ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
في ذكرى رحيل الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع):
أهل البيت(ع) قدوة لنا في التّوحيد وطاعة الله
علم الرّضا(ع)
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
من أهل هذا البيت ومن أئمتهم، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في السابع عشر من هذا الشهر، شهر صفر، وهناك رواية تقول في التاسع والعشرين منه. ويروى أن هذا الإمام العظيم توفي بالسم، وهناك بعض العلماء يتحفَّظ عن ذلك. وفي ذكراه، لا بدّ لنا من الوقوف عند سيرته، وهو الذي قال أبوه الإمام موسى الكاظم(ع) عنه لبنيه: «وهذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمَّد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم».
والذي حدَّثتنا كتب السيرة عنه فيما ورد في الأحاديث عن بعض أصحابه، وهو إبراهيم بن العباس، قال: «ما رأيت الرضا يُسأل عن شيء قطّ إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوَّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلِّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن ـ بمعنى أنّه كان يستوحي آيات القرآن في كل ما يُسأل عنه وما يجيب فيه ـ وكان يختمه في كل ثلاث (ثلاث ليالٍ) ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكني ما مررت بآية قطّ إلا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أنزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختمه في كلّ ثلاث».
ويقول إبراهيم بن العباس واصفاً أخلاق الإمام الرضا(ع): "ما رأيت الرضا جفا أحداً بكلام قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتَّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه، ولا رأيته تفل قط ـ أمام الناس ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصب مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسائس، وكان(ع) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصّبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ـ فكان(ع) يدور على بيوت الفقراء، ويعطيهم الصدقة من دون أن يعرفوه ـ فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه".
عبادته وتقواه
وقال رجل للرضا(ع): "والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً. فقال(ع): «التقوى شرّفتهم وطاعة الله أحظتهم». فقال له آخر: أنت والله خير الناس، فقال(ع) له: «لا تحلف يا هذا، خيرٌ مني من كان أتقى لله وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}»(الحجرات:13). والإمام(ع) هو خير الناس لأنه أتقى الناس، ولكنّه تحدَّث عن المبدأ، حتى يعرف الناس أن الموقع العظيم عند الله إنّما يناله الإنسان بالتقوى.
وعن إبراهيم بن العباس قال: سمعت عليَّ بن موسى الرضا يقول: «حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبةً وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا (وأومى إلى عبد أسود من غلمانه) بقرابتي من رسول الله, إلا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل منه به».
وعلى هذا الأساس، يجب على كلّ الذين ينتسبون إلى النبيّ(ص) أن لا يشعروا بالعلوّ أمام الآخرين لمجرد انتسابهم إلى النبي(ص)، إنّما يرتفع النَّاس عند الله ويتقرَّبون إليه سبحانه وتعالى من خلال التقوى.
وورد عن أبي الصلت الهرويّ أنه قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالِم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحدٌ إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور".
وكانت للإمام الرِّضا(ع) الهيبة الكبرى في نفوس كلِّ علماء عصره، وكان إذا دخل إلى المسجد والنَّاس يسألون العلماء، قام العلماء بتوجهيهم إلى الإمام الرضا(ع) لما يملكه من العلم كلّه. وقد عرض المأمون على الإمام(ع) ولاية العهد، إلاّ أنّه امتنع عن ذلك، ولكن المأمون ألحّ عليه، وذلك بعد مشاكل حصلت بين المأمون وأخيه، ولم يستطع الإمام(ع) الرفض، لكنَّه اشترط عليه عدّة شروط للقبول، وقد استفاد(ع) من هذا الموقع في قضاء حوائج المؤمنين، وفي دعوة النّاس للرّجوع إلى التراث الذي انطلق به رسول الله(ص) وآباؤه(ع)، وفي تصحيح ما أخطأ به الآخرون، وتقويم ما انحرفوا فيه.
السلسلة الذّهبيّة وأصالة التوحيد
وعندما وصل إلى مدينة مرو، في مسيرته إلى طوس التي كان يسكنها المأمون اجتمع عليه الرواة يسألونه أن يحدّثهم، فحدّثهم بحديث سلسلة الذهب الذي قال عنه أحمد بن حنبل: "لو عُرض هذا الحديث على المجنون لأفاق"، قال(ع): «حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدَّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدثني رسول الله عن جبرائيل عن الله أنّه قال: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي».
فقد أراد(ع) أن يؤكّد للناس من خلال هذه الكلمة، أصالة التوحيد التي انطلقت بها كل رسالات الأنبياء، وأنّ الله هو خالق كلّ شيء وربّ كلّ شيء، له القوّة والعزّة جميعاً، وهو المهيمن على الأمر كلّه، والقاهر فوق عباده، وهو الذي يستجيب لعباده ويريد لهم أن يسألوه وحده ولا يسألوا غيره. وهذا هو التوحيد الخالص أكّده القرآن والنبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع). ولذلك علينا، عندما نسأل الله الرزق والشفاء، أن نلتزم بالتّوحيد، لأنّ هناك بعض الناس لا يسألون الله، بل يسألون الأنبياء والأئمة، وهذا خلاف التوحيد وأقرب إلى الشرك، لأنّ الله تعالى يقول: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}(الجنّ:18). نعم، نحن نتوسَل بأهل البيت(ع) ونرجو من الله أن يشفّعهم بنا، وهذا ما ورد في دعاء الخميس: «واجعل توسلي بهم شافعاً، يوم القيامة نافعاً»، فالسؤال ينبغي أن يكون لله، وأهل البيت يملكون الشفاعة بما منحهم الله من كرامة في هذا الشأن، فأنا أتوسل لله بالنبي وبأهل البيت لمكانتهم عند الله، والله هو الذي يشفّع ويُكرم، مع تعظيمنا للنبي(ص) ولأهل البيت(ع). لذلك علينا أن نؤصّل عقائدنا في خطِّ التوحيد، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60).
من توجيهاته الأخلاقيّة والعقيديّة
ونقف عند بعض التّوجيهات الأخلاقية للإمام الرضا(ع)، فنروي عن علي بن شعيب أنه قال: "دخلت على أبي الحسن الرضا(ع) فقال لي: «يا علي، مَن أحسن النّاس معاشاً؟، قلت: أنت يا سيدي أعلم به مني، فقال: «يا علي، مَن حَسُن معاش غيره في معاشه. يا عليّ، مَن أسوأ الناس معاشاً؟»، قلت: أنت أعلم، قال: «مَن لم يعش غيره في معاشه. يا عليّ، أحسنوا جوار النعم فإنها وحشية ـ فالإمام(ع) يشبّه النّعم بالحيوان الوحشي الذي إذا هرب فإنه لا يعود ـ ما نأت عن قوم فعادت إليهم. يا عليّ، إن شرّ الناس من منع رفده، وأكل وحده، وجلد عبده. أحسن الظن بالله، فإن مَن حَسُن ظنه بالله كان الله عند ظنه، ومن رضي بالقليل من الرزق قُبِل منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته ونَعُم أهلُه، وبصّره الله داء الدنيا ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام».
وسأل رجل الإمام علي الرضا(ع) وهو في الطواف: أخبرني عن الجواد؟ قال(ع): «إن لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق، فإن الجواد الذي يؤدِّي ما افترض الله تعالى عليه، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له».
وورد عنه(ع) عن آبائه(ع) قال: «قال رسول الله(ص): الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل بالأركان».
ولما قَبِل الإمام الرضا(ع) ولاية العهد، استنكر عليه البعض هذا الأمر، ونحن نعرف أنّ هناك من يأخذ ببعض الاعتقادات التي ترى أنّ الأئمة أفضل من الأنبياء، ولكن الإمام(ع) عالج هاتين المسألتين في هذه الرواية الواردة في الجزء الثاني من "عيون أخبار الرضا"، عن الحسن بن موسى قال: "روى أصحابنا عن الرضا(ع) أنه قال له رجل: أصلحك الله، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ وكأنه أنكر عليه ذلك، فقال له أبو الحسن الرضا(ع): «يا هذا، أيُّهما أفضل؛ النبي أو الوصي"؟ فقال: لا بل النبي، قال: «فأيهما أفضل؛ مسلم أو مشرك»؟ قال: لا بل مسلم، قال: «فإنَّ العزيز عزيز مصر كان مشركاً وكان يوسف نبيّاً، وإنّ المأمون مسلم، وأنا وصيّ، ويوسف سأل العزيز أن يولِّيه حيث قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وأنا أُجبرت على ذلك».
لقد كان الإمام الرضا(ع) القمَّة في العلم والعبادة والأخلاق والقرب من الله في عبادته وطاعته، وعلينا أن نعمل على أساس الالتزام بسيرته التي تمثّل الإسلام كلّه، كما هي سيرة آبائه وأبنائه، وعليكم عندما تزورون الإمام الرضا(ع)، أن تقفوا لتتأملوا كلَّ حياته، ولتقتدوا به، فأهل البيت(ع) هم القدوة لنا في كل ما يريده الله منّا في توحيده وطاعته. والسلام على الإمام الرضا(ع)، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟
الانتخابات الصهيونية: إعادة إنتاج العنصرية والتشدّد:
في فلسطين المحتلّة، جاءت نتائج الانتخابات الصهيونية لتعطي دليلاً إضافياً على أنَّ اليهود اختاروا مجدَّداً السير في خط المواجهة مع العرب، والعمل أكثر لمحاصرة الشعب الفلسطيني في أرضه وإنسانه واقتصاده، من خلال اختيار اليهود للأحزاب والشخصيات وفق القاعدة التي تقول إن الأولوية هي لاختيار الأكثر عدائيةً للعرب والفلسطينيين.
وهكذا تنتج الانتخابات الصهيونية ـ مجدداً ـ أحزاباً وشخصيات أكثر تشدداً إزاء ما يسمى مسألة السلام، فهي لا توافق على إزالة المستوطنات والجدار الفاصل، أو التنازل عن القدس كعاصمة لكيانهم، وصولاً إلى رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
إنَّ الصيغة الجديدة القديمة التي يتحضّر العدوُّ لتقديمها للعرب تقوم على مبادلة السلام بالسلام، بعدما أسقط اليهود صيغة "الأرض مقابل السلام"، وضحكوا كثيراً على المبادرة العربية التي أطلقتها قمّة بيروت، ولا سيَّما أنهم شاهدوا عالماً عربياً يعيش الفراغ القاتل، ويتحرّك في دوَّامة الموت السياسي، وخصوصاً الاهتزازات الخلافية المعقّدة بين دوله، بالمستوى الذي تتداخل فيه القضايا الشخصية، وتتزاوج مع الخطوط الدولية الرامية إلى مصادرة الواقع العربي، وإسقاط كل عناصر القوة فيه، ودفعه إلى التسليم بالشروط الإسرائيلية الرامية إلى إنهاء القضية الفلسطينية ووضعها في سياق الحرب على الإرهاب، بدلاً من طرح القضيَّة من زاوية إنهاء الاحتلال الذي يمثِّل أبشع مظاهر الإرهاب، وأوَّل مصادر العنف والاقتتال.
إننا نحذّر من أن العدوّ سيبدأ جولةً جديدةً من جولات الضغط على الفلسطينيين، لتشتيت مطالبهم، وتمييع قضاياهم، وقتل طموحاتهم في الوقت الضائع، ليكون الخيار الأخير أمامهم هو الحكم الذاتي الذي يراد له أن يحفظ أمن الكيان العبري، وأن يسحب نهائياً مسألة الدولة المستقلة القابلة للحياة من التداول السياسي، من خلال الوقائع التي أفرزها الاستيطان وأكّدتها نتائج الانتخابات الصهيونية.
متى يصنع العرب سلامهم؟
إنَّنا أمام هذا الواقع، ندعو العرب إلى الخروج من الحلف غير المقدّس الذي لا يزال يتنكّر للمقاومة بكلِّ فصائلها، وندعو السلطة الفلسطينية إلى العودة إلى كنف شعبها بدلاً من الارتماء في أحضان المحاور الدولية والعربية التي لا تضمر الخير للقضية الفلسطينية، وخصوصاً أن ما يسمى السلام بات وراء الجميع، وأن صورة الدمار في غزة يراد لها أن تطغى على الواقع الفلسطيني كله، وعلى المشهد السياسي العربي بكامله، لأن شعار العدو الذي يردِّده المسؤولون الصهاينة هو أن قوة جيشهم هي التي تفرض السلام على العرب وليس أي شيء آخر، ولا ندري متى يراهن العرب على سلام تصنعه القوة العربية والإسلامية الذاتية، بدلاً من الرهان على سلام الذلّ والهوان الذي يُصنع لهم في دوائر الاستكبار العالمي والصهيوني.
وليس بعيداً من ذلك، ما نلتقي به في هذه الأيام من دراسات قامت بها مراكز بحوث إسرائيلية، أظهرت أن ضعف العالم العربي سيمنح الكيان الصهيوني إنجازاً كبيراً، وسيوسّع إمكاناته للَّعب في الحلبة الدولية، وحذّرت هذه الدراسات من أن إعادة توحيد العالم العربي ستكون "لمصلحة المعسكر الراديكالي"، في دلالة جديدة على أن المطلوب إسرائيلياً من أجل تحقيق المصالح اليهودية، هو إضعاف القدرة العربية السياسية والاقتصادية والأمنية، وإثارة الانقسامات بين الدول العربية بما يكرّس واقع الشقاق وسياسة المحاور داخل الساحة العربية. ومن هنا، فإننا نتساءل عن حرّاس هذه الانقسامات، وعن الجنود المجنّدة التي تعمل لحساب العدوّ فيما توحي بأنها الأكثر إخلاصاً للقضيَّة العربية، في الوقت الذي تخطط لإعطاء إسرائيل في السلم ما لم تحصل عليه في الحرب.
ولعل ما يبعث على الأسى مجدّداً، ما قرّرته الجامعة العربية، من خلال أمينها العام، من اجتماعات دعت إلى انعقادها في الشهر القادم لدراسة التطورات والمتغيرات السياسية في أعقاب نتائج الانتخابات الأميركية والإسرائيلية، ربما للتأكيد أنَّ العرب يأتون متأخرين دائماً، أو للرجوع مجدداً إلى سياسة البيانات المتأرجحة التي تخشى سحب المبادرة العربية، بعدما سحبت إسرائيل البساط من تحت أقدام قادة الجامعة ودولها.
إن على العرب، بمن فيهم الجامعة العربية التي انهارت تماماً أمام تجربة العدوان على غزَّة، وكانت قد سقطت في تجارب سابقة، أن يفهموا أنهم باتوا أمام مرحلة صعبة وخطيرة تتهدد أدوارهم ومصيرهم، وربما وجودهم، الأمر الذي يفرض عليهم الإعداد لاستراتيجية البقاء إذا كانوا قد عزفوا تماماً عن استراتيجية صنع القوة للّحاق بركب الأمم والشعوب التي تجاورهم على الأقل.
لبنان سيادة العصبية في اللغة السياسية
أمّا في لبنان، فقد بدأنا نسمع أصواتاً تُخرج القيادات الدينية الرسمية في بعض رموزها من دائرة المرجعية العامة إلى المسارات الضيّقة والخاصة، وتبرزهم كشخصيات يضيق صدرها عن الانفتاح على الجميع، الأمر الذي يؤكد ما كنا نخشى منه، وهو أن الشخصيات الدينية سقطت ـ بدورها ـ في دوَّامة الانتماء الوظيفي لهذه الفئة أو تلك، وكفّت عن أن تكون عنصر مصالحة ومواءمة بين الأطراف... إننا نخشى من أن لبنان الذي يفتقر إلى الكثير من المرجعيات على المستوى السياسي العام، بدأ يعاني المشكلة نفسها على المستوى الديني، الأمر الذي ينعكس على ثقة المواطن بهؤلاء وأولئك، ويخلق عنصراً جديداً من عناصر الاهتزاز في الساحة الوطنية العامة.
وإلى جانب ذلك، تزداد الصورة قتامةً من خلال لغة سياسية تستحضر العصبيَّات كمدخلٍ للانتخابات، ومن خلال استعدادات متواصلة للتلويح بالمال السياسي لتكريس الزعامات، ولاستغلال الوضع الاقتصادي للناس الغارقين في مشاكلهم المعيشية، وذلك في ظل حديث متصاعد عن استعداد هذه الدولة للدفع أكثر، وذاك المحور للسير قدماً في خط شراء الأصوات، وإثارة كل عناصر المذهبية والطائفية والشخصانية، بما يجعل المواطن رهينةً للغرائز والعصبيات، وعبداً للمال ولهذا الزعيم الطائفي والمذهبي والحزبي الذي يمعن في استغلال حاجات الناس لحساب المصالح الخارجية التي قد تلتقي بمصالح الزعامات هنا وهناك... ويحدِّثونك بعد ذلك عن الحرية والاستقلال!! أيّتها الحرية: كم من المبادئ والشعارات تذبحَُ باسمك وتحت رايتك وعناوينك.
إن الحرية السياسية التي لا بدّ من أن تبرز على حقيقتها، وفي موقعها، تتمثل في أن ينطلق المواطن لتأكيد موقفه السياسي، وإبراز رأيه الانتخابي، بعيداً عن الضغوط المالية أو العصبية والسياسية هنا وهناك.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
في ذكرى رحيل الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع):
أهل البيت(ع) قدوة لنا في التّوحيد وطاعة الله
علم الرّضا(ع)
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
من أهل هذا البيت ومن أئمتهم، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في السابع عشر من هذا الشهر، شهر صفر، وهناك رواية تقول في التاسع والعشرين منه. ويروى أن هذا الإمام العظيم توفي بالسم، وهناك بعض العلماء يتحفَّظ عن ذلك. وفي ذكراه، لا بدّ لنا من الوقوف عند سيرته، وهو الذي قال أبوه الإمام موسى الكاظم(ع) عنه لبنيه: «وهذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمَّد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم».
والذي حدَّثتنا كتب السيرة عنه فيما ورد في الأحاديث عن بعض أصحابه، وهو إبراهيم بن العباس، قال: «ما رأيت الرضا يُسأل عن شيء قطّ إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوَّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلِّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن ـ بمعنى أنّه كان يستوحي آيات القرآن في كل ما يُسأل عنه وما يجيب فيه ـ وكان يختمه في كل ثلاث (ثلاث ليالٍ) ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكني ما مررت بآية قطّ إلا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أنزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختمه في كلّ ثلاث».
ويقول إبراهيم بن العباس واصفاً أخلاق الإمام الرضا(ع): "ما رأيت الرضا جفا أحداً بكلام قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتَّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه، ولا رأيته تفل قط ـ أمام الناس ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصب مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسائس، وكان(ع) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصّبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ـ فكان(ع) يدور على بيوت الفقراء، ويعطيهم الصدقة من دون أن يعرفوه ـ فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه".
عبادته وتقواه
وقال رجل للرضا(ع): "والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً. فقال(ع): «التقوى شرّفتهم وطاعة الله أحظتهم». فقال له آخر: أنت والله خير الناس، فقال(ع) له: «لا تحلف يا هذا، خيرٌ مني من كان أتقى لله وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}»(الحجرات:13). والإمام(ع) هو خير الناس لأنه أتقى الناس، ولكنّه تحدَّث عن المبدأ، حتى يعرف الناس أن الموقع العظيم عند الله إنّما يناله الإنسان بالتقوى.
وعن إبراهيم بن العباس قال: سمعت عليَّ بن موسى الرضا يقول: «حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبةً وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا (وأومى إلى عبد أسود من غلمانه) بقرابتي من رسول الله, إلا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل منه به».
وعلى هذا الأساس، يجب على كلّ الذين ينتسبون إلى النبيّ(ص) أن لا يشعروا بالعلوّ أمام الآخرين لمجرد انتسابهم إلى النبي(ص)، إنّما يرتفع النَّاس عند الله ويتقرَّبون إليه سبحانه وتعالى من خلال التقوى.
وورد عن أبي الصلت الهرويّ أنه قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالِم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحدٌ إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور".
وكانت للإمام الرِّضا(ع) الهيبة الكبرى في نفوس كلِّ علماء عصره، وكان إذا دخل إلى المسجد والنَّاس يسألون العلماء، قام العلماء بتوجهيهم إلى الإمام الرضا(ع) لما يملكه من العلم كلّه. وقد عرض المأمون على الإمام(ع) ولاية العهد، إلاّ أنّه امتنع عن ذلك، ولكن المأمون ألحّ عليه، وذلك بعد مشاكل حصلت بين المأمون وأخيه، ولم يستطع الإمام(ع) الرفض، لكنَّه اشترط عليه عدّة شروط للقبول، وقد استفاد(ع) من هذا الموقع في قضاء حوائج المؤمنين، وفي دعوة النّاس للرّجوع إلى التراث الذي انطلق به رسول الله(ص) وآباؤه(ع)، وفي تصحيح ما أخطأ به الآخرون، وتقويم ما انحرفوا فيه.
السلسلة الذّهبيّة وأصالة التوحيد
وعندما وصل إلى مدينة مرو، في مسيرته إلى طوس التي كان يسكنها المأمون اجتمع عليه الرواة يسألونه أن يحدّثهم، فحدّثهم بحديث سلسلة الذهب الذي قال عنه أحمد بن حنبل: "لو عُرض هذا الحديث على المجنون لأفاق"، قال(ع): «حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدَّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدثني رسول الله عن جبرائيل عن الله أنّه قال: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي».
فقد أراد(ع) أن يؤكّد للناس من خلال هذه الكلمة، أصالة التوحيد التي انطلقت بها كل رسالات الأنبياء، وأنّ الله هو خالق كلّ شيء وربّ كلّ شيء، له القوّة والعزّة جميعاً، وهو المهيمن على الأمر كلّه، والقاهر فوق عباده، وهو الذي يستجيب لعباده ويريد لهم أن يسألوه وحده ولا يسألوا غيره. وهذا هو التوحيد الخالص أكّده القرآن والنبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع). ولذلك علينا، عندما نسأل الله الرزق والشفاء، أن نلتزم بالتّوحيد، لأنّ هناك بعض الناس لا يسألون الله، بل يسألون الأنبياء والأئمة، وهذا خلاف التوحيد وأقرب إلى الشرك، لأنّ الله تعالى يقول: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}(الجنّ:18). نعم، نحن نتوسَل بأهل البيت(ع) ونرجو من الله أن يشفّعهم بنا، وهذا ما ورد في دعاء الخميس: «واجعل توسلي بهم شافعاً، يوم القيامة نافعاً»، فالسؤال ينبغي أن يكون لله، وأهل البيت يملكون الشفاعة بما منحهم الله من كرامة في هذا الشأن، فأنا أتوسل لله بالنبي وبأهل البيت لمكانتهم عند الله، والله هو الذي يشفّع ويُكرم، مع تعظيمنا للنبي(ص) ولأهل البيت(ع). لذلك علينا أن نؤصّل عقائدنا في خطِّ التوحيد، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60).
من توجيهاته الأخلاقيّة والعقيديّة
ونقف عند بعض التّوجيهات الأخلاقية للإمام الرضا(ع)، فنروي عن علي بن شعيب أنه قال: "دخلت على أبي الحسن الرضا(ع) فقال لي: «يا علي، مَن أحسن النّاس معاشاً؟، قلت: أنت يا سيدي أعلم به مني، فقال: «يا علي، مَن حَسُن معاش غيره في معاشه. يا عليّ، مَن أسوأ الناس معاشاً؟»، قلت: أنت أعلم، قال: «مَن لم يعش غيره في معاشه. يا عليّ، أحسنوا جوار النعم فإنها وحشية ـ فالإمام(ع) يشبّه النّعم بالحيوان الوحشي الذي إذا هرب فإنه لا يعود ـ ما نأت عن قوم فعادت إليهم. يا عليّ، إن شرّ الناس من منع رفده، وأكل وحده، وجلد عبده. أحسن الظن بالله، فإن مَن حَسُن ظنه بالله كان الله عند ظنه، ومن رضي بالقليل من الرزق قُبِل منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته ونَعُم أهلُه، وبصّره الله داء الدنيا ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام».
وسأل رجل الإمام علي الرضا(ع) وهو في الطواف: أخبرني عن الجواد؟ قال(ع): «إن لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق، فإن الجواد الذي يؤدِّي ما افترض الله تعالى عليه، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له».
وورد عنه(ع) عن آبائه(ع) قال: «قال رسول الله(ص): الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل بالأركان».
ولما قَبِل الإمام الرضا(ع) ولاية العهد، استنكر عليه البعض هذا الأمر، ونحن نعرف أنّ هناك من يأخذ ببعض الاعتقادات التي ترى أنّ الأئمة أفضل من الأنبياء، ولكن الإمام(ع) عالج هاتين المسألتين في هذه الرواية الواردة في الجزء الثاني من "عيون أخبار الرضا"، عن الحسن بن موسى قال: "روى أصحابنا عن الرضا(ع) أنه قال له رجل: أصلحك الله، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ وكأنه أنكر عليه ذلك، فقال له أبو الحسن الرضا(ع): «يا هذا، أيُّهما أفضل؛ النبي أو الوصي"؟ فقال: لا بل النبي، قال: «فأيهما أفضل؛ مسلم أو مشرك»؟ قال: لا بل مسلم، قال: «فإنَّ العزيز عزيز مصر كان مشركاً وكان يوسف نبيّاً، وإنّ المأمون مسلم، وأنا وصيّ، ويوسف سأل العزيز أن يولِّيه حيث قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وأنا أُجبرت على ذلك».
لقد كان الإمام الرضا(ع) القمَّة في العلم والعبادة والأخلاق والقرب من الله في عبادته وطاعته، وعلينا أن نعمل على أساس الالتزام بسيرته التي تمثّل الإسلام كلّه، كما هي سيرة آبائه وأبنائه، وعليكم عندما تزورون الإمام الرضا(ع)، أن تقفوا لتتأملوا كلَّ حياته، ولتقتدوا به، فأهل البيت(ع) هم القدوة لنا في كل ما يريده الله منّا في توحيده وطاعته. والسلام على الإمام الرضا(ع)، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟
الانتخابات الصهيونية: إعادة إنتاج العنصرية والتشدّد:
في فلسطين المحتلّة، جاءت نتائج الانتخابات الصهيونية لتعطي دليلاً إضافياً على أنَّ اليهود اختاروا مجدَّداً السير في خط المواجهة مع العرب، والعمل أكثر لمحاصرة الشعب الفلسطيني في أرضه وإنسانه واقتصاده، من خلال اختيار اليهود للأحزاب والشخصيات وفق القاعدة التي تقول إن الأولوية هي لاختيار الأكثر عدائيةً للعرب والفلسطينيين.
وهكذا تنتج الانتخابات الصهيونية ـ مجدداً ـ أحزاباً وشخصيات أكثر تشدداً إزاء ما يسمى مسألة السلام، فهي لا توافق على إزالة المستوطنات والجدار الفاصل، أو التنازل عن القدس كعاصمة لكيانهم، وصولاً إلى رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
إنَّ الصيغة الجديدة القديمة التي يتحضّر العدوُّ لتقديمها للعرب تقوم على مبادلة السلام بالسلام، بعدما أسقط اليهود صيغة "الأرض مقابل السلام"، وضحكوا كثيراً على المبادرة العربية التي أطلقتها قمّة بيروت، ولا سيَّما أنهم شاهدوا عالماً عربياً يعيش الفراغ القاتل، ويتحرّك في دوَّامة الموت السياسي، وخصوصاً الاهتزازات الخلافية المعقّدة بين دوله، بالمستوى الذي تتداخل فيه القضايا الشخصية، وتتزاوج مع الخطوط الدولية الرامية إلى مصادرة الواقع العربي، وإسقاط كل عناصر القوة فيه، ودفعه إلى التسليم بالشروط الإسرائيلية الرامية إلى إنهاء القضية الفلسطينية ووضعها في سياق الحرب على الإرهاب، بدلاً من طرح القضيَّة من زاوية إنهاء الاحتلال الذي يمثِّل أبشع مظاهر الإرهاب، وأوَّل مصادر العنف والاقتتال.
إننا نحذّر من أن العدوّ سيبدأ جولةً جديدةً من جولات الضغط على الفلسطينيين، لتشتيت مطالبهم، وتمييع قضاياهم، وقتل طموحاتهم في الوقت الضائع، ليكون الخيار الأخير أمامهم هو الحكم الذاتي الذي يراد له أن يحفظ أمن الكيان العبري، وأن يسحب نهائياً مسألة الدولة المستقلة القابلة للحياة من التداول السياسي، من خلال الوقائع التي أفرزها الاستيطان وأكّدتها نتائج الانتخابات الصهيونية.
متى يصنع العرب سلامهم؟
إنَّنا أمام هذا الواقع، ندعو العرب إلى الخروج من الحلف غير المقدّس الذي لا يزال يتنكّر للمقاومة بكلِّ فصائلها، وندعو السلطة الفلسطينية إلى العودة إلى كنف شعبها بدلاً من الارتماء في أحضان المحاور الدولية والعربية التي لا تضمر الخير للقضية الفلسطينية، وخصوصاً أن ما يسمى السلام بات وراء الجميع، وأن صورة الدمار في غزة يراد لها أن تطغى على الواقع الفلسطيني كله، وعلى المشهد السياسي العربي بكامله، لأن شعار العدو الذي يردِّده المسؤولون الصهاينة هو أن قوة جيشهم هي التي تفرض السلام على العرب وليس أي شيء آخر، ولا ندري متى يراهن العرب على سلام تصنعه القوة العربية والإسلامية الذاتية، بدلاً من الرهان على سلام الذلّ والهوان الذي يُصنع لهم في دوائر الاستكبار العالمي والصهيوني.
وليس بعيداً من ذلك، ما نلتقي به في هذه الأيام من دراسات قامت بها مراكز بحوث إسرائيلية، أظهرت أن ضعف العالم العربي سيمنح الكيان الصهيوني إنجازاً كبيراً، وسيوسّع إمكاناته للَّعب في الحلبة الدولية، وحذّرت هذه الدراسات من أن إعادة توحيد العالم العربي ستكون "لمصلحة المعسكر الراديكالي"، في دلالة جديدة على أن المطلوب إسرائيلياً من أجل تحقيق المصالح اليهودية، هو إضعاف القدرة العربية السياسية والاقتصادية والأمنية، وإثارة الانقسامات بين الدول العربية بما يكرّس واقع الشقاق وسياسة المحاور داخل الساحة العربية. ومن هنا، فإننا نتساءل عن حرّاس هذه الانقسامات، وعن الجنود المجنّدة التي تعمل لحساب العدوّ فيما توحي بأنها الأكثر إخلاصاً للقضيَّة العربية، في الوقت الذي تخطط لإعطاء إسرائيل في السلم ما لم تحصل عليه في الحرب.
ولعل ما يبعث على الأسى مجدّداً، ما قرّرته الجامعة العربية، من خلال أمينها العام، من اجتماعات دعت إلى انعقادها في الشهر القادم لدراسة التطورات والمتغيرات السياسية في أعقاب نتائج الانتخابات الأميركية والإسرائيلية، ربما للتأكيد أنَّ العرب يأتون متأخرين دائماً، أو للرجوع مجدداً إلى سياسة البيانات المتأرجحة التي تخشى سحب المبادرة العربية، بعدما سحبت إسرائيل البساط من تحت أقدام قادة الجامعة ودولها.
إن على العرب، بمن فيهم الجامعة العربية التي انهارت تماماً أمام تجربة العدوان على غزَّة، وكانت قد سقطت في تجارب سابقة، أن يفهموا أنهم باتوا أمام مرحلة صعبة وخطيرة تتهدد أدوارهم ومصيرهم، وربما وجودهم، الأمر الذي يفرض عليهم الإعداد لاستراتيجية البقاء إذا كانوا قد عزفوا تماماً عن استراتيجية صنع القوة للّحاق بركب الأمم والشعوب التي تجاورهم على الأقل.
لبنان سيادة العصبية في اللغة السياسية
أمّا في لبنان، فقد بدأنا نسمع أصواتاً تُخرج القيادات الدينية الرسمية في بعض رموزها من دائرة المرجعية العامة إلى المسارات الضيّقة والخاصة، وتبرزهم كشخصيات يضيق صدرها عن الانفتاح على الجميع، الأمر الذي يؤكد ما كنا نخشى منه، وهو أن الشخصيات الدينية سقطت ـ بدورها ـ في دوَّامة الانتماء الوظيفي لهذه الفئة أو تلك، وكفّت عن أن تكون عنصر مصالحة ومواءمة بين الأطراف... إننا نخشى من أن لبنان الذي يفتقر إلى الكثير من المرجعيات على المستوى السياسي العام، بدأ يعاني المشكلة نفسها على المستوى الديني، الأمر الذي ينعكس على ثقة المواطن بهؤلاء وأولئك، ويخلق عنصراً جديداً من عناصر الاهتزاز في الساحة الوطنية العامة.
وإلى جانب ذلك، تزداد الصورة قتامةً من خلال لغة سياسية تستحضر العصبيَّات كمدخلٍ للانتخابات، ومن خلال استعدادات متواصلة للتلويح بالمال السياسي لتكريس الزعامات، ولاستغلال الوضع الاقتصادي للناس الغارقين في مشاكلهم المعيشية، وذلك في ظل حديث متصاعد عن استعداد هذه الدولة للدفع أكثر، وذاك المحور للسير قدماً في خط شراء الأصوات، وإثارة كل عناصر المذهبية والطائفية والشخصانية، بما يجعل المواطن رهينةً للغرائز والعصبيات، وعبداً للمال ولهذا الزعيم الطائفي والمذهبي والحزبي الذي يمعن في استغلال حاجات الناس لحساب المصالح الخارجية التي قد تلتقي بمصالح الزعامات هنا وهناك... ويحدِّثونك بعد ذلك عن الحرية والاستقلال!! أيّتها الحرية: كم من المبادئ والشعارات تذبحَُ باسمك وتحت رايتك وعناوينك.
إن الحرية السياسية التي لا بدّ من أن تبرز على حقيقتها، وفي موقعها، تتمثل في أن ينطلق المواطن لتأكيد موقفه السياسي، وإبراز رأيه الانتخابي، بعيداً عن الضغوط المالية أو العصبية والسياسية هنا وهناك.