ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
في ذكرى رحيل الإمام زين العابدين(ع):
كان رائداً في الصّبر والفقه والأخلاق
مكانة زين العابدين(ع) الاجتماعية
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].
من أهل هذا البيت، الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، الذي صادفت ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر محرّم. ونحن عندما ندرس تفاصيل حياة هذا الإمام، نجد أنها قد تحركت في مستوى العالم الإسلامي في مرحلته التي عاش فيها، بحيث استطاعت أن تترك تأثيرها الروحي والإنساني والعلمي والحركي على تلك المرحلة وما بعدها، حتى إن الذين عايشوه والتقوا به كانوا يتحدثون عن فضله، وكان تلميذه الزهري يقول: "والله، ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنني لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه".
وقد وُلد الإمام زين العابدين(ع) من أم فارسية، عندما جيء بالسبايا من فارس بعد انتصار المسلمين على الفرس، وكان من بينهم ابنتان لملك فارس (يزدجرد)، وقد رفض الإمام عليّ(ع) في ذلك الوقت أن تباعا كما تباع الإماء، فأوحى إلى الخليفة الثالث أن يخيّرهما، فاختارت إحداهما الإمام الحسين بن علي(ع)، واختارت الثانية محمد بن أبي بكر، فولدت من الإمام الحسين(ع) عليّاً.
بين مأساة كربلاء والسّبي
وقد عاش الإمام زين العابدين(ع) مع جده الإمام علي(ع) سنتين، ومع أبيه الحسين (ع) عشرين سنة أو أقل من ذلك بقليل، وعاش مأساة كربلاء بكل آلامها وقسوتها، وكان مريضاً مرضاً لا يقوى معه على حمل السيف والقتال، ولذلك بقي بعد الإمام الحسين(ع) لتبقى الإمامة حيّة متحركة من خلاله. وقد عانى مع نساء الحسين وأخواته وبناته حال السبي، ولكن ذلك لم يضعفه، بل وقف موقفاً شجاعاً أمام ابن زياد عندما أُدخل عليه، حتى فكر ابن زياد في قتله، لكن السيدة زينب عمته تعلّقت به وقالت لابن زياد: "حسبك من دمائنا، والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه". وينقل الرواة أنه وقف في مجلس يزيد وخاطبه خطاباً قاسياً، معرّفاً أهل الشام قيمة أهل البيت(ع)، وقد أراد يزيد أن يقطع كلامه فأمر المؤذن بأن يؤذّن في الناس، وعندما وصل المؤذّن إلى قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله"، التفت الإمام زين العابدين(ع) إلى يزيد وقال له: "يا يزيد، أسألك بالله، محمد جدي أم جدك"، فقال يزيد: بل جدّك، فقال الإمام(ع): "فلم قتلت أهل بيته"؟
وقد أثّرت واقعة كربلاء في نفس الإمام زين العابدين(ع)، لأنه رأى أباه وأخوته وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي على رمضاء كربلاء، وكان يريد من خلال تذكّره لهذه القضية ـ وهو الصابر المحتسب ـ أن يُبقي ذكرى الإمام الحسين(ع) في مدى التاريخ، لتكون صرخةً دائمةً في وجه الظالمين، ولتتحدى كل من يصنع المأساة في حياة الناس، وفي حياة المصلحين والمستضعفين. وقد جرى أئمة أهل البيت(ع) على هذه الخطة، حتى وصلت كربلاء إلينا لتشمل العالم كله، وليتجذّر الحسين(ع) في عقولنا كداعية حق وعدل، وليدخل في قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا.
دور الإمامة وتثقيف الناس
وقد تحرّك الإمام زين العابدين(ع) في الواقع الإسلامي، ولم تشغله أحزانه ـ كما هي الصورة التي يبالغ بعض الرواة في تقديمهاعنه ـ عن القيام بدوره في الإمامة وتأكيد حقائق الإسلام ومواجهة كل الانحرافات التي كانت تحدث بين وقت وآخر، ولاسيما في عهد بني أمية.
وانطلق(ع) في المسائل العلمية والثقافية، حتى إنّ كتّاب سيرته يذكرون أنه استطاع أن يدخل في كل القضايا الثقافية، سواء في مسألة فلسفة العقيدة والاستدلال عليها، أو في أحكام الشريعة، أو تفسير القرآن وفضائله، حتى إن الطبري روى عنه، وكذلك روى عنه أصحاب الحديث كابن داود الذي لا يعتقد بالإمامة، كما تلمّذ عليه الكثيرون من أساتذة تلك المرحلة الإسلامية. حتى إننا في دراستنا لمن تعلّموا منه وتلمّذوا عليه، نستطيع أن نقول إنه كان أستاذ المسلمين في تلك المرحلة، وقد قال الشيخ المفيد وهو يتحدث عن ذلك: "روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء".
ويروي الشيخ المفيد بسنده عن عبد الله بن الحسن(ع)، قال: "كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين، فما جلست إليه قط إلا قمت بخيرٍ قد أفدته، إما خشية لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله تعالى، أو علم قد استفدته منه".
وتميّز الإمام زين العابدين(ع) برعايته الخفية للكثير من فقراء المدينة، فقد كان يحمل الجراب على ظهره وفيه الكثير من الأطعمة والثياب، ويدور في الليل بنفسه على بيوت الفقراء، ويقدّم إليهم ما يحتاجونه، حتى قيل إنه كان يعول أربعمائة عائلة في المدينة في تلك المرحلة، وكانوا لا يعرفون من أين يأتيهم ذلك، حتى مات الإمام(ع)، فانقطع ذلك عنهم، فعرفوا أنه منه.
في تواضعه وعفوه
وكان(ع) القمة في العفو والأخلاق والقيم الروحية، وينقل التاريخ أن مروان بن الحكم ـ العدو الألد لأهل البيت(ع)، والذي طلب من والي المدينة أن يقتل الحسين(ع) ـ عندما أُريد طرده من المدينة بعد أن هجم جماعة يزيد عليها، تحيّر مروان أين يضع عائلته التي كانت تبلغ أربعمائة شخص من نسائه وأولاده وأحفاده، بعدما رفض وجهاء المدينة استقبالهم خوفاً من يزيد، وعندما جاء إلى الإمام زين العابدين(ع)، أمره بأن يبعث عائلته إلى عائلة الإمام(ع)، حتى قالت بعض بناته: إننا لم نجد من الرعاية عند أبينا ما وجدناه عند علي بن الحسين. وقد قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفو منا سجيّةً فلما ملكتـم سال بالدم أبطحُ
وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكـل إنـاء بالذي فيـه ينضح
ومن المآثر التي تروى عن الإمام زين العابدين(ع)، أنه كان في المدينة والٍ يبغض علي بن الحسين وأهل البيت(ع)، وكان أن عزله الخليفة وأمر أن يوقف للناس ليشتموه ويسبوه ويضربوه انتقاماً منه وتحقيراً له، وكان أشد ما يخاف من علي بن الحسين وأهل بيته(ع) لأنه أساء إليهم كما لم يسىء إلى أحد، ولكن الإمام(ع) أمر عائلته ألا يصدر عنهم ما يسيء إليه، بل إنه(ع) كان يسأله عن حاجته وعن دَينه، ولم يستطع الرجل أمام هذه الروح الإيمانية المنفتحة على العفو إلا أن يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
هكذا كان أهل البيت(ع) القدوة في الأخلاق كجدهم رسول الله(ص) الذي قال الله تعالى عنه:{وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4].
العبادة والدّعاء
وكان الإمام زين العابدين(ع) قمةً في العبادة، وقد رآه أحد الرواة ـ وهو ابن طاووس ـ وهو ساجد يتضرّع إلى الله ويبكي، وبعد أن فرغ من صلاته قال له: "ما هذه الحالة، جدك رسول الله وعلي بن أبي طالب، وجدتك الزهراء، وعمك الحسن وأبوك الحسين؟ فقال له الإمام زين العابدين(ع): "دع عني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً".
وعندما نقرأ أدعية الإمام(ع)، ولاسيما أدعية الصحيفة السجادية، نرى أن هذه الأدعية تمثل تراثاً ثقافياً روحياً وأخلاقياً ونفسياً واجتماعياً، ولذلك أنصح كل أخواني وأخواتي أن يداوموا على قراءة هذه الأدعية، لأنها تثقفهم وتجعلهم في الدرجة العالية من القرب من الله.
من حكمه ومواعظه
ونحن نريد أن نقف عند بعض حكم الإمام زين العابدين(ع) ومواعظه وأخلاقه، لأن بعض الناس لا يعرفون من الإمام زين العابدين(ع) إلا تلك الشخصية البكائية التي يبالغ البعض في تصويرها. يقول(ع): "إن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبةً، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدّكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خُلُقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وقال(ع) لبعض بنيه: "يا بني، انظر خمسةً فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: إياك ومصاحبة الكذّاب فإنه بمنـزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك أو أقلّ من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله".
ويقول الإمام زين العابدين(ع): "ثلاثٌ من كنّ فيه من المؤمنين كان في كنف الله، وأظله الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه من فزع اليوم الأكبر: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدّم يداً ولا رجلاً حتى يعلم أنه في طاعة الله قدّمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من نفسه، وكفى بالمرء شغلاً بعيبه لنفسه عن عيوب الناس". وقال لابنه محمد الباقر (عليهما السلام): "افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره".
وعاش الإمام(ع) حياةً متحركةً في عزة الإسلام وقوته، ويذكر بعض المؤرخين أنه مات بالسم، ولكننا تبعاً للشيخ المفيد ولبعض العلماء، نرى أنه مات ميتةً طبيعيةً.
إنّ علينا أن نقتدي بالإمام زين العابدين(ع) في كل أقواله وأفعاله وتعاليمه، وهذا هو معنى الولاية لأهل البيت(ع) في كل سيرتهم وأوضاعهم، لأنهم أئمة الهدى، وأركان الحق، وشفعاؤنا إلى الله تعالى.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
غزّة: عنوان للانتصارات القادمة
... وانتصرت فلسطين بشعبها المؤمن المجاهد على آلة القتل الإسرائيلية، انتصرت غزة بشعبها الصابر، الصامد، ومقاومتها الباسلة على الوحشية الإسرائيلية... انتصر الإنسان الفلسطيني المملوء إرادةً وعزماً وتوحيداً على المجازر الصهيونية التي لم توفّر مدارس الأمم المتحدة، ولا المستشفيات، ولا المساجد والمراكز الإعلامية، في إطار سعيها لقتل أكبر عدد ممكن من النساء والشيوخ والأطفال الذين أدهشوا العالم بصبرهم وثباتهم ووقوفهم إلى جانب المقاومة، دونما كلل أو ملل...
انتصرت غزة، لأنها أسقطت أهداف العدو، كما أسقطت أوراق التسوية الواهية، وفرضت على العرب أن يعودوا إلى أنفسهم وإلى أمتهم وقضاياهم، وإن تحت ضغط الصمود البطولي الذي خاف منه بعض العرب أكثر مما خافت منه إسرائيل...
انتصرت غزة المجاهدة لتفتح صفحةً جديدةً في كتاب الأمة، تؤكد فيها أن إسرائيل سوف تكون عاجزةً عن شنّ أية حرب في المستقبل، لأنها العاجزة عن احتلال أية مدينة عربية إذا توافرت فيها مستلزمات الصمود، ولو في حدها الأدنى...
انتصرت غزة البطلة، لأنها أنتجت بصمودها مرحلة جديدة سوف تبدأ تباشيرها بالظهور تباعاً، لتطل الأمة بشخصيتها الوحدوية لا بأُطرها المذهبية، ولينطلق خط المقاومة والممانعة بروحية جديدة تفرض نفسها على القريب والبعيد، وليتعرّف الكيان الصهيوني الإرهابي على عناصر ردع جديدة في الأمة تجعله يراجع الحسابات آلاف المرات قبل أن يفكر في أية مغامرة جديدة.
أما الغرب بإداراته المتعددة وشخصياته الحاكمة، فقد سقط ـ ومعه مجلس الأمن الدولي ـ سقوطاً مريعاً على المستوى الحضاري والإنساني، في محاولاته الواهية لتبرير الوحشية الإسرائيلية تحت عنوان "الدفاع عن النفس" في مواجهة صواريخ المقاومة، والعالم كله يعلم أن صواريخ المقاومة انطلقت كردّ فعل على الإرهاب الإسرائيلي الذي توالت فصوله في أيام التهدئة، وقد ظهر هذا الإرهاب بأبشع صوره في الجولة الأخيرة من الحرب الإسرائيلية الوحشية التي عملت على تدمير الحجر والبشر، في نطاق الحقد العنصري التلمودي على كل ما هو عربي ومسلم.
إنها معركة الحرية التي تعانقت فيها فلسطين المحتلة مع لبنان الذي قهر العدو في تموز من العام 2006، ومع أن الأثمان كانت كبيرةً، حيث تتقارب أرقام الشهداء بين من ارتقوا في غزة ومن ارتقوا في لبنان، إلا أن الأفق السياسي يطل على مرحلة جديدة تؤكد أن الصوت الذي ينبغي أن يرتفع هو صوت إخراج المحتل، ليس من غزة فحسب، بل من كل الأراضي المحتلة، كمقدِّمة لإزالة المستوطنات والجدار العازل، وإعادة القدس إلى أهلها الأصليين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ومن ثم إخراجه من فلسطين كلها.
قمم عربية وغربية: تباينات في الأهداف والنتائج
لقد مثّلت قمة غزة في الدوحة الصدى الحقيقي لصرخة الشعوب العربية والإسلامية التي تطلّعت إلى وقفة حقيقية مع الشعب الفلسطيني، ومع أن شعوبنا أرادت أن يذهب العرب بعيداً بما يتجاوز تجميد العلاقات مع الكيان الغاصب، إلا أننا نعتقد أن النتائج التي تمخّضت عن بعض المواقف التي أطلقتها هذه القمة كانت لها تردداتها في مواقع أخرى، واجتذبت مواقف قد ينظر إليها العدو ـ لاحقاً ـ بأنها خارجة عن نطاق "الاعتدال" العربي الذي عمل على حشره في الزاوية من حيث أراد أو لم يرد.
أما قمة شرم الشيخ، التي أظهرت أن قادة دول الاتحاد الأوروبي حاضرون للذهاب إلى أي مكان عندما يستشعرون بأن إسرائيل باتت في خطر، فقد انطلقت في خطاباتها لتساوي بين الجلاد والضحية، ولم يصدر عنها أية إدانة للمجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين في غزة، وقد كان العشاء الذي أعقب هذه القمة بدعوة من رئيس وزراء العدو يمثل عشاء العار الذي اختزن الرقص على جثامين الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ الذين أبادتهم المحرقة الصهيونية بآلتها العسكرية، وقذائفها المحرَّمة دولياً، وأرادت للدول الأوروبية أن توقّع على هذه المجازر بتكريم المجرم والنزول عند رغباته.
إن الرئيس الفرنسي يتحدث بلغة تختزن الموافقة على قتل أطفال غزة ونسائها وشيوخها، عندما ينوّه بما أسماه "ديمقراطية دولة إسرائيل"، وأن من حق "الديمقراطيات أن تشنّ حروباً على تنظيمات غير ديمقراطية"، والحال أن "حماس" انتُخِبت ديمقراطياً بحسب المعايير الغربية، وهي التي تمثل الشرعية من أوسع أبوابها، لأنها الحائزة على أصوات شعبها، ولأنها صاحبة الأرض التي تضمن لها كل الشرائع وكل القوانين الدولية العمل على تحرير أرضها..
إن "ساركوزي" وزملاءه الذين اجتمعوا على مائدة العار تلك لا يملكون جواباً، أو هم يملكون ولكنهم لا يجرؤون على البوح به، فالديمقراطية مرحّب بها ما دامت تحمل إلى السلطة مَن هم مثلهم، ومَن يشبههم في المأكل والملبس والتقاليد والقيم، أما الآخرون، بمن فيهم الشعب الفلسطيني في حركته المقاوِمة، ففي انتظارهم الحروب والقذائف الفسفورية وربما غرف الغاز، لأنهم يمثلون الحق التاريخي الذي يفضح زيف كل هذه الديمقراطيات التي تلحس شعاراتها، وتأكل مبادئها على موائد الذل الإقليمية والدولية.
إن تفسيرنا لهذه الحركة الأوروبية المدعومة أميركياً، والتي تقف الأمم المتحدة على هامشها، هي أن القوم لا يبحثون عن حضور سياسي في المنطقة بقدر ما يحرصون على إسرائيل وأمنها واستمرارها، لأنهم يخافون عليها وقد بدأت الأرض تهتز من تحتها، كما يخافون على مشروعهم الذي زرعه أجدادهم في المنطقة قبل ستين عاماً ونيّف، وقد رأوا كيف أن الأرض بدأت تلفظه، لأنه جسم غريب على ترابها وحجرها وشجرها وكل ما ينبض فيها.
إننا أمام كل هذه التطورات نتساءل عن السبب الذي لا يزال يمنع القمم العربية من سحب المبادرة العربية، وخصوصاً أن العدو رفضها منذ البداية، وأن أمريكا وضعتها في الثلاجة السياسية، وقالت إنها تصلح للتفاوض وليس للتنفيذ.
ونحن في الوقت الذي نرحب بالمصالحة العربية، نخشى من أن هذه المصالحة سوف تبقى على السطح، وخصوصاً أن فريق العمل الذي يتحرك فيه المساعدون في كثير من المواقع العربية الرسمية يختزن ذهنية التعقيد، ومزاجية الرفض التي قد تدفعه إلى الانفتاح على إسرائيل، وتمنعه من الانفتاح على الأخ والشقيق.
لبنان: لمحاصرة أسباب الفوضى وتطويقها
أما في لبنان، فإن المطلوب من اللبنانيين الذين يتحركون في المواقف السياسية كنتيجة للانقسامات الحزبية، أن يعوا التطورات والأخطار الإقليمية والدولية التي تحيط بالمنطقة، وأثرها في الفوضى التي قد تسود الواقع اللبناني كنتيجة للأوضاع التي تتحرك في الساحتين الإقليمية والمحلية، ما قد يؤدي إلى تفاقم هذه الفوضى.
إننا ندعو اللبنانيين إلى عدم إعطاء أية فرصة لكل الطامحين للعبث بالأوضاع الداخلية من جديد، خصوصاً في ظل الحديث عن أنه ستكون لكارثة غزة امتداداتها السياسية في الواقع العربي، ولاسيّما أن المصالحات العربية انطلقت من السطح ولم تنـزل إلى العمق، كما يتحدث العارفون بخفايا الأمور، الأمر الذي قد يؤدي إلى اختلاط الحابل بالنابل من جديد، لأننا تعوَّدنا أن تظلّ الأوضاع العربية رهينةً للنكسات السياسية المتتالية على مستوى العلاقات العربية ـ العربية التي لا تخرج من نفق حتى تدخل في أنفاق ومتاهات جديدة.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
في ذكرى رحيل الإمام زين العابدين(ع):
كان رائداً في الصّبر والفقه والأخلاق
مكانة زين العابدين(ع) الاجتماعية
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].
من أهل هذا البيت، الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، الذي صادفت ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر محرّم. ونحن عندما ندرس تفاصيل حياة هذا الإمام، نجد أنها قد تحركت في مستوى العالم الإسلامي في مرحلته التي عاش فيها، بحيث استطاعت أن تترك تأثيرها الروحي والإنساني والعلمي والحركي على تلك المرحلة وما بعدها، حتى إن الذين عايشوه والتقوا به كانوا يتحدثون عن فضله، وكان تلميذه الزهري يقول: "والله، ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنني لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه".
وقد وُلد الإمام زين العابدين(ع) من أم فارسية، عندما جيء بالسبايا من فارس بعد انتصار المسلمين على الفرس، وكان من بينهم ابنتان لملك فارس (يزدجرد)، وقد رفض الإمام عليّ(ع) في ذلك الوقت أن تباعا كما تباع الإماء، فأوحى إلى الخليفة الثالث أن يخيّرهما، فاختارت إحداهما الإمام الحسين بن علي(ع)، واختارت الثانية محمد بن أبي بكر، فولدت من الإمام الحسين(ع) عليّاً.
بين مأساة كربلاء والسّبي
وقد عاش الإمام زين العابدين(ع) مع جده الإمام علي(ع) سنتين، ومع أبيه الحسين (ع) عشرين سنة أو أقل من ذلك بقليل، وعاش مأساة كربلاء بكل آلامها وقسوتها، وكان مريضاً مرضاً لا يقوى معه على حمل السيف والقتال، ولذلك بقي بعد الإمام الحسين(ع) لتبقى الإمامة حيّة متحركة من خلاله. وقد عانى مع نساء الحسين وأخواته وبناته حال السبي، ولكن ذلك لم يضعفه، بل وقف موقفاً شجاعاً أمام ابن زياد عندما أُدخل عليه، حتى فكر ابن زياد في قتله، لكن السيدة زينب عمته تعلّقت به وقالت لابن زياد: "حسبك من دمائنا، والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه". وينقل الرواة أنه وقف في مجلس يزيد وخاطبه خطاباً قاسياً، معرّفاً أهل الشام قيمة أهل البيت(ع)، وقد أراد يزيد أن يقطع كلامه فأمر المؤذن بأن يؤذّن في الناس، وعندما وصل المؤذّن إلى قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله"، التفت الإمام زين العابدين(ع) إلى يزيد وقال له: "يا يزيد، أسألك بالله، محمد جدي أم جدك"، فقال يزيد: بل جدّك، فقال الإمام(ع): "فلم قتلت أهل بيته"؟
وقد أثّرت واقعة كربلاء في نفس الإمام زين العابدين(ع)، لأنه رأى أباه وأخوته وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي على رمضاء كربلاء، وكان يريد من خلال تذكّره لهذه القضية ـ وهو الصابر المحتسب ـ أن يُبقي ذكرى الإمام الحسين(ع) في مدى التاريخ، لتكون صرخةً دائمةً في وجه الظالمين، ولتتحدى كل من يصنع المأساة في حياة الناس، وفي حياة المصلحين والمستضعفين. وقد جرى أئمة أهل البيت(ع) على هذه الخطة، حتى وصلت كربلاء إلينا لتشمل العالم كله، وليتجذّر الحسين(ع) في عقولنا كداعية حق وعدل، وليدخل في قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا.
دور الإمامة وتثقيف الناس
وقد تحرّك الإمام زين العابدين(ع) في الواقع الإسلامي، ولم تشغله أحزانه ـ كما هي الصورة التي يبالغ بعض الرواة في تقديمهاعنه ـ عن القيام بدوره في الإمامة وتأكيد حقائق الإسلام ومواجهة كل الانحرافات التي كانت تحدث بين وقت وآخر، ولاسيما في عهد بني أمية.
وانطلق(ع) في المسائل العلمية والثقافية، حتى إنّ كتّاب سيرته يذكرون أنه استطاع أن يدخل في كل القضايا الثقافية، سواء في مسألة فلسفة العقيدة والاستدلال عليها، أو في أحكام الشريعة، أو تفسير القرآن وفضائله، حتى إن الطبري روى عنه، وكذلك روى عنه أصحاب الحديث كابن داود الذي لا يعتقد بالإمامة، كما تلمّذ عليه الكثيرون من أساتذة تلك المرحلة الإسلامية. حتى إننا في دراستنا لمن تعلّموا منه وتلمّذوا عليه، نستطيع أن نقول إنه كان أستاذ المسلمين في تلك المرحلة، وقد قال الشيخ المفيد وهو يتحدث عن ذلك: "روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء".
ويروي الشيخ المفيد بسنده عن عبد الله بن الحسن(ع)، قال: "كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين، فما جلست إليه قط إلا قمت بخيرٍ قد أفدته، إما خشية لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله تعالى، أو علم قد استفدته منه".
وتميّز الإمام زين العابدين(ع) برعايته الخفية للكثير من فقراء المدينة، فقد كان يحمل الجراب على ظهره وفيه الكثير من الأطعمة والثياب، ويدور في الليل بنفسه على بيوت الفقراء، ويقدّم إليهم ما يحتاجونه، حتى قيل إنه كان يعول أربعمائة عائلة في المدينة في تلك المرحلة، وكانوا لا يعرفون من أين يأتيهم ذلك، حتى مات الإمام(ع)، فانقطع ذلك عنهم، فعرفوا أنه منه.
في تواضعه وعفوه
وكان(ع) القمة في العفو والأخلاق والقيم الروحية، وينقل التاريخ أن مروان بن الحكم ـ العدو الألد لأهل البيت(ع)، والذي طلب من والي المدينة أن يقتل الحسين(ع) ـ عندما أُريد طرده من المدينة بعد أن هجم جماعة يزيد عليها، تحيّر مروان أين يضع عائلته التي كانت تبلغ أربعمائة شخص من نسائه وأولاده وأحفاده، بعدما رفض وجهاء المدينة استقبالهم خوفاً من يزيد، وعندما جاء إلى الإمام زين العابدين(ع)، أمره بأن يبعث عائلته إلى عائلة الإمام(ع)، حتى قالت بعض بناته: إننا لم نجد من الرعاية عند أبينا ما وجدناه عند علي بن الحسين. وقد قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفو منا سجيّةً فلما ملكتـم سال بالدم أبطحُ
وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكـل إنـاء بالذي فيـه ينضح
ومن المآثر التي تروى عن الإمام زين العابدين(ع)، أنه كان في المدينة والٍ يبغض علي بن الحسين وأهل البيت(ع)، وكان أن عزله الخليفة وأمر أن يوقف للناس ليشتموه ويسبوه ويضربوه انتقاماً منه وتحقيراً له، وكان أشد ما يخاف من علي بن الحسين وأهل بيته(ع) لأنه أساء إليهم كما لم يسىء إلى أحد، ولكن الإمام(ع) أمر عائلته ألا يصدر عنهم ما يسيء إليه، بل إنه(ع) كان يسأله عن حاجته وعن دَينه، ولم يستطع الرجل أمام هذه الروح الإيمانية المنفتحة على العفو إلا أن يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
هكذا كان أهل البيت(ع) القدوة في الأخلاق كجدهم رسول الله(ص) الذي قال الله تعالى عنه:{وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4].
العبادة والدّعاء
وكان الإمام زين العابدين(ع) قمةً في العبادة، وقد رآه أحد الرواة ـ وهو ابن طاووس ـ وهو ساجد يتضرّع إلى الله ويبكي، وبعد أن فرغ من صلاته قال له: "ما هذه الحالة، جدك رسول الله وعلي بن أبي طالب، وجدتك الزهراء، وعمك الحسن وأبوك الحسين؟ فقال له الإمام زين العابدين(ع): "دع عني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً".
وعندما نقرأ أدعية الإمام(ع)، ولاسيما أدعية الصحيفة السجادية، نرى أن هذه الأدعية تمثل تراثاً ثقافياً روحياً وأخلاقياً ونفسياً واجتماعياً، ولذلك أنصح كل أخواني وأخواتي أن يداوموا على قراءة هذه الأدعية، لأنها تثقفهم وتجعلهم في الدرجة العالية من القرب من الله.
من حكمه ومواعظه
ونحن نريد أن نقف عند بعض حكم الإمام زين العابدين(ع) ومواعظه وأخلاقه، لأن بعض الناس لا يعرفون من الإمام زين العابدين(ع) إلا تلك الشخصية البكائية التي يبالغ البعض في تصويرها. يقول(ع): "إن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبةً، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدّكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خُلُقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وقال(ع) لبعض بنيه: "يا بني، انظر خمسةً فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: إياك ومصاحبة الكذّاب فإنه بمنـزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك أو أقلّ من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله".
ويقول الإمام زين العابدين(ع): "ثلاثٌ من كنّ فيه من المؤمنين كان في كنف الله، وأظله الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه من فزع اليوم الأكبر: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدّم يداً ولا رجلاً حتى يعلم أنه في طاعة الله قدّمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من نفسه، وكفى بالمرء شغلاً بعيبه لنفسه عن عيوب الناس". وقال لابنه محمد الباقر (عليهما السلام): "افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره".
وعاش الإمام(ع) حياةً متحركةً في عزة الإسلام وقوته، ويذكر بعض المؤرخين أنه مات بالسم، ولكننا تبعاً للشيخ المفيد ولبعض العلماء، نرى أنه مات ميتةً طبيعيةً.
إنّ علينا أن نقتدي بالإمام زين العابدين(ع) في كل أقواله وأفعاله وتعاليمه، وهذا هو معنى الولاية لأهل البيت(ع) في كل سيرتهم وأوضاعهم، لأنهم أئمة الهدى، وأركان الحق، وشفعاؤنا إلى الله تعالى.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
غزّة: عنوان للانتصارات القادمة
... وانتصرت فلسطين بشعبها المؤمن المجاهد على آلة القتل الإسرائيلية، انتصرت غزة بشعبها الصابر، الصامد، ومقاومتها الباسلة على الوحشية الإسرائيلية... انتصر الإنسان الفلسطيني المملوء إرادةً وعزماً وتوحيداً على المجازر الصهيونية التي لم توفّر مدارس الأمم المتحدة، ولا المستشفيات، ولا المساجد والمراكز الإعلامية، في إطار سعيها لقتل أكبر عدد ممكن من النساء والشيوخ والأطفال الذين أدهشوا العالم بصبرهم وثباتهم ووقوفهم إلى جانب المقاومة، دونما كلل أو ملل...
انتصرت غزة، لأنها أسقطت أهداف العدو، كما أسقطت أوراق التسوية الواهية، وفرضت على العرب أن يعودوا إلى أنفسهم وإلى أمتهم وقضاياهم، وإن تحت ضغط الصمود البطولي الذي خاف منه بعض العرب أكثر مما خافت منه إسرائيل...
انتصرت غزة المجاهدة لتفتح صفحةً جديدةً في كتاب الأمة، تؤكد فيها أن إسرائيل سوف تكون عاجزةً عن شنّ أية حرب في المستقبل، لأنها العاجزة عن احتلال أية مدينة عربية إذا توافرت فيها مستلزمات الصمود، ولو في حدها الأدنى...
انتصرت غزة البطلة، لأنها أنتجت بصمودها مرحلة جديدة سوف تبدأ تباشيرها بالظهور تباعاً، لتطل الأمة بشخصيتها الوحدوية لا بأُطرها المذهبية، ولينطلق خط المقاومة والممانعة بروحية جديدة تفرض نفسها على القريب والبعيد، وليتعرّف الكيان الصهيوني الإرهابي على عناصر ردع جديدة في الأمة تجعله يراجع الحسابات آلاف المرات قبل أن يفكر في أية مغامرة جديدة.
أما الغرب بإداراته المتعددة وشخصياته الحاكمة، فقد سقط ـ ومعه مجلس الأمن الدولي ـ سقوطاً مريعاً على المستوى الحضاري والإنساني، في محاولاته الواهية لتبرير الوحشية الإسرائيلية تحت عنوان "الدفاع عن النفس" في مواجهة صواريخ المقاومة، والعالم كله يعلم أن صواريخ المقاومة انطلقت كردّ فعل على الإرهاب الإسرائيلي الذي توالت فصوله في أيام التهدئة، وقد ظهر هذا الإرهاب بأبشع صوره في الجولة الأخيرة من الحرب الإسرائيلية الوحشية التي عملت على تدمير الحجر والبشر، في نطاق الحقد العنصري التلمودي على كل ما هو عربي ومسلم.
إنها معركة الحرية التي تعانقت فيها فلسطين المحتلة مع لبنان الذي قهر العدو في تموز من العام 2006، ومع أن الأثمان كانت كبيرةً، حيث تتقارب أرقام الشهداء بين من ارتقوا في غزة ومن ارتقوا في لبنان، إلا أن الأفق السياسي يطل على مرحلة جديدة تؤكد أن الصوت الذي ينبغي أن يرتفع هو صوت إخراج المحتل، ليس من غزة فحسب، بل من كل الأراضي المحتلة، كمقدِّمة لإزالة المستوطنات والجدار العازل، وإعادة القدس إلى أهلها الأصليين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ومن ثم إخراجه من فلسطين كلها.
قمم عربية وغربية: تباينات في الأهداف والنتائج
لقد مثّلت قمة غزة في الدوحة الصدى الحقيقي لصرخة الشعوب العربية والإسلامية التي تطلّعت إلى وقفة حقيقية مع الشعب الفلسطيني، ومع أن شعوبنا أرادت أن يذهب العرب بعيداً بما يتجاوز تجميد العلاقات مع الكيان الغاصب، إلا أننا نعتقد أن النتائج التي تمخّضت عن بعض المواقف التي أطلقتها هذه القمة كانت لها تردداتها في مواقع أخرى، واجتذبت مواقف قد ينظر إليها العدو ـ لاحقاً ـ بأنها خارجة عن نطاق "الاعتدال" العربي الذي عمل على حشره في الزاوية من حيث أراد أو لم يرد.
أما قمة شرم الشيخ، التي أظهرت أن قادة دول الاتحاد الأوروبي حاضرون للذهاب إلى أي مكان عندما يستشعرون بأن إسرائيل باتت في خطر، فقد انطلقت في خطاباتها لتساوي بين الجلاد والضحية، ولم يصدر عنها أية إدانة للمجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين في غزة، وقد كان العشاء الذي أعقب هذه القمة بدعوة من رئيس وزراء العدو يمثل عشاء العار الذي اختزن الرقص على جثامين الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ الذين أبادتهم المحرقة الصهيونية بآلتها العسكرية، وقذائفها المحرَّمة دولياً، وأرادت للدول الأوروبية أن توقّع على هذه المجازر بتكريم المجرم والنزول عند رغباته.
إن الرئيس الفرنسي يتحدث بلغة تختزن الموافقة على قتل أطفال غزة ونسائها وشيوخها، عندما ينوّه بما أسماه "ديمقراطية دولة إسرائيل"، وأن من حق "الديمقراطيات أن تشنّ حروباً على تنظيمات غير ديمقراطية"، والحال أن "حماس" انتُخِبت ديمقراطياً بحسب المعايير الغربية، وهي التي تمثل الشرعية من أوسع أبوابها، لأنها الحائزة على أصوات شعبها، ولأنها صاحبة الأرض التي تضمن لها كل الشرائع وكل القوانين الدولية العمل على تحرير أرضها..
إن "ساركوزي" وزملاءه الذين اجتمعوا على مائدة العار تلك لا يملكون جواباً، أو هم يملكون ولكنهم لا يجرؤون على البوح به، فالديمقراطية مرحّب بها ما دامت تحمل إلى السلطة مَن هم مثلهم، ومَن يشبههم في المأكل والملبس والتقاليد والقيم، أما الآخرون، بمن فيهم الشعب الفلسطيني في حركته المقاوِمة، ففي انتظارهم الحروب والقذائف الفسفورية وربما غرف الغاز، لأنهم يمثلون الحق التاريخي الذي يفضح زيف كل هذه الديمقراطيات التي تلحس شعاراتها، وتأكل مبادئها على موائد الذل الإقليمية والدولية.
إن تفسيرنا لهذه الحركة الأوروبية المدعومة أميركياً، والتي تقف الأمم المتحدة على هامشها، هي أن القوم لا يبحثون عن حضور سياسي في المنطقة بقدر ما يحرصون على إسرائيل وأمنها واستمرارها، لأنهم يخافون عليها وقد بدأت الأرض تهتز من تحتها، كما يخافون على مشروعهم الذي زرعه أجدادهم في المنطقة قبل ستين عاماً ونيّف، وقد رأوا كيف أن الأرض بدأت تلفظه، لأنه جسم غريب على ترابها وحجرها وشجرها وكل ما ينبض فيها.
إننا أمام كل هذه التطورات نتساءل عن السبب الذي لا يزال يمنع القمم العربية من سحب المبادرة العربية، وخصوصاً أن العدو رفضها منذ البداية، وأن أمريكا وضعتها في الثلاجة السياسية، وقالت إنها تصلح للتفاوض وليس للتنفيذ.
ونحن في الوقت الذي نرحب بالمصالحة العربية، نخشى من أن هذه المصالحة سوف تبقى على السطح، وخصوصاً أن فريق العمل الذي يتحرك فيه المساعدون في كثير من المواقع العربية الرسمية يختزن ذهنية التعقيد، ومزاجية الرفض التي قد تدفعه إلى الانفتاح على إسرائيل، وتمنعه من الانفتاح على الأخ والشقيق.
لبنان: لمحاصرة أسباب الفوضى وتطويقها
أما في لبنان، فإن المطلوب من اللبنانيين الذين يتحركون في المواقف السياسية كنتيجة للانقسامات الحزبية، أن يعوا التطورات والأخطار الإقليمية والدولية التي تحيط بالمنطقة، وأثرها في الفوضى التي قد تسود الواقع اللبناني كنتيجة للأوضاع التي تتحرك في الساحتين الإقليمية والمحلية، ما قد يؤدي إلى تفاقم هذه الفوضى.
إننا ندعو اللبنانيين إلى عدم إعطاء أية فرصة لكل الطامحين للعبث بالأوضاع الداخلية من جديد، خصوصاً في ظل الحديث عن أنه ستكون لكارثة غزة امتداداتها السياسية في الواقع العربي، ولاسيّما أن المصالحات العربية انطلقت من السطح ولم تنـزل إلى العمق، كما يتحدث العارفون بخفايا الأمور، الأمر الذي قد يؤدي إلى اختلاط الحابل بالنابل من جديد، لأننا تعوَّدنا أن تظلّ الأوضاع العربية رهينةً للنكسات السياسية المتتالية على مستوى العلاقات العربية ـ العربية التي لا تخرج من نفق حتى تدخل في أنفاق ومتاهات جديدة.