في ذكرى وفاة رسول الله محمد(ص):لم ترحل الرحمة مع رحيل رسول الرحمة

في ذكرى وفاة رسول الله محمد(ص):لم ترحل الرحمة مع رحيل رسول الرحمة

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

في ذكرى وفاة رسول الله محمد(ص):
لم ترحل الرحمة مع رحيل رسول الرحمة

الإسلام رسالة الحياة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107]. وامتدت هذه الرحمة الرسولية التي أفاض الله بها على العالم كله، ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليجعل العالم كله يعيش في سلام مبني على عدل يشمل كل الناس، لأن الله تعالى جعل منطلق الرسالات كلها وغاياتها القيام بالعدل.

وقد عاش النبي(ص) منذ أن أرسله الله تعالى بالرسالة، وهو يتحرك من أجل تأكيد عقيدة التوحيد، وإسقاط عقيدة الشرك التي تمثّل العقلية المتخلّفة، وخصوصاً في عبادة الأصنام التي كان يلتزمها المشركون، عندما كانوا يحوّلون الأحجار إلى آلهة يعبدونها...

وعانى النبي(ص) ما عاناه من تعنّت المشركين، وامتدت حياته حتى ركّز قواعد الرسالة التي حاول المشركون أن يمنعوا امتدادها في العالم، ولكن الله تعالى أراد لهذه الرسالة أن تمتد إلى كل زمان ومكان، لأن الرسالة الإسلامية التي جعلها الله خاتمة الرسالات، كما جعل رسولها خاتم الأنبياء، هي رسالة للحياة كلها.

وانطلق النبي(ص) في تأدية رسالته، وتعرّض لما تعرّض له من قِبَل المشركين الذين أخرجوه من مكة، في مؤامرة تحدث القرآن الكريم عنها.

وتحدّثنا كتب السيرة، أنّ المشركين كانوا إذا ضاقوا بالنبي ذرعاً، فلم يستطيعوا أن يهزموا موقفه، أو يُسقطوا حجته، أو يقابلوا دعوته، تمنّوا له الموت، لتنتهي قصة الصراع بموته، حتى يخلو لهم الجو بعبادة الأصنام، ولكنّ القرآن أكد له أن لا فائدة لهم من تمنّي موتك، فقد يموتون قبلك، وقد يموتون معك، فكل نفس ذائقة الموت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
ولأنّ النبي(ص) بشر كبقية البشر، يولد ويموت ويُبعث، أنزل الله تعالى عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ـ هذا هو القانون الحتمي الذي فرضه الله على الناس، ولا فرق فيه بين الأنبياء وغيرهم، فلا خلود لأحد في هذه الحياة حتى لو كان نبيّاً ـ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]، حيث يقف الجميع يوم الحساب أمام الله.

وعاش النبي(ص) تجربةً صعبةً في معركة "أُحد"، كما يذكر في سيرته، فبعد أن انتصر المسلمون في بداية المعركة، دارت الدائرة على المسلمين في "أُحد"، بفعل انسحاب الرماة الذين أمرهم النبي(ص) بالبقاء في مواقعهم، بعدما رأوا انتصار الجيش وانتهاب الغنيمة، فصاح صائح: "ألا إن محمداً قد قُتل"، فانكفّ المسلمون، وجعل رسول الله(ص) يدعوهم ويقول: "إليّ عباد الله"، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، بعد أن أُصيب بحجر وكُسر أنفه وشُجّ وجهه، وتفرق عنه أصحابه، إلا قليلاً منهم، وفي مقدّمهم الإمام عليّ(ع).

الرسالة التزام بالقضية
وفشا في الناس أن رسول الله(ص) قد قُتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبيّ ـ شيخ المنافقين ـ ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم، فقال أناس من أهل النفاق: "إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأول"، فقال أنس بن النضر (عم أنس بن مالك): "يا قوم، إن كان محمد قد قُتل، فإنّ ربّ محمد لم يُقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله(ص)، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله، وموتوا على ما مات عليه". ثم قال: "اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء (يعني المسلمين)، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (يعني المنافقين)". ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قُتل.

ثم إن رسول الله(ص) انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأول من عرف رسول الله كعب بن مالك، فقال: "عرفت عينيه تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله، فأشار إليّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي(ص) على الفرار، فقالوا: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا الخبر بأنك قُتلت، فرُعِبَت قلوبنا، فولّينا مدبرين، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
لقد أراد الله تعالى أن يبيّن للناس كافة أن الرسالة تعيش مع الرسول في مدى عمره، ولكنّ الرسول يموت وتبقى الرسالة، فإذا مات الرسول أو قُتل، فعلى الأمة أن تتابع دينه ونهجه وسيره، فلا تتراجع، ولا تنقلب على عقبيها، لأنها إن فعلت فإنما تضر بذلك نفسها. ولذلك علينا أن نثبت في خط الرسالة في كل الأحوال، ومهما واجهنا من تحديات، وأن نتعلم أن غياب القيادة لا يعني غياب القضية، فقد يُقتل القادة والعلماء، ولكن القضية تبقى، وعلينا أن نخلص لها ونتابع المسيرة من أجلها، لأن المسيرة لا ترتبط بالشخص حتى لو كان الشخص نبياً، ولذلك رأينا أن الأنبياء والأئمة منهم من مات ومنهم من قُتل، ولكن الرسالة بقيت، والولاية بقيت، وبقي الخط الإسلامي الأصيل، وهذا ما يفترض على الأمة أن تتحرك به، لتصنع قادةً ومصلحين مكان من يرحل من المصلحين والقادة.

في استعداده(ص) للقاء ربّه
وتنقل لنا كتب سيرته(ص) مقدمات استعداده للقاء الله، فيروي أبي مويهبة مولى رسول الله، أنه(ص) قال: "إني قد أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي ـ وهذا توجيه نبوي إلى ضرورة زيارة القبور، وهي بمثابة الهدية التي نقدّمها إلى أمواتنا ـ فخرجت معه حتى جاء البقيع، فاستغفر لأهله طويلاً ثم قال: "ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، قد أقبلت الفتن كقِطَع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌّ من الأولى".

ونقرأ في سيرة النبي(ص)، أنه خرج إلى المسجد معصوب الرأس، معتمداً على أمير المؤمنين بيمنى يديه، وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: "معاشر الناس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عِدةٌ فليأتني أُعطه إياها، ومن كان له عليَّ دَين فليخبرني به. معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحدٍ شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه به شرّاً إلا العمل ـ الكل خلق الله، سواء الأنبياء والأولياء والأوصياء والناس جميعاً، فليس بين الله وبين أحد قرابة ـ أيها الناس، لا يدّعِ مدعٍّ، ولا يتمن متمنٍّ ـ كالذين يقولون إننا نحن من شيعة علي وإن الله لا يعاقبنا، ولكن الله تعالى يقول:{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً} ـ والذي بعثني بالحق نبياً، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت. اللهم هل بلّغت".

ويروي ابن سعد عن أبي سعيد الخدري عن النبي(ص) أنه قال: "إني أوشك أن أُدعى فأُجيب، إني تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبل ممدود إلى السماء من الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما".
وقال(ص): "أيها الناس، المؤمنون أخوة، ولا يحلّ لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض... أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى".

وروى ابن سعد في طبقاته، أن النبي(ص) توفي في حجر علي بن أبي طالب(ع)، وعن ابن عباس: "توفي وإنه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسّله"، والقوم مجتمعون في مكان آخر، لم يتوقفوا عند هذه المصيبة الكبيرة التي انقطع فيها الوحي من السماء.

إننا عندما نستقبل ذكرى وفاة النبي(ص)، فإن علينا أن نعرف أن النبي(ص) قد ترك الإسلام والقرآن وعترته من أهل البيت أمانةً عندنا، وعلينا أن نحفظ أمانته(ص) في الإسلام والقرآن وأهل البيت(ع)، حتى عندما نقدم عليه نقول له: يا رسول الله، لقد أدّينا الأمانة. وصلّى الله على محمد رسوله يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

حكومة العدوّ: عنصرية التكوين
في فلسطين المحتلة، تواصل أحزاب العدو مشاوراتها لتشكيل الحكومة التي ستكون يمينيةً في المضمون، عنصريةً في التكوين، بصرف النظر عن هويتها السياسية التي تنطلق من عناوينها الشكلية، لتستكمل هذه الحكومة العدوان على غزة والحصار التجويعي... ولتبدأ جولةً جديدةً من جولات العنف والدمار والقتل في فلسطين وخارجها، عنوانها الأولي يتمثل بلعبة رفض التهدئة ما لم يتم إطلاق الجندي الإسرائيلي الأسير لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، في الوقت الذي يتناسى العالم كله ما يزيد على أحد عشر ألف أسير فلسطيني في سجون العدو.

أما الاستيطان الذي زحف إلى الضفة بكثافة وحشية ما زالت متواصلةً منذ اتفاق أوسلو، فسوف يبتلع ـ مع الحكومة الجديدة ـ كل مسميات السلام، وأحاديث الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، لتتوالى مسألة اغتصاب فلسطين المنطلِقة من عمق الحقد اليهودي المتذرّع بالتاريخ المزيّف فصولاً... وتتوالى معها محاولات تهديم المسجد الأقصى عبر تصديع أعمدته، لإقامة هيكل سليمان المزعوم، في ظل ضعف عربي، وصمت إسلامي، ودعم غربي متواصل لهذا الكيان، بصرف النظر عن الحكومة التي تتولى أمره.

إن المشروع الإسرائيلي يقوم على أن ما لا يمكن الوصول إليه ببعض القوة، يمكن تحقيقه بالمزيد من القوة، وهو الوصفة المعتمَدة لحروب لا نهاية لها، تهدف إلى تقويض البناء العربي والإسلامي من الداخل، لتتخطى مسألة احتلال فلسطين إلى احتلال العقل العربي والإسلامي، من خلال السعي لإقناع العرب والمسلمين بأن أفضل وسيلة لمواجهة هذا المشروع تتمثل بالانحناء له على طول الخط، وإلى ما لا نهاية...

إن علينا رصد هذا المشروع الصهيوني، لا من خلال أدواته الظاهرة في فلسطين المحتلة فقط، بل من خلال التحالف مع قوى الهيمنة العالمية الموزَّعة بين أوروبا وأميركا، وعبر الشخصيات التي تعمل لحساب هذا المشروع من داخل الكونغرس الأميركي وخارجه، ومن داخل الإدارة الأميركية الملتزمة بالأمن الإسرائيلي على حساب الأمن العربي والإسلامي، والرافضة لأي تعديلٍ في ميزان القوى بين العرب والمسلمين وبين كيان العدو، لأن التفوّق الإسرائيلي النوعي هو التزام أميركي قد يتجاوز التزام الولايات المتحدة الأميركية بأمنها الخاص... وهذه هي المعادلة التي تدفع إسرائيل إلى اختيار منطق الحروب المتجددة، لتؤكد قوتها الردعية الغاشمة في مواجهة أية قوة عربية وإسلامية ناهضة.

المقاومة تصنع القوة لردع العدو
ولذلك، عندما نلتقي في هذه الأيام بالذات، بذكرى شهداء المقاومة الكبار الذين ارتقوا من خلال جهدهم وجهادهم وشهادتهم، فإنّ علينا أن نصرّ على مسألة صناعة القوة في الأمة، فقد أثبتت هذه المقاومة الباسلة، التي انطلقت من المساجد العامرة بالإيمان والعطاء، ومن توجيهات القادة والفقهاء والأعلام، أنها تمثل تجربةً ناجحةً في معادلة صنع القوة وردع العدو وإنهاء احتلاله، وكسر خياراته الوحشية التي كان ينظر إليها حتى الأمس القريب، كخيارات استراتيجية لا تقبل الجدل ولا يمكن التخلي عنها بأي شكل من الأشكال.

إننا في الوقت الذي نؤكد احتضان هذه المقاومة التي أسست لمشروع القوة على مستوى الأمة، وواقعية المواجهة وكسر المشروع المعادي، نريد للأمة ألا تتنازل عن أي مستوى من مستويات القوة التي وصلت إليها وسط عالم يضج بمشاريع الاحتلال والهيمنة والتآمر. ولذلك، فإننا نؤكد على الجمهورية الإسلامية في إيران، ألا تتنازل عن حقها المشروع والطبيعي في المجال النووي السلمي الذي يمثّل علامة تقدم للأمة في إمكاناتها العلمية الذاتية، لأن هذه القوة العلمية لا تخص إيران وحدها، بل كل المسلمين والعرب وأحرار العالم، وأي تفريط بها يغدو تفريطاً بحقوق كل هؤلاء الذين يتطلّعون إلى من يحمي حقوقهم من الاستلاب والضياع.

إننا نعرف أن العدو يشعر بالقلق حيال التطور العلمي والتكنولوجي الذي تمثله المسيرة الإسلامية في إيران، والذي يصر العدو ـ ومعه قوى غربية متواطئة ـ على شن حروب دعائية وتحريضية عليها تحت عنوان البرنامج النووي، وندرك أن العدو يعيش حالاً من الارتباك تدفعه إلى الطلب من الإدارة الأميركية الجديدة أن تحدد سقفاً زمنياً لحوارها المرتقب مع الجمهورية الإسلامية، ولكننا نقول لإيران إن عليها، وهي تتحضّر للدخول في مشروع حوار طويل مع الأميركيين، أن تعرف أن المسألة لا تتصل بها كدولة ناهضة في المنطقة، بل تتجاوزها لتدخل في نطاق معادلة كبيرة عنوانها الخروج الإسلامي من تحت سقف الشروط الغربية والإسرائيلية، إلى فضاء الحرية على المستوى العلمي، وعلى مستوى القرار السياسي المستقل.

تفعيل الحضور العربي و الإسلامي
إننا ندعو إلى مشروع عربي وإسلامي على مستوى الأمة كلها، من أجل أن يتحوّل هذا الحجم العددي الكبير إلى حجم سياسي فاعل في العالم، بحيث يكون له القدرة على المشاركة في تقرير المصير في الواقع كله، بدلاً من أن يكون الآخرون هم الذين يقررون مصيرنا، ولن يكون ذلك إلا من خلال الأخذ بأسباب القوة، واستثمار طاقاتنا الحيوية والشبابية وثرواتنا الطبيعية في عملية نموٍّ شاملة في الأمة، حتى لو اقتضى الأمر أن تدخل الأمة في مجال التحدي الكبير الذي نعتقد أنه سيطل على واقع جديد تحمي فيه وجودها، وتصون فيه حريتها، وتخرج فيه من كونها هامشاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً للآخرين، إلى دائرة الفعل والاكتفاء الذاتي والاستقلال السياسي الحقيقي.

لبنان: دعوة إلى الخطاب الهادىء والحكيم
أما في لبنان، فإننا في الوقت الذي نقدّر كل الجهود التي بُذلت لمنع الأحداث المؤسفة الأخيرة من أن تتطوّر وتتوسّع، نشعر بأن ثمة مواقف تستحق الثناء لإسراعها في تطويق ذيول الأحداث، إلا أننا نعتقد أن مسؤولية القيادات تتجاوز ذلك إلى ضرورة تثقيف القاعدة بثقافة الحوار وقبول الآخر، واحترام قواعد الاختلاف، والانفتاح على الرأي المضاد بالحكمة والروية والموعظة الحسنة.

إننا ندين كل إساءة تنطلق من أي موقع ضد أي لبناني، بصرف النظر عن انتمائه المذهبي أو الحزبي أو الطائفي، ونؤكد ضرورة محاسبة المعتدين على أمن الناس وأرواحهم، وندعو في الوقت نفسه كل القيادات إلى الخروج من دائرة الخطاب المتشنّج والمتوتّر إلى فضاء الخطاب الهادئ والحكيم، والداعي إلى احترام الآخرين في خياراتهم وانتماءاتهم.

إننا ندعو الشعب اللبناني إلى الارتفاع إلى أفق المسؤوليات التي يحترم فيها المواطن المواطن الآخر، حتى في حال الاختلاف معه في الرأي السياسي، لأن المرحلة التي يمر بها الوطن قد تترك تأثيراتها السلبية، بفعل الأوضاع القلقة التي تحكم المنطقة، على كثير من المستويات الوطنية، وعلى الدولة بمؤسساتها واقتصادها وأمنها...

إن على هذا الشعب الذي يملك الكثير من القدرات الإبداعية، والتنوعات الثقافية، والإرث التاريخي الروحي، أن يواجه الموقف بالوعي الذي يحترم فيه الإنسان عقله وشعوره وموقفه وانتماءه السياسي، فلا يسقط أمام الهوامش، بل يبقى منفتحاً على القضايا الكبرى التي لا تتصل بحاضره فقط، بل أيضاً بوجوده ومصيره.


ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

في ذكرى وفاة رسول الله محمد(ص):
لم ترحل الرحمة مع رحيل رسول الرحمة

الإسلام رسالة الحياة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107]. وامتدت هذه الرحمة الرسولية التي أفاض الله بها على العالم كله، ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليجعل العالم كله يعيش في سلام مبني على عدل يشمل كل الناس، لأن الله تعالى جعل منطلق الرسالات كلها وغاياتها القيام بالعدل.

وقد عاش النبي(ص) منذ أن أرسله الله تعالى بالرسالة، وهو يتحرك من أجل تأكيد عقيدة التوحيد، وإسقاط عقيدة الشرك التي تمثّل العقلية المتخلّفة، وخصوصاً في عبادة الأصنام التي كان يلتزمها المشركون، عندما كانوا يحوّلون الأحجار إلى آلهة يعبدونها...

وعانى النبي(ص) ما عاناه من تعنّت المشركين، وامتدت حياته حتى ركّز قواعد الرسالة التي حاول المشركون أن يمنعوا امتدادها في العالم، ولكن الله تعالى أراد لهذه الرسالة أن تمتد إلى كل زمان ومكان، لأن الرسالة الإسلامية التي جعلها الله خاتمة الرسالات، كما جعل رسولها خاتم الأنبياء، هي رسالة للحياة كلها.

وانطلق النبي(ص) في تأدية رسالته، وتعرّض لما تعرّض له من قِبَل المشركين الذين أخرجوه من مكة، في مؤامرة تحدث القرآن الكريم عنها.

وتحدّثنا كتب السيرة، أنّ المشركين كانوا إذا ضاقوا بالنبي ذرعاً، فلم يستطيعوا أن يهزموا موقفه، أو يُسقطوا حجته، أو يقابلوا دعوته، تمنّوا له الموت، لتنتهي قصة الصراع بموته، حتى يخلو لهم الجو بعبادة الأصنام، ولكنّ القرآن أكد له أن لا فائدة لهم من تمنّي موتك، فقد يموتون قبلك، وقد يموتون معك، فكل نفس ذائقة الموت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
ولأنّ النبي(ص) بشر كبقية البشر، يولد ويموت ويُبعث، أنزل الله تعالى عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ـ هذا هو القانون الحتمي الذي فرضه الله على الناس، ولا فرق فيه بين الأنبياء وغيرهم، فلا خلود لأحد في هذه الحياة حتى لو كان نبيّاً ـ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]، حيث يقف الجميع يوم الحساب أمام الله.

وعاش النبي(ص) تجربةً صعبةً في معركة "أُحد"، كما يذكر في سيرته، فبعد أن انتصر المسلمون في بداية المعركة، دارت الدائرة على المسلمين في "أُحد"، بفعل انسحاب الرماة الذين أمرهم النبي(ص) بالبقاء في مواقعهم، بعدما رأوا انتصار الجيش وانتهاب الغنيمة، فصاح صائح: "ألا إن محمداً قد قُتل"، فانكفّ المسلمون، وجعل رسول الله(ص) يدعوهم ويقول: "إليّ عباد الله"، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، بعد أن أُصيب بحجر وكُسر أنفه وشُجّ وجهه، وتفرق عنه أصحابه، إلا قليلاً منهم، وفي مقدّمهم الإمام عليّ(ع).

الرسالة التزام بالقضية
وفشا في الناس أن رسول الله(ص) قد قُتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبيّ ـ شيخ المنافقين ـ ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم، فقال أناس من أهل النفاق: "إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأول"، فقال أنس بن النضر (عم أنس بن مالك): "يا قوم، إن كان محمد قد قُتل، فإنّ ربّ محمد لم يُقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله(ص)، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله، وموتوا على ما مات عليه". ثم قال: "اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء (يعني المسلمين)، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (يعني المنافقين)". ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قُتل.

ثم إن رسول الله(ص) انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأول من عرف رسول الله كعب بن مالك، فقال: "عرفت عينيه تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله، فأشار إليّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي(ص) على الفرار، فقالوا: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا الخبر بأنك قُتلت، فرُعِبَت قلوبنا، فولّينا مدبرين، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
لقد أراد الله تعالى أن يبيّن للناس كافة أن الرسالة تعيش مع الرسول في مدى عمره، ولكنّ الرسول يموت وتبقى الرسالة، فإذا مات الرسول أو قُتل، فعلى الأمة أن تتابع دينه ونهجه وسيره، فلا تتراجع، ولا تنقلب على عقبيها، لأنها إن فعلت فإنما تضر بذلك نفسها. ولذلك علينا أن نثبت في خط الرسالة في كل الأحوال، ومهما واجهنا من تحديات، وأن نتعلم أن غياب القيادة لا يعني غياب القضية، فقد يُقتل القادة والعلماء، ولكن القضية تبقى، وعلينا أن نخلص لها ونتابع المسيرة من أجلها، لأن المسيرة لا ترتبط بالشخص حتى لو كان الشخص نبياً، ولذلك رأينا أن الأنبياء والأئمة منهم من مات ومنهم من قُتل، ولكن الرسالة بقيت، والولاية بقيت، وبقي الخط الإسلامي الأصيل، وهذا ما يفترض على الأمة أن تتحرك به، لتصنع قادةً ومصلحين مكان من يرحل من المصلحين والقادة.

في استعداده(ص) للقاء ربّه
وتنقل لنا كتب سيرته(ص) مقدمات استعداده للقاء الله، فيروي أبي مويهبة مولى رسول الله، أنه(ص) قال: "إني قد أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي ـ وهذا توجيه نبوي إلى ضرورة زيارة القبور، وهي بمثابة الهدية التي نقدّمها إلى أمواتنا ـ فخرجت معه حتى جاء البقيع، فاستغفر لأهله طويلاً ثم قال: "ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، قد أقبلت الفتن كقِطَع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌّ من الأولى".

ونقرأ في سيرة النبي(ص)، أنه خرج إلى المسجد معصوب الرأس، معتمداً على أمير المؤمنين بيمنى يديه، وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: "معاشر الناس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عِدةٌ فليأتني أُعطه إياها، ومن كان له عليَّ دَين فليخبرني به. معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحدٍ شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه به شرّاً إلا العمل ـ الكل خلق الله، سواء الأنبياء والأولياء والأوصياء والناس جميعاً، فليس بين الله وبين أحد قرابة ـ أيها الناس، لا يدّعِ مدعٍّ، ولا يتمن متمنٍّ ـ كالذين يقولون إننا نحن من شيعة علي وإن الله لا يعاقبنا، ولكن الله تعالى يقول:{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً} ـ والذي بعثني بالحق نبياً، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت. اللهم هل بلّغت".

ويروي ابن سعد عن أبي سعيد الخدري عن النبي(ص) أنه قال: "إني أوشك أن أُدعى فأُجيب، إني تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبل ممدود إلى السماء من الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما".
وقال(ص): "أيها الناس، المؤمنون أخوة، ولا يحلّ لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض... أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى".

وروى ابن سعد في طبقاته، أن النبي(ص) توفي في حجر علي بن أبي طالب(ع)، وعن ابن عباس: "توفي وإنه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسّله"، والقوم مجتمعون في مكان آخر، لم يتوقفوا عند هذه المصيبة الكبيرة التي انقطع فيها الوحي من السماء.

إننا عندما نستقبل ذكرى وفاة النبي(ص)، فإن علينا أن نعرف أن النبي(ص) قد ترك الإسلام والقرآن وعترته من أهل البيت أمانةً عندنا، وعلينا أن نحفظ أمانته(ص) في الإسلام والقرآن وأهل البيت(ع)، حتى عندما نقدم عليه نقول له: يا رسول الله، لقد أدّينا الأمانة. وصلّى الله على محمد رسوله يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

حكومة العدوّ: عنصرية التكوين
في فلسطين المحتلة، تواصل أحزاب العدو مشاوراتها لتشكيل الحكومة التي ستكون يمينيةً في المضمون، عنصريةً في التكوين، بصرف النظر عن هويتها السياسية التي تنطلق من عناوينها الشكلية، لتستكمل هذه الحكومة العدوان على غزة والحصار التجويعي... ولتبدأ جولةً جديدةً من جولات العنف والدمار والقتل في فلسطين وخارجها، عنوانها الأولي يتمثل بلعبة رفض التهدئة ما لم يتم إطلاق الجندي الإسرائيلي الأسير لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، في الوقت الذي يتناسى العالم كله ما يزيد على أحد عشر ألف أسير فلسطيني في سجون العدو.

أما الاستيطان الذي زحف إلى الضفة بكثافة وحشية ما زالت متواصلةً منذ اتفاق أوسلو، فسوف يبتلع ـ مع الحكومة الجديدة ـ كل مسميات السلام، وأحاديث الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، لتتوالى مسألة اغتصاب فلسطين المنطلِقة من عمق الحقد اليهودي المتذرّع بالتاريخ المزيّف فصولاً... وتتوالى معها محاولات تهديم المسجد الأقصى عبر تصديع أعمدته، لإقامة هيكل سليمان المزعوم، في ظل ضعف عربي، وصمت إسلامي، ودعم غربي متواصل لهذا الكيان، بصرف النظر عن الحكومة التي تتولى أمره.

إن المشروع الإسرائيلي يقوم على أن ما لا يمكن الوصول إليه ببعض القوة، يمكن تحقيقه بالمزيد من القوة، وهو الوصفة المعتمَدة لحروب لا نهاية لها، تهدف إلى تقويض البناء العربي والإسلامي من الداخل، لتتخطى مسألة احتلال فلسطين إلى احتلال العقل العربي والإسلامي، من خلال السعي لإقناع العرب والمسلمين بأن أفضل وسيلة لمواجهة هذا المشروع تتمثل بالانحناء له على طول الخط، وإلى ما لا نهاية...

إن علينا رصد هذا المشروع الصهيوني، لا من خلال أدواته الظاهرة في فلسطين المحتلة فقط، بل من خلال التحالف مع قوى الهيمنة العالمية الموزَّعة بين أوروبا وأميركا، وعبر الشخصيات التي تعمل لحساب هذا المشروع من داخل الكونغرس الأميركي وخارجه، ومن داخل الإدارة الأميركية الملتزمة بالأمن الإسرائيلي على حساب الأمن العربي والإسلامي، والرافضة لأي تعديلٍ في ميزان القوى بين العرب والمسلمين وبين كيان العدو، لأن التفوّق الإسرائيلي النوعي هو التزام أميركي قد يتجاوز التزام الولايات المتحدة الأميركية بأمنها الخاص... وهذه هي المعادلة التي تدفع إسرائيل إلى اختيار منطق الحروب المتجددة، لتؤكد قوتها الردعية الغاشمة في مواجهة أية قوة عربية وإسلامية ناهضة.

المقاومة تصنع القوة لردع العدو
ولذلك، عندما نلتقي في هذه الأيام بالذات، بذكرى شهداء المقاومة الكبار الذين ارتقوا من خلال جهدهم وجهادهم وشهادتهم، فإنّ علينا أن نصرّ على مسألة صناعة القوة في الأمة، فقد أثبتت هذه المقاومة الباسلة، التي انطلقت من المساجد العامرة بالإيمان والعطاء، ومن توجيهات القادة والفقهاء والأعلام، أنها تمثل تجربةً ناجحةً في معادلة صنع القوة وردع العدو وإنهاء احتلاله، وكسر خياراته الوحشية التي كان ينظر إليها حتى الأمس القريب، كخيارات استراتيجية لا تقبل الجدل ولا يمكن التخلي عنها بأي شكل من الأشكال.

إننا في الوقت الذي نؤكد احتضان هذه المقاومة التي أسست لمشروع القوة على مستوى الأمة، وواقعية المواجهة وكسر المشروع المعادي، نريد للأمة ألا تتنازل عن أي مستوى من مستويات القوة التي وصلت إليها وسط عالم يضج بمشاريع الاحتلال والهيمنة والتآمر. ولذلك، فإننا نؤكد على الجمهورية الإسلامية في إيران، ألا تتنازل عن حقها المشروع والطبيعي في المجال النووي السلمي الذي يمثّل علامة تقدم للأمة في إمكاناتها العلمية الذاتية، لأن هذه القوة العلمية لا تخص إيران وحدها، بل كل المسلمين والعرب وأحرار العالم، وأي تفريط بها يغدو تفريطاً بحقوق كل هؤلاء الذين يتطلّعون إلى من يحمي حقوقهم من الاستلاب والضياع.

إننا نعرف أن العدو يشعر بالقلق حيال التطور العلمي والتكنولوجي الذي تمثله المسيرة الإسلامية في إيران، والذي يصر العدو ـ ومعه قوى غربية متواطئة ـ على شن حروب دعائية وتحريضية عليها تحت عنوان البرنامج النووي، وندرك أن العدو يعيش حالاً من الارتباك تدفعه إلى الطلب من الإدارة الأميركية الجديدة أن تحدد سقفاً زمنياً لحوارها المرتقب مع الجمهورية الإسلامية، ولكننا نقول لإيران إن عليها، وهي تتحضّر للدخول في مشروع حوار طويل مع الأميركيين، أن تعرف أن المسألة لا تتصل بها كدولة ناهضة في المنطقة، بل تتجاوزها لتدخل في نطاق معادلة كبيرة عنوانها الخروج الإسلامي من تحت سقف الشروط الغربية والإسرائيلية، إلى فضاء الحرية على المستوى العلمي، وعلى مستوى القرار السياسي المستقل.

تفعيل الحضور العربي و الإسلامي
إننا ندعو إلى مشروع عربي وإسلامي على مستوى الأمة كلها، من أجل أن يتحوّل هذا الحجم العددي الكبير إلى حجم سياسي فاعل في العالم، بحيث يكون له القدرة على المشاركة في تقرير المصير في الواقع كله، بدلاً من أن يكون الآخرون هم الذين يقررون مصيرنا، ولن يكون ذلك إلا من خلال الأخذ بأسباب القوة، واستثمار طاقاتنا الحيوية والشبابية وثرواتنا الطبيعية في عملية نموٍّ شاملة في الأمة، حتى لو اقتضى الأمر أن تدخل الأمة في مجال التحدي الكبير الذي نعتقد أنه سيطل على واقع جديد تحمي فيه وجودها، وتصون فيه حريتها، وتخرج فيه من كونها هامشاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً للآخرين، إلى دائرة الفعل والاكتفاء الذاتي والاستقلال السياسي الحقيقي.

لبنان: دعوة إلى الخطاب الهادىء والحكيم
أما في لبنان، فإننا في الوقت الذي نقدّر كل الجهود التي بُذلت لمنع الأحداث المؤسفة الأخيرة من أن تتطوّر وتتوسّع، نشعر بأن ثمة مواقف تستحق الثناء لإسراعها في تطويق ذيول الأحداث، إلا أننا نعتقد أن مسؤولية القيادات تتجاوز ذلك إلى ضرورة تثقيف القاعدة بثقافة الحوار وقبول الآخر، واحترام قواعد الاختلاف، والانفتاح على الرأي المضاد بالحكمة والروية والموعظة الحسنة.

إننا ندين كل إساءة تنطلق من أي موقع ضد أي لبناني، بصرف النظر عن انتمائه المذهبي أو الحزبي أو الطائفي، ونؤكد ضرورة محاسبة المعتدين على أمن الناس وأرواحهم، وندعو في الوقت نفسه كل القيادات إلى الخروج من دائرة الخطاب المتشنّج والمتوتّر إلى فضاء الخطاب الهادئ والحكيم، والداعي إلى احترام الآخرين في خياراتهم وانتماءاتهم.

إننا ندعو الشعب اللبناني إلى الارتفاع إلى أفق المسؤوليات التي يحترم فيها المواطن المواطن الآخر، حتى في حال الاختلاف معه في الرأي السياسي، لأن المرحلة التي يمر بها الوطن قد تترك تأثيراتها السلبية، بفعل الأوضاع القلقة التي تحكم المنطقة، على كثير من المستويات الوطنية، وعلى الدولة بمؤسساتها واقتصادها وأمنها...

إن على هذا الشعب الذي يملك الكثير من القدرات الإبداعية، والتنوعات الثقافية، والإرث التاريخي الروحي، أن يواجه الموقف بالوعي الذي يحترم فيه الإنسان عقله وشعوره وموقفه وانتماءه السياسي، فلا يسقط أمام الهوامش، بل يبقى منفتحاً على القضايا الكبرى التي لا تتصل بحاضره فقط، بل أيضاً بوجوده ومصيره.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية