما يواجه التحديات ـ وكيّس في رفق ـ وهو التعقّل في رفق لا في شدّة ـ وسخاءٌ في قصد وقصدٌ في غنى ـ عندما يكون لديه غنىً في المال، فإنَّه يقتصد فيه ولا يبذّر ولا يسرف ـ وتجمّلٌ في فاقة ـ وإذا افتقر فإنَّه لا يسقط ولا يُذلُّ نفسه، بل إنَّه يتجمّل حتى يحسبه الناس غنيّاً في تعفّفه ـ وعفو في قدرة، وطاعةٌ في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورعٌ في رغبة ـ أي إذا انطلقت رغباته، فإنَّه لا يندفع معها، بل إنَّه يعيش الورع ـ وحرصٌ في جهاد، وصلاة في شغل، وصبرٌ في شدّة، في الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، ولا يغتاب ولا يقطع الرحم، وليس بواهن ولا فظّ غليظ، ولا يسبقه بصره ولا يفضحه بطنه، ولا يغلبه فرجه ـ عندما تثور غريزته ـولا يحسد الناس".

ثم يكمل الإمام الصادق(ع) مبيِّناً بعض صفات المؤمن في كلِّ مواقعه وأوضاعه، فيقول: "إنَّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلَّها ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً"(1)، فالله تعالى لم يعطِ المؤمن حريّة أن يذلَّ نفسه لأحد، لأنَّه سبحانه وتعالى يقول: {وللهِ العزّةُ ولرسولِه وللمؤمنين} [المنافقون:8] ثم يقول(ع): "فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، إنَّ المؤمن أعزّ ـ أقوى وأصلب ـ من الجبل، إنَّ الجبل يُستقلّ منه ـ ينقص منه بالمعاول ـ والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شي‏ء"، عندما تأتيه التحديات والإغراءات والضغوط لتقطع شيئاً من دينه هنا وهناك، فليس بإمكان أحد أن يقتطع شيئاً من دينه.. أمّا مسألة الإرادة، فإن الإمام(ع) يقول لك، كن قويَّ الإرادة ولا تحاول أن تضعف أمام التحديات، لأنّه "ما ضعف بدنٌ عما قويت عليه النيّة"، إذا كانت إرادتك في نفسك قويّة، فإنَّ قوّة إرادتك تمنح جسدك قوّة، بحيث يستطيع أن يقوم بما تنفتح عليه الإرادة حتى ولو كان جسمك ضعيفاً.. إنَّ طاقتك في جسدك تنطلق من قوّة إرادتك في عزيمتك، فإذا كنتَ الإنسان الذي يعزم على الأمور ويريدها، فلا مشكلة إذا كنت ضعيفاً في جسدك.

وهكذا كان(ع) يقول: "لا ينبغي للمسلم أن يُذلّ نفسه، بأن يدخل في شي‏ءٍ يعتذر منه"، فإذا أردت أن تبقى على عزّتك فوفّر على نفسك كلَّ ما يدفعك إلى الاعتذار، فكّر بكلِّ كلمة أو موقف قبل أن تنطلق به.

الأمور كلُّها لله

ويرى(ع) أنَّ من صفات المؤمن الرسالي، الاهتمام بقضايا المسلمين، فيستشهد بكلام رسول الله(ص) في هذا المجال، فيقول: "مَن لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، إنَّ رسول الله(ص) قال: مَن أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس منهم، ومَن سمع رجلاً ينادي "يا للمسلمين" فلم يُجبه فليس بمسلم".

إنَّ هذه الكلمة تعني نفي صفة الإسلام عن الإنسان اللامبالي الذي مهما حدث للمسلمين من مآسٍ ومشاكل وهزائم، فإنَّ ذلك لا يحرّك عقله ليفكّر، ولا يحرّك عقله من أجل أن يتعاطف، ولا يحرّك موقفه من أجل أن يقف.. إنَّه يقول: صَلِّ ما شئت وصم ما شئت وحجّ ما شئت، فإذا وقفت موقف اللامبالاة أمام مشاكل المسلمين فلست بمسلم.. ثم يقول(ع): "اجعلوا أمركم لله ـ عندما تعملون في خطِّ الإسلام وأهل البيت(ع)، وتنطلقون في حركتكم في الواقع على المستوى الاجتماعي أو السياسيّ أو الأمني، اجعلوا كلَّ ذلك لله، واقصدوا به القربة له تعالى ـ ولا تجعلوه للنّاس، فإنَّه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله".

خف اللهَ كأنَّك تراه

ويحدّد(ع) صفات للمؤمن تختصرها هذه الرواية، حيث جاء عن أبي الربيع الشامي أنه قال: "دخلت على أبي عبد الله الصادق(ع) والبيت غاصّ، فيه الخراساني والشامي ومن أهل الآفاق، فلم أجد موقعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله وكان متكئاً ثم قال: يا شيعة آل محمد، ليس منا مَن لم يملك نفسه عند غضبه، ومَن لم يحسن صحبةَ مَنْ صَحِبه، ومخالفة مَنْ خالفه، ومرافقة مَن رافقه، يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم ولا حول ولا قوّة إلا بالله".

وكان(ع) يقول لمن يلتقيه: "خفِ الله كأنَّك تراه، وإن كنت لا تراه فإنَّه يراك، وإن كنت تعلم أنَّه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك"، لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يرتكب معصيةً واطّلع عليه أحدٌ حتى لو كان طفلاً فإنَّه يتراجع، ولكنَّ الله يرانا ونحن نعصيه جهاراً، فهو تعالى إن فعلنا ذلك جعلناه ـ وحاشا لوجهه الكريم ـ من أهون الناظرين إلينا.

الإنصاف في مفهوم الإمام(ع)

ونتوقف عند بعض القضايا الاجتماعية التي ينبغي للمسلم أن يعرف عمقها وطبيعتها، وهي التي تمسّ سلوكه مع مجتمعه وانفتاحه على طاعة ربِّه، فيقول(ع):

"سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشي‏ءٍ إلا رضيت لهم مثله ـ أن تكون منصفاً ولا تكون أنانياً بحيث تعيش ذاتك حتى على حساب الآخرين، لترتاح ويتعب الآخرون، وتسلم ولا يسلم الآخرون، وتريد للناس أن يحفظوا لك قضاياك ولا تحفظ لهم قضاياهم، أو تريد ألا يظلمك الناس وأنت تظلمهم.. عليك حسب توجيه الإمام الصادق(ع) أن تكون منصفاً، ومعنى الإنصاف أن تعتبر أنَّ الله تعالى لم يخلقك وحدك، وإنَّما خلق الناس كما خلقك، وإذا كنت تفكّر أنَّ من حقِّك أن تحيا، فمن حقِّ الناس الحياة أيضاً، وإذا كنت تفكّر أنَّ من حقِّك أن تأخذ حقَّك من الناس، ففكّر أنَّ الناس لهم الحقّ في أن يأخذوا الحقّ منك، وإذا كنت تفكّر أن يعدل الناس معك، فإنَّ عليك أن تعدل معهم.. وإذا كنت تريد ألا يغتابك الناس فلا تغتبهم، وإذا رغبت أن يذكرك الناس بالخير فاذكرهم بمثله، وإذا رأيت أنَّ من حقِّك على الناس أن تختلف معهم في الرأي، فتذكّر أنَّ لهم في ذلك الحقَّ أيضاً.. وإذا اختلفت مع الناس في شي‏ء أو اختلف الناس معك، فعليك أن تطلب من الناس أن يحاوروك في ما ينسبونه إليك، لا تقل: "أنا لا الآخر"، بل قل: "أنا والآخر"، لأنَّ الله تعالى كما خلقك خلق غيرك أيضاً، فالدنيا ليست لك وحدك، والحقّ ليس لك وحدك، وهكذا الحرية والعدل، وكلّ شؤون الحياة، فالخلق مشتركون فيها جميعاً.. وهذا هو الإنصاف.

ويكمل(ع) موعظته فيقول: ـ ومواساتك الأخ في المال ـ وإذا كان لك أخٌ في النسب أو الدين، وكنت تملك مالاً فائضاً عنك، ويمكن أن تؤثره، فحاول أن تواسيه به ـوذكر الله على كلِّ حال ـ وقد يفهم أحدنا أنَّ معنى ذكر الله، هو أن نسبّح الله ونحمده ونكبّره وحسب، ولكن ليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقط ـ ولكن إذا ورد عليك شي‏ءٌ أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ به أخذت به، وإذا ورد عليك شي‏ءٌ نهى الله عزَّ وجلَّ عنه تركته"، يعني أن تذكر الله في مواقع طاعته لتطيعه فيها، وفي مواقع معصيته لتجتنب المعصية.. أن تذكر الله عندما تتكلّم، فلا تتكلَّم إلا بما يرضيه، أن تذكره عندما تعمل أو تؤيّد أو ترفض أو عندما تُنشى‏ء العلاقات.. أن تذكره في عقلك حتى لا يتحرّك بفكر الباطل، وفي قلبك حتى لا تتحرّك عاطفتُك في خطِّ الباطل، وأن تذكر اللهَ في حياتك، حتى لا تكون حياتُك إلاّ على الصراط المستقيم..

القرب من الله

ثم يحدّث(ع) عن أقرب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة، وكلنا يحبّ أن يكون في هذه الدرجة، لأنَّ القرب إلى الله هو كلُّ السعادة والنجاة والفرح.. فمن هو الأقرب إلى الله يوم القيامة؟ يقول(ع): "ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عزَّ وجلّ يوم القيامة حتى يُفرَغ من الحساب: رجلٌ ـ وكلمة رجل يُقصد بها الإنسان، رجلاً كان أو امرأة ـلم تَدَعْهُ قدرتُه في حال غضبه إلى أن يحيف على مَنْ تحت يده ـ فنحن نعرف أنَّ هناك أناساً يملكون القوة، وآخرين يملكون الضعف، وقد يكون هؤلاء أولادك أو زوجتك أو جارك أو قريبك أو مواطنك، وما أكثر الضعفاء الذين يخضعون لتأثير الأقوياء.. فأحد الناس القريبين إلى الله تعالى يوم القيامة، هو الإنسان الذي عندما يغضب من كلِّ هؤلاء الضعفاء، فإنَّه يتوازن في غضبه، فلا يظلم مَنْ تحت يده، ويكون الإنسان الذي يحافظ على عدم انفلات عقله وأخلاقه وإيمانه ساعة الغضب، فيتوازن في حال قدرته وحال عجزه ـ ورجلٌ مشى بين اثنين ـ في صلح أو حُكم ـ فلم يَمِلْ مع أحدهما على الآخر بشعيرة ـ بحيث يبقى عادلاً في سعيه وحكمه وكلامه معهما، فلا يميل مع أحد، فيفضّله بالحل أو الحكم ولو بمقدار شعرة، فيعيش عدالة النظرة إلى الطرفين وعدالة الحكم بينهما ـ ورجلٌ قال الحقَّ في ما له وعليه". الإنسان الرسالي، هو الإنسان المتوازن الذي يعطي للآخرين حقوقهم، ويأخذ حقَّه من الآخرين، والله تعالى يقول: {يا أيُّها الذين امنوا كونوا قوّامين بالقِسط شهداءَ لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}[النساء:135].

ولهذا، كان(ع) يلتفت إلى أصحابه ـ ونحن من أصحابه ـ ويقول لهم: "اتقوا الله واعدلوا ـ في معاملاتكم وعلاقاتكم، وفي ما لكم من حقوق وما عليكم من واجبات ـ فإنَّكم تُعيبون على قومٍ لا يعدلون"، فنحن نهتف بسقوط الظلم وبحياة العدل، ننتقد الحكومة والسلطات والحاكم الظالم، وننكر الظلم الكبير، ولكن في الوقت نفسه نمارس الظلم الصغير.. فالعدل مبدأ، ولا فرق بين أن تعدل بليرة واحدة وبين أن تعدل بملايين، لأنَّ المبدأ واحدٌ في العدل، فإذا كنا ننكر على الحاكم أن يظلم شعبه ونريد منه أن يعدل، فعلينا أن ننكر على أنفسنا بأن نظلم الزوجة أو الولد أو مَن حولنا من موظفين وعمّال.

ثم يقول(ع): "عليك بالنصح لله في خلقه ـ كن الناصح للخلق في كلِّ ما يصلح أمرهم لتشير عليهم أن يفعلوه، وفي كلِّ ما يُفسد أمرهم لتشير عليهم أن يتركوه ـ فلن تلقاه بعمل أفضل منه". وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص) عندما سُئِل، ما الدين؟ قال: "النصيحة". ويُسأل(ص) عن أحبِّ الناس إلى الله، فيقول: "أنفع الناس أنفعهم للناس" الذي يقضي حوائجهم أكثر، ويدافع عنهم أكثر، ويثقّفهم ويعظهم وينصحهم ويوحّدهم ويجمع قلوبهم أكثر، ويدلّهم على الله أكثر.. فهذا هو أحبّ الناس إلى الله سبحانه، وقد ورد في الحديث عنه(ص): "الخلق عيال الله، فأحبُّ الخَلْق إلى الله مَن نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً".

رعاية الوالدين ولو كانا كافريْن

وهناك قصّة موحية جدّاً ينقلها أحد أصحاب الإمام الصادق(ع)، وتعلّمنا كيف يريد الإسلام من الإنسان أن يرعى والديه، حتى ولو كانا كافريْن، وكيف يوجّه الإسلام الإنسان لكي يستطيع أن يجذب الناس إلى الإسلام بأخلاقه، والقصّة هي أنَّ هناك شخصاً اسمه "زكريا بن إبراهيم"، قال: كنت نصرانياً فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد الله الصادق(ع)، فقلت: إنّي كنت على (دين) النصرانية، وإني أسلمت، فقال: "وأيَّ شي‏ءٍ رأيت في الإسلام"؟ لأنَّ بعض الناس يُسلم لأنَّه يريد أن يتزوج من مسلمة.. وهنا نقول للأهل: إنَّ عليكم أن تتوثقوا ممن يتقدّم لابنتكم، هل هو جادٌّ في هذا الأمر مائة بالمائة؟ لأننا ينبغي أن ندرك جديّته في إسلامه من عدم جديّته قبل الموافقة على الزواج من المسلمة.. وبعد أن يسأله الصادق(ع) يخبره بأنَّه وجد في دين الإسلام مختصراً في هذه الآية: {مَا كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَنْ نّشاءُ من عبادنا}[الشورى:52]، فالله تعالى أعطاني هذا النور وشرح صدري للإسلام، فقال(ع): "لقد هداك الله، اللهمّ اهدهِ (ثلاثاً)، سل عما شئت يا بنيّ" فقال: إنّ أبي وأمي على النصرانيّة وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: يأكلون لحم الخنزير؟ قال: لا ولا يمسونه، فقال: لا بأس، فانظر أمَّك فبرّها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك ـ كن أنت الذي تقوم بشأنها ـ ولا تخبرنّ أحداً أنَّك أتيتني حتى تأتيني في (منى) ـ في موسم الحجّ ـ إن شاء الله".

يقول الرجل: فأتيته بـ"منى" والناس حوله وكأنَّه معلّم صبيان، وكنت عندما أتيت الكوفة ألطفت لأمّي ـ عاملتها بأخلاق ولطف فوق العادة ـ وكنت أطعمها وأُفلي رأسها وثوبها وأخدمها. فقالت: يا بنيّ، ما كنت تصنع هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرتَ ودخلت في دين الحنيفيّة؟ فقلت: رجلٌ من وُلْد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبيّ؟ فقلت: لا، ولكنّه ابن نبيّ، فقالت: إنَّ هذه وصايا الأنبياء، فقالت: يا بنيّ، دينُك خير دين فاعرضه عليَّ، فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام، وعلّمتها، فصلّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض عليها عارضٌ في الليل، فقالت: يا بنيّ أعد عليَّ ما علّمتني، فأعدته عليها، فأقرّت به وماتت. فلما أصبحت كان المسلمون هم الذين غسّلوها، وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها".

ونفهم من هذا التوجيه أنَّ علينا أن نحسن أخلاقنا مع المؤمنين والكافرين، حتى نعطيهم الصورة المشرقة عن الإسلام، لأنَّ الناس إذا رأوا منّا الأخلاق الطيّبة والسلوك الحسن والعدالة معهم، فإنَّ ذلك يكون خيرَ دعوة للإسلام، وهذا ما قاله الصادق(ع): "كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع، فإنَّ ذلك داعية" ويقول(ع): "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، حتى يقول الناس رحم الله جعفر بن محمّد فلقد أدّب أصحابه".

الخروج من ولاية الله إلى ولاية الشيطان

ونبقى في الحديث عن المنهج التربوي للإمام الصادق(ع)، ونتوقف عند موقفه من القضايا السلبيّة التي يمكن أن تصدر من مؤمن ضدّ مؤمن آخر، فكيف ينظر(ع) إلى ذلك، يقول: "مَن روى على مؤمنٍ رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ـ أي هَدْمَ عناصر التقدير، وهي المروءة في شخصيته ـ ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان"(2).

ما يصوّره الإمام الصادق(ع) في هذه المسألة ينحصر في شخص يحاول أن يلتقط عيوبَ هذا المؤمن أو ذاك، ونقاط الضعف المستورة فيه التي يمكن أن تترك حالات سلبيّة على سمعته بين النّاس، ولا سيما إذا كان هذا المؤمن يملك موقعاً يستهدي به الآخرون وينفتحون من خلال مواقفه على أمور دينهم ودنياهم، وهو وإن لم يكن معصوماً في حركته، ولكن يُنْسَب إليه ما لم يَقُلْه ولم يفعله ليسقط من عيون الناس وليُهدم موقعُه ومجده.. فالذي يُقدم على ذلك "أخرجه الله من ولايته"، فالله لا يرعاه ولا ينصره ولا يرزقه ولا يعتني به كليّاً، لأنَّه سلك طريق الشيطان، فإذا ما التقى بالشيطان، فإنَّ الشيطان نفسه لا يقبله ويتبرّأ من عمله، ويخاطبه بأنني عصيتُ اللهَ بأمر ذاتي، أمَّا أنت، فإنَّك عصيت اللهَ بأن تهجّمت على وليّ من أولياء الله يحبه سبحانه، أو على مؤمن ينطلق في ولاية الله، فأنت عصيت الله كما عصيتُه أنا.. فأيُّ موقعٍ لمن يهدم كرامة مؤمن، خصوصاً أنَّ الشيطان نفسه لا يقبله؟

وفي حديث آخر عن بعض أصحابه، قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام ما معنى ذلك؟ قال(ع): "نعم، قلت: تعني سُفْلَيْه؟ ـ أي ما يستره الإنسان عن عيون الناس؟ ـ قال(ع): "ليس حيث تذهب، إنَّما هي إذاعة سرِّه"(3). إذا اطّلعت على سرٍّ من أسرار المؤمن، ولا سيّما إذا كان هذا السرُّ عيباً، فليس لك أن تذيع سرَّه.. وهكذا جاء في تفسير الحديث نفسه، عورة المؤمن على المؤمن حرام، قال(ع): "إنَّما هو أن تروي عليه أو تعيبه"(4).

إنّ هذه الأحاديث التي تركّز على هذا الجانب، تدفع بالإنسان لأن يعيش الرعب أمام تصرفاته التي تصدر منه من قبيل هذه المواقف، أو من قبيل احتقار مسلم ضعيف أو غير ذلك.

ففي الحديث عن أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "قال الله عزَّ وجلّ: ليأذن بحربٍ مني مَن آذى عبدي المؤمن، ولو لم يكن من خلقي في الأرض في ما بين المشرق والمغرب إلا مؤمنٌ واحدٌ مع إمام عادل، لاستغنيت بعبادتهما عن جميع ما خلقت في أرضي، ولقامت سبع سموات وأرضين بهما، ولجعلت لهما من إيمانهما أنساً لا يحتاجان إلى أنسٍ سواه".. فالله تعالى يقوّم إيمان المؤمن، بحيث لو أنَّ الأرض كلّها ليس فيها إلا مؤمنٌ وإمام عادل، فإنَّه سبحانه يجعل الأرض ممتلئةً بهما، ويرى أنَّ عبادتهما له من خلال إيمانهما، هي العبادة التي يُستغنى بها عن عبادة أيِّ مخلوق، لأنَّها تمثّل العلاقة العميقة بالله تعالى.. فلنفكّر أمام هذا الحديث كيف يمكن أن نعيب على المؤمن ونغتابه ونذيع سرّه؟!

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع) أيضاً: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: الذي لا يقضي حاجة المؤمنين ويحتقرهم ولا يحترمهم، فيقوم قومٌ ليس على وجوههم لحمٌ، فيُقال: هؤلاء الذين اذوا المؤمنين ونصبوا لهم ـ العداوة ـ وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم، ثم يُؤمَر بهم إلى جهنّم".. وفي الحديث عن الصادق(ع) أيضاً في ما يرويه عن رسول الله(ص) قال: "قال رسول الله(ص): قال الله تبارك وتعالى: مَن أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي"، وفي الحديث عنه(ع): "مَنْ حقَّر مؤمناً مسكيناً أو غير مسكين، لم يزل الله عزَّ وجلّ حاقراً له ماقتاً حتى يرجع عن محقّرته إيّاه". وقال أيضاً: "إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: مَن أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي، وأنا أسرع شي‏ءٍ إلى نصرة أوليائي".

وفي هذه الأحاديث نشعر بمدى إعزاز الله تعالى للإنسان المؤمن، ونشعر أيضاً بأنَّ المبدأ الإسلاميّ يرفض مسألة احتقار المؤمنين وأذاهم من قِبَل الإنسان الذي يشعر بأنَّ له ميزة على أخيه الإنسان، ويؤكِّد ضرورة احترام المسلم بقطع النظر عن طبيعة الواقع الطبقيّ الاجتماعي أو طبيعة المميّزات التي تميّز المسلمين عن بعضهم البعض، حتى يكون إسلام المسلم وإيمان المؤمن هو الأساس في تقويمه واحترامه..

لا تتبعوا عورات المسلمين

وهناك حالةٌ ثانية ينبغي تسليط الضوء عليها لخطورتها الاجتماعية، وتتعلّق بتهيئة الوسائل التي يستغلّها البعض ليؤكدوا احتقارهم للمؤمنين، كأن يلاحقوا عثراتهم ومعايبهم وعوراتهم، ويتجسّسوا عليهم، مستغلّين مصاحبتهم لتسجيل كلِّ كلمة أو عمل يمكن أن يُنزل من مقامهم ويحقّرهم، من أجل إسقاط سمعتهم أو التشهير بهم.. فهناك مَن يعمل في المخابرات لحساب أجهزة أو حزب هنا أو منظمة هناك، وهناك مَن يعمل في المخابرات لحساب نفسه، فيتجسس على شخص آخر ويلاحق عثراته ليسي‏ء إلى سمعته ويحطّمه في المجتمع.. وقد اهتمَّ أئمة أهل البيت(ع) بهذا الموضوع اهتماماً كبيراً، وعلينا أن ننتبه إلى هذه النقطة جيّداً، لأنَّ هذه الأمور أصبحت في مجتمعنا كطعامنا وشرابنا، وأصبح شغلنا هو تمزيق صفوفنا وإسقاط رموزنا وشخصياتنا الصالحة والمُصلِحة في المجتمع، إما لحسابات شخصيّة أو لحقد شخصيّ أو لحسد، وإمّا لحساب أجهزة مخابراتية في الداخل والخارج.

وفي الحديث عن الصادق(ع): "أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين ـ والصديق ينكشف عادةً لصديقه ـ فيحصي عليه زلاته ليعنّفه بها يوماً ما". وهذه الآفة موجودةٌ في مجتمعاتنا، وقد نهى عنها رسول الله(ص)، حيث يروي عنه الإمام الصادق(ع): "يا معشر مَن أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ـ أي مَن كان مسلمَ اللسان وليس مسلم القلب، هؤلاء الذين أسلموا بألسنتهم يمثّل الإسلام بالنسبة إليهم كلمةً لا موقفاً، وفكرةً لا منهجاً، هذا خطأ، لأنَّ مسألة الإسلام هي أن يعيش الإسلام في عقلك ليكون عقلاً إسلاميّاً، وفي قلبك ليكون قلباً إسلاميّاً، وليعيش الإسلام في حياتك كلِّها.. ولذلك، أراد أن ينقد هؤلاء، لأنهم لا يعيشون الإسلام كعمقٍ في الذات، بل يعيشونه ككلمة في اللسان ـ لا تذمّوا المسلمين ـ لا تكن علاقاتكم بالمسلمين علاقة مَن ينهش أعراضهم ويسي‏ء إلى كراماتهم، ولا يكن أسلوبكم في الحديث عنهم أسلوب الذمّ، لأنَّ ذلك يُسقط معنويّات المسلمين ويثير البغض والعداوة في داخلهم ـ ولا تتبَّعوا عوراتهم ـ لا تعملوا على أن تتجسّسوا عليهم من أجل أن تكتشفوا بذلك عيوبهم لتتحدّثوا بها هناك وهناك، ولتسقطوا مواقعهم نتيجة عقدة نفسيّة أو خلاف شخصيّ وما إلى ذلك ـ فإنَّه مَنْ تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورتَه ـ والله تعالى يعرف عورات الإنسان، وهذا يعني أنَّه سيكشف هذه العورات ـ ومَن تتبّع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته".

فالمسألة، وبالإضافة إلى ما في ذلك من انحراف عن الخط الإسلامي في حفظ المسلم للمسلم، فإنَّ الله تعالى ينتقم ممن يكشف عيوب المسلم، فيفضحه ولو في جوف بيته.

وهناك نقطةٌ أخرى، وهي موجّهةٌ إلى أولئك الناس الذين يصادقون بعضهم بعضاً، ولكنهم يمسكون قلماً وورقة من أجل أن يسجّلوا كلَّ ما يرونه بحكم الصداقة من أسرار الصديق وعيوبه، ويجمعون ذلك كلَّه في ذاكرتهم أو في تسجيلاتهم، فإذا تعقّدت العلاقة مع هذا الصديق، بدأوا بكشف عيوبه وأسراره... وهذا شي‏ءٌ موجودٌ في علاقات بعض الشباب مع بعض الفتيات، عندما يقدّمون لهنَّ ما يسمّى الحب، وهو موجودٌ أيضاً في المسألة الدينية والاجتماعية والسياسيّة، وهذا مرضٌ نعيشه، ولنستمع إلى ما يقوله الإمام الصادق(ع) في هذا الشأن: "أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين، فيحصي عليه عثراته وزلاّته ليعنّفه بها يوماً ما"، هذه الذهنية تؤدي بالإنسان إلى أن يكون قريباً من الكفر..

خوفاً من ذوبان الإيمان

وهناك من الناس مَن يتّهمون المؤمنين بغير حقّ، وعن هؤلاء جاء في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إذا اتهم المؤمن أخاه بما لا أساس له انماث الإيمان في قلبه ـ مات الإيمان في قلبه ـ كما ينماث الملح في الماء" تماماً كما يذوب الملح في الماء.. ومعنى ذلك أنَّك إذا اتهمت أخاك المؤمن بما لا حجّة لك فيه وبما يسي‏ء إليه، فإنَّ إيمانك يذوب كذوبان الملح في الماء.

ويقول أيضاً: "من اتهم أخاه في دينه ـ أي من نسب إلى أخيه ضعفاً أو عيباً في دينه من غير حقّ، سواء كان ذلك في عقيدته أو في عمله ـ فلا حرمة بينهما ـ تسقط الحرمة التي جعلها الله للمؤمن على المؤمن ـ ومَنْ عامل أخاه بمثل ما يعامل به النّاس ـ لا بدَّ للمؤمن أن يعامل أخاه المؤمن بشكل مميّز احتراماً لإيمانه، لأنَّ الإيمان هو القيمة الكبرى، لكنَّ بعض الناس يعتبر المؤمن وغير المؤمن على حدٍّ سواء ـ فهو بري‏ءٌ ممّا ينتحل" بري‏ءٌ من الإيمان الذي ينتمي إليه..

ترويع الناس من موقع القوّة

هناك حديثٌ عن الإمام الصادق(ع) يعرض فيه وضع أولئك الذين يملكون القوّة من خلال الموقع الاجتماعي أو العسكري أو السياسيّ، والذين يستغلّون هذا الإحساس بقوّتهم لينظروا إلى المستضعفين نظرةً يخيفونهم بها، فيقول(ع): "قال رسول الله(ص): مَن نظر إلى مؤمنٍ نظرةً ليخيفه بها، أخافه الله عزَّ وجلّ يوم لا ظلّ إلا ظلّه"، وهذا يسري أيضاً في نظرة الزوج إلى زوجته أو أولاده أو أيّ ضعيف آخر..

وعن الذين يحاولون من خلال مواقعهم الاجتماعية أو الأمنية أو السياسيّة ترويع المؤمنين بنقل أفعالهم ومواقفهم إلى الظالم الذي لا يرضى عن أفعالهم، من أجل أن يصيبهم منه مكروه، وهؤلاء هم الجواسيس الموظفون أو المتطوعون مجاناً، فيقول(ع): "من روّع مؤمناً بسلطان ـ صاحب سلطة اجتماعية أو أمنية أو سياسيّة يمكن أن تؤذي النّاس ـ ليصيبه منه مكروهٌ فلم يُصِبْه فهو في النّار، ومَن روّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروهٌ فأصابه فهو مع فرعون وال فرعون في النار".

سوء الشماتة

ومن بين النقاط التي نعيشها أحياناً في مجتمعنا، هي أنَّ الناس قد يختلفون مع بعضهم البعض ويتعادون ويتخاصمون، وقد يواجه البعض خسارةً أو فشلاً في بعض أوضاعه، فيعرف ذلك البعض الآخر من الذين يختلفون معه فيشمتون به، والشماتة تمثّل ظاهرة من ظواهر مجتمعنا، ولعلّها موجودةٌ على جميع المستويات بما فيها المستويات الدينيّة، وفي هذا المجال يحذّر الإمام الصادق(ع) من هذه الظاهرة السلبيّة حيث يقول: "لا تُبْدِ الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويصيِّرها بك"(5)، فالذي أُصيب بوضعه بخسارةٍ أو غيرها، فإنَّه قد يتذلّل إلى الله، فيرحمه الله ويعاقب مَنْ يشمت به، فيبتليه بما ابتلاه به.. لذلك يقول(ع) أيضاً في هذا المجال: "من شمت بمصيبةٍ نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يُفتتن"(6)، أي حتى يُبتلى بمثلها.. فكما أنَّ الله تعالى قد يعاقب الإنسان في الآخرة، قد يعاقبه في الدنيا، فيكون العقاب نتيجة لما عمل.. {ظَهرَ الفسادُ في البرِّ والبحر بما كسبتْ أيدي النّاس ليذيقَهُم بعضَ الذي عملُوا لعلّهم يرجعون}[الروم:41]، لأنَّ العمل يعطي مثلَ هذه النتيجة.

مخاطر السب واللعن

ونتوقف عند ظاهرة أخرى اعتاد عليها البعض، وهي مسألة السباب، فبعضٌ منا يُتقن كلَّ ألفاظ السباب الموجودة في القاموس، وربما يلجأ إلى لغاتٍ أخرى يستعير منها ألفاظاً.. فما هي نظرة الإمام الصادق(ع) إلى السباب؟ يقول(ع): "قال رسول الله(ص): سَبَّابُ المؤمن كالمشرف على الهَلَكة"(7)، مَن يسبُّ المؤمن يكاد أن يسقط من أعلى الجبل إلى أسفل الوادي، وفي هذا قال الإمام الباقر(ع) في ما يرويه عن رسول الله(ص): "سباب المؤمن فسوق ـ إذا كنت ممن يسبّون المؤمنين فأنت تستحق لقب "الفاسق" ـ وقتاله بغير حقّ وأكل لحمه بالغيبة معصية، وحرمةُ ماله كحرمة دمه" (8)، فأنت إذا أكلت مال المؤمن بالباطل، فكأنَّك في معصيتك قد أهرقت دمه(9)، لأنَّ حرمة المال كحرمة الدم..

فالسبُّ هو من الأساليب التي تعقّد علاقة الإنسان بمجتمعه، فينظر إليه نظرة عداوة وبغضاء.. فأنت عندما تسبُّ أحداً، فإنَّك تهينه وتسقطه، ومَن تحاول إهانته لا يمكن أن يتعامل معك بالمحبة..

وفي حديث أكثر خطورةً قال الإمام الصادق(ع): "إذا قال الرجل لأخيه المؤمن أفٍّ ـ وهي أقلُّ ما يُقال في مقام الإيذاء ـ خرج من ولايته ـ الولاية التي تربط المؤمن بالمؤمن ـ وإذا قال أنت عدوّي كفر أحدُهما ـ لأنَّ الله يقول: هذا أخوك، وأنت تقول هذا عدوّي، فمعناه أنَّك تناقض قول الله تعالى، وكلُّ إنسانٍ يقول قولاً يناقض كلام الله، فهو قول كفر بالله سبحانه ـ ولا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمرٌ على أخيه المؤمن سوءاً"، إذا كنت تحمل على أخيك المؤمن ضغينة أو حقداً أو سوءاً، اعملْ ما شئت، صلِّ ما شئت، وحجّ ما شئت، فإنَّ الله عزَّ وجلّ لن يقبل منك عملاً، إلا إذا طهّرت قلبك من نيّة السوء ضدّ هذا الإنسان المؤمن..

هذه بعض المفردات التي إذا استحكمت في مفاصل المجتمع، فإنَّها تُبعد هذا المجتمع عن الرساليّة في التوجّه والمنطلق، وتنفي عنه صفة الإيمان والخير والتقوى، وهكذا الإنسان، فإنَّ هذه الأخلاق السلبيّة تسلب منه ثبات الإيمان، وتبقيه إنساناً غير متوازن في الحياة..

ومن هنا، فإنَّ الإسلام يؤكّد ضرورة أن نخطّط لحياتنا، ابتداءً من صياغة أنفسنا إلى حسن إدارة العلاقة مع الناس ومع الأهل، حتى يعرف الإنسان كيف تكون حركته في الحياة، لأنَّه مسؤولٌ عن هذه الحركة، سواء كانت تتصل بنفسه أو بأهله أو بالناس من حوله.. فالإنسان المسلم ليس حرّاً في أن يتّبع هواه، بل لا بدَّ أن يتّبع ربَّه انطلاقاً من التزامه بميثاق العبودية له سبحانه..

ولهذا، فإنَّ الإمام الصادق(ع) يدلّنا على مفردات هذا المنهج الذي يحصّن المجتمع من الاختراق في أخلاقه وسلوكه..

العقل قرينٌ برٌّ وولد وأصل

في الحديث عن الإمام الصادق(ع) في العِشرة مع النفس يقول: "اجعل قلبك قريناً برّاً أو ولداً وأصلاً ـ والقلب في الكلمات القرآنية يُراد به العقل، والمعنى في هذا القول، أن تنظر إلى عقلك نظرتك إلى صاحبك الذي يسير معك لتستشيره كيف ترتّب حياتك وتميّز بين الحسن والقبيح، وأن تعتبره كما لو كان ولداً لك تحضنه، كما تحضن ولدك حقيقة، لأنَّ الإنسان عندما يخاطب عقله ويستشيره ويجلس معه، فإنَّ أخطاءه تقلّ، ولا سيما وأنَّ أكثر الأخطاء التي نرتكبها تصدر عن هوى النفس، أي عندما نقع أسرى غرائزنا، ونتحرّك على أساس الانفعال والغضب من دون تفكير في العواقب.. ولهذا، فإنَّ وصيّة الإمام الصادق(ع) أن يعيش الإنسان مع عقله، ليعتبره ولداً وأصلاً وقريناً برّاً يصاحبه، فلا يفارقه في أيِّ موقف من المواقف، بل يكون عمله وقوله وموقفه من خلال العقل، بحيث يشرف العقل عليه، لا هواه ـ واجعل عمَلك والداً تتبعه ـ لأنَّ عملك يمشي أمامك، فالإنسان يوم القيامة يتحرّك عمله أمامه ليحدِّد له الطريق، إمَّا إلى الجنّة أو إلى النّار، لذا، على الإنسان ألا يستهين بعمله، باعتبار أنَّه هو الذي يحدّد له مصيره: {فَمَنْ يعملْ مثقالَ ذرّة خيراً يَرَه* ومَنْ يعملْ مثقالَ ذرّةٍ شرّاً يَرَه}[الزلزلة:7ـ8] فنوعيّة عملك هي التي تحدّد لك نوعيّة مصيرك ـ واجعلْ نفسك عدوّاً تجاهدها ـ والمقصود بالنفس هنا، هو هذا الكيان الذي يتضمّن مجموعة الغرائز التي تدعوك إلى أن تشبعها وتلبيها على أساس أهوائها.. والله تعالى لم يُرِد لنا أن نكبت غرائزنا، ولكنّه سبحانه أراد لنا أن ننظّمها، فنحن نعرف أنَّ الغرائز قد أودعها الله في الإنسان من أجل أن تحفظ له حياته، ولكن على أساس تنظيمها، وألا يجعلها هي الحاكمة عليه، بل أن يعطي للعقل القيادة لهذه الغرائز، ليجلس مع كلِّ غريزة ليوجّهها، بأنَّ هذا الاتجاه يمكن أن يسي‏ء إليها وإلى الإنسان الذي يحملها، أو أنَّ ذاك الاتجاه يؤدي بها إلى الصلاح، تقول الآية الكريمة: {وما أبرّى‏ء نفسي إنَّ النفسَ لأمّارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربّي}[يوسف:53]، فعلى الإنسان ألا يستسلم لهوى نفسه، بل عليه أن يجاهدها ـ واجعل مالَكَ عاريةً (من الإعارة) تردّها"، لأنَّ الله تعالى أعطاك المال ليكون وديعةً عندك، فهو مال الله، وعليك أن تردَّ هذه العارية إلى من تنتقل إليه من بعدك، أو تردّها إلى الله من خلال ما تتمثّله من الأوامر التي كلّفك الله أن تطيعه فيها، في ما يتصل بمالك.

نفسُك رهينةٌ بعملك

وفي توجيه لتربية النفس، يقول الإمام الصادق(ع): "أقصرْ نفسَك عما يضرّها من قبل أن تفارقك ـ حاول أن تجنّب نفسك ما يضرّها في الدنيا والآخرة ـ واسعَ في فَكَاكِها كما تسعى في طلب معيشتك، فإنَّ نفسك رهينةٌ بعملك"، فأنت مرتهن {كلُّ نَفْسٍ بما كسبتْ رهينةٌ}[المدّثّر:38] ألا تسعى في الدنيا لفكِّ الرهينة على الدَّيْن؟ فكما تسعى إلى ذلك، عليك أن تفكَّ نفسك من الرّهْن الذي يحرّرك ويجعلك تنطلق في يوم القيامة حرّاً..

وفي حديث آخر عنه(ع) يقول: "خُذْ لنفسك من نفسك؛ خُذْ منها في الصحّة قبل السقم، وفي القوّة قبل الضعف، وفي الحياة قبل الممات"، لأنَّ الفرصة ربما تذهب منك.. فما دمتَ صحيحاً اعمل واغتنم فرصة الصحة، لأنَّك إذا مرضت، فإنَّك لن تستطيع أن تقوم بعمل الأصحّاء، وما دمتَ قويّاً فاستفد من قوّتك، وما دمت حيّاً فاستفد من حياتك.

ويحدّثنا(ع) عن عنوانٍ لا يزال العالم كلُّه يعاني من تأثيراته السلبيّة، ولا سيما المستضعفين، سواء كان هذا الاستضعاف في نطاق العائلة، أو في نطاق الجوار، أو في نطاق المواقع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة هنا وهناك، وهو عنوان الظلم.. فكيف يحدّثنا الإمام الصادق(ع) عن الظلم، وكيف يريدنا أن نبتعد عنه ونجتنبه في كلِّ مواقعه وموارده؟

المصادر:

(1)بحار الأنوار، ج:2، ص:99.

(2)بحار الأنوار، ج:77، ص:77.

(3)بحار الأنوار، ج:47، ص:349.

(4)بحار الأنوار، ج:74، ص:351.

(5)الكافي، ج:2، ص:359.

(6)الكافي، ج:2، ص:359.

(7)الكافي، ج:2، ص:359.

(8)الكافي، ج:2، ص:359.

(9)الكافي، ج:2، ص:361.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية