روى ابن عساكر بسنده عن زيد بن أرقم، قال: "كنت عند النبيّ(ص) في مسجده، فمرّت فاطمة(ع) خارجة من بيتها إلى حجرة الرّسول، ومعها ابناها الحسن والحسين، ثم تبعها عليّ(ع)، فرفع رسول الله(ص) رأسه إليّ فقال: "من أحبّ هؤلاء فقد أحبّني، ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني". وفي الرّواية عن البراء بن عازب قال: "رأيت رسول الله(ص) واضعاً الحسن بن عليّ(ع) على عاتقه وهو يقول: "اللّهمّ إنّي أحبّه فأحبّه". وعن أنس بن مالك قال: "لم يكن أحد أشبه برسول الله من الحسن بن عليّ"، بحيث كان النّاس إذ اشتاقوا إلى رسول الله(ص) بعد غيابه، نظروا إلى الحسن(ع) ليروا فيه صفاته.
وذكر غير واحدٍ من العلماء: "أنّ الحسن(ع) كان من أوسع النّاس صدراً، وأسجحهم خلقاً"، بحيث كان يمتصّ كلّ إساءات النّاس إليه، ويحلم عنهم، ولا يواجه السيّئة بالسيّئة، بل يقابلها بالحسنة، لأنّ ذلك هو خلق رسول الله(ص)، والّذي تربّى عليه الحسن والحسين(ع). وقال المدائني: "كان الحسن(ع) أكبر ولد عليّ، وكان سيّداً سخيّاً حليماً، وكان رسول الله(ص) يحبّه".
وروى الصّدوق في الأمالي بإسناده عن الصّادق عن أبيه عن جدّه(ع): "أنّ الحسن بن علي بن أبي طالب كان أعبد النّاس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربما مشى حافياً، ولا يمرّ في شيءٍ من أحواله إلا ذكر الله سبحانه، وكان أصدق النّاس لهجةً، وأفصحهم منطقاً، وكان إذا بلغ باب المسجد، رفع رأسه ويقول: "إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم"... وروي أنّه كان إذا توضّأ ارتعدت مفاصله، واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: "حقّ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرَّ لونه، وترتعد مفاصله".
وروى محمد بن إسحاق في كتابه قال: "ما بلغ أحد من الشّرف بعد رسول الله ما بلغ الحسن، كان يُبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطّريق ـ هيبةً له ـ فما مرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فمرّ النّاس، ولقد رأيته في طريق مكّة ماشياً، فما من خلق الله أحد رآه إلا نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقّاص يمشي". وروي أنّ الحسن(ع) قاسم ربَّه ماله مرّتين.
وممّا رواه المبرّد وابن عائشة عن حلمه وسعة صدره وأخلاقه العظيمة: أنَّ شاميّاً ـ من جماعة معاوية ـ رآه راكباً، فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلما فرغ، أقبل الحسن عليه وضحك وقال: "أيّها الشّيخ، أظنّك غريباً ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنياك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً". فلمّا سمع الرّجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ. وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم.
وكانت طفولة الحسن(ع) في أحضان النبيّ(ص) مدّة ثماني سنوات، وعاش مع أمّه الطاهرة المعصومة السيدة فاطمة الزهراء(ع)، وكان يراقبها وهي تصلّي صلاة اللّيل، وتقوم حتى تتورّم قدماها، وهي الّتي كانت في المستوى العالي من العبادة والإخلاص لله تعالى، وكان(ع) يستمع إليها وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وكانت(ع) تعاني من ضعف في البدن ومن بعض حالات المرض، وعلى الرّغم من ذلك، لم تكن تدعو لنفسها، فقال لها يوماً: "يا أمّاه، لم لا تدعين لنفسك؟ فقالت(ع): يا بنيّ، الجار ثمّ الدار".
وصيّته(ع) لأخيه الحسين(ع):
وورد في وصيّة الإمام الحسن(ع) لأخيه الحسين(ع): "هذا ما أوصى به الحسن بن عليّ إلى أخيه الحسين بن عليّ، أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّه يعبده حقّ عبادته، لا شريك له في الملك، ولا وليّ له من الذلّ، وأنّه خلق كلّ شيءٍ فقدّره تقديراً، وأنّه أولى من عُبِد وأحقّ من حُمِد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى. فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنني مع جدّي رسول الله(ص)؛ فإنّي أحقّ به وببيته، فإن أبت عليك الامرأة ـ وهي عائشة الّتي كانت تعتبر أنّ بيت النبيّ بيتها ـ فأنشدك بالقرابة الّتي قرب الله (عزّ وجلّ) منك، والرّحم الماسّة من رسول الله(ص)، أن لا تهريق فيَّ محجمةً من دم، حتّى نلقى رسول الله(ص)، فنختصم إليه، ونخبره بما كان من النّاس إلينا بعده". ثمّ قُبض(ع).
وعندما أراد الحسين(ع) أن يدفن الحسن(ع) عند رسول الله، انطلق بنو أميّة بقيادة مروان بن الحكم ليمنعوه من ذلك، فدفنه في البقيع مع جدّته فاطمة بنت أسد.
لقد كان الإمام الحسن(ع) القمّة في العلم والرّوحانيّة والإخلاص لله ولرسوله، والقمّة في الأخلاق وسعة الصّدر، وكان القدوة لكلّ مسلم، والسّلام عليه يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
من الكلمات النّورانيّة للإمام(ع):
وفي هذه الذّكرى، نحاول أن نستفيد من بعض كلمات الإمام الحسن(ع):
قال له جنادة بن أبي أميَّة في مرضه الّذي توفّي فيه: عظني يا بن رسول الله. قال(ع): "نعم، استعدّ لسفرك ـ وهو السفر إلى يوم القيامة ـ وحصّل زادك قبل حلول أجلكـ وخير الزّاد التقوى ـ واعلم أنّك تطلب الدّنيا والموت يطلبك، ولا تحملْ همَّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيهـ خطّط لمستقبلك، ولكن لا تحمل الهمّ لتعيش في حالةٍ نفسيّة صعبة ـ واعلم أنّك لا تكسب شيئاً فوق قُوتِك إلا كنت فيه خازناً لغيركـ لأنّ ما تحتاجه تستهلكه، أمّا الباقي، فإنّك تخزنه للورثة ـ واعلمأنّ الدّنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشّبهات عتاب. فأَنزلِ الدّنيا بمنـزلة الميتة ـ عندما تضطرّ إليها ـ خذْ منها ما يكفيك؛ فإنْ كان حلالاً كنت قد زهدت فيه، وإن كان حراماً، لم يكن في وزرٍ، فأَخذت منه كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فالعتاب يسير. واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداًـ بحيث توازن بين تخطيطك للمستقبل ومسؤوليّاتك أمام ما فرضه الله عليك ـ وإذا أردتَ عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّ وجلّ".
وورد عنه(ع): "ما تشاور قومٌ إلا هُدوا إلى رشدهم". فلا تستبدّوا في أموركم بالرّأي الفرديّ، بل شاوروا أهل الخبرة، فإنّ انضمام العقول بعضها إلى بعض، يفتح أبواب الرّشد والحقيقة. وعنه(ع): "يا بن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارضَ بما قَسَمَ الله تكن غنيّاً، وأَحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب النّاس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً، إنّه كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراًـ من دون أن يكترثوا هل من حلال أم من حرام ـ ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يا بن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمّك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، فإنّ المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع".