عندما نعيش في كل سنة ذكرى عاشوراء، فإننّا نبحث عن جمهور عاشوراء في كلّ مرحلة من مراحل حياتنا المعاصرة، لأن الهدف من بقاء هذه الذكرى على مدى الزمن، هو أن تُنتج لنا حالة حسينيةً في كلّ مرحلة من مراحل حركتنا الإسلامية في العالم، فإن المسألة هي أننّا لا نريد أن نجمّد التاريخ كما يفعل الكثيرون من النّاس الذين يعملون على أن يسكنوا في الماضي، من دون أن يواجهوا مسؤولياتهم في الحاضر. وهذا أمر مرفوض في التفكير الإسلامي، لأن الخطّ الإسلامي الّذي ركزه الله (سبحانه وتعالى) في كتابه، هو أن لكل أُمّة كتابها، ولكل أُمّة عملها نتيجة مسؤولياتها وواجباتها.
وهذا يعني أنّنا لسنا مسؤولين عمَّا حدث في زمان الإمام الحسين (ع)، إذ إن المسؤولين هم الناس الذين عاشوا هناك، سواءٌ منهم الذين تحركوا في خطّ المسؤولية فكانوا مع الحسين (ع)، أو الذين ابتعدوا عن خطّ المسؤولية فوقفوا على الحياد، أو الذين ضاعت مواقفهم أمام عواطفهم، فكان أمامهم مصالحهم، إذ كانت قلوبهم مع الحسين (ع) وسيوفهم عليه.
الموقف المطلوب أمام حقائق التاريخ
وعندما نستمع، بعد هذا الوقت الطويل من التاريخ، إلى سيرة الإمام الحسين (ع)، وجماعة الذين يلتزمون الباطل، وجماعة الذين يتعاطفون مع الحق ولكنهم يقفون مواقف الباطل، عندما نواجه هؤلاء، فعلينا أن نعيش في داخل نفوسنا موقفاً نفسياً تجاههم، فنرفض الذين التزموا الباطل، وننفتح على الذين عرفوا الحق فانطلقوا معه.
وعندما تعيش حالةً نفسية أمام التاريخ، فعليك أن تحدّد موقفك أمام النماذج الموجودة في الواقع، هل أنا من هؤلاء الناس الذين يقفون مع الحق ويواجهون التحديات؟ أو من الذين يتجنّبون الدخول في ساحة الصراع، فيجلسون على التل عندما تزدحم ساحات الصراع بالمواقف الصعبة؟ أو من الذين يقولون إننا لا نحب المشاكل لأنفسنا، ليتغلب هذا الجانب على ذاك ويتغلب ذاك الجانب على ذلك، إذ ليس لنا مصلحة هنا ولا هناك، وبذلك نكون حياديين بين الحقّ والباطل فلا نتّخذ موقفاً محدداً؟
بعض الناس على عهد الإمام الحسين (ع) كانوا يفكّرون بهذه الطريقة، كما كان بعض الناس في زمان الإمام علي (ع) يفكّرون بالطريقة نفسها، وهذا موقف مرفوض، لأن معنى أن تكون حيادياً هو أن تكون مع الباطل. بعض الناس قد يفكر بهذه الطريقة، فيقول: أنا ليست مع هذه الفئة ولا مع تلك، لا مع فلان ولا مع فلان. هذا أمرٌ تفعله إذا كانت الفئتان من أهل الباطل. عندها عليك أن ترفضهما معاً. وهذا ما قاله الإمام علي (ع): «كُنْ في الفتنةِ كابنِ اللبونِ، لا ظَهْرٌ فيُركَب، ولا ضَرْعٌ فَيُحْلَب».
الفتنة هي الّتي لا يعرف فيها وجه الحق من الباطل، هنا لا تدع أحداً يركب عليك، ولا تدع أحداً يحلب مواقفك، كُنْ كابن اللبون _ وهو ابن الناقة الذكر في السنة الثانية من العمر _، هذا في الفتنة، لكن عندما تكون المسألة مسألة أن هناك حقاً وباطلاً، فإن عليك أن تكون مع الحقّ ضدّ الباطل.
يقول الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع): «أبلِغْ خَيْراً وقُلْ خَيراً ولا تكُنْ إمَّعَةً». قلت: وما الإمّعة؟ قال: «لا تقُلْ أنا مع الناسِ، وأنا كواحدٍ من الناس».
أما النموذج الثالث، فهو نموذج الناس الذين يتعاطفون مع الحق، كمن يُحبّ أهل الخير، ولكنّه ليس مستعداً أن يلتزم مسؤولية الخير، يحب أهل العدل، ولكنه ليس مستعداً أن يلتزم خط العدل، يحب أهل الحق، ولكنه ليس مستعداً أن يتحمل مسؤولية الحق معهم... بل كل ذلك وفق حساباته الخاصة، وعلى أساس مصالحه المادية، بحيث يلاحظ ما هي مصالحه المادية فيحاول أن يتحرك فيها.
وهناك حالة الذين يلتزمون الحق ويتحركون من خلاله. هنا علينا _ ونحن نقرأ ذلك التاريخ وننفعل به_ أن نحدد مواقفنا: من نحن؟ هل نحن من فريق الحياديين؟ هل نحن من فريق الذين يُغلِّبون مصالحهم على مبادئهم؟ هل نحن من فريق الذين يؤمنون بالباطل أو نحن من فريق الذين يؤمنون بالحق؟
من نحن؟ وعلى أساس تحديد الشخصية يتحدّد الانتماء.
هل نحن ممن يتحرّك في خطّ إصلاح الأُمة على خطِّ رسول الله (ص)، أو نحن ممن لا يهتمون بذلك؟ ما هو الخط؟
«أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».
إنّ الحسين (ع) يقول: أريد أن أدرس واقع الأُمة كلها في سلبياته وفي إيجابيته، ما هي السلبيات، هي مواقع السلوك الّذي يتحرك في مواقع غضب الله مما حرّمه الله على الناس. وما هي الإيجابيات؟ هي مواقع السلوك فيما يرضاه الله في الواجبات الّتي أراد الله لنا أن نتحرك فيها.
الحسين (ع) كان يريد لحركته أن تكون صدمةً قويةً للواقع الفاسد، أراد أن ينتقي لها الذين يعيشون الرسالة بكل معانيها في عقولهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة. لهذا أن تكون حسينياً، يعني أن تكون آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر في خط الإسلام، وأن ترفض كل ما عدا الإسلام.
بعض الناس يقول: هل تريدنا أن نعادي الناس كلهم ونقول: نحن مسلمون ونرفض الخط الماركسي، والخط الاشتراكي، وطريقة التفكير من خلال بعض النظريات على أساس قومي، ونرفض الليبرالية وما إلى ذلك؟ هل تريدنا أن نعادي الناس؟ بعض أولادنا ينتمون إلى هذا الخط، وبعضهم الآخر ينتمون إلى ذاك الخط. لماذا تريد أن تضيّق الإسلام؟
بعض الناس يفكرون بهذه الطريقة أو يردون على هذا الطرح بهذه الطريقة، وبذلك يعتبرون ما نطرحه تطرفاً ويصنّفوننا في دائرة المتطرفين.
الحسين كان مسلماً وليس عنده شيء زائد عن الإسلام. وقد انطلقت شخصيته من موقع إسلامه حين قالها رسول الله (ص): «حُسينٌ مِنّي وأنا مِنْ حُسين».هل الخأ
كيف هو هذا التفاعل بين الحسين (ع) وبين النبي؟ هل هو تفاعل النسب؟ إذا كان الحسين من رسول الله لأنّه جده، فكيف يكون رسول الله من الحسين، والحسين ابن بنته؟ إن هذا التفاعل هو بتجسّد الإسلام فيهما. ولهذا كان كل واحد منهما من الآخر لكونهما معاً في خدمة الإسلام.
لهذا لنتفق على أن تكون لنا عاشوراء إسلامية نؤكد فيها خطوط عقائدنا ومواقفنا ومواقعنا ومناهجنا وسياستنا في الحياة... وعندما نقول ذلك، لا نقول إننا ننغلق على الآخرين، بل إننا مسلمون ومستعدون أن نتعايش ونتعاون حتى مع غير المسلمين، على أساس الخطوط المشتركة الّتي تقتضيها طبيعة الحياة، ولذلك نعيش مع الحسين (ع) لنكون من جمهوره ومن أتباعه.
لنفكر في قضية الحق
القضية هي قضية الحق والباطل، ذلك لأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل. هذا هو الأساس الّذي ينبغي أن يكون أساس كل تحركنا في الحياة، أن يكون التحرك الّذي يخدم خط الله، وهكذا عندما نريد أن نصدق الله ما عاهدنا عليه، فإنّ الصدق يكلّف الكثير، أن تخاف وأن تخسر بعض الأصدقاء والمواقف، فإن الإنسان عندما يتحمل ما يتحمل من مسؤولية، لا بدّ من أن يوحي لنفسه بالثمن الّذي يستطيع من خلاله أن يخسر بعض الأشياء والأوضاع.
لا بد أن نعمِّق الجانب الروحي
لقد علّمنا الله أن نفكّر أن خسارة الدنيا قد يعوضها الله في الدنيا، وقد تكون لحساب المستقبل. والمؤكد أن الله يعوِّضها على الإنسان في الآخرة. لا بد أن نفكر في الآخرة، وفي الله، وفي الجانب الروحي في حياتنا الّذي يجعل كل واحد منّا يعيش الهم الكبير في حياته: أن يرضى الله، ذلك هو الهمّ الكبير. إذا استطعنا أن نعيش هذا الهمّ الكبير في حياتنا، فسوف نواجه المشاكل بقلب مفتوح، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
ماذا كان يقول رسول الله (ص)؟ يرفع طرفه إلى السماء ويقول: «أنتَ رَبُّ المسْتَضْعَفِينَ وأنتَ رَبِّي إلى مَنْ تَكِلُني» ثم يقول بعد ذلك: «إنْ لَم يكنْ بكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي».
إذاً فالهمّ الكبير أن لا يغضب الله.
وعلى هذا، فمن الضروري أن يكون لنا شعب يعيش الوعي السياسي. فالشعب الواعي سياسياً، والّذي يحمل في قلبه رسالته وخوفه من الله وحب الله _ سبحانه وتعالى _، إنّ شعباً كهذا لا يمكن أن يسيطر عليه أحد.
وعلينا أن نعرف ماذا وراء الشعار، وكيف ينطلق في حياتنا، بحيث لا نبقى مجرد أُناس نشغل حناجرنا وأفواهنا بالهتافات، بل أن نشغل عقولنا حتى نفكّر فيما هناك من الخطط الّتي تدبّر لنا في الخفاء.
هذا الواقع نعيشه نحن اليوم، ولا بدّ من علاجه، حتى لا يكون واقعنا _ عندما نتحرّك _ واقع أولئك الناس، الذين كانت قلوبهم مع الحسين (ع) ولكن سيوفهم عليه، حتى لا تكون قلوبنا مع القادة الطيّبين ومع الناس المخلصين ولكن سيوفنا عليهم، عندما تتحرّك الدنانير أو الليرات أو الدولارات أو غير ذلك من العملات الصعبة وغير الصعبة، الّتي لا يزال الناس يلهثون وراءها ليبيعوا مبادئهم، وخططهم، وحياتهم...
الإرادة الصلبة تحسم المعركة
إن الشعب الّذي يحمل قراره في داخل نفسه، والّذي يؤمن بأنه على الحق، ويؤمن بحقه في الحياة الكريمة حتى لو عاش تحت نير الاستعباد والاستعمار عشرات السنين... إن شعباً كهذا ستظلّ حريته الكامنة في داخله، تخترق كلّ الحواجز والسدود ولو بعد حين، لأن قضية القوّة والضعف ليست قضية خالدة. الأقوياء لا يخلدون في قوتهم، والضعفاء لا يخلدون في ضعفهم: {قُلِ اللّهمّ مالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلك مَن تشاءُ وتَنـزعُ المُلكَ مِمَّنْ تشاءُ وتُعزُّ من تشاءُ وتُذِلُّ مَن تشاءُ بِيدِكَ الخَيرُ إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِير} (آل عمران/26).
{وَتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَينَ النّاس} (آل عمران/140).
لنأخذ (بريطانيا) مثلاً، قبل أربعين سنة كانت الدولة العظمى الّتي لا تغيب عنها الشمس. أين بريطانيا الآن؟ إنّها الدولة الرابعة، أو الخامسة في حسابات القوّة في العالم!!
كيف كانت أمريكا قبل مائتين وخمسين سنة؟ كانت مستعمرة من مستعمرات بريطانيا، بينما يقولون عنها اليوم: إنها الدولة العظمى. وهكذا {وَتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَينَ النّاس} (آل عمران/140).
علينا أن نعرف أن لا شيء _ من تلك الدول _ اسمه قوّة مطلقة، وأن ليس هناك قوّة خالدة.
عندما تكون ضعيفاً، فكّر أن تعمل على أساس أن تكون قوياً، يجب أن لا نيأس ويجب أن تكون لدينا إرادة. فالإرادة ولو بعد خمسين سنة هي الّتي تحمي المعركة.
عندما نقول: هل نستطيع أن نقف أمام إسرائيل؟ وهل نستطيع أن نقف أمام أوروبا؟ ونقول: هل نستطيع أن نقف أمام أمريكا ونحن لا نملك أيّ شيء!! نصبح مثل أولئك الناس الذين بعثهم النبي (ص) إلى قلعة خيبر فرجع الأول وهو يُجَبِّن أصحابه، وأصحابه يُجَبِّنونه.
هذا مرحب والأبطال من حوله، من الّذي يقدر عليهم؟ لقد كانوا يقولون للأول لا نقدر من موقع ضعفهم، وهو يقول لهم: لا أقدر. عند ذلك رجعوا منهزمين، وبعث النبي شخصاً ثانياً ورجع يُجَبِّن أصحابه وأصحابه يُجَبِّنونه. عند ذلك قال النبي (ص): «لأعطينّ الرايةَ غداً رَجُلاً يحبُّ اللَّهَ ورسولَه ويحبُّه اللَّهُ ورسولُه، كَرّاراً غيرَ فرَّار ولا يرجعُ حتّى يفتح اللَّهُ على يديه»...
لاحظوا هذا التسلسل: يحب الله ورسوله. الّذي يحب الله ويحب الرسول، يعطي كلّ طاقته لله وللرسول. وعند ذلك فإنه يتحوَّل إلى قوة مضاعفة. فمن لديه قوة ويمتلك إرادة داخلية تحرك هذه القوة، فإنها تصبح قوةً مضاعفةً، ولكن عندما تكون لدى فلان بين الناس قوة وإرادة مهزومة داخل نفسه، فإنها ستتحوَّل إلى صفر.
إنّ الإرادة هي الأساس، صاحب الإرادة هو الّذي يربح المعركة. هناك حديث للإمام علي (ع): «مَنْ أحدّ سنانَ الغضبِ للَّهِ قَويَ على قتل أشدّاءِ الباطل».
أن تحدّ سنان الغضب، أي أن تغضب لله، والغضب لله أن تغضب لكل قضايا الناس الّتي يحبها الله (سبحانه وتعالى). إذا كنت تعيش التوتر الداخلي الواعي لله، فإنّك تقوى على قتل أشدّاء الباطل.
وهناك كلمة تقول: «ما ضَعُفَ بدنٌ عمّا قَوِيَت عليه النية». فأنت تستطيع أن تتحرَّك بمقدار ما لديك من نفسية قوية داخلية، وهذا شيء واقعي نعيشه في الحياة.
فالإمام علي (ع) كان يحب الله ورسوله، ولهذا كان يحب أن يتحرَّك بكلّ ما يملك من الطاقة في سبيل أن يرضى الله ورسوله، في سبيل أن يحبّه الله ورسوله. لا قرابة عند الله مع أحد، والنبي كذلك، حيث قال عنه: {وما يَنطقُ عن الهوى* إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى} (النجم/3- 4).
إنّ الله عندما يحب إنساناً، فإنه يحب وفق حساب معيّن، والنبي عندما يحب إنساناً، فإنّه يحبه وفق حساب معين أيضاً.
وحسابات النبي هي حسابات الله، {إنّ اللَّهَ يُحبُّ الذينَ يُقاتِلونَ في سَبيلهِ صَفّاً كأنّهم بنيانٌ مَرصوصٌ} (الصف/4).
والله يحب المحسنين... والله يحبّ المتّقين... الله يحب المجاهدين... الله لا يحب الخائنين... الله لا يحب الفاسقين... الله لا يحب الكافرين...
إذاً فمحبة الله لها إطار معين. عندما يحب الله إنساناً يحبه من خلال عمله، وعندما يبغض إنساناً يبغضه من خلال عمله. ولهذا يحبه الله ورسوله، لأن علياً (ع) كان تقياً {فإنّ اللَّهَ يحبُّ المتّقين} (آل عمران/76)، ولأن علياً كان مخلصاً، والله يحب المخلصين، ولأنّ علياً كان مجاهداً والله يحب المجاهدين، ولأن علياً كان زاهداً والله يحب الزاهدين. وهكذا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. والنتيجة أن هذا الحب المتبادل يجعله كرّاراً غير فرار، لأن الإنسان الّذي يفرّ إنما هو الإنسان الّذي يخاف على نفسه من الموت. والّذي يحب الله ورسوله يبيع نفسه لله ولرسوله، إذا عرف أن الطريق الّتي يسير فيها طريق الله ورسوله: {إنّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المؤمنينَ أنفُسَهُم وأموالَهم بأنَّ لهمُ الجنّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيقتُلُون وَيُقْتَلُون وعْداً عَليهِ حَقّاً في التَّوراةِ والإنجيل والقرآن} (التوبة/111).
ولهذا انطلق الإمام عليّ على هذا الأساس، أي على أساس أن يعيش القوة في نفسه، القوّة من خلال إيمانه لا من خلال جسده، وهو يقول في ما يروى عنه: «واللَّهِ ما قَلعتُ بابَ خَيبر بقوةٍ جسمانيةٍ بل بقوّةٍ ربّانية»
وفي هذا الاتجاه علينا أن نعمل دائماً، بأن لا نشعر بالضعف والهزيمة، فإذا ما رأى أي منا أنّه في حالة ضعف، فليفكر أنّه يملك أن يكون قوياً، فغيره كان ضعيفاً وصار قوياً، وغيره لا يملك عقلاً أفضل من عقله، ولا يملك جسماً أقوى من جسمه... القضية هي أن تكون لكلّ فرد منّا إرادة القوة. وإرادة القوة هي الّتي تعين المرء على صنع القوة في حياته.
قوّة العلم... وقوّة السلاح
لا بد للأُمة أن تتدرب جيداً، لا لتقتل كيفما كان، ولكن استعداداً لأي معركة داخلية أو خارجية تكون مستعدة لها، على هدى الآية الكريمة:
{وأعدُّوا لَهم ما استطعتُمْ من قُوةٍ ومنْ رباطِ الخيلِ تُرهِبونَ به عدو اللَّهِ وعدوَّكم} (الأنفال/60).
لا بنيّة أن نعتدي على أحد، لكن نقول: إذا كان هناك اعتداء علينا، فإننا نكون في مستوى التحدي. فلسنا عدوانيين، لكننا نرفض أن يعتدي علينا أحد، أن لا نعطي بيدنا إعطاء الذليل، ولا نقر إقرار العبيد، بل نعطي أيدينا لمن يعطينا يده، الندّ للند... عندما نقر لأي إنسان، أن يكون إقرارنا إقرار الأحرار، ولن يكون ذلك إلا إذا عملنا على صنع القوة... قوة العلم وقوة السلاح، والقوة الّتي لم نكتشفها بعد حتى الآن، وهي قوة وحدة الصف الّتي نتمنّاها لأُمتنا دائماً.
علينا أن نكتشف العلم كقوة، والسلاح كقوة، والتدريب كقوة، وتقوى الله كقوة، والشعور بالمسؤولية كقوة، والوحدة كقوة، الوحدة على أساس الحق لا الوحدة بأي ثمن، لنلتقي بكلمة الحسين (ع): «والله لا أعطيكُمُ بيدي إعطاءَ الذَّليلِ ولا أُقرّ لكم إقرارَ العبيدِ». نلتقي به في خط الممارسة لا في خط القول فقط.
الشعارات الحسينية مصدر إلهام لتحركنا الجهادي
إننّا عندما نتابع الشعارات الّتي رفعها الإمام الحسين (ع) في كربلاء، وجعلها أساساً لثورته، وقاعدةً لانطلاقته، ومسوّغاً لتحرّكه، فإنما نريد أن تلهمنا تلك الشعارات سلوك الخطّ الجهادي الإسلامي، خلافاً لكل أُولئك الذين يشجّعون الاستسلام والاسترخاء، والانهزام والخضوع، حين نجدهم يطرحون علامات الاستغراب أمام موقف الإمام الحسين (ع) في كربلاء، كونه ألقى بنفسه في التهلكة، دون أن يفوتهم الاستشهاد بالآية الكريمة الّتي تقول: {ولا تُلقُوا بأيدِيكُم إلى التَّهلُكة} (البقرة/195).
ومن خلال هذا الخط، نعرف كيف استطاع الاستعمار أن يجمّد الإسلام في نفوس الذين أصبحوا اليوم رموزاً للإسلام، وكيف استطاع هذا المنطق أن يحوّل الإسلام إلى شعور بالذل والخضوع.
حساب القادة
هناك فكرة يجب أن نعرفها، وهي أن النبي محمد (ص) والأئمة (ع) ليس لديهم تكاليف خاصة، قد تكون هناك تكاليف معينة في موقع مسؤوليتهم كمسؤولين، ولكن ليس عندهم تكاليف سرية، وما من شيء إلا وقد بيّنه الله لرسوله، وما من شيء إلا بيّنه الرسول للناس. النبي (ص) وقف أمام أُمّته في أواخر لحظات حياته، حتى يعلّم القادة والأمة معاً أنّه ما دام الإنسان قائداً للأُمة، فلا بد له أن يقدم تفسيراً للأُمة في أفعاله كلّها، حتى لو لم يكن مسؤولاً أمام الناس، وقد كان الرسول (ص) يفعل ذلك، فقد وقف (ص) وقال: «أيُّها الناسُ، إنَّكم لا تُمسكُونَ عليَّ بشَيءٍ، ما حَلَّلتُ إلا ما حلّلَ اللَّهُ، وما حرّمتُ إلا ما حرّم اللَّهُ».
الرسول يقول: ادرسوا تاريخي منذ بدأت الرسالة حتى الآن واعرضوه على القرآن، إني لم أحلّل إلاّ ما حلّل الله، ولم أُحرّم إلاّ ما حرّم الله. ولهذا رأينا رسول الله يبين للأُمة كل شيء، وكذلك الإمام علي (ع). إنّ (نهج البلاغة) يمثّل خلاصة تفكير الإمام الّذي استوحاه من القرآن في جوانب العقائد والشريعة والحكم والسياسة والصراع وما إلى ذلك...
ووصل الأمر به أنّه قال للناس: «فلا تُكلِّموني بما تكلَّمُ به الجبابرَة».
فقد شرح للناس سياسته وطريقته، وكان يسوغها ليثبت لهم أنّه يسير على خط الشريعة في كلِّ سيرته وأعماله، لأن دور الإمام والقائد والحاكم أن يثقّف الناس فيما يدعوهم إليه، ولهذا نعتقد أن سيرة النبي تمثل الشريعة على أساس ما أنزل الله، كذلك الله قال: {لقد كانَ لَكُم في رَسولِ الله أُسوةٌ حَسَنةٌ} (الأحزاب/21).
وعليه، فالشعارات الّتي طرحها الحسين (ع) في كربلاء تعتبر أُسساً شرعية حول الحكم، ويبقى دور القادة إن يدرسوا هل أن مرحلتنا هي مرحلة الحسين (ع) أو لا، هل إن الشروط نفسها موجودة الآن؟
فعلينا في كل مرحلة من مراحل حياتنا أن ندخل في عملية مقارنة بين الظروف الّتي كانت تحيط الإمام الحسين (ع)، والظروف الموجودة لدينا حالياً. فإذا وجدنا تطابقاً بالظروف، فعلينا أن نستلهم من ثورة الحسين (ع) ومن أوضاع جميع الأئمة (ع) ما نواجه به واقعنا ومرحلتنا.
العزة لا تصدر بمرسوم
إنّ موضوع العزة في مقابل الذلة يمثل الإطار العام الّذي يلتقي بكل الأمور المقدسة. فالله جعل العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، ومعنى ذلك أن لا خيار للمؤمنين بأن يكونوا أذلاء. ليس من حقك أن تتنازل عن عزّتك. إن الإمام جعفراً الصادق (ع) استوحى من الآية الكريمة الّتي تقول: {وللَّهِ العزّةُ ولرسوله ولِلمؤمنين} (المنافقون/8)، وقال: «إنّ اللَّهَ فوَّضَ للمؤمنِ أمرَهُ كُلَّه، ولم يُفَوِّضْ إليهِ أن يكونَ ذَليلاً».
بعض الناس يفهم كلمة العزة أن يملك المال والراحة والجاه... إلخ، ولا مانع لديه من أن تكون كل الأوضاع والنشاطات في حياته منطلقة من خضوعه لسلطة معينة. هناك فرق بين أن تملك قرارك وفكرك، وبين أن تكون عبداً للآخرين. فإذا سيطرت وأنت تملك قرارك، تكون قد سيطرت من موقع إرادتك الذاتية، أمّا إذا كنت تأخذ السيطرة من مكان خضوعك لأُناس آخرين، فتكون السيطرة هي سيطرتهم وتحرّكهم. إنهم يتحركون من خلالك وأنت الأداة. والأداة هنا على قسمين: أداة تسمع وتتكلم، وأداة لا تبصر ولا تتكلّم.
{بَشِّرِ المُنافِقينَ بأنَّ لَهُم عَذاباً أليماً* الَّذينَ يَتَّخِذونَ الكافرِينَ أولياءَ مِن دُونِ المؤمنينَ أيبتغُونَ عندَهم العِزَّة} (النساء/138-139).
{قُلِ اللّهمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤتي الملكَ مَن تشاءُ وتَنـزعُ الملكَ مِمَّن تشاءُ وتُعِزُّ مَن تشاءُ وتُذِلُّ مَن تشاءُ بيدِكَ الخيرُ إنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِير} (آل عمران/26).
وهنا لا بدّ أن نشير إلى وجود فرق بين أن تأخذ العزّة بمرسوم، وبين أن تأخذها بقناعة وإرادة... الذين يأخذون العزّة بمرسوم هم عبيد أذلاء. عندما تفكر بالعزة، فإن معنى العزّة بالإسلام أن تكون ذليلاً أمام الله وعزيزاً في حياتك.
التزامنا بالحسين لا يعني أن نكون انفعاليين
قال الإمام علي (ع): «لا تكُنْ عَبْدَ غَيرِكَ وقَد جَعَلَك اللَّهُ حُرّاً».
أنت ذليل لله فقط، وأمام الناس حر وعزيز. على هذا الأساس، إذا أردنا أن نكون أعزاء، فإنّ علينا أن نقف موقف الحسين (ع) في واقعنا الحاضر..
عندما يراد لنا الخضوع للاستعمار والاستكبار، علينا أن نقول كما قال الحسين في كربلاء: هيهات منّا الذلة.
لا بمعنى أن تنطلق بشكل حماسي وانفعالي. إنّ معنى الثورة أن نقف على سلاحنا، ونخطّط ونناور، ونفعل كل ما بوسعنا، كما قال الله سبحانه: {يا أيُّها الذينَ آمنَوا اصْبِروا وصابِروا ورابِطوا} (آل عمران/200).
لهذا علينا أن نأخذ من الحسين (ع) هذا الخط الّذي يحمل فيه كل إنسان حالة الرفض العملي لكل المخططات الّتي تريد أن تذلّه، فالمهم أن يتحرك كل منّا، أمّا متى يصل إلى الهدف فهذا يخضع للأوضاع...
السعادة في انسجام الحياة مع المبادئ
هناك من الناس من يفكّر بالحسين وكأنّه كان يائساً من الحياة، وهذا ما يفهم من كلمة: «لا أرى الموتَ إلا سعادةً والحياةَ مع الظالمينَ إلاّ برماً».
الحسين (ع) علّمنا من خلال سيرة حياته أنّه هادئ، ويفكر بالحساب، ولا يعيش التأزم. ولقد حدد الإمام السعادة استناداً إلى فهمنا للحياة والإيمان، فقال: إن السعادة انسجام الحياة مع المبادئ، والراحة أن يكون الناس الذين تعيش معهم منسجمين مع خطّك، الإنسان الّذي يعيش بعيداً عن مبادئه تكون حياته شقاءً، لهذا كانت قضية الحسين (ع) خطّاً، وليست حالة نفسية.
لنتساءل في كل موسم من مواسم عاشوراء، وفي كل الأوقات: لماذا كانت جراحات الحسين وآلامه؟ إذا أردتم أن تشاركوا الحسين بعض جراحه، فإنّ مشاركة الحسين (ع) هي بالوقوف مع الحقّ ضد الباطل.
الساحة جاهزة، والمعركة طويلة، معركة الحق ضد الباطل، معركة العدل ضد الظلم.
الحسين كان مرحلة تشير إلى بقية المراحل، يريدنا الحسين أن نكون في مستوى مرحلتنا. الجواب ليس بالهتافات، وإنما بالعمل نحو الهدف.