مع ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع): رحل الإمام وبقي الإسلام

مع ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع): رحل الإمام وبقي الإسلام

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

مع ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع):
رحل الإمام وبقي الإسلام

يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].

دور الإمام العسكري التبليغي
من أهل هذا البيت ومن أئمتهم، الإمام الحادي عشر، الحسن بن علي العسكري(ع)، الذي عاش مرحلته، ولم يكن قد تجاوز سن الشباب، بكل رساليةٍ وفعالية في التبليغ والتثقيف الإسلامي، فقد روى عنه الكثيرون من علماء الإسلام ما كان(ع) يزوّدهم به من علوم أهل البيت(ع)، الذين يمثلون النبع الصافي الذي تفجّر من النهر الكبير؛ من كتاب الله وسنّة رسوله.

فقد كان هذا الإمام الذي تصادف ذكرى وفاته في الثامن من هذا الشهر؛ شهر ربيع الأول، والذي صادف يوم أمس، كان صاحب المواقف التي مثّلت أعلى القيم الإسلامية التي فُرِضَت على المجتمع كله، حتى المجتمع المعادي لأهل البيت(ع) من الذين كانوا يلتزمون خلافة بني العباس، فنحن نقرأ في شهادتهم، أن هذا الإمام كان موضع التقدير والاحترام لكل من عرفه، سواء كان في مجتمع الخلافة أو في المجتمع الآخر.

ونحن نقرأ في تصريحات بعض هؤلاء، وهو أحمد بن عبيد الله بن خاقان، الذي كان أبوه من وزراء الخلافة، ما يدلّ على تعظيمه للإمام العسكري(ع)، فقد قال: "ما رأيت ولا عرفت بـ"سرّ من رأى" ـ وهي مدينة سامراء، وقد لُقِّب الإمام(ع) بالعسكري لأنه كان يسكن في محلّة في سامراء تسمى العسكر، فنُسب إلى هذه المحلة ـ من العلوية ـ من كل بني هاشم ـ مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السنّ منهم والخطر ـ أهل المنـزلة الرفيعة ـ وكذلك القوّاد ـ قادة الجيش ـ والوزراء والكتّاب ـ الموظفون في ديوان الخلافة ـ وعامة الناس... وما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشائخه... ولم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلا وهو يُحسن القول فيه والثناء عليه"، ما جعل أعداءه يعظِّمونه ويكرِّمونه، لما كانوا يرونه من منـزلته الرفيعة، ولما كان يجسّده من القيم المعرفية والروحية والأخلاقية والاجتماعية...

تقدير الأعداء له(ع)
وقال أبوه عبيد الله بن خاقان، وقد سأله ولده عن سرّ تعظيمه الكبير للإمام(ع): "لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه".

وهذا الكلام من وزير الخلافة يدلّ على الفضل الكبير للإمام العسكري(ع)، وكما يقول الشاعر: "والفضل ما شهدت به الأعداء".

وقد كان خلفاء بني العباس يخشون على ملكهم من أئمة أهل البيت(ع)، لما كانوا يرونه من تعظيم الناس لهم وانجذابهم إليهم، ولذلك عمد الخليفة العباسي إلى سجن الإمام العسكري(ع). ولكن كيف كانت نظرة السجّان إليه؟

يروي الكليني في الكافي بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر قال: "دخل العباسيون على صالح بن وصيف، ودخل عليه صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية عندما حُبِس أبو محمد(ع)، فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع. فقال لهم صالح ـ مدير السجن ـ: ما أصنع به وقد وكّلت به رجلين شرّ مَن قدرت عليه ـ كانا أكثر الناس شراً وأشقاهم، ولم يكونا يملكان تقوى ولا ورعاً، كل ذلك لكي يضيّقا عليه ـ فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم. ثم أمر بإحضار الموكلَين، فقال لهما: ويحكما، ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ ـ ما الذي غيّركما إلى مثل هذا الصلاح؟ ـ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخَلَنا ما لا نملكه من أنفسنا. فلمّا سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين".

معالجة الانحرافات الفكرية
وكان الإمام العسكري(ع) يهتمّ بكل ما يحدث في العالم الإسلامي، وقد سمع أن رجلاً من فلاسفة العرب ألّف كتاباً في تناقض القرآن، فقال الإمام(ع) لأصحابه، ممن كانوا يتردّدون على هذا الفيلسوف ويدرسون عنده: "أما فيكم رجلٌ رشيد يردع أستاذكم عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟"، ولكنّ أحد تلاميذه قال: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال(ع): "أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟"، قال: نعم، فقال(ع): "... قل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول إنه من الجائز... فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه". فنقلوا له ما قاله الإمام العسكري(ع)، وفكر الرجل وأجاب بالإيجاب، وعندما سألهم عن مصدر السؤال وأخبروه، قال: لا يلتفت إلى هذا الكلام العلمي الموضوعي إلا من كان من أهل هذا البيت الذين زقّوا العلم زقاً. ومزّق كتابه.

فقد كان الإمام العسكريّ(ع) كأئمة أهل البيت(ع)، يلاحقون كل الأوضاع الفكرية التي ينحرف فيها البعض في أفكارهم. ومسؤولية علماء الدين في كل مرحلة، أن ينـزلوا إلى الساحة لمواجهة كل القضايا المنحرفة التي تحاول أن تسيء إلى الإسلام في العالم.

وكما استقبلنا بالأمس ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع)، فإننا نستقبل اليوم ذكرى إمامة الإمام الحجّة(عج)، الذي استلم الإمامة بعد والده، وهو بذلك كالنبي يحيى(ع)، أتاه الله الحكم صبياً، ونسأل الله أن يمتّعنا بظهوره وبرؤيته الغرّة الحميدة والشخصية الفريدة، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

من وصاياه(ع) لشيعته
ونحن في ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع)، نريد أن نستمع إلى بعض وصاياه التي يقول فيها لشيعته، ونحن من شيعته الذين بلغتهم وصيته: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة ـ أمانة المال أو الموقع أو المسؤولية ـ إلى من ائتمنكم، من برّ أو فاجر، وطول السجود ـ لأن السجود يمثل غاية الخضوع لله ـ وحُسن الجوار، فبهذا ـ بهذه الأخلاق ـ جاء محمّد(ص). صلّوا في عشائرهم ـ مع الناس الآخرين الذين يختلفون معهم في المذهب. وقد أفتينا، كما غيرنا من الفقهاء، بجواز الصلاة في جماعتهم ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم ـ إذا كان لهم حق عليكم، سواء كان حقاً أخلاقياً أو قانونياً ـ فإنّ الرجل منكم إذا وَرِع في دينه، وصَدَق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك... اتقوا الله، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ـ بحيث نتزيّن بكم من خلال أخلاقكم وأمانتكم وحسن جواركم ـ جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنّا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك. لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه غيرنا إلا كذّاب. أكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة على النبي(ص)، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما أوصيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام".

هذه وصية الإمام العسكري(ع) لشيعته. ويروى عن يعقوب بن إسحاق، قال: كتبت إلى أبي محمد أسأله: كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟ فوقّع(ع): "يا أبا يوسف، جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى". قال: وسألته: هل رأى رسول الله ربّه؟ فوقّع(ع): "إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ"، فالله لا يُرى بالبصر، ولكن يُرى بالقلب، {ما كذَّب الفؤاد ما رأى} [النجم:11].
ومن كلامه(ع) يقول: "خصلتان ليس فوقهما شيء؛ الإيمان بالله، ونفع الأخوان". وكتب إلى الإمام(ع) بعضُ مواليه يسأله أن يعلّمه دعاءً، فكتب(ع) إليه: "ادعُ بهذا الدعاء: يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أنظر الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومدّ لي بعمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل بي غيري".

هذا هو الإمام الحسن العسكري(ع)، وعلينا أن نقتدي به في كل ما أوصى وتحدث به. والسلام عليه يوم وُلد ويوم انتقل إلى رحاب الله ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

غزّة: إعادة الإعمار بشروط مذلّة
تتوالى الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة فصولاً، وآخرها فصل الإعمار، الذي يُراد له أن يتحوّل إلى قيد جديد يؤكد الحصار المالي والاقتصادي لشعب لا يزال في العراء بعد كارثة الحرب الوحشية الإسرائيلية التي طاولته، ليبرز قطاع غزة كواحد من أبرز مخيمات اللجوء والاعتقال الجماعي في العالم.

وقد عُقد ـ قبل أيام ـ في شرم الشيخ مؤتمر دولي يحمل عنوان إعادة إعمار غزة، ولكنه يستبطن أهدافاً سياسيةً قاتلةً، ليس أقلها التركيز على القضية الفلسطينية كقضية لاجئين فحسب، مع تعمد كامل لعدم ذكر العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي تسبب بهذه الكارثة، لتغدو المسألة وكأنها مسألة إغاثة تحمل الطابع الإنساني الصرف حيال شعب تعرّض لمأساة طبيعية، أو لزلزال أحدثته الطبيعة.

لقد أناخ العرب رؤوسهم في هذا المؤتمر، كما هي العادة، أمام الشروط الأميركية في مسألة الإعمار، والتي هي شروط إسرائيلية كاملة، حيث تبنّى المؤتمرون هذه الشروط التي تمنع وصول أموال الإعمار إلى "حماس"، مع حرص واضح على ربط الإعمار بعجلة التسوية التي حددت إسرائيل آنفاً سقف شروطها، من خلال تحديها للعرب ولمن اجتمعوا في شرم الشيخ، عندما أعلنت عن أوسع خطة استيطان في الضفة والقدس تشتمل على نحو73 ألف وحدة سكنية، ومع نقل صحف العدو شروط نتنياهو حول ما يسمى "الدولة الفلسطينية" التي أعلن أنه يؤيد قيامها على خمسين في المائة من أراضي الضفة الغربية، بشرط أن تكون منزوعة السيادة، وأن تُسلب منها الصلاحيات التي تمتلكها أية دولة، وهي السيطرة على المجال الجوي، والمجال الإلكترومغناطيسي مثل موجات البث، والحق في إنشاء جيش، وإبرام أحلاف عسكرية، والسيطرة على المعابر...

لا تبدّل في السياسة الأمريكية في المنطقة
ووسط ذلك كله، تأتي وزيرة الخارجية الأميركية، كلينتون، إلى الكيان الصهيوني، لتستكمل زيارات أسلافها، من "أولبرايت" إلى "كولن باول" إلى "رايس"، ولتعلن عن الحقيقة التي تكاد تكون الحقيقة الوحيدة الثابتة في السياسة الخارجية الأميركية، وهي التزام أمن إسرائيل بالكامل... ثم لتتحدث ـ كأسلافها ـ عن الدولة الفلسطينية التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة ولا وجود... والتي أكلها الاستيطان عملياً منذ قرر الفلسطينيون أن يسيروا في ركاب أوسلو، ويختاروا طريق التسوية السياسية التي تحدثت كلينتون عنها كشرط أساسي لقيام الدولة... ولكن هذه الدولة سقطت من الحسابات الواقعية، ولم يبقَ منها إلا وَهْم الحديث السياسي الذي يطلقه المسؤولون الأميركيون، وربما يستمر ترديدهم له حتى الألفية الثالثة إذا بقي الواقع الفلسطيني في خط المساومة، وابتعد عن خط التحرير الذي تصنعه المقاومة والانتفاضة.

إن على العرب ـ في عروشهم ومواقعهم السلطوية ـ أن يطمئنوا إلى أن وزيرة الخارجية الأميركية ستظل تحدثهم عن الدولة الفلسطينية بالكلمات التي يرتاحون إلى سماعها، ولكنها لا تلتزم إلا بالكلمة التي قالتها أمام نصب ضحايا المحرقة في كيان العدو: "ليبارك الرب إسرائيل ومستقبلها"... فهي تبارك سياسة العدو، وتضحك على العرب الذين توهّموا أن ثمة سياسية أميركية جديدة في المنطقة.

إننا في الوقت الذي نشعر بخطورة ما يُخطط له دولياً في المسألة الفلسطينية، نعرف أن لا سبيل لمواجهة ذلك إلا بالوحدة التي لا بدّ من أن تنطلق من الداخل الفلسطيني، ومن رحم المعاناة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني، إضافة إلى الوحدة العربية التي نأمل أن يجسّدها الانفراج الحاصل في العلاقات السورية السعودية المصرية، لأننا نتطلّع إلى حركة وحدوية تنطلق من الداخل الفلسطيني إلى النطاق العربي والإسلامي، فتكون في حجم التحديات التي تواجهنا في القضية الفلسطينية، وقضايانا الكبرى.

إيران لن تخضع للتهاويل والتهديدات
وفي جانب آخر، نطل على الملف النووي الإيراني السلمي الذي يراد له أن يكون ملف الساعة في العالم كله، لأن كيان العدو أطلق صفارة الإنذار لكل الإدارات السياسية الغربية والمؤسسات الإعلامية الخاضعة للنفوذ الصهيوني، بأن عليها أن تلاحق إيران على مدى الساعة لأنها قررت أن إيران تمثل خطراً وجودياً عليها، ولذلك فهي في الوقت الذي تبعث برئيس هيئة الأركان في جيشها إلى الولايات المتحدة الأميركية لينقل الهواجس الإسرائيلية بأن إيران ستتمكّن من إنتاج القنبلة الذرية بنهاية العام2009، تحاول التلويح بخيارات تهديدية متواصلة، إلى جانب دعوتها الأميركيين إلى أن يحددوا سقفاً زمنياً للحوار مع إيران.

إننا نقول للعالم، وخصوصاً العالم المستكبر الذي جعل من كيان العدو كياناً نووياً يتهدد المنطقة بأسرها، ويشكّل خطراً على العالم بأسره، إنّ عليه أن يستمع إلى ما تقوله إيران لا إلى ما يقوله العدو، وقد أعلنت إيران على لسان أحد القياديين الكبار فيها مؤخراً أن مشروعها النووي هو مشروع سلمي وليس مشروعاً عسكرياً، وأنها مستعدة لتقديم الأدلة المقنعة للعالم على ذلك، حيث لا حاجة عندها ولا خطة لديها لإنتاج القنبلة الذرية، وبالتالي فإذا أصرّ هذا العالم على الرضوخ لشروط العدو، وعلى مساومة المحاور الدولية على حساب إيران، كما يحاول الرئيس الأمريكي في مسألة الدرع الصاروخية وفي رسائله المتتالية إلى روسيا، فإن عليه أن يعرف أن إيران لا تخضع للتهاويل التي يراد لها أن تكون المقدمات لأيّ حوار قادم... وأنّ البديل هو بناء الثقة ضمن خطوات الاحترام المتبادل، ومن دون ذلك، فلا حاجة إلى حوار الطرشان، أو إلى حوار التهاويل والتهديدات.

لبنان: القضاء الدولي صيف وشتاء على سقف واحد
أما لبنان، فلا يزال يدور حول نفسه في اجتماع الحوار الوطني، بمقدار ما يبدو محكوماً بالدوران في الأفلاك الإقليمية والدولية التي لا نعرف إن كانت ستقود إلى تغيير الواقع نحو الأفضل أو الأسوأ، وقد خرج قادة الحوار الداخلي في اجتماعهم بمشروعٍ للتهدئة، بينما تُركت الاستراتيجية الدفاعية على الرف، ربما لأن البعض قد يشعر بالإحراج حيال الحديث عن إستراتيجية دفاعية حقيقية للبنان أمام الحديث الأميركي المتواصل عن أمن إسرائيل وتفوّقها النوعي، وفي ظل الأساطيل التي تنقل الأسلحة الذكية وغير الذكية من الولايات المتحدة الأميركية إلى كيان العدو، لأن هؤلاء يخشون من إدخال البلد في الحسابات الاستراتيجية، ويريدونه أن يبقى رهينة للحسابات السياسية الانفعالية التي تصر على إدخال اللبنانيين في تفاصيل الحرتقات الداخلية، وإن كانت تخرجهم من حسابات الدور والنفوذ والموقع على مستوى المنطقة كلها.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الجميع يتحدثون عن الانتخابات النيابية القادمة، ولكنهم يتباطؤون في التأسيس للمجلس الدستوري الذي يمثل الميزان الذي يمكن له أن يزن أعمال الحكومة وقضايا الانتخابات. ومن الطريف أن القيادات تطالب بالإسراع في تأليف المجلس الدستوري وهي في داخل السلطة، كأنّ من يعرقل قيام المجلس هو الشعب وليس الصراع على الحصص... إنهم يخافون من المحاسبة على الأخطاء التي يرتكبونها، والمشاكل التي ينتجونها، ولذلك فإن المرحلة الجديدة كالمرحلة القديمة، تتحرك لتغييب موازين الحساب في المجلس والقضاء وفي حركة الدولة.

وعندما نطل على القضاء الدولي، فإن علينا أن نحدّق ملياً في هذا القضاء بمسمّياته المتعددة، وخصوصاً في ظل تجاربنا السابقة معه على مستوى قضايانا كأمة وكشعوب، وفي هذا الوقت بالذات الذي نشهد صيفاً وشتاءً على سقف واحد، إذ لا تُحاسب إسرائيل على جرائمها الوحشية الفظيعة التي لا مثيل لها ولا دلائل حسيّة أوضح منها، بينما يلاحَق السودان ورئيسه تحت حجج واهية، ولأهداف سياسية استكبارية بات يعرفها الجميع.

إننا في الوقت الذي نخشى أن تدخل القضايا مجدداً في متاهات التسييس، علينا أن نراقب عمل المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس الحريري، لنأمل أن تصل إلى نتائج حاسمة وعادلة في اكتشاف المجرمين والحكم عليهم من أجل تحقيق العدالة في الوطن، ولكننا نأسف حيال واقع الضعف الذي وصل إليه القضاء في لبنان، سواء لجهة عجزه أو عدم امتلاكه الإرادة الكافية لاكتشاف المجرمين وملاحقتهم، وإطلاق الأبرياء وتبرئتهم، الأمر الذي يضطر الكثيرين إلى البحث عن العدالة والاقتصاص من المجرمين في الواقع الدولي الذي تكتنفه الأسرار، ويتحكّم به الأشرار...

مجزرة بئر العبد: عنوان للإرهاب الأمريكي
وأخيراً، نلتقي في هذه الأيام بذكرى مجزرة بئر العبد، هذه المجزرة الرهيبة التي خططت لها الاستخبارات المركزية بشخص رئيسها السابق "ويليام كايسي"، ونفّذتها من خلال عملاء لها في الداخل والخارج... ومع كونها تمثل دليلاً دامغاً على الإرهاب الأميركي ـ باعتراف الإعلام الأميركي نفسه ـ إلا أن أحداً من المسؤولين اللبنانيين لم يكلّف نفسه أن يواجه الأميركيين بذلك، وأن يضعهم موضع الاتهام الذي يرموننا به، فضلاً عن أن القضاء اللبناني وأجهزة الدولة لم تكلّف نفسها ملاحقة المجرم الدولي الذي يطوف العالم واعظاً في أحاديث الحرية والديمقراطية، وهو لا يتوانى عن مواجهة الكلمة بالمتفجرات الوحشية والعبوات الناسفة التي طاولت النساء والأطفال والأبرياء.

إننا نقول لأهلنا وشعبنا، ولكل هؤلاء الذين انتصروا على المجازر، إسرائيليةً كانت أو أميركية، إننا معكم، سنبقى إلى جانبكم، نحمل قضاياكم، ونعيش الإسلام الحيّ المتحرك في خطى الأنبياء والأولياء، لنؤكد الحقيقة القرآنية الساطعة: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم}، وإن الوحشية والهمجية والطغيان لا يملكون قابلية الاستمرار أمام من يسعى للتغيير، ويمتلك عناصر القوة والإرادة والعزيمة في نفسه وواقعه.


ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

مع ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع):
رحل الإمام وبقي الإسلام

يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].

دور الإمام العسكري التبليغي
من أهل هذا البيت ومن أئمتهم، الإمام الحادي عشر، الحسن بن علي العسكري(ع)، الذي عاش مرحلته، ولم يكن قد تجاوز سن الشباب، بكل رساليةٍ وفعالية في التبليغ والتثقيف الإسلامي، فقد روى عنه الكثيرون من علماء الإسلام ما كان(ع) يزوّدهم به من علوم أهل البيت(ع)، الذين يمثلون النبع الصافي الذي تفجّر من النهر الكبير؛ من كتاب الله وسنّة رسوله.

فقد كان هذا الإمام الذي تصادف ذكرى وفاته في الثامن من هذا الشهر؛ شهر ربيع الأول، والذي صادف يوم أمس، كان صاحب المواقف التي مثّلت أعلى القيم الإسلامية التي فُرِضَت على المجتمع كله، حتى المجتمع المعادي لأهل البيت(ع) من الذين كانوا يلتزمون خلافة بني العباس، فنحن نقرأ في شهادتهم، أن هذا الإمام كان موضع التقدير والاحترام لكل من عرفه، سواء كان في مجتمع الخلافة أو في المجتمع الآخر.

ونحن نقرأ في تصريحات بعض هؤلاء، وهو أحمد بن عبيد الله بن خاقان، الذي كان أبوه من وزراء الخلافة، ما يدلّ على تعظيمه للإمام العسكري(ع)، فقد قال: "ما رأيت ولا عرفت بـ"سرّ من رأى" ـ وهي مدينة سامراء، وقد لُقِّب الإمام(ع) بالعسكري لأنه كان يسكن في محلّة في سامراء تسمى العسكر، فنُسب إلى هذه المحلة ـ من العلوية ـ من كل بني هاشم ـ مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السنّ منهم والخطر ـ أهل المنـزلة الرفيعة ـ وكذلك القوّاد ـ قادة الجيش ـ والوزراء والكتّاب ـ الموظفون في ديوان الخلافة ـ وعامة الناس... وما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشائخه... ولم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلا وهو يُحسن القول فيه والثناء عليه"، ما جعل أعداءه يعظِّمونه ويكرِّمونه، لما كانوا يرونه من منـزلته الرفيعة، ولما كان يجسّده من القيم المعرفية والروحية والأخلاقية والاجتماعية...

تقدير الأعداء له(ع)
وقال أبوه عبيد الله بن خاقان، وقد سأله ولده عن سرّ تعظيمه الكبير للإمام(ع): "لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه".

وهذا الكلام من وزير الخلافة يدلّ على الفضل الكبير للإمام العسكري(ع)، وكما يقول الشاعر: "والفضل ما شهدت به الأعداء".

وقد كان خلفاء بني العباس يخشون على ملكهم من أئمة أهل البيت(ع)، لما كانوا يرونه من تعظيم الناس لهم وانجذابهم إليهم، ولذلك عمد الخليفة العباسي إلى سجن الإمام العسكري(ع). ولكن كيف كانت نظرة السجّان إليه؟

يروي الكليني في الكافي بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر قال: "دخل العباسيون على صالح بن وصيف، ودخل عليه صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية عندما حُبِس أبو محمد(ع)، فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع. فقال لهم صالح ـ مدير السجن ـ: ما أصنع به وقد وكّلت به رجلين شرّ مَن قدرت عليه ـ كانا أكثر الناس شراً وأشقاهم، ولم يكونا يملكان تقوى ولا ورعاً، كل ذلك لكي يضيّقا عليه ـ فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم. ثم أمر بإحضار الموكلَين، فقال لهما: ويحكما، ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ ـ ما الذي غيّركما إلى مثل هذا الصلاح؟ ـ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخَلَنا ما لا نملكه من أنفسنا. فلمّا سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين".

معالجة الانحرافات الفكرية
وكان الإمام العسكري(ع) يهتمّ بكل ما يحدث في العالم الإسلامي، وقد سمع أن رجلاً من فلاسفة العرب ألّف كتاباً في تناقض القرآن، فقال الإمام(ع) لأصحابه، ممن كانوا يتردّدون على هذا الفيلسوف ويدرسون عنده: "أما فيكم رجلٌ رشيد يردع أستاذكم عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟"، ولكنّ أحد تلاميذه قال: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال(ع): "أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟"، قال: نعم، فقال(ع): "... قل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول إنه من الجائز... فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه". فنقلوا له ما قاله الإمام العسكري(ع)، وفكر الرجل وأجاب بالإيجاب، وعندما سألهم عن مصدر السؤال وأخبروه، قال: لا يلتفت إلى هذا الكلام العلمي الموضوعي إلا من كان من أهل هذا البيت الذين زقّوا العلم زقاً. ومزّق كتابه.

فقد كان الإمام العسكريّ(ع) كأئمة أهل البيت(ع)، يلاحقون كل الأوضاع الفكرية التي ينحرف فيها البعض في أفكارهم. ومسؤولية علماء الدين في كل مرحلة، أن ينـزلوا إلى الساحة لمواجهة كل القضايا المنحرفة التي تحاول أن تسيء إلى الإسلام في العالم.

وكما استقبلنا بالأمس ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع)، فإننا نستقبل اليوم ذكرى إمامة الإمام الحجّة(عج)، الذي استلم الإمامة بعد والده، وهو بذلك كالنبي يحيى(ع)، أتاه الله الحكم صبياً، ونسأل الله أن يمتّعنا بظهوره وبرؤيته الغرّة الحميدة والشخصية الفريدة، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

من وصاياه(ع) لشيعته
ونحن في ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع)، نريد أن نستمع إلى بعض وصاياه التي يقول فيها لشيعته، ونحن من شيعته الذين بلغتهم وصيته: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة ـ أمانة المال أو الموقع أو المسؤولية ـ إلى من ائتمنكم، من برّ أو فاجر، وطول السجود ـ لأن السجود يمثل غاية الخضوع لله ـ وحُسن الجوار، فبهذا ـ بهذه الأخلاق ـ جاء محمّد(ص). صلّوا في عشائرهم ـ مع الناس الآخرين الذين يختلفون معهم في المذهب. وقد أفتينا، كما غيرنا من الفقهاء، بجواز الصلاة في جماعتهم ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم ـ إذا كان لهم حق عليكم، سواء كان حقاً أخلاقياً أو قانونياً ـ فإنّ الرجل منكم إذا وَرِع في دينه، وصَدَق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك... اتقوا الله، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ـ بحيث نتزيّن بكم من خلال أخلاقكم وأمانتكم وحسن جواركم ـ جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنّا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك. لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه غيرنا إلا كذّاب. أكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة على النبي(ص)، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما أوصيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام".

هذه وصية الإمام العسكري(ع) لشيعته. ويروى عن يعقوب بن إسحاق، قال: كتبت إلى أبي محمد أسأله: كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟ فوقّع(ع): "يا أبا يوسف، جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى". قال: وسألته: هل رأى رسول الله ربّه؟ فوقّع(ع): "إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ"، فالله لا يُرى بالبصر، ولكن يُرى بالقلب، {ما كذَّب الفؤاد ما رأى} [النجم:11].
ومن كلامه(ع) يقول: "خصلتان ليس فوقهما شيء؛ الإيمان بالله، ونفع الأخوان". وكتب إلى الإمام(ع) بعضُ مواليه يسأله أن يعلّمه دعاءً، فكتب(ع) إليه: "ادعُ بهذا الدعاء: يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أنظر الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومدّ لي بعمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل بي غيري".

هذا هو الإمام الحسن العسكري(ع)، وعلينا أن نقتدي به في كل ما أوصى وتحدث به. والسلام عليه يوم وُلد ويوم انتقل إلى رحاب الله ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

غزّة: إعادة الإعمار بشروط مذلّة
تتوالى الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة فصولاً، وآخرها فصل الإعمار، الذي يُراد له أن يتحوّل إلى قيد جديد يؤكد الحصار المالي والاقتصادي لشعب لا يزال في العراء بعد كارثة الحرب الوحشية الإسرائيلية التي طاولته، ليبرز قطاع غزة كواحد من أبرز مخيمات اللجوء والاعتقال الجماعي في العالم.

وقد عُقد ـ قبل أيام ـ في شرم الشيخ مؤتمر دولي يحمل عنوان إعادة إعمار غزة، ولكنه يستبطن أهدافاً سياسيةً قاتلةً، ليس أقلها التركيز على القضية الفلسطينية كقضية لاجئين فحسب، مع تعمد كامل لعدم ذكر العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي تسبب بهذه الكارثة، لتغدو المسألة وكأنها مسألة إغاثة تحمل الطابع الإنساني الصرف حيال شعب تعرّض لمأساة طبيعية، أو لزلزال أحدثته الطبيعة.

لقد أناخ العرب رؤوسهم في هذا المؤتمر، كما هي العادة، أمام الشروط الأميركية في مسألة الإعمار، والتي هي شروط إسرائيلية كاملة، حيث تبنّى المؤتمرون هذه الشروط التي تمنع وصول أموال الإعمار إلى "حماس"، مع حرص واضح على ربط الإعمار بعجلة التسوية التي حددت إسرائيل آنفاً سقف شروطها، من خلال تحديها للعرب ولمن اجتمعوا في شرم الشيخ، عندما أعلنت عن أوسع خطة استيطان في الضفة والقدس تشتمل على نحو73 ألف وحدة سكنية، ومع نقل صحف العدو شروط نتنياهو حول ما يسمى "الدولة الفلسطينية" التي أعلن أنه يؤيد قيامها على خمسين في المائة من أراضي الضفة الغربية، بشرط أن تكون منزوعة السيادة، وأن تُسلب منها الصلاحيات التي تمتلكها أية دولة، وهي السيطرة على المجال الجوي، والمجال الإلكترومغناطيسي مثل موجات البث، والحق في إنشاء جيش، وإبرام أحلاف عسكرية، والسيطرة على المعابر...

لا تبدّل في السياسة الأمريكية في المنطقة
ووسط ذلك كله، تأتي وزيرة الخارجية الأميركية، كلينتون، إلى الكيان الصهيوني، لتستكمل زيارات أسلافها، من "أولبرايت" إلى "كولن باول" إلى "رايس"، ولتعلن عن الحقيقة التي تكاد تكون الحقيقة الوحيدة الثابتة في السياسة الخارجية الأميركية، وهي التزام أمن إسرائيل بالكامل... ثم لتتحدث ـ كأسلافها ـ عن الدولة الفلسطينية التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة ولا وجود... والتي أكلها الاستيطان عملياً منذ قرر الفلسطينيون أن يسيروا في ركاب أوسلو، ويختاروا طريق التسوية السياسية التي تحدثت كلينتون عنها كشرط أساسي لقيام الدولة... ولكن هذه الدولة سقطت من الحسابات الواقعية، ولم يبقَ منها إلا وَهْم الحديث السياسي الذي يطلقه المسؤولون الأميركيون، وربما يستمر ترديدهم له حتى الألفية الثالثة إذا بقي الواقع الفلسطيني في خط المساومة، وابتعد عن خط التحرير الذي تصنعه المقاومة والانتفاضة.

إن على العرب ـ في عروشهم ومواقعهم السلطوية ـ أن يطمئنوا إلى أن وزيرة الخارجية الأميركية ستظل تحدثهم عن الدولة الفلسطينية بالكلمات التي يرتاحون إلى سماعها، ولكنها لا تلتزم إلا بالكلمة التي قالتها أمام نصب ضحايا المحرقة في كيان العدو: "ليبارك الرب إسرائيل ومستقبلها"... فهي تبارك سياسة العدو، وتضحك على العرب الذين توهّموا أن ثمة سياسية أميركية جديدة في المنطقة.

إننا في الوقت الذي نشعر بخطورة ما يُخطط له دولياً في المسألة الفلسطينية، نعرف أن لا سبيل لمواجهة ذلك إلا بالوحدة التي لا بدّ من أن تنطلق من الداخل الفلسطيني، ومن رحم المعاناة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني، إضافة إلى الوحدة العربية التي نأمل أن يجسّدها الانفراج الحاصل في العلاقات السورية السعودية المصرية، لأننا نتطلّع إلى حركة وحدوية تنطلق من الداخل الفلسطيني إلى النطاق العربي والإسلامي، فتكون في حجم التحديات التي تواجهنا في القضية الفلسطينية، وقضايانا الكبرى.

إيران لن تخضع للتهاويل والتهديدات
وفي جانب آخر، نطل على الملف النووي الإيراني السلمي الذي يراد له أن يكون ملف الساعة في العالم كله، لأن كيان العدو أطلق صفارة الإنذار لكل الإدارات السياسية الغربية والمؤسسات الإعلامية الخاضعة للنفوذ الصهيوني، بأن عليها أن تلاحق إيران على مدى الساعة لأنها قررت أن إيران تمثل خطراً وجودياً عليها، ولذلك فهي في الوقت الذي تبعث برئيس هيئة الأركان في جيشها إلى الولايات المتحدة الأميركية لينقل الهواجس الإسرائيلية بأن إيران ستتمكّن من إنتاج القنبلة الذرية بنهاية العام2009، تحاول التلويح بخيارات تهديدية متواصلة، إلى جانب دعوتها الأميركيين إلى أن يحددوا سقفاً زمنياً للحوار مع إيران.

إننا نقول للعالم، وخصوصاً العالم المستكبر الذي جعل من كيان العدو كياناً نووياً يتهدد المنطقة بأسرها، ويشكّل خطراً على العالم بأسره، إنّ عليه أن يستمع إلى ما تقوله إيران لا إلى ما يقوله العدو، وقد أعلنت إيران على لسان أحد القياديين الكبار فيها مؤخراً أن مشروعها النووي هو مشروع سلمي وليس مشروعاً عسكرياً، وأنها مستعدة لتقديم الأدلة المقنعة للعالم على ذلك، حيث لا حاجة عندها ولا خطة لديها لإنتاج القنبلة الذرية، وبالتالي فإذا أصرّ هذا العالم على الرضوخ لشروط العدو، وعلى مساومة المحاور الدولية على حساب إيران، كما يحاول الرئيس الأمريكي في مسألة الدرع الصاروخية وفي رسائله المتتالية إلى روسيا، فإن عليه أن يعرف أن إيران لا تخضع للتهاويل التي يراد لها أن تكون المقدمات لأيّ حوار قادم... وأنّ البديل هو بناء الثقة ضمن خطوات الاحترام المتبادل، ومن دون ذلك، فلا حاجة إلى حوار الطرشان، أو إلى حوار التهاويل والتهديدات.

لبنان: القضاء الدولي صيف وشتاء على سقف واحد
أما لبنان، فلا يزال يدور حول نفسه في اجتماع الحوار الوطني، بمقدار ما يبدو محكوماً بالدوران في الأفلاك الإقليمية والدولية التي لا نعرف إن كانت ستقود إلى تغيير الواقع نحو الأفضل أو الأسوأ، وقد خرج قادة الحوار الداخلي في اجتماعهم بمشروعٍ للتهدئة، بينما تُركت الاستراتيجية الدفاعية على الرف، ربما لأن البعض قد يشعر بالإحراج حيال الحديث عن إستراتيجية دفاعية حقيقية للبنان أمام الحديث الأميركي المتواصل عن أمن إسرائيل وتفوّقها النوعي، وفي ظل الأساطيل التي تنقل الأسلحة الذكية وغير الذكية من الولايات المتحدة الأميركية إلى كيان العدو، لأن هؤلاء يخشون من إدخال البلد في الحسابات الاستراتيجية، ويريدونه أن يبقى رهينة للحسابات السياسية الانفعالية التي تصر على إدخال اللبنانيين في تفاصيل الحرتقات الداخلية، وإن كانت تخرجهم من حسابات الدور والنفوذ والموقع على مستوى المنطقة كلها.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الجميع يتحدثون عن الانتخابات النيابية القادمة، ولكنهم يتباطؤون في التأسيس للمجلس الدستوري الذي يمثل الميزان الذي يمكن له أن يزن أعمال الحكومة وقضايا الانتخابات. ومن الطريف أن القيادات تطالب بالإسراع في تأليف المجلس الدستوري وهي في داخل السلطة، كأنّ من يعرقل قيام المجلس هو الشعب وليس الصراع على الحصص... إنهم يخافون من المحاسبة على الأخطاء التي يرتكبونها، والمشاكل التي ينتجونها، ولذلك فإن المرحلة الجديدة كالمرحلة القديمة، تتحرك لتغييب موازين الحساب في المجلس والقضاء وفي حركة الدولة.

وعندما نطل على القضاء الدولي، فإن علينا أن نحدّق ملياً في هذا القضاء بمسمّياته المتعددة، وخصوصاً في ظل تجاربنا السابقة معه على مستوى قضايانا كأمة وكشعوب، وفي هذا الوقت بالذات الذي نشهد صيفاً وشتاءً على سقف واحد، إذ لا تُحاسب إسرائيل على جرائمها الوحشية الفظيعة التي لا مثيل لها ولا دلائل حسيّة أوضح منها، بينما يلاحَق السودان ورئيسه تحت حجج واهية، ولأهداف سياسية استكبارية بات يعرفها الجميع.

إننا في الوقت الذي نخشى أن تدخل القضايا مجدداً في متاهات التسييس، علينا أن نراقب عمل المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس الحريري، لنأمل أن تصل إلى نتائج حاسمة وعادلة في اكتشاف المجرمين والحكم عليهم من أجل تحقيق العدالة في الوطن، ولكننا نأسف حيال واقع الضعف الذي وصل إليه القضاء في لبنان، سواء لجهة عجزه أو عدم امتلاكه الإرادة الكافية لاكتشاف المجرمين وملاحقتهم، وإطلاق الأبرياء وتبرئتهم، الأمر الذي يضطر الكثيرين إلى البحث عن العدالة والاقتصاص من المجرمين في الواقع الدولي الذي تكتنفه الأسرار، ويتحكّم به الأشرار...

مجزرة بئر العبد: عنوان للإرهاب الأمريكي
وأخيراً، نلتقي في هذه الأيام بذكرى مجزرة بئر العبد، هذه المجزرة الرهيبة التي خططت لها الاستخبارات المركزية بشخص رئيسها السابق "ويليام كايسي"، ونفّذتها من خلال عملاء لها في الداخل والخارج... ومع كونها تمثل دليلاً دامغاً على الإرهاب الأميركي ـ باعتراف الإعلام الأميركي نفسه ـ إلا أن أحداً من المسؤولين اللبنانيين لم يكلّف نفسه أن يواجه الأميركيين بذلك، وأن يضعهم موضع الاتهام الذي يرموننا به، فضلاً عن أن القضاء اللبناني وأجهزة الدولة لم تكلّف نفسها ملاحقة المجرم الدولي الذي يطوف العالم واعظاً في أحاديث الحرية والديمقراطية، وهو لا يتوانى عن مواجهة الكلمة بالمتفجرات الوحشية والعبوات الناسفة التي طاولت النساء والأطفال والأبرياء.

إننا نقول لأهلنا وشعبنا، ولكل هؤلاء الذين انتصروا على المجازر، إسرائيليةً كانت أو أميركية، إننا معكم، سنبقى إلى جانبكم، نحمل قضاياكم، ونعيش الإسلام الحيّ المتحرك في خطى الأنبياء والأولياء، لنؤكد الحقيقة القرآنية الساطعة: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم}، وإن الوحشية والهمجية والطغيان لا يملكون قابلية الاستمرار أمام من يسعى للتغيير، ويمتلك عناصر القوة والإرادة والعزيمة في نفسه وواقعه.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية