الصادقون هم الفائزون

الصادقون هم الفائزون
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

قيمة الصدق

من القيم الأخلاقية الإسلامية الصِّدق، سواء في علاقة الإنسان مع ربه أو مع نفسه أو مع الناس؛ أن يعيش الصدق في الفكرة فلا يزيّف عقله بالأكاذيب التي يقرأها أو يسمعها، والصدق في الكلمة فلا يتحدث بحديث يخالف الحقيقة ويشوّه الواقع للناس، والصدق في الموقف بحيث يكون موقفه مطابقاً لمبادئه وإيمانه وعقيدته، فلا يختلف موقفه عن التزاماته الإيمانية. فالصّدق يمثّل الارتباط بالحقيقة والالتزام بالحق والابتعاد عن الباطل.

وفي مقابل الصدق هناك الكذب الذي يزيّف الواقع ويبتعد بالإنسان عن مبادئه عندما يتكلم بكلام لا يؤمن به، وعندما يحدِّث الناس بالأكاذيب ليُبعدهم عن الصورة الحقيقية للواقع، أو عندما يحدِّثهم عن تاريخ كاذب وضعه الوضَّاعون والكذّابون، أو عن مسألة تتعلّق بالأمن على غير ما هي في الواقع، فيؤدي ذلك الاهتزاز النفسي والواقعي. فإذا أخبر الإنسان بحديث سلبي لا واقع له، فإنّه يجعلهم يعيشون الخوف والقلق من خلال هذه المعلومات الكاذبة، وإذا حدّث بحديث عن الأمن بينما هو غير موجود في الواقع، فإنّه يجعل الناس يعيشون الاسترخاء والثقة حيال هذا الواقع، بينما تكون الحقيقة أن هناك أخطاراً تتحدّى الإنسان. ولذلك فإن مسألتي الصدق والكذب هما من المسائل التي قد تؤدّي إلى الاهتزاز أو إلى الاستقرار.

مواقع الصّدق ونتائجه
وقد تحدّث الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية عن النتائج التي يحصل عليها الصادقون يوم القيامة، عندما يقفون للحساب بين يديه، فنقرأ في سورة المائدة قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْـ فمن كان صادقاً في عقيدته وكلمته وموقفه، وصادقاً مع ربه ومع نفسه ومع الناس، فإنّه ينتفع بصدقه ـلَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ـ لأنهم صدقوا معه في عقيدتهم وإيمانهم، فجزاهم بصدقهم ـ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(المائدة:119)، لأنّ هذا النوع من الرضا المتبادل بين العبد وربه، يرفع من درجة الإنسان عند ربه، ويمنحه رضاه وحبه وجنّته، لأنّ الله تعالى يحبّ الصادقين باعتبار أنهم يمثّلون الحق ويبتعدون عن الباطل، وقد قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ}(الحج:62).
أمّا الصّدق في العهد مع الله، عندما يعاهد النّاس ربّهم، سواء في التزاماتهم الفردية أو في التزاماتهم مع الآخرين، أو في بيعتهم للقيادات الإسلامية الصالحة، وخصوصاً القيادات المعصومة، فإنّ الله يقول في هؤلاء: {منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ـ فقد عاهدوا الله بأن يقفوا مع الحق ويبتعدوا عن الباطل، وأن ينصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم ومواقفهم، وعاهدوا النَّاس بأن يعطوهم ما لهم من حق، وعاهدوا الأمّة بأن يأخذوا بأسباب الوحدة، وأن يقفوا ضد الّذين يريدون إسقاطها، وأن يقفوا مع الذين يريدون حريتها وعزّتها وكرامتها، وهذه هي المسيرة التي سار بها المؤمنون مع الأنبياء، ومع النبي محمّد(ص) في حال العسرة في مكة، وتحمّلوا في سبيلها الكثير من الضغط حتى استشهد بعضهم ـ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُـ شهيداً في الدفاع عن الله وعن رسوله وعن الإسلام ـ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُـ من ينتظر الدخول في معارك الإسلام ومواجهة الكفر والاستكبار ليقدّم نفسه للنصر أو الشهادة ـ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(الأحزاب:23)، فقد انطلقوا في الخطِّ المستقيم على رغم المعاناة الّتي عاشوها في الالتزام به، وعلى الرّغم من الترهيب والترغيب والإغراءات الصعبة الّتي واجهوها ليبدّلوا خطهم، وليتراجعوا عن التزامهم الإيماني، ولكنّهم لم يبدّلوا، بل ثبتوا على الحق الذي آمنوا به والمبدأ الذي التزموه.

وهذه الكلمة كانت كلمة كربلاء، ذلك أنّه عندما كان يبرز أي صحابي من أصحاب الإمام الحسين(ع)، أو أيّ شخص من أهل بيته للقتال، كان يأتي الإمام الحسين(ع) ليودّعه،فيعطيه هذا الوسام: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب:23)، وهكذا كان كلّ شهداء كربلاء الصادقين في عهدهم مع الله.

وفي آية أخرى يقول سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِـ وفي مقدّم الصّادقين رسول الله(ص) الصّادق الأمين. والصدق يمثّل الإسلام كلّه، في كتاب الله وسنّة رسوله، وفي كلّ ما قرره رسول الله وما ألهمه الله إيّاه وما تحرّك به ـ وَصَدَّقَ بِهِـ فهو لم يدعُ النّاس إلى التّصديق بالمبادئ دون أن يصدّق بها، كما يفعل البعض استغلالاً للآخرين، لأنّ الأنبياء والأولياء والدعاة إلى الله، يبلّغون الناس ما يؤمنون به ويلتزمونه بصدق ـ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَـ لأنّهم يراقبون الله في كلماتهم ومواقفهم وعلاقاتهم وحركاتهم ـ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}(الزمر:32-34)، وأيُّ إحسان أفضل من أن يكون الإنسان صادقاً مع ربه ومع نفسه ومع الناس؟!

الصّدق في القرآن والحديث
ويحدّثنا الله تعالى عن نموذجٍ من الصادقين، يقول سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَـ الذين كانوا مع رسول الله في مكّة، وتحمّلوا معه كل الآلام والعذابات وهاجروا معه ـ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ـ في ميادين الحرب والسلم ـأُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر:8).
وقد ورد عن رسول الله(ص): «عليكم بالصدقـ الصدق في كل المواقع ـ فإنه باب من أبواب الجنّة».
وجاء عن الإمام عليّ(ع): «الصدق أمانة ـ لأنّ الصدق هو الحق، والحق أمانة الله عند عباده ـ والكذب خيانة». وعنه(ع): «الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك ـ أن تؤثر الصّدق وإن كان فيه الضّرر والخسارة المادّيّة ـ على الكذب حيث ينفعك».
ويتحدَّث رسول الله(ص) عن الأساس الّذي يمكن للإنسان من خلاله أن يحكم على إيمان الإنسان الآخر، يقول(ص): «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم باللَّيل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة»، فانظروا في حديث هذا الإنسان، هل يصدق إذا حدّث؟ ويؤدّي الأمانة إذا أؤتمن؟ عندها يمكن أن تحكموا بأنّه مؤمن.
وورد عن الإمام الصادق(ع): «لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحشـ بعض الناس تكون الصلاة والصوم عادة بالنسبة إليه ـ ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة».
وفي حديث آخر للإمام الصادق(ع) يقول: «إنَّ الله لم يبعث نبيّاً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة»، فالأنبياء جاؤوا من أجل أن يدعوا الناس ليكونوا الصادقين في أحاديثهم، والأمناء فيما يؤتمنون عليه، وقد كان النبي(ص) قبل أن يبعث بالنبوّة معروفاً بالصدق والأمانة، حتى غلبت هذه الصفات على اسمه، حتى إنّه بعد أن بُعث بالرسالة وعاش الصراع مع قومه، كانوا لا يأتمنون أحداً غيره، وتذكر كتب السيرة أنّه عندما هاجر(ص) إلى المدينة، ترك عليّاً(ع) في مكة ثلاثة أيام من أجل أن يؤدي إلى النّاس ودائعهم التي كانت عنده.

وفي الختام، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(التوبة:119)، بمعنى أنّكم عندما تريدون أن تتّبعوا شخصاً أو تساعدوه أو تناصروه أو تكونوا من جماعته، فانظروا هل هو من الصادقين، فإن كان صادقاً كونوا معه، لأنّكم بذلك تكونون مع الصدق ومع الحق الذي يتجسّد فيه. ونحن في هذه الأيام مقبلون على الانتخابات التي تكثر فيها الإغراءات المالية والوعود مقابل التصويت للباطل والفاسد، وهذا أمر محرّم، والمال الّذي يؤخذ هو مال سحت وحرام، لأنّ الإنسان عندما يعطي موقفه وصوته لإنسان لا يستحقه، فهو بذلك يكون خائناً لله ولرسوله وللمؤمنين وللأمة كلّها. لذلك على الإنسان إذا أراد أن يكون مع أيّة قيادة، فلينظر هل إن هذه القيادة من الصادقين فيتّبعها، أو من الكاذبين ليبتعد عنها.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

غزّة: استمرار الحصار
لا تزال الحرب على المقاومة في فلسطين تتحرّك على أكثر من صعيد، بعد انتهاء العدوان العسكري الكبير على قطاع غزّة، حيث يستمرّ الحصار الجائر على الشعب الفلسطيني من طريق إغلاق المعابر، حتّى العربيّة منها، إضافةً إلى الضغط الدولي الممارس من قبل الدول المستكبرة لفرض إرادتها على الشعب الفلسطيني الصابر والمقاوِم، بعد عجز آلة الحرب الإسرائيليّة عن هزيمة إرادته.

ولقد التقينا ـ في الأسبوع الماضي ـ بآكثر من موقف يؤكّد استمرار الانحياز المطلق للإدارات الغربيّة وكثير من المنظّمات والمؤسّسات الدولية إلى العدوّ الإسرائيلي العنصري والإرهابي المجرم، وقد سمعنا تصريح المفوّض الأوروبي للتنمية الذي وصف حركة المقاومة "حماس" بالإرهابيّة، مؤكّداً أنّ الحوار معها يتوقّف على قبولها بحقّ إسرائيل في الوجود، والتخلّي عن المقاومة التي تمثّل البعد الإرهابي لحركتها، كما يقول، وليس بعيداً من ذلك، موقف الدول الأوروبيّة التي سارعت بعد الحرب إلى الوقوف في صفّ العدوّ الصهيوني المجرم ضدّ الشعب الفلسطيني شبه الأعزل، وضدّ مقاومته التي انطلقت كردّ فعلٍ على الاحتلال، هذا الموقف الأوروبي يعكس حال الانحدار الأخلاقي والحضاري إزاء المجازر الأكثر وحشيّة في التاريخ التي ارتكبتها إسرائيل في الماضي، وفي غزة بالأمس القريب والتي لا مثيل لوحشيتها في التاريخ، علماً أنها تهدد بارتكاب الكثير من هذه المجازر، وهو الموقف نفسه الذي تتَّخذه الولايات المتحدة الأمريكية على لسان رئيسها الذي يتحدّث عن الأمن لإسرائيل مقابل المساعدات للفلسطينيّين، وعلى لسان مسؤوليها، حيث تتحدّث وزيرة الخارجيّة أن استفزاز حماس، هو الذي يجعل إسرائيل تمارس حق الدفاع عن النفس، وكأنّها تمنح إسرائيل الحرّية في العودة إلى مسلسل الإجرام والقتل والتشريد ضدّ الشعب الفلسطيني.

والسؤال: أيّ دورٍ للولايات المتحدة الأمريكية كوسيط رئيس في قضيّة فلسطين مع كونها الداعم الرئيس للاحتلال الإسرائيلي دبلوماسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاَ؟

التزام دولي بأمن إسرائيل
لقد بات واضحاً أنَّ الثابت الأكبر في سياسات الدول المستكبرة الخارجية، هو أمن الكيان الإسرائيلي الغاصب، الذي قام على أساس القتل والتدمير والاحتلال والإرهاب، إضافةً إلى تهديد أمن المنطقة بأسرها، هذا الكيان الذي هو الوحيد في العالم المتمرِّد على القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان  والذي لا يخضع لأي محاسبة، لأنّه يحظى بدعم أميركي يتجاوز كل القوانين والأعراف، ولذلك لم نفاجئ بإعلان المبعوث الأميركي (ميتشل) بأن لإسرائيل ما تختاره في محاربة ما أسماه الإرهاب لأن أمريكا لا تزال تتطلَّع إلى مصالحها في المنطقة من زاوية الأمن الإسرائيلي ولا سبيل إلى تغيير ذلك إلا بمواقف عربيّة وإسلامية ضاغطة والعرب مشغولون بإثارة النـزاعات فيما بينهم، وبالإعلان عن افتقادهم للقوة وعناصر الضغط لأنهم كفوا عن الوقوف مع قضاياهم وآثروا مآربهم الشخصية على مصالح أمتهم.

إلى ذلك، فقد بدأ واضحاً مدى الضعف الذي أصاب منظّمة الأمم المتحدة، إلى الدرجة التي ينتظر فيها أمينها العام نتيجة التحقيق الإسرائيلي، علماً أنّ كيان العدوّ أعلن قراره بتوفير الحماية لجنوده وضبّاطه من أيّ ملاحقة قانونية لدى المحاكم الدوليّة... وعلى هذا الأساس، ثمّة شكوكٌ حقيقيّة في إمكان إجراء الأمم المتَّحدة تحقيقاً في جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة التي ارتكبتها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني؛ لأنّ الكيان العبري يبقى فوق النقد حتى فيما يشبه بيانات الإدانة ومن هنا تحوم الشكوك حول صدقية المنظمة الدولية في حركتها السياسية والقضائية.

فلسطين: الحفاظ على المكتسبات في غزة
إنّ هذا الواقع، يفرض على الفلسطينيين، وعلى الدول العربيّة والإسلامية، إدراك أنّ خط المفاوضات ومسلسل التنازلات لم يرجع عليهم إلا بالمزيد من الضعف، والإمعان في الإذلال؛ فكيف يمكن اللجوء إلى المفاوضات، والسياسة الإسرائيلية، ومن ورائها الأمريكية، تعمل على تغيير الوقائع على الأرض، وتأكيد قواعدها للّعبة باستمرار... علماً أن هناك أكثر من قرار لمجلس الأمن يتعلّق بالقضيّة الفلسطينية والاحتلال واللاجئين، فليتحرك هذا العالم ليفرض احترام مجلس الأمن الذي لا تحترم فيه إلا القرارات التي تشرّع بلادنا على المزيد من القتل والتدمير والنهب واللعب بالمستقبل.

إنّنا نعيش في عالمٍ لا يُحترم فيه إلا الأقوياء، فهل نقف يوماً لنحافظ على عناصر القوّة لدينا وتنميتها ـ نقولها للفلسطينيّين جميعاً، وللعرب وللمسلمين ـ أم نبقى نتحرّك على أساس تدمير كلّ واقعنا من طريق تمزيق كلّ أوراق القوّة لدينا، وتجميد كلّ حالة للضغط الواقعي على الدول المستكبرة لتراعي ولو الحدّ الأدنى من مصالحنا الحيويّة وقضايانا المصيريّة؟!

ونقول للفلسطينييّن: لقد تحقّق لكم برغم الجراح والآلام،  شيء كبير في غزّة، تستطيعون أن تبنوا عليه في مسيرة إزالة الاحتلال عن فلسطين، فلتنطلق الجهود جميعها في سبيل الحفاظ على المكتسبات، وعدم كشف الواقع الفلسطيني أمام المزيد من العبث الإقليمي والدولي، لتكون مصلحة الشعب الفلسطيني في عزّته وكرامته هي الميزان في كلّ المواقف.

هل يصنع الحوار لبنان الدولة؟
أمّا لبنان، فلا يزال يُثبت فيه كثير من السياسيّين، أنّهم لا ينطلقون في حجم الوطن والتحدّيات والتهديدات التي تعصف بالواقع كلّه، ويؤكّدون أنّهم غير معنيّين بصناعة القوّة لهذا البلد، ولا بتحصينه أمام المتغيّرات التي تلعب بمصير هذا الشعب يميناً وشمالاً، ويثبت فيه الكثيرون أنّهم غير معنيّين بالإنسان في لبنان، في اقتصاده وأمنه وسياسته العادلة، وأنّ الناس لدى الكثيرين هم مجرّد أرقام للانتخابات، ولتحقيق المصالح الشخصيّة والحزبيّة والطائفيّة، حتّى عندما تتعلّق المسائل بحقوق الناس في إعمار ما هدّمه العدوان الصهيوني قبل أكثر من عامين. والسؤال: هل يملك السياسيون في لبنان أن يقرّروا على طاولات الحوار أن ينتقلوا بلبنان من بلد المزرعة إلى بلد المؤسّسات، ومن بلد المحاصصة إلى بلد القانون، ومن البلد المرتهن للعبة المحاور الإقليمية والدولية إلى البلد القويّ الذي يصنع قوّته الذاتيّة قبل أن يتسوّلها على أبواب السياسات الدولية التي خبُرنا كيف تتحرّك، وإلى أين تصل بنا.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

قيمة الصدق

من القيم الأخلاقية الإسلامية الصِّدق، سواء في علاقة الإنسان مع ربه أو مع نفسه أو مع الناس؛ أن يعيش الصدق في الفكرة فلا يزيّف عقله بالأكاذيب التي يقرأها أو يسمعها، والصدق في الكلمة فلا يتحدث بحديث يخالف الحقيقة ويشوّه الواقع للناس، والصدق في الموقف بحيث يكون موقفه مطابقاً لمبادئه وإيمانه وعقيدته، فلا يختلف موقفه عن التزاماته الإيمانية. فالصّدق يمثّل الارتباط بالحقيقة والالتزام بالحق والابتعاد عن الباطل.

وفي مقابل الصدق هناك الكذب الذي يزيّف الواقع ويبتعد بالإنسان عن مبادئه عندما يتكلم بكلام لا يؤمن به، وعندما يحدِّث الناس بالأكاذيب ليُبعدهم عن الصورة الحقيقية للواقع، أو عندما يحدِّثهم عن تاريخ كاذب وضعه الوضَّاعون والكذّابون، أو عن مسألة تتعلّق بالأمن على غير ما هي في الواقع، فيؤدي ذلك الاهتزاز النفسي والواقعي. فإذا أخبر الإنسان بحديث سلبي لا واقع له، فإنّه يجعلهم يعيشون الخوف والقلق من خلال هذه المعلومات الكاذبة، وإذا حدّث بحديث عن الأمن بينما هو غير موجود في الواقع، فإنّه يجعل الناس يعيشون الاسترخاء والثقة حيال هذا الواقع، بينما تكون الحقيقة أن هناك أخطاراً تتحدّى الإنسان. ولذلك فإن مسألتي الصدق والكذب هما من المسائل التي قد تؤدّي إلى الاهتزاز أو إلى الاستقرار.

مواقع الصّدق ونتائجه
وقد تحدّث الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية عن النتائج التي يحصل عليها الصادقون يوم القيامة، عندما يقفون للحساب بين يديه، فنقرأ في سورة المائدة قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْـ فمن كان صادقاً في عقيدته وكلمته وموقفه، وصادقاً مع ربه ومع نفسه ومع الناس، فإنّه ينتفع بصدقه ـلَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ـ لأنهم صدقوا معه في عقيدتهم وإيمانهم، فجزاهم بصدقهم ـ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(المائدة:119)، لأنّ هذا النوع من الرضا المتبادل بين العبد وربه، يرفع من درجة الإنسان عند ربه، ويمنحه رضاه وحبه وجنّته، لأنّ الله تعالى يحبّ الصادقين باعتبار أنهم يمثّلون الحق ويبتعدون عن الباطل، وقد قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ}(الحج:62).
أمّا الصّدق في العهد مع الله، عندما يعاهد النّاس ربّهم، سواء في التزاماتهم الفردية أو في التزاماتهم مع الآخرين، أو في بيعتهم للقيادات الإسلامية الصالحة، وخصوصاً القيادات المعصومة، فإنّ الله يقول في هؤلاء: {منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ـ فقد عاهدوا الله بأن يقفوا مع الحق ويبتعدوا عن الباطل، وأن ينصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم ومواقفهم، وعاهدوا النَّاس بأن يعطوهم ما لهم من حق، وعاهدوا الأمّة بأن يأخذوا بأسباب الوحدة، وأن يقفوا ضد الّذين يريدون إسقاطها، وأن يقفوا مع الذين يريدون حريتها وعزّتها وكرامتها، وهذه هي المسيرة التي سار بها المؤمنون مع الأنبياء، ومع النبي محمّد(ص) في حال العسرة في مكة، وتحمّلوا في سبيلها الكثير من الضغط حتى استشهد بعضهم ـ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُـ شهيداً في الدفاع عن الله وعن رسوله وعن الإسلام ـ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُـ من ينتظر الدخول في معارك الإسلام ومواجهة الكفر والاستكبار ليقدّم نفسه للنصر أو الشهادة ـ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(الأحزاب:23)، فقد انطلقوا في الخطِّ المستقيم على رغم المعاناة الّتي عاشوها في الالتزام به، وعلى الرّغم من الترهيب والترغيب والإغراءات الصعبة الّتي واجهوها ليبدّلوا خطهم، وليتراجعوا عن التزامهم الإيماني، ولكنّهم لم يبدّلوا، بل ثبتوا على الحق الذي آمنوا به والمبدأ الذي التزموه.

وهذه الكلمة كانت كلمة كربلاء، ذلك أنّه عندما كان يبرز أي صحابي من أصحاب الإمام الحسين(ع)، أو أيّ شخص من أهل بيته للقتال، كان يأتي الإمام الحسين(ع) ليودّعه،فيعطيه هذا الوسام: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب:23)، وهكذا كان كلّ شهداء كربلاء الصادقين في عهدهم مع الله.

وفي آية أخرى يقول سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِـ وفي مقدّم الصّادقين رسول الله(ص) الصّادق الأمين. والصدق يمثّل الإسلام كلّه، في كتاب الله وسنّة رسوله، وفي كلّ ما قرره رسول الله وما ألهمه الله إيّاه وما تحرّك به ـ وَصَدَّقَ بِهِـ فهو لم يدعُ النّاس إلى التّصديق بالمبادئ دون أن يصدّق بها، كما يفعل البعض استغلالاً للآخرين، لأنّ الأنبياء والأولياء والدعاة إلى الله، يبلّغون الناس ما يؤمنون به ويلتزمونه بصدق ـ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَـ لأنّهم يراقبون الله في كلماتهم ومواقفهم وعلاقاتهم وحركاتهم ـ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}(الزمر:32-34)، وأيُّ إحسان أفضل من أن يكون الإنسان صادقاً مع ربه ومع نفسه ومع الناس؟!

الصّدق في القرآن والحديث
ويحدّثنا الله تعالى عن نموذجٍ من الصادقين، يقول سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَـ الذين كانوا مع رسول الله في مكّة، وتحمّلوا معه كل الآلام والعذابات وهاجروا معه ـ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ـ في ميادين الحرب والسلم ـأُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر:8).
وقد ورد عن رسول الله(ص): «عليكم بالصدقـ الصدق في كل المواقع ـ فإنه باب من أبواب الجنّة».
وجاء عن الإمام عليّ(ع): «الصدق أمانة ـ لأنّ الصدق هو الحق، والحق أمانة الله عند عباده ـ والكذب خيانة». وعنه(ع): «الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك ـ أن تؤثر الصّدق وإن كان فيه الضّرر والخسارة المادّيّة ـ على الكذب حيث ينفعك».
ويتحدَّث رسول الله(ص) عن الأساس الّذي يمكن للإنسان من خلاله أن يحكم على إيمان الإنسان الآخر، يقول(ص): «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم باللَّيل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة»، فانظروا في حديث هذا الإنسان، هل يصدق إذا حدّث؟ ويؤدّي الأمانة إذا أؤتمن؟ عندها يمكن أن تحكموا بأنّه مؤمن.
وورد عن الإمام الصادق(ع): «لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحشـ بعض الناس تكون الصلاة والصوم عادة بالنسبة إليه ـ ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة».
وفي حديث آخر للإمام الصادق(ع) يقول: «إنَّ الله لم يبعث نبيّاً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة»، فالأنبياء جاؤوا من أجل أن يدعوا الناس ليكونوا الصادقين في أحاديثهم، والأمناء فيما يؤتمنون عليه، وقد كان النبي(ص) قبل أن يبعث بالنبوّة معروفاً بالصدق والأمانة، حتى غلبت هذه الصفات على اسمه، حتى إنّه بعد أن بُعث بالرسالة وعاش الصراع مع قومه، كانوا لا يأتمنون أحداً غيره، وتذكر كتب السيرة أنّه عندما هاجر(ص) إلى المدينة، ترك عليّاً(ع) في مكة ثلاثة أيام من أجل أن يؤدي إلى النّاس ودائعهم التي كانت عنده.

وفي الختام، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(التوبة:119)، بمعنى أنّكم عندما تريدون أن تتّبعوا شخصاً أو تساعدوه أو تناصروه أو تكونوا من جماعته، فانظروا هل هو من الصادقين، فإن كان صادقاً كونوا معه، لأنّكم بذلك تكونون مع الصدق ومع الحق الذي يتجسّد فيه. ونحن في هذه الأيام مقبلون على الانتخابات التي تكثر فيها الإغراءات المالية والوعود مقابل التصويت للباطل والفاسد، وهذا أمر محرّم، والمال الّذي يؤخذ هو مال سحت وحرام، لأنّ الإنسان عندما يعطي موقفه وصوته لإنسان لا يستحقه، فهو بذلك يكون خائناً لله ولرسوله وللمؤمنين وللأمة كلّها. لذلك على الإنسان إذا أراد أن يكون مع أيّة قيادة، فلينظر هل إن هذه القيادة من الصادقين فيتّبعها، أو من الكاذبين ليبتعد عنها.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

غزّة: استمرار الحصار
لا تزال الحرب على المقاومة في فلسطين تتحرّك على أكثر من صعيد، بعد انتهاء العدوان العسكري الكبير على قطاع غزّة، حيث يستمرّ الحصار الجائر على الشعب الفلسطيني من طريق إغلاق المعابر، حتّى العربيّة منها، إضافةً إلى الضغط الدولي الممارس من قبل الدول المستكبرة لفرض إرادتها على الشعب الفلسطيني الصابر والمقاوِم، بعد عجز آلة الحرب الإسرائيليّة عن هزيمة إرادته.

ولقد التقينا ـ في الأسبوع الماضي ـ بآكثر من موقف يؤكّد استمرار الانحياز المطلق للإدارات الغربيّة وكثير من المنظّمات والمؤسّسات الدولية إلى العدوّ الإسرائيلي العنصري والإرهابي المجرم، وقد سمعنا تصريح المفوّض الأوروبي للتنمية الذي وصف حركة المقاومة "حماس" بالإرهابيّة، مؤكّداً أنّ الحوار معها يتوقّف على قبولها بحقّ إسرائيل في الوجود، والتخلّي عن المقاومة التي تمثّل البعد الإرهابي لحركتها، كما يقول، وليس بعيداً من ذلك، موقف الدول الأوروبيّة التي سارعت بعد الحرب إلى الوقوف في صفّ العدوّ الصهيوني المجرم ضدّ الشعب الفلسطيني شبه الأعزل، وضدّ مقاومته التي انطلقت كردّ فعلٍ على الاحتلال، هذا الموقف الأوروبي يعكس حال الانحدار الأخلاقي والحضاري إزاء المجازر الأكثر وحشيّة في التاريخ التي ارتكبتها إسرائيل في الماضي، وفي غزة بالأمس القريب والتي لا مثيل لوحشيتها في التاريخ، علماً أنها تهدد بارتكاب الكثير من هذه المجازر، وهو الموقف نفسه الذي تتَّخذه الولايات المتحدة الأمريكية على لسان رئيسها الذي يتحدّث عن الأمن لإسرائيل مقابل المساعدات للفلسطينيّين، وعلى لسان مسؤوليها، حيث تتحدّث وزيرة الخارجيّة أن استفزاز حماس، هو الذي يجعل إسرائيل تمارس حق الدفاع عن النفس، وكأنّها تمنح إسرائيل الحرّية في العودة إلى مسلسل الإجرام والقتل والتشريد ضدّ الشعب الفلسطيني.

والسؤال: أيّ دورٍ للولايات المتحدة الأمريكية كوسيط رئيس في قضيّة فلسطين مع كونها الداعم الرئيس للاحتلال الإسرائيلي دبلوماسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاَ؟

التزام دولي بأمن إسرائيل
لقد بات واضحاً أنَّ الثابت الأكبر في سياسات الدول المستكبرة الخارجية، هو أمن الكيان الإسرائيلي الغاصب، الذي قام على أساس القتل والتدمير والاحتلال والإرهاب، إضافةً إلى تهديد أمن المنطقة بأسرها، هذا الكيان الذي هو الوحيد في العالم المتمرِّد على القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان  والذي لا يخضع لأي محاسبة، لأنّه يحظى بدعم أميركي يتجاوز كل القوانين والأعراف، ولذلك لم نفاجئ بإعلان المبعوث الأميركي (ميتشل) بأن لإسرائيل ما تختاره في محاربة ما أسماه الإرهاب لأن أمريكا لا تزال تتطلَّع إلى مصالحها في المنطقة من زاوية الأمن الإسرائيلي ولا سبيل إلى تغيير ذلك إلا بمواقف عربيّة وإسلامية ضاغطة والعرب مشغولون بإثارة النـزاعات فيما بينهم، وبالإعلان عن افتقادهم للقوة وعناصر الضغط لأنهم كفوا عن الوقوف مع قضاياهم وآثروا مآربهم الشخصية على مصالح أمتهم.

إلى ذلك، فقد بدأ واضحاً مدى الضعف الذي أصاب منظّمة الأمم المتحدة، إلى الدرجة التي ينتظر فيها أمينها العام نتيجة التحقيق الإسرائيلي، علماً أنّ كيان العدوّ أعلن قراره بتوفير الحماية لجنوده وضبّاطه من أيّ ملاحقة قانونية لدى المحاكم الدوليّة... وعلى هذا الأساس، ثمّة شكوكٌ حقيقيّة في إمكان إجراء الأمم المتَّحدة تحقيقاً في جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة التي ارتكبتها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني؛ لأنّ الكيان العبري يبقى فوق النقد حتى فيما يشبه بيانات الإدانة ومن هنا تحوم الشكوك حول صدقية المنظمة الدولية في حركتها السياسية والقضائية.

فلسطين: الحفاظ على المكتسبات في غزة
إنّ هذا الواقع، يفرض على الفلسطينيين، وعلى الدول العربيّة والإسلامية، إدراك أنّ خط المفاوضات ومسلسل التنازلات لم يرجع عليهم إلا بالمزيد من الضعف، والإمعان في الإذلال؛ فكيف يمكن اللجوء إلى المفاوضات، والسياسة الإسرائيلية، ومن ورائها الأمريكية، تعمل على تغيير الوقائع على الأرض، وتأكيد قواعدها للّعبة باستمرار... علماً أن هناك أكثر من قرار لمجلس الأمن يتعلّق بالقضيّة الفلسطينية والاحتلال واللاجئين، فليتحرك هذا العالم ليفرض احترام مجلس الأمن الذي لا تحترم فيه إلا القرارات التي تشرّع بلادنا على المزيد من القتل والتدمير والنهب واللعب بالمستقبل.

إنّنا نعيش في عالمٍ لا يُحترم فيه إلا الأقوياء، فهل نقف يوماً لنحافظ على عناصر القوّة لدينا وتنميتها ـ نقولها للفلسطينيّين جميعاً، وللعرب وللمسلمين ـ أم نبقى نتحرّك على أساس تدمير كلّ واقعنا من طريق تمزيق كلّ أوراق القوّة لدينا، وتجميد كلّ حالة للضغط الواقعي على الدول المستكبرة لتراعي ولو الحدّ الأدنى من مصالحنا الحيويّة وقضايانا المصيريّة؟!

ونقول للفلسطينييّن: لقد تحقّق لكم برغم الجراح والآلام،  شيء كبير في غزّة، تستطيعون أن تبنوا عليه في مسيرة إزالة الاحتلال عن فلسطين، فلتنطلق الجهود جميعها في سبيل الحفاظ على المكتسبات، وعدم كشف الواقع الفلسطيني أمام المزيد من العبث الإقليمي والدولي، لتكون مصلحة الشعب الفلسطيني في عزّته وكرامته هي الميزان في كلّ المواقف.

هل يصنع الحوار لبنان الدولة؟
أمّا لبنان، فلا يزال يُثبت فيه كثير من السياسيّين، أنّهم لا ينطلقون في حجم الوطن والتحدّيات والتهديدات التي تعصف بالواقع كلّه، ويؤكّدون أنّهم غير معنيّين بصناعة القوّة لهذا البلد، ولا بتحصينه أمام المتغيّرات التي تلعب بمصير هذا الشعب يميناً وشمالاً، ويثبت فيه الكثيرون أنّهم غير معنيّين بالإنسان في لبنان، في اقتصاده وأمنه وسياسته العادلة، وأنّ الناس لدى الكثيرين هم مجرّد أرقام للانتخابات، ولتحقيق المصالح الشخصيّة والحزبيّة والطائفيّة، حتّى عندما تتعلّق المسائل بحقوق الناس في إعمار ما هدّمه العدوان الصهيوني قبل أكثر من عامين. والسؤال: هل يملك السياسيون في لبنان أن يقرّروا على طاولات الحوار أن ينتقلوا بلبنان من بلد المزرعة إلى بلد المؤسّسات، ومن بلد المحاصصة إلى بلد القانون، ومن البلد المرتهن للعبة المحاور الإقليمية والدولية إلى البلد القويّ الذي يصنع قوّته الذاتيّة قبل أن يتسوّلها على أبواب السياسات الدولية التي خبُرنا كيف تتحرّك، وإلى أين تصل بنا.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية