الإمام الحسن(ع)...قدوةٌ وأخلاق تجسّدت

الإمام الحسن(ع)...قدوةٌ وأخلاق تجسّدت
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الإمام الحسن(ع)...قدوةٌ وأخلاق تجسّدت

 

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].


التربية والرعاية النبوية
من أهل هذا البيت، الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، الذي صادفت ذكرى وفاته في السابع من هذا الشهر؛ شهر صفر. وقد كان الإمام الحسن(ع) أول وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وكانت ولادته في السنة الثانية للهجرة.

عاش الإمام الحسن(ع) طفولته الأولى في أحضان جدّه رسول الله ووالديه علي وفاطمة، ثم ولد بعده أخوه الإمام الحسين(ع)، وقد ملآ كل مشاعر رسول الله(ص) العاطفية والنفسية بعد فقده ولده إبراهيم، فكانا ـ كما عبّر في بعض الأحاديث المروية عنه ـ بمثابة ابنيه، وقد قال(ص): "هذان إبناي". وكان(ص) رغم كل ما يمتلكه من جلالة القدر وعظمة في المقام وسموّ في المكانة عند المسلمين، كان يحضنهما ويركبهما على ظهره ويقول: "نعم الجمل جملكما، ونعم الراكبان أنتما"، وقد طال(ص) السجود ذات يوم، وعندما فرغ من صلاته، سأله المسلمون عن ذلك، فقال: ولدي هذا (وأشار إلى الحسن) ركب على ظهري وأنا ساجد، فأحببت أن لا أزعجه.

وقد ورد في روايات أهل السنّة والشيعة، ومنها ما ورد في كنـز العمّال، عن النبيّ(ص)، أنّه قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". وهو ما رواه أحمد في مسنده أيضاً، وابن ماجة في سننه، وغيرهم. وهذه الكلمة إنّما قالها النبي(ص) وهما في طفولتهما الأولى، ليحدّث المسلمين عن مستقبلهما، وأنّ في قربهما من الله وإخلاصهما له، وفي دعوتهما إليه تعالى، وفي إصلاح دين جدهما، وفي جهادهما في سبيل الله، أن مستقبلهما هو مستقبل الشخصين اللذين يعيشان في الجنة كسيدين لشباب أهل الجنة.

وهناك الحديث الذي يرويه السنّة والشيعة على السواء، وهو حديث الكساء، إذ جاء في سنن الترمذي، بسنده عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي(ص)، قال: نزلت هذه الآية على النبي(ص):{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} [الأحزاب:33] في بيت أم سلمة، فدعا النبي(ص) فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء، وعلي خلف ظهره، ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً". قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: "أنت على مكانك وأنت إلى خير". وهذا يمثل الرد على الذين يقولون إن هذه الآية نزلت في نساء النبي(ص)، فأم سلمة كانت من نسائه، ولكن النبي خصص أهل بيته بهم فقط دون غيرهم. وقد روي هذا الحديث عن أم سلمة ومعقل بن يسار وأبى الحمراء وأنس بن مالك .

الإمام الحسن(ع) مجمع الخلق الرسالي
وروى ابن عساكر بسنده عن زيد بن أرقم ، قال: "كنت عند النبي(ص)، في مسجده، فمرت فاطمة (عليها السلام) خارجة من بيتها إلى حجرة الرسول ومعها ابناها الحسن والحسين، ثم تبعها علي(ع)، فرفع رسول الله(ص) رأسه إليّ فقال: "من أحب هؤلاء فقد أحبني، ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني". وفي الرواية عن البراء بن عازب قال: "رأيت رسول الله(ص) واضعا الحسن بن علي(ع) على عاتقه وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه". وعن أنس بن مالك قال: "لم يكن أحد أشبه برسول الله من الحسن بن علي"، بحيث كان الناس إذ اشتاقوا إلى رسول الله(ص) بعد غيابه، نظروا إلى الحسن(ع) ليروا فيه صفاته".

وذكر غير واحدٍ من العلماء: "أن الحسن(ع) كان من أوسع الناس صدراً، وأسجحهم خلقاً"، بحيث كان يمتص كل إساءات الناس إليه، ويحلم عنهم، ولا يواجه السيئة بالسيئة بل يقابلها بالحسنة، لأن ذلك هو خلق رسول الله(ص)، والذي تربى عليه الحسن والحسين(ع). وقال المدائني: "كان الحسن(ع) أكبر ولد علي، وكان سيداً سخياً حليماً، وكان رسول الله(ص) يحبه".

وروى الصدوق في الأمالي بإسناده عن الصادق عن أبيه عن جده(ع): "أن الحسن بن علي بن أبي طالب كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حج حج ماشياً، وربما مشى حافياً، ولا يمر في شيء من أحواله إلا ذكر الله سبحانه، وكان أصدق الناس لهجةً، وأفصحهم منطقاً، وكان إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول: إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم"... وروي أنّه كان إذا توضأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: "حق على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفرَّ لونه، وترتعد مفاصله".
وروى محمد بن إسحاق في كتابه قال: "ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ما بلغ الحسن، كان يُبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق ـ هيبةً له ـ فما مر أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فمر الناس، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً، فما من خلق الله أحد رآه إلا نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقاص يمشي". وروي أنّ الحسن(ع) قاسم ربّه ماله مرتين.

وممّا رواه المبرّد وابن عائشة عن حلمه وسعة صدره وأخلاقه العظيمة: أنّ شامياً ـ من جماعة معاوية ـ رآه راكباً، فجعل يلعنه، والحسن لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن عليه وضحك وقال: "أيها الشيخ، أظنك غريباً ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنياك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً"، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحبّ خلق الله إلي. وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.

وكان الإمام الحسن(ع) وأبوه الإمام عليّ(ع)، يؤكدان ضرورة كتابة العلم، وكان العلم أحاديث رسول الله(ص)، وكان الخليفة عمر بن الخطاب لا يقبل بذلك، لأنه، كما يقول، يخاف أن يختلط بالقرآن، وهذا أمر غير تام وغير دقيق، لأن للقرآن أسلوبه وللحديث أسلوبه. وينقل السيوطي حول ذلك، أنه كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كبير في مسألة كتابة العلم، إذ كرهها كثير منهم، وأباحها طائفة وفعلوها، منهم علي وابنه الحسن.

وكانت طفولة الحسن(ع) في أحضان النبي(ص) مدة ثماني سنوات، وعاش مع أمه الطاهرة المعصومة السيدة فاطمة الزهراء(ع)، وكان يراقبها وهي تصلي صلاة الليل وتقوم حتى تتورم قدماها، وهي التي كانت في المستوى العالي من العبادة والإخلاص لله تعالى، وكان(ع) يستمع إليها وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وكانت(ع) تعاني من ضعف في البدن ومن بعض حالات المرض، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن تدعو لنفسها، فقال لها يوماً: "يا أماه، لم لا تدعين لنفسك؟ فقالت(ع):يا بنيّ، الجار ثمّ الدار".

الحسن(ع) نفس أبيه في عقله وجهاده
وعاش(ع) في شبابه مع أبيه عليّ(ع) كل التعقيدات التي واجهت أباه بعد رسول الله(ص)، ورأى كيف أخلص أبوه للإسلام، وهو الذي أُبعد عن حقه الشرعي في الخلافة، وكيف كان ينصح مَنْ تقدّمه وأبعده عن حقه ويقدّم له المشورة، وكيف كان يحفظ حياتهم، لأن مصلحة الإسلام عند عليّ(ع) كانت مقدَّمة على مصلحته الخاصة، ولأن حبّه لله ولرسوله كان أكبر من حبّه لنفسه، وقد عاش الحسن(ع) عقل أبيه وحركته وجهاده وصبره، وكان عليّ(ع) يثق به وبولده الحسين، فكان يصطحبهما معه في كل المواقع الصعبة.

وعندما انتفض جماعة طلحة والزبير في الكوفة، أرسل علي(ع) ولده الحسن ومعه عمار بن ياسر، فوقف(ع) الموقف القويّ، وقام فيهم خطيباً يعرّفهم مكانة عليّ من رسول الله وشرعيته. حتى إن عليّاً كان يُرجع الناس إلى ولده الحسن ليسألوه، ليبيّن لهم أنه يملك علم جدّه وأبيه، وأنه(ع) الشخص المؤهّل لخلافته من بعده، ولكن علياً(ع) ذهب إلى ربه واختلطت الأوضاع في المجتمع الإسلامي بفعل مؤامرات معاوية، وانطلقت الحرب بين الحسن ومعاوية، واضطر(ع) إلى عقد صلح معه من دون أن يمنحه الشرعية، على أساس حفظ الواقع الإسلامي والمعارضة الإسلامية المتمثلة بالسائرين في خط ولاية عليّ(ع)، ثم سافر من الكوفة إلى المدينة يعلّم الناس ويرشدهم، حتى دسّ له معاوية السمّ على يد زوجته جعدة بنت الأشعث، الذي منّاها أن يزوّجها ابنه يزيد وأعطاها المال.

وصيته(ع) لأخيه الحسين(ع)
وورد في وصية الإمام الحسن(ع) لأخيه الحسين(ع): "هذا ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين بن علي، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه يعبده حق عبادته، لا شريك له في الملك، ولا ولي له من الذل، وأنه خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأنه أولى من عُبِد وأحق من حُمِد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى. فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنني مع جدي رسول الله(ص)؛فإني أحقّ به وببيته، فإن أبت عليك الامرأة ـ وهي عائشة التي كانت تعتبر أن بيت النبي بيتها ـ فأنشدك بالقرابة التي قرب الله (عز وجل) منك، والرحم الماسة من رسول الله(ص)، أن لا تهريق فيَّ محجمةً من دم حتى نلقى رسول الله(ص)، فنختصم إليه، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده". ثم قُبض(ع).

وعندما أراد الحسين(ع) أن يدفن الحسن(ع) عند رسول الله، انطلق بنو أمية بقيادة مروان بن الحكم ليمنعوه من ذلك، فدفنه في البقيع مع جدته فاطمة بنت أسد.

لقد كان الإمام الحسن(ع) القمة في العلم والروحانية والإخلاص لله ولرسوله، والقمة في الأخلاق وسعة الصدر، وكان القدوة لكل مسلم، والسلام عليه يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

السعي لتكريس الانقسام الفلسطيني
تتواصل الحرب الإسرائيلية على الشَّعب الفلسطيني بأشكال جديدة، وأساليب مختلفة، مشفوعةً بتغطية سياسية وإعلامية غربية، وبضغوط عربيَّة تستهدف الدفع بالفلسطينيين إلى الفخِّ الإسرائيلي، للتسليم بالشروط الإسرائيلية التي توفِّر المناخ السياسي الملائم للانتخابات الصهيونية، بعدما حاولت آلة الحرب طوال ما يزيد على ثلاثة أسابيع أن تمهّد الطريق الأمني لذلك دونما جدوى.

إن ما يحدث في المنطقة في هذه الأيام يمثل الترددات للزلزال الذي أحدثته غزة عربياً وإسلامياً، وحتى دولياً، على الرغم من قسوة الحرب ووحشيتها، ومن حجم التواطؤ الذي استهدف الشعب الفلسطيني... وما نشهده في هذه الأيام من لقاءات تمثل الامتداد للتِّقاءات والقمم العربية، لا يبتعد عن كونه محاولات جديدة للدفع بالاتجاه نفسه الذي تحركت فيه الدبابات الإسرائيلية، بهدف سَوْق الفلسطينيين إلى الاستسلام الذي يُنهي قضيتهم تحت عنوان "حل قضية الشرق الأوسط".

إنني أعتقد أن العرب، على مستوى الكثير من الأنظمة، لا يخلصون للقضية الفلسطينية، ولا يعملون لتوحيد الفلسطينيين من خلال حوار هادئ وبنّاء، بل يتطلعون إلى تأمين صدقية وأهمية لمحور هنا ولشخصيات سياسية هناك، وهي التي وجدت نفسها محرجةً أمام هول ما حدث في غزة، وفي ظل اتساع الهوّة مع شعوبها، ولذلك أرادت أن تكرّس الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، وأن تُحدث مشكلةً في الواقع العربي والإسلامي تحت عناوين ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب والانقسام.

ولعلَّ ما يبعث على الأسى والأسف، أن ينطلق الصوت من داخل السلطة الفلسطينية برفض الحوار مع من لا يعترف بمنظمة التحرير، التي لم نجد لها أي موقف في أثناء الحرب كما لو فقدت الحياة، مع أن هؤلاء يحاورون العدو الذي لا يعترف بالشعب الفلسطيني، ليستكمل هؤلاء وأولئك الهجمة المنظَّمة على الشعب الفلسطيني، وعلى قضيته التي يراد لها أن تكون رهينةً في ساحة "الاعتدال العربي"، قبل أن يُصار إلى تسليمها للراعي الأميركي الذي يتطلّع إلى تسليمها للعدو جثّةً هامدةً باسم منع تهريب السلاح، متجاوزاً مسألة الاحتلال التي تمثل أصل المشكلة، والتي يحاول الإعلام العالمي وبعض الإعلام العربي أن يقفز فوقها، فلا يرى أمامه إلا صواريخ تُطلق، وعبوات تُزرع، ويتناسى أنها لم تنطلق إلا كرد فعل على الاحتلال الذي لم يترك مجالاً من مجالات الوحشية والعدوانية إلا وخاضه.

إننا في الوقت الذي نؤكد أنّ على الفلسطينيين، بكلِّ مكوّناتهم السياسية، أن يسارعوا إلى تلمّس طريق الحوار والوحدة الداخلية، ندعو الأطراف العربية والإسلامية إلى تحمّل مسؤولياتها في الامتناع عن وضع العصيّ في دواليب الحوار الفلسطيني، لأننا نعتقد أن طريق الحوار ينبغي أن ينطلق من خلال الحاجة الفلسطينية الداخلية، لا من خلال الشروط التي تفرضها إسرائيل وتريد للعرب أن يعملوا على تسويقها.

القدس: مؤامرة تهديم الأقصى
وفي موازاة ذلك، وفي الوقت الذي يتعرّض المسجد الأقصى لمؤامرة جديدة تهدف إلى جعله ينهار بفعل الحفريات التي ازدادت مؤخراً، وأدت إلى سقوط عدد من الإصابات، ندعو جميع الحقوقيين العرب والمسلمين، وكل أولئك الذين انتصروا للشعب الفلسطيني المظلوم من أنصار الحرّية في العالم، إلى أن يسعوا بكل إمكاناتهم وطاقاتهم لملاحقة المسؤولين في قيادات العدو وجيشه على الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها في غزة، لأننا نعتقد أن معركة غزة لم تنتهِ، وأن بالإمكان محاصرة العدو في نتائجها الإنسانية وملاحقته دولياً، ليتحمَّل كل فريق مسؤوليته بحسب إمكاناته، بعدما تحمّل الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة وزر المواجهة الكبرى في حرب غير متكافئة، ولكنها كانت النموذج في إرادة صنع القوة على مختلف المستويات.

العراق: افتتاح عهد سياسي جديد
وفي المسألة العراقية، نطلَّ على انتخابات مجالس المحافظات، والتي برزت فيها مشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي والعرقي والديني في العراق، بما يؤسس لمرحلة من المشاركة السياسية المتوازنة على مستوى السلطة، وبما يطل على آفاق سياسية للوحدة الداخلية لم تكن متوافرةً بهذا المستوى من قبل.

إننا نريد للشعب العراقي أن يستفيد من هذه التجربة، لتكون منطلقاً له في تعزيز وحدته الداخلية، وتعاون مكوّناته السياسية، بعيداً من العناوين المذهبية أو العرقية وغيرها، وصولاً إلى الغاية الكبرى التي يتطلّع إليها هذا الشعب العزيز في بناء العراق الحر الموحَّد بعد إخراج المحتل من كل الأراضي العراقية، وتحرير العراق وطناً وأرضاً وقراراً.

إيران: انتصارات سياسية وعلمية
وفي مجال آخر، نلتقي في هذه الأيام بالذكرى الثلاثين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، هذه الثورة التي انطلقت من الخط الإسلامي الذي عاش في فكر الإمام الخميني (قده)، والذي بقي الإسلام كمنطلق للحكم والشريعة والحياة في قلبه وفكره، حيث كتب عن الحكومة الإسلامية منذ كان في النجف.

وقد سارت الثورة في خطى هذا الإمام الكبير، وحاولت أن تنفتح على الإسلام في تجاربها المتعددة، وعلى الحركات الإسلامية، وعلى أحرار العالم، كما انفتحت على القضية الفلسطينية وبقيت وفيّةً لها، فلم تتنازل عن احتضانها ورعايتها ودعم الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة، على الرغم من الإغراءات الهائلة التي انهالت عليها عالمياً.

إننا في الوقت الذي نعرف أن الثورة حاولت أن تجسّد الإسلام في كل حركتها وتوجهاتها، وخصوصاً في ظل الضغوط الكبيرة التي عملت على محاصرتها والإطباق على مسيرتها، إلا أننا نعتقد أن الإسلام ظل الهاجس الذي التزمته قيادات الجمهورية الإسلامية، ولذلك فنحن ندعو الحركات الإسلامية، بمختلف انتماءاتها المذهبية وتوجهاتها السياسية، إلى الانفتاح على هذه التجربة، ورفدها بالنصيحة الإسلامية، وبالموقف السياسي الإسلامي الذي يتطلّع إلى مصلحة الإسلام والمسلمين والأمة كلها.

لقد جعلت الثورة الإسلامية من قاعدتها في حركتها السياسية موقعاً قوياً متحركاً ضد الظلم والظالمين، والاستكبار والمستكبرين، وآلت على نفسها أن تقف مع المستضعفين في العالم، ودخلت في ساحة الصراع مع كل هذه القوى الطاغية التي أعلنت الحرب عليها تحت وابل من عناوين الإثارة والعصبية، تارةً من خلال الحديث عن المذهبية الشيعية، وأخرى من خلال تحريك عنوان القومية الفارسية، ولا تزال أمريكا، ومعها حلفاؤها في أوروبا وحتى في العالم العربي والإسلامي، تسعى لعزل إيران من خلال استخدامها العنوان النووي وغيره، ولكننا نعتقد أن كل هذه الأساليب ستفشل أمام إيران التي تسلك طريق الرشد السياسي من خلال قيادتها الإسلامية الواعية والحكيمة.

ونحن في الوقت الذي نبارك للجمهورية الإسلامية خطوتها النوعية الأخيرة بإطلاق أول قمر اصطناعي للاتصالات محلي الصنع، ونجاح هذه الخطوة التي تمثل واحدةً من الإنجازات الكبرى للثورة على خط الاكتفاء الذاتي في مسيرة التطور العلمي والتكنولوجي، وفي مجال الدفاع الذاتي بمواجهة العدو الصهيوني ومن يكيدون لإيران الإسلام، نريد للمسلمين جميعاً، وللأمة كلها، أن تستفيد من تجارب الجهورية الإسلامية في إيران، ليس على مستوى حركية الحكم والاستقلال في القرار الذاتي فحسب، بل على مستوى التطور العلمي الذي يصوّب عليه الأعداء، ويخشاه ضعاف النفوس، أولئك الذين يمعنون في السير في خطّ الضعف، لأنهم يخافون من أن تتقدّم الأمة في مسيرتها العلمية والجهادية بما يفتح عيون العالم عليها، وخصوصاً العالم المستكبر والظالم.

لبنان: ابتعاد القيم الأخلاقية عن الخطاب السياسي
أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن السياسة اللبنانية ـ في كثير من نماذجها ـ ابتعدت عن الجانب الأخلاقي، وأضحت القيم الأخلاقية مستبعَدة من الحركة السياسية، وحتى من التعبيرات السياسية، وقد دخل ملف التنصّت، بمستوره ومفضوحه، على الخط بما يمقته الناس الذين استذكر بعضهم الحقبة الماضية، حيث كان الزوج يتكلم بحذر شديد حين يتحدث مع زوجته، أو التاجر مع شركائه، أو المواطن مع أقرانه، بما يمثل تجسيداً لديكتاتورية الملاحقة والقمع، بعيداً عن الذرائع الأمنية التي يتحدث المسؤولون عنها.

ونحن نستغرب مواصلة المسؤولين والسياسيين سجالاتهم الداخلية بهذه الطريقة الاستعراضية، فيما يستعرض العدو عند الحدود مع فلسطين المحتلة، ويبعث ـ عبر وزير حربه ـ بالمزيد من التهديدات، ويتحدث بلغة الحرب إذا امتلكت المقاومة صواريخ أرض جو التي قد تهدد حركته العدوانية اليومية فوق الأراضي اللبنانية، ولعل ما يبعث على الاستهجان أكثر، أن الذين يستهلكون الحديث حول سلاح المقاومة والاستراتيجية الدفاعية لا يحركون ساكناً، كما أن الدولة توحي في كل حركتها السياسية والأمنية الصاخبة أنها لم تعدّ العدة لهذا الموضوع، فضلاً عن صمت "اليونيفيل" والمجتمع الدولي الذي لا يفكر إلا في أمن إسرائيل ولو تمّ تدمير الأمن العربي واللبناني والإسلامي كله.

إننا أمام هذا الواقع، ندعو الجميع إلى سحب سجالاتهم الداخلية بعناوينها الخلافية لحساب التصدي لمخططات العدو ومكائده وأفخاخه، والتي تستهدف لبنان حجراً وبشراً وموقعاً، كما ندعو إلى إخراج المواضيع السجالية، بصناديقها المختلفة، وعناوينها المتعددة، من الدوائر المذهبية ومن لعبة المحاصصة الطائفية، لمصلحة الوطن في قضاياه الكبرى، ولمصلحة الأمة في قضاياها العليا.

تحية إلى سفينة أصحاب المواقف الحرّة
وأخيراً، إننا نحيّي سفينة الأخوة اللبنانية وركابها، وعلى رأسهم صاحب المواقف الحرّة المطران هيلاريون كبوجي، والجهات التي ساهمت في هذه المبادرة الرمزية ذات الدلالة الكبرى في التضامن مع أهلنا في غزة... ونقول للدولة اللبنانية والمقاومة: إن هذا الاعتداء على السفينة اللبنانية بات في عهدتهم للرد على هذا العدوان بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.. ونقول للعرب والمسلمين وكل الأحرار إنّ عليهم القيام بخطوات تضامنية مماثلة من شأنها كشف العدو الذي لا يقيم وزناً للقوانين الدولية، والذي ينبغي العمل لفضحه وتعريته على المستويات الإعلامية والسياسية والإنسانية وغيرها. كما نقول لما يسمّى المجتمع الدولي، وعلى رأسه أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، إنّك قد كشفت عن وجهك البشع مجدداً أمام هذه الغطرسة والقرصنة الإسرائيلية الجديدة، لأنك لا تحترم حقوق الإنسان إلا إذا كان يهودياً أو كان يسير في خط مصالحك.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الإمام الحسن(ع)...قدوةٌ وأخلاق تجسّدت

 

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].


التربية والرعاية النبوية
من أهل هذا البيت، الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، الذي صادفت ذكرى وفاته في السابع من هذا الشهر؛ شهر صفر. وقد كان الإمام الحسن(ع) أول وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وكانت ولادته في السنة الثانية للهجرة.

عاش الإمام الحسن(ع) طفولته الأولى في أحضان جدّه رسول الله ووالديه علي وفاطمة، ثم ولد بعده أخوه الإمام الحسين(ع)، وقد ملآ كل مشاعر رسول الله(ص) العاطفية والنفسية بعد فقده ولده إبراهيم، فكانا ـ كما عبّر في بعض الأحاديث المروية عنه ـ بمثابة ابنيه، وقد قال(ص): "هذان إبناي". وكان(ص) رغم كل ما يمتلكه من جلالة القدر وعظمة في المقام وسموّ في المكانة عند المسلمين، كان يحضنهما ويركبهما على ظهره ويقول: "نعم الجمل جملكما، ونعم الراكبان أنتما"، وقد طال(ص) السجود ذات يوم، وعندما فرغ من صلاته، سأله المسلمون عن ذلك، فقال: ولدي هذا (وأشار إلى الحسن) ركب على ظهري وأنا ساجد، فأحببت أن لا أزعجه.

وقد ورد في روايات أهل السنّة والشيعة، ومنها ما ورد في كنـز العمّال، عن النبيّ(ص)، أنّه قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". وهو ما رواه أحمد في مسنده أيضاً، وابن ماجة في سننه، وغيرهم. وهذه الكلمة إنّما قالها النبي(ص) وهما في طفولتهما الأولى، ليحدّث المسلمين عن مستقبلهما، وأنّ في قربهما من الله وإخلاصهما له، وفي دعوتهما إليه تعالى، وفي إصلاح دين جدهما، وفي جهادهما في سبيل الله، أن مستقبلهما هو مستقبل الشخصين اللذين يعيشان في الجنة كسيدين لشباب أهل الجنة.

وهناك الحديث الذي يرويه السنّة والشيعة على السواء، وهو حديث الكساء، إذ جاء في سنن الترمذي، بسنده عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي(ص)، قال: نزلت هذه الآية على النبي(ص):{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} [الأحزاب:33] في بيت أم سلمة، فدعا النبي(ص) فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء، وعلي خلف ظهره، ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً". قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: "أنت على مكانك وأنت إلى خير". وهذا يمثل الرد على الذين يقولون إن هذه الآية نزلت في نساء النبي(ص)، فأم سلمة كانت من نسائه، ولكن النبي خصص أهل بيته بهم فقط دون غيرهم. وقد روي هذا الحديث عن أم سلمة ومعقل بن يسار وأبى الحمراء وأنس بن مالك .

الإمام الحسن(ع) مجمع الخلق الرسالي
وروى ابن عساكر بسنده عن زيد بن أرقم ، قال: "كنت عند النبي(ص)، في مسجده، فمرت فاطمة (عليها السلام) خارجة من بيتها إلى حجرة الرسول ومعها ابناها الحسن والحسين، ثم تبعها علي(ع)، فرفع رسول الله(ص) رأسه إليّ فقال: "من أحب هؤلاء فقد أحبني، ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني". وفي الرواية عن البراء بن عازب قال: "رأيت رسول الله(ص) واضعا الحسن بن علي(ع) على عاتقه وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه". وعن أنس بن مالك قال: "لم يكن أحد أشبه برسول الله من الحسن بن علي"، بحيث كان الناس إذ اشتاقوا إلى رسول الله(ص) بعد غيابه، نظروا إلى الحسن(ع) ليروا فيه صفاته".

وذكر غير واحدٍ من العلماء: "أن الحسن(ع) كان من أوسع الناس صدراً، وأسجحهم خلقاً"، بحيث كان يمتص كل إساءات الناس إليه، ويحلم عنهم، ولا يواجه السيئة بالسيئة بل يقابلها بالحسنة، لأن ذلك هو خلق رسول الله(ص)، والذي تربى عليه الحسن والحسين(ع). وقال المدائني: "كان الحسن(ع) أكبر ولد علي، وكان سيداً سخياً حليماً، وكان رسول الله(ص) يحبه".

وروى الصدوق في الأمالي بإسناده عن الصادق عن أبيه عن جده(ع): "أن الحسن بن علي بن أبي طالب كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حج حج ماشياً، وربما مشى حافياً، ولا يمر في شيء من أحواله إلا ذكر الله سبحانه، وكان أصدق الناس لهجةً، وأفصحهم منطقاً، وكان إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول: إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم"... وروي أنّه كان إذا توضأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: "حق على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفرَّ لونه، وترتعد مفاصله".
وروى محمد بن إسحاق في كتابه قال: "ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ما بلغ الحسن، كان يُبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق ـ هيبةً له ـ فما مر أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فمر الناس، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً، فما من خلق الله أحد رآه إلا نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقاص يمشي". وروي أنّ الحسن(ع) قاسم ربّه ماله مرتين.

وممّا رواه المبرّد وابن عائشة عن حلمه وسعة صدره وأخلاقه العظيمة: أنّ شامياً ـ من جماعة معاوية ـ رآه راكباً، فجعل يلعنه، والحسن لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن عليه وضحك وقال: "أيها الشيخ، أظنك غريباً ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنياك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً"، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحبّ خلق الله إلي. وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.

وكان الإمام الحسن(ع) وأبوه الإمام عليّ(ع)، يؤكدان ضرورة كتابة العلم، وكان العلم أحاديث رسول الله(ص)، وكان الخليفة عمر بن الخطاب لا يقبل بذلك، لأنه، كما يقول، يخاف أن يختلط بالقرآن، وهذا أمر غير تام وغير دقيق، لأن للقرآن أسلوبه وللحديث أسلوبه. وينقل السيوطي حول ذلك، أنه كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كبير في مسألة كتابة العلم، إذ كرهها كثير منهم، وأباحها طائفة وفعلوها، منهم علي وابنه الحسن.

وكانت طفولة الحسن(ع) في أحضان النبي(ص) مدة ثماني سنوات، وعاش مع أمه الطاهرة المعصومة السيدة فاطمة الزهراء(ع)، وكان يراقبها وهي تصلي صلاة الليل وتقوم حتى تتورم قدماها، وهي التي كانت في المستوى العالي من العبادة والإخلاص لله تعالى، وكان(ع) يستمع إليها وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وكانت(ع) تعاني من ضعف في البدن ومن بعض حالات المرض، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن تدعو لنفسها، فقال لها يوماً: "يا أماه، لم لا تدعين لنفسك؟ فقالت(ع):يا بنيّ، الجار ثمّ الدار".

الحسن(ع) نفس أبيه في عقله وجهاده
وعاش(ع) في شبابه مع أبيه عليّ(ع) كل التعقيدات التي واجهت أباه بعد رسول الله(ص)، ورأى كيف أخلص أبوه للإسلام، وهو الذي أُبعد عن حقه الشرعي في الخلافة، وكيف كان ينصح مَنْ تقدّمه وأبعده عن حقه ويقدّم له المشورة، وكيف كان يحفظ حياتهم، لأن مصلحة الإسلام عند عليّ(ع) كانت مقدَّمة على مصلحته الخاصة، ولأن حبّه لله ولرسوله كان أكبر من حبّه لنفسه، وقد عاش الحسن(ع) عقل أبيه وحركته وجهاده وصبره، وكان عليّ(ع) يثق به وبولده الحسين، فكان يصطحبهما معه في كل المواقع الصعبة.

وعندما انتفض جماعة طلحة والزبير في الكوفة، أرسل علي(ع) ولده الحسن ومعه عمار بن ياسر، فوقف(ع) الموقف القويّ، وقام فيهم خطيباً يعرّفهم مكانة عليّ من رسول الله وشرعيته. حتى إن عليّاً كان يُرجع الناس إلى ولده الحسن ليسألوه، ليبيّن لهم أنه يملك علم جدّه وأبيه، وأنه(ع) الشخص المؤهّل لخلافته من بعده، ولكن علياً(ع) ذهب إلى ربه واختلطت الأوضاع في المجتمع الإسلامي بفعل مؤامرات معاوية، وانطلقت الحرب بين الحسن ومعاوية، واضطر(ع) إلى عقد صلح معه من دون أن يمنحه الشرعية، على أساس حفظ الواقع الإسلامي والمعارضة الإسلامية المتمثلة بالسائرين في خط ولاية عليّ(ع)، ثم سافر من الكوفة إلى المدينة يعلّم الناس ويرشدهم، حتى دسّ له معاوية السمّ على يد زوجته جعدة بنت الأشعث، الذي منّاها أن يزوّجها ابنه يزيد وأعطاها المال.

وصيته(ع) لأخيه الحسين(ع)
وورد في وصية الإمام الحسن(ع) لأخيه الحسين(ع): "هذا ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين بن علي، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه يعبده حق عبادته، لا شريك له في الملك، ولا ولي له من الذل، وأنه خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأنه أولى من عُبِد وأحق من حُمِد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى. فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنني مع جدي رسول الله(ص)؛فإني أحقّ به وببيته، فإن أبت عليك الامرأة ـ وهي عائشة التي كانت تعتبر أن بيت النبي بيتها ـ فأنشدك بالقرابة التي قرب الله (عز وجل) منك، والرحم الماسة من رسول الله(ص)، أن لا تهريق فيَّ محجمةً من دم حتى نلقى رسول الله(ص)، فنختصم إليه، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده". ثم قُبض(ع).

وعندما أراد الحسين(ع) أن يدفن الحسن(ع) عند رسول الله، انطلق بنو أمية بقيادة مروان بن الحكم ليمنعوه من ذلك، فدفنه في البقيع مع جدته فاطمة بنت أسد.

لقد كان الإمام الحسن(ع) القمة في العلم والروحانية والإخلاص لله ولرسوله، والقمة في الأخلاق وسعة الصدر، وكان القدوة لكل مسلم، والسلام عليه يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

السعي لتكريس الانقسام الفلسطيني
تتواصل الحرب الإسرائيلية على الشَّعب الفلسطيني بأشكال جديدة، وأساليب مختلفة، مشفوعةً بتغطية سياسية وإعلامية غربية، وبضغوط عربيَّة تستهدف الدفع بالفلسطينيين إلى الفخِّ الإسرائيلي، للتسليم بالشروط الإسرائيلية التي توفِّر المناخ السياسي الملائم للانتخابات الصهيونية، بعدما حاولت آلة الحرب طوال ما يزيد على ثلاثة أسابيع أن تمهّد الطريق الأمني لذلك دونما جدوى.

إن ما يحدث في المنطقة في هذه الأيام يمثل الترددات للزلزال الذي أحدثته غزة عربياً وإسلامياً، وحتى دولياً، على الرغم من قسوة الحرب ووحشيتها، ومن حجم التواطؤ الذي استهدف الشعب الفلسطيني... وما نشهده في هذه الأيام من لقاءات تمثل الامتداد للتِّقاءات والقمم العربية، لا يبتعد عن كونه محاولات جديدة للدفع بالاتجاه نفسه الذي تحركت فيه الدبابات الإسرائيلية، بهدف سَوْق الفلسطينيين إلى الاستسلام الذي يُنهي قضيتهم تحت عنوان "حل قضية الشرق الأوسط".

إنني أعتقد أن العرب، على مستوى الكثير من الأنظمة، لا يخلصون للقضية الفلسطينية، ولا يعملون لتوحيد الفلسطينيين من خلال حوار هادئ وبنّاء، بل يتطلعون إلى تأمين صدقية وأهمية لمحور هنا ولشخصيات سياسية هناك، وهي التي وجدت نفسها محرجةً أمام هول ما حدث في غزة، وفي ظل اتساع الهوّة مع شعوبها، ولذلك أرادت أن تكرّس الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، وأن تُحدث مشكلةً في الواقع العربي والإسلامي تحت عناوين ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب والانقسام.

ولعلَّ ما يبعث على الأسى والأسف، أن ينطلق الصوت من داخل السلطة الفلسطينية برفض الحوار مع من لا يعترف بمنظمة التحرير، التي لم نجد لها أي موقف في أثناء الحرب كما لو فقدت الحياة، مع أن هؤلاء يحاورون العدو الذي لا يعترف بالشعب الفلسطيني، ليستكمل هؤلاء وأولئك الهجمة المنظَّمة على الشعب الفلسطيني، وعلى قضيته التي يراد لها أن تكون رهينةً في ساحة "الاعتدال العربي"، قبل أن يُصار إلى تسليمها للراعي الأميركي الذي يتطلّع إلى تسليمها للعدو جثّةً هامدةً باسم منع تهريب السلاح، متجاوزاً مسألة الاحتلال التي تمثل أصل المشكلة، والتي يحاول الإعلام العالمي وبعض الإعلام العربي أن يقفز فوقها، فلا يرى أمامه إلا صواريخ تُطلق، وعبوات تُزرع، ويتناسى أنها لم تنطلق إلا كرد فعل على الاحتلال الذي لم يترك مجالاً من مجالات الوحشية والعدوانية إلا وخاضه.

إننا في الوقت الذي نؤكد أنّ على الفلسطينيين، بكلِّ مكوّناتهم السياسية، أن يسارعوا إلى تلمّس طريق الحوار والوحدة الداخلية، ندعو الأطراف العربية والإسلامية إلى تحمّل مسؤولياتها في الامتناع عن وضع العصيّ في دواليب الحوار الفلسطيني، لأننا نعتقد أن طريق الحوار ينبغي أن ينطلق من خلال الحاجة الفلسطينية الداخلية، لا من خلال الشروط التي تفرضها إسرائيل وتريد للعرب أن يعملوا على تسويقها.

القدس: مؤامرة تهديم الأقصى
وفي موازاة ذلك، وفي الوقت الذي يتعرّض المسجد الأقصى لمؤامرة جديدة تهدف إلى جعله ينهار بفعل الحفريات التي ازدادت مؤخراً، وأدت إلى سقوط عدد من الإصابات، ندعو جميع الحقوقيين العرب والمسلمين، وكل أولئك الذين انتصروا للشعب الفلسطيني المظلوم من أنصار الحرّية في العالم، إلى أن يسعوا بكل إمكاناتهم وطاقاتهم لملاحقة المسؤولين في قيادات العدو وجيشه على الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها في غزة، لأننا نعتقد أن معركة غزة لم تنتهِ، وأن بالإمكان محاصرة العدو في نتائجها الإنسانية وملاحقته دولياً، ليتحمَّل كل فريق مسؤوليته بحسب إمكاناته، بعدما تحمّل الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة وزر المواجهة الكبرى في حرب غير متكافئة، ولكنها كانت النموذج في إرادة صنع القوة على مختلف المستويات.

العراق: افتتاح عهد سياسي جديد
وفي المسألة العراقية، نطلَّ على انتخابات مجالس المحافظات، والتي برزت فيها مشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي والعرقي والديني في العراق، بما يؤسس لمرحلة من المشاركة السياسية المتوازنة على مستوى السلطة، وبما يطل على آفاق سياسية للوحدة الداخلية لم تكن متوافرةً بهذا المستوى من قبل.

إننا نريد للشعب العراقي أن يستفيد من هذه التجربة، لتكون منطلقاً له في تعزيز وحدته الداخلية، وتعاون مكوّناته السياسية، بعيداً من العناوين المذهبية أو العرقية وغيرها، وصولاً إلى الغاية الكبرى التي يتطلّع إليها هذا الشعب العزيز في بناء العراق الحر الموحَّد بعد إخراج المحتل من كل الأراضي العراقية، وتحرير العراق وطناً وأرضاً وقراراً.

إيران: انتصارات سياسية وعلمية
وفي مجال آخر، نلتقي في هذه الأيام بالذكرى الثلاثين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، هذه الثورة التي انطلقت من الخط الإسلامي الذي عاش في فكر الإمام الخميني (قده)، والذي بقي الإسلام كمنطلق للحكم والشريعة والحياة في قلبه وفكره، حيث كتب عن الحكومة الإسلامية منذ كان في النجف.

وقد سارت الثورة في خطى هذا الإمام الكبير، وحاولت أن تنفتح على الإسلام في تجاربها المتعددة، وعلى الحركات الإسلامية، وعلى أحرار العالم، كما انفتحت على القضية الفلسطينية وبقيت وفيّةً لها، فلم تتنازل عن احتضانها ورعايتها ودعم الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة، على الرغم من الإغراءات الهائلة التي انهالت عليها عالمياً.

إننا في الوقت الذي نعرف أن الثورة حاولت أن تجسّد الإسلام في كل حركتها وتوجهاتها، وخصوصاً في ظل الضغوط الكبيرة التي عملت على محاصرتها والإطباق على مسيرتها، إلا أننا نعتقد أن الإسلام ظل الهاجس الذي التزمته قيادات الجمهورية الإسلامية، ولذلك فنحن ندعو الحركات الإسلامية، بمختلف انتماءاتها المذهبية وتوجهاتها السياسية، إلى الانفتاح على هذه التجربة، ورفدها بالنصيحة الإسلامية، وبالموقف السياسي الإسلامي الذي يتطلّع إلى مصلحة الإسلام والمسلمين والأمة كلها.

لقد جعلت الثورة الإسلامية من قاعدتها في حركتها السياسية موقعاً قوياً متحركاً ضد الظلم والظالمين، والاستكبار والمستكبرين، وآلت على نفسها أن تقف مع المستضعفين في العالم، ودخلت في ساحة الصراع مع كل هذه القوى الطاغية التي أعلنت الحرب عليها تحت وابل من عناوين الإثارة والعصبية، تارةً من خلال الحديث عن المذهبية الشيعية، وأخرى من خلال تحريك عنوان القومية الفارسية، ولا تزال أمريكا، ومعها حلفاؤها في أوروبا وحتى في العالم العربي والإسلامي، تسعى لعزل إيران من خلال استخدامها العنوان النووي وغيره، ولكننا نعتقد أن كل هذه الأساليب ستفشل أمام إيران التي تسلك طريق الرشد السياسي من خلال قيادتها الإسلامية الواعية والحكيمة.

ونحن في الوقت الذي نبارك للجمهورية الإسلامية خطوتها النوعية الأخيرة بإطلاق أول قمر اصطناعي للاتصالات محلي الصنع، ونجاح هذه الخطوة التي تمثل واحدةً من الإنجازات الكبرى للثورة على خط الاكتفاء الذاتي في مسيرة التطور العلمي والتكنولوجي، وفي مجال الدفاع الذاتي بمواجهة العدو الصهيوني ومن يكيدون لإيران الإسلام، نريد للمسلمين جميعاً، وللأمة كلها، أن تستفيد من تجارب الجهورية الإسلامية في إيران، ليس على مستوى حركية الحكم والاستقلال في القرار الذاتي فحسب، بل على مستوى التطور العلمي الذي يصوّب عليه الأعداء، ويخشاه ضعاف النفوس، أولئك الذين يمعنون في السير في خطّ الضعف، لأنهم يخافون من أن تتقدّم الأمة في مسيرتها العلمية والجهادية بما يفتح عيون العالم عليها، وخصوصاً العالم المستكبر والظالم.

لبنان: ابتعاد القيم الأخلاقية عن الخطاب السياسي
أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن السياسة اللبنانية ـ في كثير من نماذجها ـ ابتعدت عن الجانب الأخلاقي، وأضحت القيم الأخلاقية مستبعَدة من الحركة السياسية، وحتى من التعبيرات السياسية، وقد دخل ملف التنصّت، بمستوره ومفضوحه، على الخط بما يمقته الناس الذين استذكر بعضهم الحقبة الماضية، حيث كان الزوج يتكلم بحذر شديد حين يتحدث مع زوجته، أو التاجر مع شركائه، أو المواطن مع أقرانه، بما يمثل تجسيداً لديكتاتورية الملاحقة والقمع، بعيداً عن الذرائع الأمنية التي يتحدث المسؤولون عنها.

ونحن نستغرب مواصلة المسؤولين والسياسيين سجالاتهم الداخلية بهذه الطريقة الاستعراضية، فيما يستعرض العدو عند الحدود مع فلسطين المحتلة، ويبعث ـ عبر وزير حربه ـ بالمزيد من التهديدات، ويتحدث بلغة الحرب إذا امتلكت المقاومة صواريخ أرض جو التي قد تهدد حركته العدوانية اليومية فوق الأراضي اللبنانية، ولعل ما يبعث على الاستهجان أكثر، أن الذين يستهلكون الحديث حول سلاح المقاومة والاستراتيجية الدفاعية لا يحركون ساكناً، كما أن الدولة توحي في كل حركتها السياسية والأمنية الصاخبة أنها لم تعدّ العدة لهذا الموضوع، فضلاً عن صمت "اليونيفيل" والمجتمع الدولي الذي لا يفكر إلا في أمن إسرائيل ولو تمّ تدمير الأمن العربي واللبناني والإسلامي كله.

إننا أمام هذا الواقع، ندعو الجميع إلى سحب سجالاتهم الداخلية بعناوينها الخلافية لحساب التصدي لمخططات العدو ومكائده وأفخاخه، والتي تستهدف لبنان حجراً وبشراً وموقعاً، كما ندعو إلى إخراج المواضيع السجالية، بصناديقها المختلفة، وعناوينها المتعددة، من الدوائر المذهبية ومن لعبة المحاصصة الطائفية، لمصلحة الوطن في قضاياه الكبرى، ولمصلحة الأمة في قضاياها العليا.

تحية إلى سفينة أصحاب المواقف الحرّة
وأخيراً، إننا نحيّي سفينة الأخوة اللبنانية وركابها، وعلى رأسهم صاحب المواقف الحرّة المطران هيلاريون كبوجي، والجهات التي ساهمت في هذه المبادرة الرمزية ذات الدلالة الكبرى في التضامن مع أهلنا في غزة... ونقول للدولة اللبنانية والمقاومة: إن هذا الاعتداء على السفينة اللبنانية بات في عهدتهم للرد على هذا العدوان بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.. ونقول للعرب والمسلمين وكل الأحرار إنّ عليهم القيام بخطوات تضامنية مماثلة من شأنها كشف العدو الذي لا يقيم وزناً للقوانين الدولية، والذي ينبغي العمل لفضحه وتعريته على المستويات الإعلامية والسياسية والإنسانية وغيرها. كما نقول لما يسمّى المجتمع الدولي، وعلى رأسه أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، إنّك قد كشفت عن وجهك البشع مجدداً أمام هذه الغطرسة والقرصنة الإسرائيلية الجديدة، لأنك لا تحترم حقوق الإنسان إلا إذا كان يهودياً أو كان يسير في خط مصالحك.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية