قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الزُّمر/9). تؤكّد هذه الآية، أنّ قيمة الإنسان عند الله تعالى، هي بمقدار ما يملك من علم ومن عقل، لأنّ هذا هو ما يرتفع بإنسانيّة الإنسان.
وقال تعالى أيضاً: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114)، وهو سبحانه يؤكّد بذلك ضرورة أن يستمرّ الإنسان في تحصيل العلم في كلِّ مراحل حياته، فإذا حصلت له قدرة في موقع، فإنّ عليه أن يطوِّر تلك القدرة، وإذا حصل على طائفة من العلم، فإنّ عليه أن يستزيد من هذا العلم، لأنّ الإنسان يكبر بعلمه ولا يكبر بماله أو بجسده. وقد ورد عن النبي(ص) قوله: «إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يظهر علمه»، والمقصود بالبدع، التّشريعات والعادات والتقاليد والأفعال المضادَّة للإسلام، والّتي ينسبها الناس إلى الله تعالى، وهي ليست من الله. وقد ردَّ تعالى في كتابه الكريم على ذلك بقوله: {قُلْ آَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ}(يونس/59).
في هذه الأجواء، نريد أن نتحدَّث عن عالم كبير من العلماء المسلمين الشيعة، الّذي قضى كلّ حياته في الجهاد في سبيل الإسلام، وفي تأسيس المؤسّسات التربويّة في العراق وإيران، وفي تأليف الكتب الّتي أوضح فيها معالم نهج أهل البيت(ع) في فكرهم وتراثهم، وردّ كلّ الشّبهات الّتي يحاول أن يلصقها أعداء أهل البيت بالمسلمين الشّيعة، حتّى إنَّه ترك مكتبةً إسلاميّةً فيها ما يرتفع بفهم العقيدة، وبيان لحقيقة مذهب أهل البيت(ع)، وفيها كلّ ما يُمكّن طالب العلم من الانفتاح على العالم الإسلاميّ كلّه.
هذا الرجل الذي توفَّاه الله قبل أيّام، هو آية الله السيد مرتضى العسكري. ومن بين الأمور التي أوضحها هنا، أنّه ممّا تعارف عليه المنحرفون عن خطّ أهل البيت(ع)، فكرة السّبئيّة، فنحن نقرأ في كتب المؤرِّخين من إخواننا المسلمين من أهل السنَّة عندما يتحدّثون عن نشأة التشيُّع، ومن أين جاء التشيُّع، أنّهم ينسبون التشيّع إلى شخص في المدينة اسمه عبد الله بن سبأ، وينسبون هذا الرجل، في بعض كتبهم، إلى اليهودية، ويقولون إنّ هذا الرّجل هو الذي أدخل التشيّع في الواقع الإسلامي، ولولاه لتوحّد المسلمون بأجمعهم حول الخلفاء. وأمّا الاعتقاد أنّ علياً هو الخليفة، وأنّ أولاده هم الأوصياء، فهذا أمر ابتدعه هذا الرّجل واتّبعه أناس كثيرون، وامتدّ التشيّع إلى هذا الوقت، كما يعبِّر البعض.
وقد بدأ التّشكيك في قضية عبد الله بن سبأ ودوره في مسألة انتشار التشيّع، من الأديب المصري طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى"، عندما كتب حوله وقال عنه إنّه رجل عاديّ ليس له أيّ مكانة اجتماعية، أو أيّ تأثير ثقافي أو سياسي، فهو ليس ابن عشيرة أو قبيلة، بل هو شخص مغمور لم يُسمع باسمه من قبل، فكيف يمكن أن يترك هذا التأثير، بحيث يخلق تياراً يؤدِّي إلى إيجاد مشكلة وفتنة في العالم الإسلامي؟! ولذلك فإنّه يستبعد ما نسب إلى هذا الرّجل، ولكن بقي ذلك على مستوى الشك. وجاء العلامة مرتضى العسكري، ليثبت أنّ هذا الرجل هو شخصية وهمية لا وجود لها، وإنما أقحمها بعض أعداء أهل البيت(ع) على خطِّ التشيّع في مقابل ما أقحموه من فضائل لبعض الصحابة، وليثبت بالحجّة والبرهان أنَّ عبد الله بن سبأ لا وجود له، وأنّ نسبة التشيع إلى نشاط هذا الرّجل، إنما يراد منها الإساءة إلى التشيّع، واعتباره حالةً طارئةً على الإسلام والمسلمين.
وقد أثبت العلاّمة العسكريّ أيضاً، أنّ بعض الّذين نُسِبوا إلى الصّحابة لا وجود لهم، فهناك مائة وخمسون صحابيّاً مختلقون، وأثبت أيضاً أنّ أساس كلّ هذه الأكاذيب هو شخص من الرّواة، روى عنه الطبري وغيره أكثر الرّوايات، وهو من الزنادقة ولا وثاقة له، وهو (السيف بن عمرو). ولذلك كان للسيّد العلامة المحقّق، مع علماء سابقين، الفضل الكبير في تأكيد أنّ أوّل من ركّز التشيّع هو رسول الله(ص)، وذلك لأنّ التشيّع يقوم على أساس أنّ علي بن أبي طالب(ع) هو وصي رسول الله وخليفته من بعده، وقد سمعت أن بعض الشيعة في الهند عندما يأتون بالشهادة في الأذان، يقولون: أشهد أنّ علياً ولي الله وخليفته بلا فصل، لأنّ السنّة يقولون إنّه الخليفة الرابع. فرسول الله هو الّذي أكّد أنّ علياً هو الخليفة والوصي من بعده، وأنّه هو الذي قال فيه ما لم يقله في غيره من الصحابة: «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار»، «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتِ الباب»، وقال له: «يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي»، وقال عنه في وقعة خيبر: «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه».
وكانت خاتمة ذلك كلّه، تنصيب عليّ(ع) للولاية والوصاية والخلافة في يوم الغدير، عندما قال(ص): «من كنت مولاه فعليُّ مولاه، اللّهمَّ والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار»، وطلب(ص) من المسلمين الّذين حضروا بيعة يوم الغدير، أن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، حتّى قيل إنّ عمر بن الخطاب عندما جاء إلى خيمة عليّ(ع)، قال له: لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ المؤمنين.
فالتشيّع، إنما نشأ من رسول الله(ص): «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق وهوى»، هم أرادوا أن يسيئوا إلى التشيّع، فنسبوه إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، وكانت عظمة هذا السيِّد في علمه وتحقيقه وتدقيقه، أنّه كشف كلَّ هذه الكذبة، وأثبت بالدّليل والبرهان والحجَّة القاطعة، أنّ عبد الله بن سبأ الذي يُنسب إليه التشيّع، هو شخصيّة وهميّة ابتكرها أعداء أهل البيت، حتى يسقطوا أصالة التشيّع الإسلاميّة من رسول الله(ص)، وقد قام هذا الرّجل الكبير بإنشاء مؤسّسات تربوية ودينية في بغداد، وكان ثقة المرجع الأعلى السيّد محسن الحكيم، حتى إنه اعتمده كوكيل مطلق له، وعندما دارت الأمور في العراق، سافر إلى طهران، وقام بجهود علمية كبيرة، وأنشأ مؤسَّسات تربويّة كبيرة جداً.
وقد جاهد في سبيل الله وفي سبيل العلم والتحقيق والتدقيق، ووقف مع الجمهوريّة الإسلاميّة. ويذكر في تاريخه، أنّه كان من أوائل مؤسّسي الحركة الإسلاميّة في العراق، (حزب الدّعوة الإسلامية)، مع السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم، وكنّا مجموعةً حاولت أن تقدّم من النجف الإسلام الحضاري في خطِّ أهل البيت(ع)، وقد ربطتنا معاً علاقة إسلاميّة قويّة واسعة منفتحة على قضايا الإسلام والمسلمين لأكثر من خمسين سنة.
ولذلك، فإنّنا في هذا اليوم، نلتقي معكم في هذا المجلس التأبيني، لأنّ في ذلك أجراً عظيماً في تعظيم العلم والعلماء، والجهاد والمجاهدين، ولا سيّما أمثال هذا العالم الكبير الّذي تجاوز المئة عام في الجهاد في سبيل الله، وفي إظهار الحقائق الإسلاميّة العلميّة وخدمة أهل البيت(ع).
محاضرة في المجلس التأبيني عن روح المحقّق السيّد مرتضى العسكري.