وُلد الشَّيخ الفاضل كمال الدّين عبد الرزاق بن أحمد، المشهور "بابن الفُوَطي" الشيباني البغدادي، في بغداد سنة 642هـ، وتوفّي في محرّم سنة 723هـ. ولعلّه المؤرّخ العربي الوحيد الذي طالت حياته وطارت شهرته أيام حكم المغول لبلاد العرب، حيث أُخذ أسيراً، واتَّصل في عهد هولاكو وابنه "أباقا" بالفيلسوف والعالم نصير الدّين الطوسي، الذي سعى لدى المغول لإطلاق سراحه.
وقد أكثر ابن الفوطي من التردّد إلى حواضر المغول، وزار عواصمهم، واتَّصل بحكامهم وعلمائهم وأعيانهم، وكتب تاريخ هذا العصر، وترجم لرجاله، ووصف مظاهر الحياة فيه، وصف المثقَّف الخبير بشؤون الحياة، إذ كانت كتاباته عن أحوال هذا العصر من أهمِّ الكتابات.
ولد العالم ابن الفوطي في أسرة متوسِّطة الحال كانت تسكن في محلّة الخاتونيّة ـ أحد المحلات القريبة من دار الخلافة ـ وكان له أربع عشرة سنة عندما أُسر من قبل المغول ونقل إلى آذربيجان، حيث أخرج بعد عامٍ عقب وساطة الطّوسي، وأقام عنده ثلاث عشرة سنة في مَرَاغة عاصمة المغول، وشهد تأسيس دار الرَّصد.
ولعلَّ الشّيخ الطّوسي هو ممن اشتغل على تهذيب شخصيّة ابن الفوطي المتنوّعة الحضور والمواهب، وقد وجَّهه إلى دراسة العلوم الرياضيَّة والنظريّات الفلسفيَّة، وعهد إليه الإشراف على خزانة كتب دار الرَّصد، وفيها بدأ الفوطي التّأليف، وظهر ميله إلى التّاريخ والتفنُّن في تنسيق مؤلَّفاته وترتيبها، ولعلَّه أوَّل مؤرّخ استعمل الجداول والأشكال الهندسيَّة في معاجم التاريخ وكتبه. وترجم ابن الفوطي لكثيرٍ من العلماء الذين أتوا لزيارة دار الرّصد، ويعتبر مؤرّخ النّهضة العلميّة في عهد المغول.
وقد أتقن ابن الفوطي اللّغة الفارسيّة وأحاط بآدابها، وألمّ باللّغة المغوليّة، ونظم الشّعر أيضاً بالعربيَّة، وقد عُهِدَ إليه فور وصوله إلى بغداد، الإشراف على خزانة المستنصريّة، وهو عملٌ أتقنه ابن الفوطي الّذي كتب أحسن مرجعٍ للاطّلاع على شؤون الكتب والمكتبات العامّة والخاصّة، وكانت مكتبة المستنصرية في وقت إشرافه على شؤونها، أشهر مكتبة عامّة في العالم كلّه، كما كانت مفخرةً من مفاخر بغداد.
كان ابن الفوطي دون الثّلاثين من عمره، أي في سنِّ الطّلب والتّحصيل، لمّا عاد إلى بغداد ودخل المستنصريّة. وفي هذه البيئة العلميّة الجديدة، كانت قراءة الفقه والحديث شغله الشّاغل، فأكثر من الأخذ عن الفقهاء، والسّماع من المحدّثين، والرّواية عن الشّيوخ، وما إن ناهز الحادية والخمسين من عمره، حتى بلغ مرتبة الأئمّة في الحديث، ونال درجة الحفَّاظ، وعدّه الذّهبي منهم. وبالجملة، أصبح من الأعلام الّذين يُشار إليهم بالبنان في بلاد الرّافدين وفي غيرها من البلاد، ولذلك أجازه العديد من العلماء من المشارب والمذاهب كافّة، وهذا أمرٌ لا يتيسّر لأيٍّ كان.
أكثرَ ابن الفوطي في أخذه من أعلام العراق، وخصوصاً في فنون الأدب وعلوم الشّريعة، وقد وضع معجماً خاصّاً بمن أخذ عنهم من الشّيوخ الّذين وصل عددهم إلى الخمسمائة. ومن أشهر هؤلاء، غياث الدّين عبد الكريم بن طاووس، الفقيه النسّابة المشهور، وكذلك عميد الدّين أبو الحارث عبد المطلب بن شمس الدّين النقيب بن المختار، والأمير فلك الدّين محمد المستعصمي، وقوام الدّين بن علي الشّيباني الكتبي، وعفيف الدّين بن ميمون الحلّي النّحوي.
وقد زار ابن الفوطي الحلَّة، وكانت مركزاً من مراكز العلم والأدب في تلك الأيّام، فاتّصل بكثيرٍ من زعمائها وأدبائها، وكان له كتابٌ أرَّخَ فيه لجانبٍ من تاريخ الحلّة. رحل الفوطي إلى تبريز بعد أن قضى خمساً وعشرين سنة في مكتبة المستنصريّة، وأقام فيها ستّ سنوات، عاد بعدها إلى عاصمة الخلافة بغداد أيّام صاحبه رشيد الدّين الطّبيب، زميله في الدّراسة على نصير الدّين، وقد اختصّ به، كما اختصّ بابنه الأمير غياث الدّين، وكان العصر الذي عاش فيه ابن الفوطي عصراً ذهبيّاً في المجالات كافة.
وقد أخذ ابن الفوطي العلم في تبريز عن قطب الدّين الرازي، أشهر علمائها في الرياضيات والفلسفة، وقد وضع ابن الفوطي قسماً من معجمه في التراجم خلال أيّام إقامته فيها، وصادف أن حدثت فتنة كبرى في تبريز، فذهبت بكثيرٍ من آثاره، وكانت له مكتبة فيها خمسون ألف مجلَّد، وليس لدينا الآن من آثار ابن الفوطي الّتي بلغت المئات وملأت الخزائن في أيّامه، إلا أجزاء يسيرة وجدت في أماكن نائية.
وقد عزم على قضاء أواخر أيّامه في بغداد، فغادر تبريز إليها، وتوفّي بعد مضيّ خمس سنوات على حادثة تبريز، ودفن ـ رحمه الله ـ في مقابر الشونيزية؛ مقابر الصّوفيّين والصَّالحين.
ذكره الذّهبي في تذكرة الحفَّاظ، فقال: "العالم البارع المتقن المحدِّث الحافظ المفيد، مؤرّخ الآفاق، معجز أهل العراق، ينتسب إلى معن بن زائدة، وأصله مَرْوَزي، ولد ببغداد، وأُسر في الوقعة وهو حدَثٌ (هي وقعة التّتار)، ثم صار إلى أستاذه ومعلّمه خواجه نصير الدّين الطوسي سنة 660هـ، فأخذ عنه علوم الأوائل، ومهر على غيره في الأدب، ومهر في التّاريخ والشّعر وأيّام النّاس، وله النظم والنثر والباع الطويل في ترصيع تراجم النّاس، وله ذكاء مفرط وخطّ منسوب رشيق وفضائل كثيرة..
سمع الكثير، وكتب من التّواريخ ما لا يوصف، وخزّن كتب الرّصد بضع عشرة سنة، فظهر بكتب نفيسة، وحصّل من التواريخ ما لا مزيد عليه، ثم سكن بعد مُرَاغة بغداد، وولي خزانة كتب المستنصريّة، فبقي عليها والياً إلى أن مات".
وفي "الدّرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني، يقول: "إنه من ذريّة معن بن زائدة، اتّصل بالنصير الطوسي، فخدمه واشتغل عليه، وسمع من محيي الدّين بن الجوزي، وباشر كتب خزانة الرّصد بمراغة، وهي على ما نُقِل أربعمائة ألف مصنّف أو مجلّد، واطّلع على نفائس الكتب، فعمل تاريخاً حافلاً جدّاً، ثم اختصره في آخر سمَّاه "مجمع الآداب ومعجم الأسماء على الألقاب" في خمسين مجلّداً، له "درر الأصداف في بحور الأوصاف" وله "الدّرر الناصعة في شعراء المائة السّابعة"، وولي خزن كتب المستنصريّة إلى أن مات، وعني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطّه المليح كثيراً جدّاً، وذكر أنّه سمع من محيي الدّين بن الجوزي ومبارك بن المستعصم وآخرين، قال إنهم يبلغون خمسمائة إنسان، وكان له نظم حسن وخطّ بديع جداً".
ويُشار إلى أنَّ ابن الفوطي قد اعتمد في تأليف مادّته التاريخيّة منهجاً تاريخيّاً سليماً، يقوم على الإحاطة بمصادرها المتعدِّدة، ونقد رواياتها وتقييمها قبل كتابتها، إضافةً إلى أنه كان شاهد عيان في جوانب كبيرة منها.
هذا بعضٌ من فيض هذه الشّخصيَّة العلميّة والفكريّة، والّتي كان لها الأثر الكبير في الحركة العلميَّة والثقافيَّة في ذاك العهد، وتركت أثرها في الأجيال اللاحقة.