مسيرة الحسين (ع) في الأُسلوب والهدف

مسيرة الحسين (ع) في الأُسلوب والهدف

عندما نريد الانطلاق مع الحسين (ع) في مسيرته، فعلينا أن نأخذ الحسين (ع) ككل: عندما سالم، وعندما حارب. وفي كلا الحالين، كان الحسين ثائراً، فأن تكون ثائراً، ليس أن تحارب بطريقة مباشرة فقط، لأنّ للحرب مظهرين، فقد تحارب وأنت تغمد السيف، وقد تحارب شاهراً سيفك.

وفي كثيرٍ من الحالات، قد تكون حربك بتحضير الساحة الّتي تضغط على العدوّ، وبتهيئة الظروف الّتي يمكن أن تتحرّك ضدَّ العدوّ، وبتركيز القاعدة الّتي يمكن أن تثبت أمام تحديّات العدو. قد تكون هذه الحرب أكثر قوةً وفاعليةً من حرب السيف في البداية. وربّما نجد أن الحروب الّتي تتحرّك في عالمنا الحاضر تتحرّك بنسبة 75 بالمئة في خط إعداد الساحة وتحضير الجو أكثر مما تتحرّك في خطّ الصراع الحار الّذي تتحرّك فيه الأسلحة من كل مكان.

حربٌ من خلال الّسلم

كيف بدأ الإمام الحسين (ع) حربه من خلال سلم الإمام الحسن (ع) ومعه الإمام الحسين؟ لقد هادنا معاوية بن أبي سفيان لأن الجيش كان متعباً، والصورة كانت غير واضحة للناس، بسبب الحروب الّتي امتدّت من أول خلافة الإمام علي (ع) حتّى استشهاده، بحيث حجبت عن الناس آنذاك الصورة المنحرفة الّتي يمثلها الحكم الأموي وبعده عن الخط الإسلامي.

كان النّاس يفتقدون الرؤية الواضحة، فالحرب تشغل الناس _ عادةً _ بالحديث عن هذا الفريق أو ذاك، تشغلهم بالأوضاع المتحرّكة، عندما ينتصر أحد هذين الفريقين. ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يأخذ الصورة الواضحة في حالة الحرب. وكان المحاربون متعبين يخرجون إلى الحرب متثاقلين، وبهذا استفادت الرئاسات العشائرية الّتي كانت تعمل لمصالحها الخاصة من هذا التعب، واستطاعت أن تحوّل ذلك لمصلحة أطماعها وشهواتها، فكانت المعركة خسارةً على مستوى القضية لا على مستوى الشخص فحسب.

ولهذا أراد الإمام الحسن (ع) أن يعطي الناس فرصةً يعيشون فيها مع حكم (بني أُمية)، ليتعرفوا على خصائص هذا الحكم، ولتكون الثورة عند ذلك حالةً طبيعية يعيشها الناس من خلال مفردات حياتهم الخاصة.

وهكذا كان، فلقد بدأ الحكم الأموي يأخذ حريته في الحركة، وبدأ الناس يعرفون في ذلك الوقت معنى الطبقيّة بين المسلمين، ويعرفون معنى الأثرة، ويعرفون كذلك معنى أن يُقرِّب الإنسان لا لكفاءته، ولكن لعصبيته، وأن يبعد عن المسؤولية حتّى لو كان كفوءاً، لأنّه بعيد عن حركة العصبية الّتي تسيطر على الواقع.

حتّى إذا كانت نهاية المطاف، وكان معاوية قد أعطى الحسن (ع) عهداً أن يكون له الأمر من بعده، دسّ معاوية للإمام الحسن (ع) السم فاستشهد. وعندما أراد معاوية بعد هذا أن يأخذ البيعة ليزيد، حاول أن يطرح القضية بطريقةٍ حاسمةٍ، ووقف هناك شخص وبيده صُرَرٌ من المال، وبالأخرى سيفٌ قائلاً: من بايع فله هذا _ مشيراً إلى المال _ ومن رفض فله ذاك.

وانطلق الحكم في هذا الاتجاه، وكثرت المظالم، حتّى لقد قُتِلَ (حجر بن عدي) الصحابي الجليل ومعه ابنه وعدد من أصحابه الخُلَّص، لأنّه رفض أن يتبرّأ من (علي بن أبي طالب) (ع) عندما عرض عليه البراءة من علي (ع). وقد احتجّت (عائشة) آنذاك احتجاجاً عنيفاً، لأن حِجراً كان معروفاً بالصلاح بأعلى درجة بين المسلمين. وهكذا فُرِضَ سبّ علي (ع) على المنابر في كل يوم جمعة وفي كل مناسبة عيد، بل حُدِّد هذا بمرسوم في سائر المناطق الإسلامية.

الأوضاع المؤاتية

وانطلق الحكم في هذا الاتجاه، حتّى ضجّ الناس من هذا الحكم، وأصبحت الثورة حالةً طبيعية يتحدّث فيها كل الناس نتيجة فساد الحكم، وابتعاده عن خط الإسلام وعن خط الله ورسوله، حتّى إذا كانت بيعة يزيد، كانت القضية قد تفاقمت فوق العادة.

وتهيّأت الأوضاع في الكوفة للثورة، وأرسل زعماؤها للحسين (ع) الكتب الكثيرة الّتي تدعوه أن يأتي إلى العراق ليقود الثورة. وعندما دعي الإمام الحسين (ع) لمبايعة يزيد وقف تلك الوقفة الحاسمة الّتي أعطى فيها للقضية حجمها الطبيعي، عندما قال لوالي المدينة آنذاك: «إنّا أهلُ بيتِ النبوّةِ، ومعدنُ الرسالةِ، ومُخْتَلَفُ الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيدُ رجلٌ فاسقُ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النفسِ المحترمةِ، معلنٌ بالفسقِ، ومِثلي لا يبايعُ مِثلَه»

وهكذا انطلق الحسين (ع)، وأعلن معارضته ووقوفه ضدّ هذا الحكم. وانطلق بعد ذلك من أجل أن يهيِّئ الأجواء النفسيّة لخروجه من المدينة، وذهب إلى مكة. وعندما انطلق الناس إلى منى يوم التروية قبل التاسع من ذي الحجَّة، أبدل الحسين حجّته بعمرة وترك الناس، في حين كان الناس بانتظار الحسين أن يقف معهم في يوم عرفة على جبل عرفات. كان الناس يتجهون إلى منى، والحسين (ع) يتّجه إلى العراق.

لماذا؟

حتّى يعيش الناس التساؤل: لماذا لم يسافر الحسين (ع) من المدينة إلى العراق مباشرة مع أن المسافة أقرب؟

لماذا انطلق من المدينة إلى مكّة، وحوّل حجّه إلى عمرة، وترك مكة في اليوم الّذي يتجمَّع فيه الحجّاج للذهاب إلى عرفات؟ لماذا؟

حتّى يعطي الإمام الحسين (ع) الجوّ الإعلامي الّذي يتحرّك فيه الناس متسائلين، وبذلك يحصل على تغطية إعلامية تستفيد منها القضية فيما بعد، لكي يعرف الناس أن الحسين (ع) قد ثار وأنّه قد تحرّك. ويرجع الناس كلّ إلى بلده، أهل اليمن إلى يمنهم، وأهل الشام إلى شامهم، متحدّثين أن الحسين بن علي (ع) قد ذهب إلى مكّة، ورجع منها في اليوم الّذي يتحرك فيه الناس لعرفات، وانطلق بالثورة ضد يزيد، وضد الحكم الأموي.

كانت انطلاقة الحسين (ع) بهذه الطريقة ملفتةً للنظر، فالثائر لا يخرج معه عياله وأطفاله، ولا يخرج معه عيال أصحابه، ولكنّ الحسين (ع) أخرج كل هذه النماذج معه.

لماذا؟

لكي يكون هذا الواقع واقعاً احتجاجياً أمام كلِّ من يراه، ليشعر بأن الحسين (ع) في حركته هذه أصبح مهدّداً من قبل هذا الحكم حتّى بأطفاله ونسائه، ولذا فإنه لا يأمن من هذا الحكم على أطفاله ونسائه أن يتركهم في المدينة بعد أن يثور. ثم بعد ذلك كان يهيئ لوضع آخر حتّى يضمن استمرار الثورة بعد استشهاده...

وتقدّم الحسين (ع) في الطريق وتبعه أُناس كثيرون، بعضهم تبعه على أساس أن الحسين (ع) جاء كغيره من الثائرين الذين يثورون على الحكم، ويمكن أن يحصلوا على نتائج إيجابية، وبذلك سيحصلون على النتائج والوظائف والمراكز الّتي يتمناها كل المتزلّفين.

ولكن الإمام الحسين (ع) فهم هذه القضية، وعرف أن هناك أُناساً كثيرين ممن هم معه لا يخلصون للثورة، ولا يخلصون لقضيتها ولهذا التحرّك.

لذلك وقف، وخطب فيهم، وعرّفهم بالمصير المحتوم الّذي ينتظره، فقال لهم: «وخيرٌ لي مصرعٌ أنا لاقيه... كأنّي بأوصالي هذه تُقطِّعها عِسلانُ الفلواتِ بين النواويس وكربلاء»

لماذا أعلن ذلك؟ ليعرف كل هؤلاء الناس الذين اتبعوه للدنيا أنّه صاحب رسالة وليس صاحب ملك، وأنّه كأبيه عليّ بن أبي طالب (ع) لم يطلب الملك أو يطلب الإمرة كطموح شخصي يسدّ به فراغ ذاته، وإنما طلبه على أساس أن يقيم به حقّاً أو يدفع به باطلاً.

لماذا تراجع أهل الكوفة عن نصرة الحسين (ع)؟

وبقي الحسين (ع) متقدّماً، لأنّه مصمِّمٌ على الوصول إلى النهاية في ثورته، ولم يكن إنساناً حائراً كما قد يصوّر بعض قراء مجالس العزاء، لا يعرف إلى أي بلد أو إلى أي مكان يذهب. كان يعرف طريقه جيداً من البداية إلى النهاية، ويعرف أن القضية قضية ثورة للشهادة، وليست قضية ثورة للملك، لأن الواقع الإسلامي كان يحتاج إلى هزّه عميقة بحجم استشهاد الحسين (ع) وبحجم مأساته.

ولكن ما بال أهل الكوفة الذين كانوا بين ثمانية عشر ألفاً وثلاثين ألفاً يبايعون مسلم بن عقيل على السمع والطاعة، ويتراجعون بعد ذلك؟

إن الّذي حدث في العراق وفي الكوفة تحديداً ينطلق من عنصرين لا بدّ لنا من أن ندرسهما جيداً:

العنصر الأول: أن عبيد الله بن زياد كان قد اعتقل قادة الثورة... اعتقل العقول المفكرة الّتي كانت تقود الناس نحو الثورة وتهيئ الناس للانتفاض على الحكم القائم. وعندما تنطلق الثورة الجماهيرية بدون عقول مفكّرة تخطّط لها، أو بدون قيادات فاعلة تستطيع أن تحرّكها وتحرّك مسيرتها، فإن من الممكن لأيّ فريق من فرقاء الحكم أو غير الحكم أن يتلاعب بها كما يشاء، لأن دور الجماهير هو دور عاطفي وانفعالي في الغالب، لذلك كانت تستجيب للمواقف الانفعالية من الترهيب والترغيب، في الوقت الّذي ندرك فيه كيف فعل الترهيب والترغيب في كثير من الذين كانوا يسيرون باتجاه القضايا الكبيرة، بَيْدَ أنّهم أمام الخوف تركوا ذلك وهربوا، وأمام الترغيب تركوا ذلك واندفعوا.

الارتباط العاطفي

فالقيادات الّتي قادت الثورة كانت في السجون، والجماهير كانت مرتبطة ارتباطاً عاطفياً مركزاً. كانت القضية قضية حبّ لأهل البيت (ع) وتألّم من الواقع، ولكن القضية كانت محتاجة إمّا إلى قيادة تواكبها، وإمّا إلى تحذير دائم حتّى تستطيع أن تثبت وتنطلق، ويبدو أن أهل الكوفة في ذلك الحين كانوا يعيشون الجو العاطفي الانفعاليّ في علاقتهم بالحسين، وفي رفضهم للحكم الأموي. ولهذا عندما جاء ابن زياد حاملاً السوط بيد وصرر الدراهم والدنانير بيد، استطاع أن يجمّد تلك الحالة العاطفية. ولهذا كان موقفهم يعبّر عما أخبر به الشاعر الفرزدق عندما قال للحسين (ع): إن قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

هذا ما يجب أن نتمثّله في حياتنا المعاصرة، وحياتنا في الواقع كمسلمين وكمؤمنين وكرافضين لكل كفر، ولكل طغيان، ولكل ظلم في حياتنا... إذا أردنا أن نكون منسجمين مع الخط الإسلامي القرآني الإيماني، فحياتنا يجب أن تكون ثورة مستمرة تتحرك في إطار تغيير الواقع، قد تكبر هذه الثورة وقد تصغر، لكنها في الأحوال كلها يجب أن تستمر. ذلك هو شأن الإنسان المسلم المؤمن بالله.

وإذا كان هذا هو هدفنا في حياتنا، فإن معنى أن نتحرّك في الحياة هو أن تكون حياتنا جهاداً مستمراً، من أجل إقامة الحق ومن أجل إزهاق الباطل. فلا بد إذاً من أن نقف أمام هاتين الظاهرتين اللّتين شاركتا في ابتعاد جماهير الحسين (ع) عنه في نهاية المطاف، وهما: القيادة، إذ لا بد للجماهير من قيادة أمينة على دينها ومصيرها، ووعي الأُمة للواقع.

القيادة هي الأساس

نعم، إنّ القيادة هي الأساس في الإسلام، ونحن نفهم من الآية الكريمة الّتي نزلت على رسول الله (ص) عندما قال الله له: {يا أيّها الرسولُ بلّغْ ما أُنزل إليكَ مِن ربّك وإنْ لَمْ تفعلْ فمَا بلَّغتَ رسالتَه واللَّهُ يعصمُكَ مِنَ الناسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدي القومَ الكافِرِين} (المائدة/67).

نفهم بأنّ الله جعل قضية القيادة وإهمالها تعادل عدم تبليغ الرسالة، فكأنّ الله عزّ وجل يقول لرسول الله (ص): إنك إذا تركت الدنيا من دون أن تنصّب للأمة قائداً في مستوى قضاياها، وفي المستوى الكبير من الإخلاص للقضايا، فكأنك لم تبلّغ الرسالة، لأنها قضية حركة الرسالة في الحياة. وعندما يراد للرسالة أن تستقيم على مستوى الفكر والواقع، لا بدّ من قيادة تحمي الطريق من الزلل والانحراف. وقد ورد في بعض الأحاديث: بُنيَ الإسلام على خمس: الصلاة والصوم والحج والزكاة والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية.

لماذا؟ لأن الولاية تمثّل القيادة الّتي يمكن أن تحفظ الفكر من الانحراف، والطريق من الزلل. لهذا لا بدّ للأمة في كل مرحلة من مراحل حياتها أن تبحث عن القيادة الأمينة. والقيادة الأمينة هي القيادة الّتي تحمل فكر الأُمة، بحيث لا معنى لأن تأتي قيادة لا تحمل الرسالة الّتي تحمل فكر الأُمة، أو لا تحمل الإيمان بالخط الّذي تتحرك من خلاله تلك الأمة.

لا بد إذاً من قيادةٍ واعية أمينة مخلصة تستطيع أن تثبت، وأن تكون حاسمة، وتستطيع أن تحمي للأمّة أهدافها على مستوى الفكر والواقع. ولهذا قال الإمام علي (ع) وهو يحدد لنا من يقيم أمر الله: «لا يقيمُ أمرَ الله إلاّ مَن لا يُصانِعُ ولا يُضارِعُ ولا يتبعُ المطِامعَ»، أي من لا يجامل، لا يداهن، لا يذل، ولا يضعف، ولا يعتبر القيادة امتيازاً يزهو به، وإنمّا يعتبر القيادة مسؤولية يجب أن يكون في مستواها كما كان علي (ع).

كان (ع) يقول لابن عباس وهو يشير إلى نعله: «واللّهِ لَهيَ أحبُّ إليَّ من إمْرَتِكُم، إلاّ أن أقيمَ حقّاً، أو أدفعَ باطلاً»، إنّ القيادة مسؤولية وليست امتيازاً.

إذاً لا بد للأمة من أن تواجه مسؤوليتها على أساس القيادة الواعية المؤمنة المخلصة الّتي تعرف للأمة ما يفيدها وينفعها في دنياها وآخرتها... وعندما تريد أن تقود أمةً معناه أنك تقودها لتبلغ بها أهدافها، دنيوية كانت أو أخروية.

القيادة هي في مستوى مسيرة الأمة في الحياة. وعلى هذا الأساس، فإننا نعتبر أن القيادة الحقّة إنمّا هي للفقهاء المجتهدين الذين يعرفون رسالة الله، والذين يعيشون المعاناة في حياة الأمة، ويفهمون قضاياها ومشاكلها في مجالاتها كافة.

وعي الأُمة للواقع

لا بد لنا من أن نعمل بكل ما لدينا من طاقة في سبيل أن تكون الأُمة واعيةً لقضاياها ولرسالتها، وللساحة الّتي تتحرّك فيها، لأن الأوضاع الّتي نعيشها في هذه المرحلة من حياتنا الآن وفي المستقبل، تتحرك لتلبس الحق بالباطل، وتحاول أن تخاطب عقول الجماهير وعواطفها بكثير من الأفكار الّتي تلتقي مع نوازعها الذاتية، ولكنها لا تلتقي مع مصالحها وأهدافها الحقيقية.

عندما نريد الانطلاق مع الحسين (ع) في مسيرته، فعلينا أن نأخذ الحسين (ع) ككل: عندما سالم، وعندما حارب. وفي كلا الحالين، كان الحسين ثائراً، فأن تكون ثائراً، ليس أن تحارب بطريقة مباشرة فقط، لأنّ للحرب مظهرين، فقد تحارب وأنت تغمد السيف، وقد تحارب شاهراً سيفك.

وفي كثيرٍ من الحالات، قد تكون حربك بتحضير الساحة الّتي تضغط على العدوّ، وبتهيئة الظروف الّتي يمكن أن تتحرّك ضدَّ العدوّ، وبتركيز القاعدة الّتي يمكن أن تثبت أمام تحديّات العدو. قد تكون هذه الحرب أكثر قوةً وفاعليةً من حرب السيف في البداية. وربّما نجد أن الحروب الّتي تتحرّك في عالمنا الحاضر تتحرّك بنسبة 75 بالمئة في خط إعداد الساحة وتحضير الجو أكثر مما تتحرّك في خطّ الصراع الحار الّذي تتحرّك فيه الأسلحة من كل مكان.

حربٌ من خلال الّسلم

كيف بدأ الإمام الحسين (ع) حربه من خلال سلم الإمام الحسن (ع) ومعه الإمام الحسين؟ لقد هادنا معاوية بن أبي سفيان لأن الجيش كان متعباً، والصورة كانت غير واضحة للناس، بسبب الحروب الّتي امتدّت من أول خلافة الإمام علي (ع) حتّى استشهاده، بحيث حجبت عن الناس آنذاك الصورة المنحرفة الّتي يمثلها الحكم الأموي وبعده عن الخط الإسلامي.

كان النّاس يفتقدون الرؤية الواضحة، فالحرب تشغل الناس _ عادةً _ بالحديث عن هذا الفريق أو ذاك، تشغلهم بالأوضاع المتحرّكة، عندما ينتصر أحد هذين الفريقين. ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يأخذ الصورة الواضحة في حالة الحرب. وكان المحاربون متعبين يخرجون إلى الحرب متثاقلين، وبهذا استفادت الرئاسات العشائرية الّتي كانت تعمل لمصالحها الخاصة من هذا التعب، واستطاعت أن تحوّل ذلك لمصلحة أطماعها وشهواتها، فكانت المعركة خسارةً على مستوى القضية لا على مستوى الشخص فحسب.

ولهذا أراد الإمام الحسن (ع) أن يعطي الناس فرصةً يعيشون فيها مع حكم (بني أُمية)، ليتعرفوا على خصائص هذا الحكم، ولتكون الثورة عند ذلك حالةً طبيعية يعيشها الناس من خلال مفردات حياتهم الخاصة.

وهكذا كان، فلقد بدأ الحكم الأموي يأخذ حريته في الحركة، وبدأ الناس يعرفون في ذلك الوقت معنى الطبقيّة بين المسلمين، ويعرفون معنى الأثرة، ويعرفون كذلك معنى أن يُقرِّب الإنسان لا لكفاءته، ولكن لعصبيته، وأن يبعد عن المسؤولية حتّى لو كان كفوءاً، لأنّه بعيد عن حركة العصبية الّتي تسيطر على الواقع.

حتّى إذا كانت نهاية المطاف، وكان معاوية قد أعطى الحسن (ع) عهداً أن يكون له الأمر من بعده، دسّ معاوية للإمام الحسن (ع) السم فاستشهد. وعندما أراد معاوية بعد هذا أن يأخذ البيعة ليزيد، حاول أن يطرح القضية بطريقةٍ حاسمةٍ، ووقف هناك شخص وبيده صُرَرٌ من المال، وبالأخرى سيفٌ قائلاً: من بايع فله هذا _ مشيراً إلى المال _ ومن رفض فله ذاك.

وانطلق الحكم في هذا الاتجاه، وكثرت المظالم، حتّى لقد قُتِلَ (حجر بن عدي) الصحابي الجليل ومعه ابنه وعدد من أصحابه الخُلَّص، لأنّه رفض أن يتبرّأ من (علي بن أبي طالب) (ع) عندما عرض عليه البراءة من علي (ع). وقد احتجّت (عائشة) آنذاك احتجاجاً عنيفاً، لأن حِجراً كان معروفاً بالصلاح بأعلى درجة بين المسلمين. وهكذا فُرِضَ سبّ علي (ع) على المنابر في كل يوم جمعة وفي كل مناسبة عيد، بل حُدِّد هذا بمرسوم في سائر المناطق الإسلامية.

الأوضاع المؤاتية

وانطلق الحكم في هذا الاتجاه، حتّى ضجّ الناس من هذا الحكم، وأصبحت الثورة حالةً طبيعية يتحدّث فيها كل الناس نتيجة فساد الحكم، وابتعاده عن خط الإسلام وعن خط الله ورسوله، حتّى إذا كانت بيعة يزيد، كانت القضية قد تفاقمت فوق العادة.

وتهيّأت الأوضاع في الكوفة للثورة، وأرسل زعماؤها للحسين (ع) الكتب الكثيرة الّتي تدعوه أن يأتي إلى العراق ليقود الثورة. وعندما دعي الإمام الحسين (ع) لمبايعة يزيد وقف تلك الوقفة الحاسمة الّتي أعطى فيها للقضية حجمها الطبيعي، عندما قال لوالي المدينة آنذاك: «إنّا أهلُ بيتِ النبوّةِ، ومعدنُ الرسالةِ، ومُخْتَلَفُ الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيدُ رجلٌ فاسقُ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النفسِ المحترمةِ، معلنٌ بالفسقِ، ومِثلي لا يبايعُ مِثلَه»

وهكذا انطلق الحسين (ع)، وأعلن معارضته ووقوفه ضدّ هذا الحكم. وانطلق بعد ذلك من أجل أن يهيِّئ الأجواء النفسيّة لخروجه من المدينة، وذهب إلى مكة. وعندما انطلق الناس إلى منى يوم التروية قبل التاسع من ذي الحجَّة، أبدل الحسين حجّته بعمرة وترك الناس، في حين كان الناس بانتظار الحسين أن يقف معهم في يوم عرفة على جبل عرفات. كان الناس يتجهون إلى منى، والحسين (ع) يتّجه إلى العراق.

لماذا؟

حتّى يعيش الناس التساؤل: لماذا لم يسافر الحسين (ع) من المدينة إلى العراق مباشرة مع أن المسافة أقرب؟

لماذا انطلق من المدينة إلى مكّة، وحوّل حجّه إلى عمرة، وترك مكة في اليوم الّذي يتجمَّع فيه الحجّاج للذهاب إلى عرفات؟ لماذا؟

حتّى يعطي الإمام الحسين (ع) الجوّ الإعلامي الّذي يتحرّك فيه الناس متسائلين، وبذلك يحصل على تغطية إعلامية تستفيد منها القضية فيما بعد، لكي يعرف الناس أن الحسين (ع) قد ثار وأنّه قد تحرّك. ويرجع الناس كلّ إلى بلده، أهل اليمن إلى يمنهم، وأهل الشام إلى شامهم، متحدّثين أن الحسين بن علي (ع) قد ذهب إلى مكّة، ورجع منها في اليوم الّذي يتحرك فيه الناس لعرفات، وانطلق بالثورة ضد يزيد، وضد الحكم الأموي.

كانت انطلاقة الحسين (ع) بهذه الطريقة ملفتةً للنظر، فالثائر لا يخرج معه عياله وأطفاله، ولا يخرج معه عيال أصحابه، ولكنّ الحسين (ع) أخرج كل هذه النماذج معه.

لماذا؟

لكي يكون هذا الواقع واقعاً احتجاجياً أمام كلِّ من يراه، ليشعر بأن الحسين (ع) في حركته هذه أصبح مهدّداً من قبل هذا الحكم حتّى بأطفاله ونسائه، ولذا فإنه لا يأمن من هذا الحكم على أطفاله ونسائه أن يتركهم في المدينة بعد أن يثور. ثم بعد ذلك كان يهيئ لوضع آخر حتّى يضمن استمرار الثورة بعد استشهاده...

وتقدّم الحسين (ع) في الطريق وتبعه أُناس كثيرون، بعضهم تبعه على أساس أن الحسين (ع) جاء كغيره من الثائرين الذين يثورون على الحكم، ويمكن أن يحصلوا على نتائج إيجابية، وبذلك سيحصلون على النتائج والوظائف والمراكز الّتي يتمناها كل المتزلّفين.

ولكن الإمام الحسين (ع) فهم هذه القضية، وعرف أن هناك أُناساً كثيرين ممن هم معه لا يخلصون للثورة، ولا يخلصون لقضيتها ولهذا التحرّك.

لذلك وقف، وخطب فيهم، وعرّفهم بالمصير المحتوم الّذي ينتظره، فقال لهم: «وخيرٌ لي مصرعٌ أنا لاقيه... كأنّي بأوصالي هذه تُقطِّعها عِسلانُ الفلواتِ بين النواويس وكربلاء»

لماذا أعلن ذلك؟ ليعرف كل هؤلاء الناس الذين اتبعوه للدنيا أنّه صاحب رسالة وليس صاحب ملك، وأنّه كأبيه عليّ بن أبي طالب (ع) لم يطلب الملك أو يطلب الإمرة كطموح شخصي يسدّ به فراغ ذاته، وإنما طلبه على أساس أن يقيم به حقّاً أو يدفع به باطلاً.

لماذا تراجع أهل الكوفة عن نصرة الحسين (ع)؟

وبقي الحسين (ع) متقدّماً، لأنّه مصمِّمٌ على الوصول إلى النهاية في ثورته، ولم يكن إنساناً حائراً كما قد يصوّر بعض قراء مجالس العزاء، لا يعرف إلى أي بلد أو إلى أي مكان يذهب. كان يعرف طريقه جيداً من البداية إلى النهاية، ويعرف أن القضية قضية ثورة للشهادة، وليست قضية ثورة للملك، لأن الواقع الإسلامي كان يحتاج إلى هزّه عميقة بحجم استشهاد الحسين (ع) وبحجم مأساته.

ولكن ما بال أهل الكوفة الذين كانوا بين ثمانية عشر ألفاً وثلاثين ألفاً يبايعون مسلم بن عقيل على السمع والطاعة، ويتراجعون بعد ذلك؟

إن الّذي حدث في العراق وفي الكوفة تحديداً ينطلق من عنصرين لا بدّ لنا من أن ندرسهما جيداً:

العنصر الأول: أن عبيد الله بن زياد كان قد اعتقل قادة الثورة... اعتقل العقول المفكرة الّتي كانت تقود الناس نحو الثورة وتهيئ الناس للانتفاض على الحكم القائم. وعندما تنطلق الثورة الجماهيرية بدون عقول مفكّرة تخطّط لها، أو بدون قيادات فاعلة تستطيع أن تحرّكها وتحرّك مسيرتها، فإن من الممكن لأيّ فريق من فرقاء الحكم أو غير الحكم أن يتلاعب بها كما يشاء، لأن دور الجماهير هو دور عاطفي وانفعالي في الغالب، لذلك كانت تستجيب للمواقف الانفعالية من الترهيب والترغيب، في الوقت الّذي ندرك فيه كيف فعل الترهيب والترغيب في كثير من الذين كانوا يسيرون باتجاه القضايا الكبيرة، بَيْدَ أنّهم أمام الخوف تركوا ذلك وهربوا، وأمام الترغيب تركوا ذلك واندفعوا.

الارتباط العاطفي

فالقيادات الّتي قادت الثورة كانت في السجون، والجماهير كانت مرتبطة ارتباطاً عاطفياً مركزاً. كانت القضية قضية حبّ لأهل البيت (ع) وتألّم من الواقع، ولكن القضية كانت محتاجة إمّا إلى قيادة تواكبها، وإمّا إلى تحذير دائم حتّى تستطيع أن تثبت وتنطلق، ويبدو أن أهل الكوفة في ذلك الحين كانوا يعيشون الجو العاطفي الانفعاليّ في علاقتهم بالحسين، وفي رفضهم للحكم الأموي. ولهذا عندما جاء ابن زياد حاملاً السوط بيد وصرر الدراهم والدنانير بيد، استطاع أن يجمّد تلك الحالة العاطفية. ولهذا كان موقفهم يعبّر عما أخبر به الشاعر الفرزدق عندما قال للحسين (ع): إن قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

هذا ما يجب أن نتمثّله في حياتنا المعاصرة، وحياتنا في الواقع كمسلمين وكمؤمنين وكرافضين لكل كفر، ولكل طغيان، ولكل ظلم في حياتنا... إذا أردنا أن نكون منسجمين مع الخط الإسلامي القرآني الإيماني، فحياتنا يجب أن تكون ثورة مستمرة تتحرك في إطار تغيير الواقع، قد تكبر هذه الثورة وقد تصغر، لكنها في الأحوال كلها يجب أن تستمر. ذلك هو شأن الإنسان المسلم المؤمن بالله.

وإذا كان هذا هو هدفنا في حياتنا، فإن معنى أن نتحرّك في الحياة هو أن تكون حياتنا جهاداً مستمراً، من أجل إقامة الحق ومن أجل إزهاق الباطل. فلا بد إذاً من أن نقف أمام هاتين الظاهرتين اللّتين شاركتا في ابتعاد جماهير الحسين (ع) عنه في نهاية المطاف، وهما: القيادة، إذ لا بد للجماهير من قيادة أمينة على دينها ومصيرها، ووعي الأُمة للواقع.

القيادة هي الأساس

نعم، إنّ القيادة هي الأساس في الإسلام، ونحن نفهم من الآية الكريمة الّتي نزلت على رسول الله (ص) عندما قال الله له: {يا أيّها الرسولُ بلّغْ ما أُنزل إليكَ مِن ربّك وإنْ لَمْ تفعلْ فمَا بلَّغتَ رسالتَه واللَّهُ يعصمُكَ مِنَ الناسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدي القومَ الكافِرِين} (المائدة/67).

نفهم بأنّ الله جعل قضية القيادة وإهمالها تعادل عدم تبليغ الرسالة، فكأنّ الله عزّ وجل يقول لرسول الله (ص): إنك إذا تركت الدنيا من دون أن تنصّب للأمة قائداً في مستوى قضاياها، وفي المستوى الكبير من الإخلاص للقضايا، فكأنك لم تبلّغ الرسالة، لأنها قضية حركة الرسالة في الحياة. وعندما يراد للرسالة أن تستقيم على مستوى الفكر والواقع، لا بدّ من قيادة تحمي الطريق من الزلل والانحراف. وقد ورد في بعض الأحاديث: بُنيَ الإسلام على خمس: الصلاة والصوم والحج والزكاة والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية.

لماذا؟ لأن الولاية تمثّل القيادة الّتي يمكن أن تحفظ الفكر من الانحراف، والطريق من الزلل. لهذا لا بدّ للأمة في كل مرحلة من مراحل حياتها أن تبحث عن القيادة الأمينة. والقيادة الأمينة هي القيادة الّتي تحمل فكر الأُمة، بحيث لا معنى لأن تأتي قيادة لا تحمل الرسالة الّتي تحمل فكر الأُمة، أو لا تحمل الإيمان بالخط الّذي تتحرك من خلاله تلك الأمة.

لا بد إذاً من قيادةٍ واعية أمينة مخلصة تستطيع أن تثبت، وأن تكون حاسمة، وتستطيع أن تحمي للأمّة أهدافها على مستوى الفكر والواقع. ولهذا قال الإمام علي (ع) وهو يحدد لنا من يقيم أمر الله: «لا يقيمُ أمرَ الله إلاّ مَن لا يُصانِعُ ولا يُضارِعُ ولا يتبعُ المطِامعَ»، أي من لا يجامل، لا يداهن، لا يذل، ولا يضعف، ولا يعتبر القيادة امتيازاً يزهو به، وإنمّا يعتبر القيادة مسؤولية يجب أن يكون في مستواها كما كان علي (ع).

كان (ع) يقول لابن عباس وهو يشير إلى نعله: «واللّهِ لَهيَ أحبُّ إليَّ من إمْرَتِكُم، إلاّ أن أقيمَ حقّاً، أو أدفعَ باطلاً»، إنّ القيادة مسؤولية وليست امتيازاً.

إذاً لا بد للأمة من أن تواجه مسؤوليتها على أساس القيادة الواعية المؤمنة المخلصة الّتي تعرف للأمة ما يفيدها وينفعها في دنياها وآخرتها... وعندما تريد أن تقود أمةً معناه أنك تقودها لتبلغ بها أهدافها، دنيوية كانت أو أخروية.

القيادة هي في مستوى مسيرة الأمة في الحياة. وعلى هذا الأساس، فإننا نعتبر أن القيادة الحقّة إنمّا هي للفقهاء المجتهدين الذين يعرفون رسالة الله، والذين يعيشون المعاناة في حياة الأمة، ويفهمون قضاياها ومشاكلها في مجالاتها كافة.

وعي الأُمة للواقع

لا بد لنا من أن نعمل بكل ما لدينا من طاقة في سبيل أن تكون الأُمة واعيةً لقضاياها ولرسالتها، وللساحة الّتي تتحرّك فيها، لأن الأوضاع الّتي نعيشها في هذه المرحلة من حياتنا الآن وفي المستقبل، تتحرك لتلبس الحق بالباطل، وتحاول أن تخاطب عقول الجماهير وعواطفها بكثير من الأفكار الّتي تلتقي مع نوازعها الذاتية، ولكنها لا تلتقي مع مصالحها وأهدافها الحقيقية.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية