ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
العنصرية اليهودية في مواجهة الرسالة
اليهود في المدينة
عندما بعث الله رسوله محمَّداً(ص) بالرسالة، وقفت قريش ومعها حلفاؤها من المشركين ضدَّ رسالته، وتعاملوا معه بكلِّ قسوة، وعذَّبوا المسلمين الذين دخلوا في الإسلام، وحاصروهم، حتى وصل الأمر بأنهم قتلوا بعضهم. وضاق الأمر بالمسلمين، فاضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة، وبعد أن زاد التّآمر على النبي(ص) هاجر إلى المدينة، وعندما وصل(ص) إليها، عقد معاهدةً بين أهلها من الأنصار، وبين المهاجرين إليها من أهل مكّة، واليهود الذين كانوا يقيمون في ضواحي المدينة. وقد جعل لليهود في هذه المعاهدة ما للمسلمين، فلهم كلّ حقوق المواطنة، وعليهم كل المسؤوليات.
ولكنَّ اليهود الذين كان كل تاريخهم تاريخ الفتنة والحقد والعداوة والبغضاء، خصوصاً في ذهنيتهم العنصرية التي كانوا يستعلون بها على الناس، باعتبار أنهم أولياء الله وشعبه المختار، كانوا يتآمرون على الإسلام، وحاولوا أن يثيروا الفتنة بين المسلمين، عندما بعثوا بعض شبابهم ليجلس بين الأنصار، ويذكّرهم بالحروب التي كانت بين الأوس والخزرج، وكادت الفتنة أن تقع لولا أنّ رسول الله(ص) عرف بالأمر، وذكّر المسلمين بأخوّتهم الإيمانية، وسقطت الفتنة.
تحالف اليهود مع قريش
وعندما لاحظ اليهود أنّ الإسلام بدأ ينتشر ويتَّسع، وأنّ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، عاشوا العقدة من الإسلام، فعملوا على تشجيع المشركين من قريش على أن يهجموا على المدينة لينهوا ظاهرة الإسلام والرسول والرسالة، بحيث تكون الحرب حرباً شاملةً، فذهب جماعة من وجهاء اليهود إلى قريش، وعملوا على تأليبهم ضد النبي(ص)، بعدما فشلت قريش في الانتصار على رسول الله وإنهاء رسالته. وعندما التقى هذا الوفد من اليهود مع وجهاء قريش، وفي مقدمهم أبو سفيان، قال لهم: "مرحباً وأهلاً، أحبّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد".
وعاهد اليهود قريشاً على قتال النبيّ، وقالوا لهم إنَّ كلَّ اليهود معكم في كل المناطق العربية؛ يهود بني قريضة، وبني النضير، وبني القينقاع، ويهود خيبر. وتجهّزوا للقتال، وطوَّقوا المدينة من خلال المواقع الاستراتيجية التي كان اليهود يسكنونها، وتجهَّزت قريش في البداية، وجمعوا من العرب أربعة آلاف، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، وتجمَّع معهم بعض حلفائهم، حتى بلغوا عشرة آلاف ممن ورد المدينة.
عرف النبي بالأمر، فشاور المسلمين، لأنّ هذه الحرب لم تكن كبقية الحروب، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وقال له: "كنّا في فارس إذا حوصرنا خندقنا". واستحسن النبي والمسلمون ذلك، حتى قال كل فريق من المسلمين: سلمان منّا، فقال الرسول(ص): "سلمان منّا أهل البيت".
وجعل المسلمون يحفرون الخندق مستعجلين يبادرون قدوم الأعداء، وعمل رسول الله(ص) معهم بيده تشجيعاً لهم، ونقض يهود المدينة العهد، وأعلنوا عن تحالفهم مع قريش، وجاءت قريش بكلِّ جموعها وجموع حلفائها، واشتدَّ الخوف بين المسلمين عندما أتاهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى قال بعض المنافقين: "كان محمَّد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط".
وكانوا كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(الأحزاب: 9-11).
انتصار الإسلام بضربة عليّ(ع)
وعندما جاء المشركون وشاهدوا الخندق، قالوا: إنّ هذا الأمر لم تعرفه العرب في حروبها. وجاء الفوارس من قريش يتقدَّمهم عمرو بن عبد ودّ، فصاروا إلى مكان ضيِّق في الخندق كان قد أغفله المسلمون، فأكرهوا خيولهم على اقتحامه، ووقف عمرو مستعرضاً قوَّته التي كانت مضرب المثل، حتّى إنّه كان يقال إنّ عمرو يُعدّ بألف فارس، وقال: هل من مبارز؟ فقال رسول الله(ص) للمسلمين بحسب الرواية: من لعمرو؟ ولم يقم أحد إلاّ علي(ع)، فقال له: أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس، حتى قالها ثلاثاً، ولم يقم إلاّ علي، فأذن له النبي.
وفي رواية أن النبيّ(ص) رفع عمامته إلى السماء وقال: "هذا عليٌّ أخي وابن عمي، فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"، لأنَّ عليّاً بالنّسبة إلى الرّسول أخوه وسنده، وكان القوّة لجيشه، فإذا قتل أصبح رسول الله وحده.
وانطلق عليٌّ(ع) إلى عمرو، فقال عمرو له: من أنت؟ قال(ع): "أنا علي بن أبي طالب، فقال له: لقد كان أبوك صديقاً لي وأنا لا أحبُّ أن أقتلك. فقال له علي(ع): "ولكني أحب أن أقتلك"، لأن القضية هي قضية الإسلام. ثم قال له علي(ع): "بلغني أنّك كنت عاهدت قريش أن لا يدعوك أحد إلى خلّتين إلا أجبت إلى إحداهما"، قال أجل. فقال عليّ(ع): فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام"، فقال لا حاجة لي في ذلك، قال(ع): "فإني أدعوك إلى البراز"، فقال: إنّ هذه لخصلة ما كنت أظن أن أحداً من العرب يروعني بها. فقال له(ع): "كيف أقاتلك وأنت فارس (راكب)، انزل معي". ونزل عمرو عن فرسه، وسلّ سيفه، فتجاولا وتقاتلا، وضربه عليٌّ على ساقه، وسقط عمرو على الأرض فقتله.
وجاء علي(ع) إلى رسول الله(ص) وهو يهلّل فرحاً، ويروى أنَّ النبي(ص)، عندما برز عليٌّ إلى عمرو، قال: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"، لأنّ الشّرك كلّه تجسّد في تلك المعركة في عمرو بن عبد ودّ، ولأنّ الإيمان كلّه تجسّد في عليٍّ، فإذا انتصر، يكون انتصاره انتصاراً للإيمان على الشرك. وانتصر المسلمون عندما قُتِلَ عمرو بن عبد ودّ، وانهزم المشركون، وجاءتهم ريح عاصفةٌ، ولم يستطيعوا أن يتمالكوا أنفسهم، حتى إنّ أحدهم لم يعد يعرف الآخر.
ويحدّثنا الله تعالى عن المؤمنين الذين كانوا يعيشون الإيمان بكلِّ صدق وإخلاص، فيقول تعالى:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}(الأحزاب:22-25).
فقد كفى الله المؤمنين القتال بعلي(ع) وبمواقفه القتالية الشجاعة، وقد وقف عليٌّ من أجل نصرة الإسلام، لأنّه كان يعيش الإسلام في كل كيانه.
العنصريّة اليهودية
ونستوحي من حركة اليهود في التَّحضير لهذه الواقعة، كيف كانوا في كلّ تاريخهم يتحرَّكون في مواجهة رسالات الله سبحانه وتعالى، والإسلام بشكل خاص، وكانوا الحاقدين على الأديان كلّها، وهذا ما لاحظناه في إقدام اليهود في فلسطين على الإساءة إلى النبي عيسى وأمه الطاهرة مريم، بعد أن قاموا قبل ذلك بنشر الصور التي تسيء إلى نبيِّ الإسلام محمَّد(ص)، ورأينا كيف تحرّكوا في العالم من أجل أن يؤلّبوا العالم المستكبر ضدّ الإسلام والمسلمين، إضافةً إلى المجازر الّتي يرتكبونها بحقّ الشعب الفلسطيني، كما ارتكبوا الكثير من المجازر في لبنان ضد الشعب اللبناني.
إن اليهود الآن يثأرون من كلِّ التاريخ الإسلامي، لأنَّ النبي(ص) بعدما انتهت معركة الأحزاب، ذهب إلى بني قريضة والذين نقضوا العهد معه، وأجلاهم عن المدينة، وقتل الكثير منهم.
إن ّعلينا أن نقرأ تاريخ الإسلام وكلَّ حروب النبي(ص) التي فرضت عليه وعطَّلت الكثير من حركة رسالته، لنستوحي منها كيف يمكننا أن ننطلق في مواجهة العالم المستكبر والكافر الذي يكيد للإسلام والمسلمين، ولا سيّما اليهود قتلة الأنبياء وناقضي العهود.
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى علي وليّ الله والأئمة الأطهار(ع).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
فلسطين: هجمات تهويدية على القدس
يوشك العدوُّ الصهيونيّ المباشرة بتنفيذ مخطّطٍ جديد لتهجير الفلسطينيين من القدس المحتلة، في نطاق مرحلة جديدة يعمل فيها لتنفيذ أوسع حملة تهجير تطاول الفلسطينيين المقدسيين منذ احتلال القدس في العام 1967... وهو يعزو ذلك إلى ذرائع واهية طالما لجأ إليها، وتتمثَّل في عدم وجود تراخيص لثمانين منزلاً يستعدُّ العدوُّ لهدمها وطرد 1500 مقدسيّ وتشريدهم... علماً أن هذه المنازل جرى تشييدها قبل الاحتلال، ويتحدث بعض الخبراء عن أنَّ هدمها قد يترك آثاراً سلبيةً على المسجد الأقصى نفسه.
لقد أصبحت الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، وخصوصاً في القدس التي يراد تهويدها بالكامل، تمرُّ مرور الكرام على السمع العربي والإسلامي، فلا تثير ضجةً في الأوساط السياسية، ولا تحرّك ساكناً في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وحتى في لجنة القدس التي اُنشئت تحت عنوان الدفاع عن القدس وأهلها والمقدّسات فيها.
إننا ندعو الغيارى في العالم العربي والإسلامي، ومن لا يزال لديهم نبضٌ على مستوى الضمائر الحيّة، إلى التحرك على خطّين: الأول سياسي وإعلامي وثقافي وميداني يواجه هذا المخطط الخطير بكل قوة وزخم، وأمّا الثاني فيتمثّل بالعمل على دعم الفلسطينيين في القدس بكلِّ الإمكانات المتوافرة التي من شأنها تثبيت صمودهم، وتعزيز وجودهم في المدينة المقدّسة التي يراد لها أن تخلع الثوب العربي والإسلامي، لتلبس ثوب الاغتصاب اليهودي الساعي لتغيير هويتها التراثية والدينية والسياسية.
إن علينا أن نرصد الهجوم التهويدي على القدس في سياق الهجمة الإسرائيلية اليهودية الحاقدة على المسألة الفلسطينية لإنهائها بالكامل، ولتغدو الاعتداءات المتواصلة، والغارات العدوانية على غزة، وحملة الاعتقالات والتصفيات في الضفة، جزءاً لا يتجزَّأ منها، وهو الأمر الذي ينبغي أن يستدعي تحركاً عالمياً لمنع اليهود المغتصبين من تحقيق أهدافهم الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية بتواطؤ إقليمي ومساهمات دولية متواصلة.
ونحن في الوقت الذي نستشعر الخطر الكبير الذي يتهدّد القضية، نريد للحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني أن يدخل مرحلته الحاسمة، وأن يتحرك في المجالات العمليَّة، ليفضي إلى نتائج ملموسة لحساب القضية الفلسطينية التي تمر بمرحلة صعبة وخطيرة، تتعقّد معها أوضاع الشعب الفلسطيني على مختلف المستويات.
الإدارة الأمريكية الجديدة: الاستمرار في خط الهيمنة الامبراطورية
إنّنا نستمع إلى كلمات تنطلق من الساحة العربية، تعبّر عن تمنيات تارةً، وتشير إلى رهانات تارةً أخرى، وتتمحور حول تحوّلات استراتيجية في السياسة الأميركية قد تنعكس على المسألة الفلسطينية، وغيرها من المسائل التي تتصل بقضايا الشعوب العربية والإسلامية، والشعوب المستضعفة... إننا ندعو كل هؤلاء إلى عدم الذهاب بعيداً في استنتاجاتهم، لأنَّ الإدارة الأمريكية الجديدة لن تكون النقيض التام لإدارة بوش، ولن تتحرَّك خارج الدائرة التي تتصل بالمصلحة الأميركية في مسألة الهيمنة، وتسخير العلاقة مع المحاور الدولية بما يؤكّد السير في الخطِّ الإمبراطوري الساعي لاستمرار الإمساك بقيادة العالم، وتوفير الضمانات المتواصلة للكيان الصهيوني في احتلاله وأمنه وتفوّقه الاستراتيجي على العرب والمسلمين، وإن اختلفت اللغة التي يتداولها مسؤولو الإدارة الحالية عن المسؤولين السابقين، لأنَّ التوجُّهات لا تزال كما هي، وخصوصاً في المسألة الفلسطينية التي ستبقى رهينةً للحركة الصهيونية الداخلية التي أفرزتها الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة من جهة، وللخطط الأميركية الساعية لإعادة إمساك المنطقة بأساليب وخطوات جديدة من جهة أخرى، لأنَّ الأميركيين لا يرون فصلاً بين مناهجهم وخططهم في مسألة الهيمنة على المنطقة وبين ما تتطلبه مصلحة إسرائيل، ولكنّهم يبذلون الجهود لإيجاد الصيغ التي تزيل أيَّ خلل في الحركة التي يضحك فيها الأميركيون على الساسة العرب والمسلمين، الذين يُراد لهم أن يطوّعوا حساباتهم وحركتهم على وتيرة الحركة الأميركية في المنطقة.
إن علينا أن نراقب الإدارة الأميركية الجديدة، من خلال مندوبيها الذين يزورون المنطقة لدراسة الصيغ الجديدة التي تناسب خططهم وحركتهم، ولا سيما في زيارة بعضهم للبنان، حيث لاحظنا حرصاً أميركياً متزايداً على التدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية، وإن من خلال إيحاءات معينة تتصل تارةً بالانتخابات القادمة، وطوراً بالمسألة المتعلقة بالمقاومة، لتأكيد حرصهم الثابت على أمن العدو، ورفضهم لكلِّ ما من شأنه أن يهّدد هذا الأمن، وخصوصاً أنهم لم يستمعوا إلى من يذكّرهم بأنَّ طيران العدوّ الحربي والتجسّسي يواصل طلعاته العدوانية فوق الأراضي اللبنانية، وأن ذلك يمثل تهديداً متواصلاً للأمن اللبناني، وهو ما يستدعي حركةً لبنانيةً مضادّةً للحفاظ على السيادة وحماية الأرض.
لبنان: لإخراج المشاريع الإنمائية من السجالات السياسية
وعلينا في لبنان أن نتحرك على مستوى حماية أمننا الاجتماعي، إلى جانب السعي لحماية أمننا السياسي والاقتصادي، وهو الأمر الذي يفرض على الدولة بكلِّ مسؤوليها إيلاء مسألة الإنماء المسؤولية اللازمة، وخصوصاً في المشاريع الإنمائية والحيوية الملحّة والسياسة المائية على وجه التحديد، ومنها المشاريع المتَّصلة بنهر الليطاني، وتلك المتصلة بتأمين مياه الشفة والري للمواطنين، وأبرزها مشروعا مياه عين الزرقا والوزاني، لأنّنا نخشى أن تستمر حال التباطؤ في التعامل مع الحاجات الملحّة للناس، بما يجعل المسألة رهينةً للخطط الخارجية الرامية إلى منع لبنان من الاستفادة من مياهه، والتي تلتقي بطريقة وبأخرى بالخطط الإسرائيلية التي سبق أن تحدث عنها أكثر من مسؤول إسرائيلي، وبينهم بن غوريون الذي قال: "إنّنا لن نقبل أن تبقى إسرائيل عطشى ومياه الليطاني تذهب هدراً إلى البحر".
إنّنا ندعو الدولة إلى القيام بمسؤوليَّاتها في هذا الإطار، وإخراج هذه المشاريع وغيرها من دائرة السجال السياسي والانتخابي، وخصوصاً أن الضوضاء السياسية والمطلبية التي تتحرّك في الجدال العنيف بين المسؤولين، توحي ـ في حركة الفعل وردّ الفعل ـ بسقوط حكومة الوحدة الوطنية، وبفشل المسؤولين وتواطؤهم في مسألة منع الناس من الحصول على حقوقها التي تمثّل قيداً لازماً في رقبة الدولة، وخصوصاً حقوق ضحايا العدوان الإسرائيلي في تموز من العام2006، والتي جعلت الناس تفكِّر في أن حركة العدوان على حقوقهم تتواصل داخلياً كما انطلق العدوان الصهيوني عليها قبل سنوات.
إننا نحمّل المسؤولين في الدولة المسؤولية في ذلك كله، وخصوصاً أولئك الذين يتحركون في المواقع العليا للمسؤولية، لأن إخضاع مثل هذه الأمور للحرتقات السياسية، وللألاعيب النفاقية، يعني رهن البلد للعدوّ وللتطوّرات القادمة بمعاييرها الخطيرة التي قد تراكم التعقيدات وتزيد الأمور حدّةً على أبواب الانتخابات النيابية التي يتحدَّث الجميع عن الحرص على إجرائها، ولكنهم يمهّدون السبل لمزيد من التوترات والخلافات، ويزرعون الأرض بالمزيد من الألغام السياسية لحساب زعاماتهم وأوضاعهم، الأمر الذي قد يُدخل البلد في متاهات وكهوف وظلمات هو في أمسِّ الحاجة للخروج منها إلى ربيع الأمن والسلم والحياة.
السعودية: الاعتداء على زوّار الحرم خطر على الوحدة الإسلامية
وأخيراً، إننا أمام ما حدث من اعتداء على زوّار الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة، ومقبرة البقيع التي تضم قبور عدد من الأئمة والصحابة، والذين كانوا يحيون ذكرى وفاة النبي الأعظم (ص)، وأمام حجم الإصابات التي لحقت بهم، نشعر بأنَّ المسألة تدخل في نطاق الخطورة، وخصوصاً أن البعض أراد لها أن تتحرك في الجانب المذهبي الذي ينعكس سلباً على كل الجهود الآيلة إلى تعزيز الوحدة الإسلامية، وحماية خط الانفتاح والحوار بين جميع الفئات والمذاهب في المملكة العربية السعودية.
ولذلك، فإننا في الوقت الذي ندعو إلى إطلاق سراح المعتقلين، نطالب السلطات السعودية بأن تقتص من كلِّ أولئك الذين اعتدوا على الزوّار المؤمنين، في نطاق سعيها لإعادة اللحمة إلى الواقع الإسلامي الذي هو في أمسِّ الحاجة إلى خطوات توحيدية تجمع المسلمين وتوحّدهم في مواجهة أعداء الأمة والدين والإنسانية.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
العنصرية اليهودية في مواجهة الرسالة
اليهود في المدينة
عندما بعث الله رسوله محمَّداً(ص) بالرسالة، وقفت قريش ومعها حلفاؤها من المشركين ضدَّ رسالته، وتعاملوا معه بكلِّ قسوة، وعذَّبوا المسلمين الذين دخلوا في الإسلام، وحاصروهم، حتى وصل الأمر بأنهم قتلوا بعضهم. وضاق الأمر بالمسلمين، فاضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة، وبعد أن زاد التّآمر على النبي(ص) هاجر إلى المدينة، وعندما وصل(ص) إليها، عقد معاهدةً بين أهلها من الأنصار، وبين المهاجرين إليها من أهل مكّة، واليهود الذين كانوا يقيمون في ضواحي المدينة. وقد جعل لليهود في هذه المعاهدة ما للمسلمين، فلهم كلّ حقوق المواطنة، وعليهم كل المسؤوليات.
ولكنَّ اليهود الذين كان كل تاريخهم تاريخ الفتنة والحقد والعداوة والبغضاء، خصوصاً في ذهنيتهم العنصرية التي كانوا يستعلون بها على الناس، باعتبار أنهم أولياء الله وشعبه المختار، كانوا يتآمرون على الإسلام، وحاولوا أن يثيروا الفتنة بين المسلمين، عندما بعثوا بعض شبابهم ليجلس بين الأنصار، ويذكّرهم بالحروب التي كانت بين الأوس والخزرج، وكادت الفتنة أن تقع لولا أنّ رسول الله(ص) عرف بالأمر، وذكّر المسلمين بأخوّتهم الإيمانية، وسقطت الفتنة.
تحالف اليهود مع قريش
وعندما لاحظ اليهود أنّ الإسلام بدأ ينتشر ويتَّسع، وأنّ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، عاشوا العقدة من الإسلام، فعملوا على تشجيع المشركين من قريش على أن يهجموا على المدينة لينهوا ظاهرة الإسلام والرسول والرسالة، بحيث تكون الحرب حرباً شاملةً، فذهب جماعة من وجهاء اليهود إلى قريش، وعملوا على تأليبهم ضد النبي(ص)، بعدما فشلت قريش في الانتصار على رسول الله وإنهاء رسالته. وعندما التقى هذا الوفد من اليهود مع وجهاء قريش، وفي مقدمهم أبو سفيان، قال لهم: "مرحباً وأهلاً، أحبّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد".
وعاهد اليهود قريشاً على قتال النبيّ، وقالوا لهم إنَّ كلَّ اليهود معكم في كل المناطق العربية؛ يهود بني قريضة، وبني النضير، وبني القينقاع، ويهود خيبر. وتجهّزوا للقتال، وطوَّقوا المدينة من خلال المواقع الاستراتيجية التي كان اليهود يسكنونها، وتجهَّزت قريش في البداية، وجمعوا من العرب أربعة آلاف، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، وتجمَّع معهم بعض حلفائهم، حتى بلغوا عشرة آلاف ممن ورد المدينة.
عرف النبي بالأمر، فشاور المسلمين، لأنّ هذه الحرب لم تكن كبقية الحروب، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وقال له: "كنّا في فارس إذا حوصرنا خندقنا". واستحسن النبي والمسلمون ذلك، حتى قال كل فريق من المسلمين: سلمان منّا، فقال الرسول(ص): "سلمان منّا أهل البيت".
وجعل المسلمون يحفرون الخندق مستعجلين يبادرون قدوم الأعداء، وعمل رسول الله(ص) معهم بيده تشجيعاً لهم، ونقض يهود المدينة العهد، وأعلنوا عن تحالفهم مع قريش، وجاءت قريش بكلِّ جموعها وجموع حلفائها، واشتدَّ الخوف بين المسلمين عندما أتاهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى قال بعض المنافقين: "كان محمَّد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط".
وكانوا كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(الأحزاب: 9-11).
انتصار الإسلام بضربة عليّ(ع)
وعندما جاء المشركون وشاهدوا الخندق، قالوا: إنّ هذا الأمر لم تعرفه العرب في حروبها. وجاء الفوارس من قريش يتقدَّمهم عمرو بن عبد ودّ، فصاروا إلى مكان ضيِّق في الخندق كان قد أغفله المسلمون، فأكرهوا خيولهم على اقتحامه، ووقف عمرو مستعرضاً قوَّته التي كانت مضرب المثل، حتّى إنّه كان يقال إنّ عمرو يُعدّ بألف فارس، وقال: هل من مبارز؟ فقال رسول الله(ص) للمسلمين بحسب الرواية: من لعمرو؟ ولم يقم أحد إلاّ علي(ع)، فقال له: أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس، حتى قالها ثلاثاً، ولم يقم إلاّ علي، فأذن له النبي.
وفي رواية أن النبيّ(ص) رفع عمامته إلى السماء وقال: "هذا عليٌّ أخي وابن عمي، فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"، لأنَّ عليّاً بالنّسبة إلى الرّسول أخوه وسنده، وكان القوّة لجيشه، فإذا قتل أصبح رسول الله وحده.
وانطلق عليٌّ(ع) إلى عمرو، فقال عمرو له: من أنت؟ قال(ع): "أنا علي بن أبي طالب، فقال له: لقد كان أبوك صديقاً لي وأنا لا أحبُّ أن أقتلك. فقال له علي(ع): "ولكني أحب أن أقتلك"، لأن القضية هي قضية الإسلام. ثم قال له علي(ع): "بلغني أنّك كنت عاهدت قريش أن لا يدعوك أحد إلى خلّتين إلا أجبت إلى إحداهما"، قال أجل. فقال عليّ(ع): فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام"، فقال لا حاجة لي في ذلك، قال(ع): "فإني أدعوك إلى البراز"، فقال: إنّ هذه لخصلة ما كنت أظن أن أحداً من العرب يروعني بها. فقال له(ع): "كيف أقاتلك وأنت فارس (راكب)، انزل معي". ونزل عمرو عن فرسه، وسلّ سيفه، فتجاولا وتقاتلا، وضربه عليٌّ على ساقه، وسقط عمرو على الأرض فقتله.
وجاء علي(ع) إلى رسول الله(ص) وهو يهلّل فرحاً، ويروى أنَّ النبي(ص)، عندما برز عليٌّ إلى عمرو، قال: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"، لأنّ الشّرك كلّه تجسّد في تلك المعركة في عمرو بن عبد ودّ، ولأنّ الإيمان كلّه تجسّد في عليٍّ، فإذا انتصر، يكون انتصاره انتصاراً للإيمان على الشرك. وانتصر المسلمون عندما قُتِلَ عمرو بن عبد ودّ، وانهزم المشركون، وجاءتهم ريح عاصفةٌ، ولم يستطيعوا أن يتمالكوا أنفسهم، حتى إنّ أحدهم لم يعد يعرف الآخر.
ويحدّثنا الله تعالى عن المؤمنين الذين كانوا يعيشون الإيمان بكلِّ صدق وإخلاص، فيقول تعالى:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}(الأحزاب:22-25).
فقد كفى الله المؤمنين القتال بعلي(ع) وبمواقفه القتالية الشجاعة، وقد وقف عليٌّ من أجل نصرة الإسلام، لأنّه كان يعيش الإسلام في كل كيانه.
العنصريّة اليهودية
ونستوحي من حركة اليهود في التَّحضير لهذه الواقعة، كيف كانوا في كلّ تاريخهم يتحرَّكون في مواجهة رسالات الله سبحانه وتعالى، والإسلام بشكل خاص، وكانوا الحاقدين على الأديان كلّها، وهذا ما لاحظناه في إقدام اليهود في فلسطين على الإساءة إلى النبي عيسى وأمه الطاهرة مريم، بعد أن قاموا قبل ذلك بنشر الصور التي تسيء إلى نبيِّ الإسلام محمَّد(ص)، ورأينا كيف تحرّكوا في العالم من أجل أن يؤلّبوا العالم المستكبر ضدّ الإسلام والمسلمين، إضافةً إلى المجازر الّتي يرتكبونها بحقّ الشعب الفلسطيني، كما ارتكبوا الكثير من المجازر في لبنان ضد الشعب اللبناني.
إن اليهود الآن يثأرون من كلِّ التاريخ الإسلامي، لأنَّ النبي(ص) بعدما انتهت معركة الأحزاب، ذهب إلى بني قريضة والذين نقضوا العهد معه، وأجلاهم عن المدينة، وقتل الكثير منهم.
إن ّعلينا أن نقرأ تاريخ الإسلام وكلَّ حروب النبي(ص) التي فرضت عليه وعطَّلت الكثير من حركة رسالته، لنستوحي منها كيف يمكننا أن ننطلق في مواجهة العالم المستكبر والكافر الذي يكيد للإسلام والمسلمين، ولا سيّما اليهود قتلة الأنبياء وناقضي العهود.
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى علي وليّ الله والأئمة الأطهار(ع).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
فلسطين: هجمات تهويدية على القدس
يوشك العدوُّ الصهيونيّ المباشرة بتنفيذ مخطّطٍ جديد لتهجير الفلسطينيين من القدس المحتلة، في نطاق مرحلة جديدة يعمل فيها لتنفيذ أوسع حملة تهجير تطاول الفلسطينيين المقدسيين منذ احتلال القدس في العام 1967... وهو يعزو ذلك إلى ذرائع واهية طالما لجأ إليها، وتتمثَّل في عدم وجود تراخيص لثمانين منزلاً يستعدُّ العدوُّ لهدمها وطرد 1500 مقدسيّ وتشريدهم... علماً أن هذه المنازل جرى تشييدها قبل الاحتلال، ويتحدث بعض الخبراء عن أنَّ هدمها قد يترك آثاراً سلبيةً على المسجد الأقصى نفسه.
لقد أصبحت الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، وخصوصاً في القدس التي يراد تهويدها بالكامل، تمرُّ مرور الكرام على السمع العربي والإسلامي، فلا تثير ضجةً في الأوساط السياسية، ولا تحرّك ساكناً في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وحتى في لجنة القدس التي اُنشئت تحت عنوان الدفاع عن القدس وأهلها والمقدّسات فيها.
إننا ندعو الغيارى في العالم العربي والإسلامي، ومن لا يزال لديهم نبضٌ على مستوى الضمائر الحيّة، إلى التحرك على خطّين: الأول سياسي وإعلامي وثقافي وميداني يواجه هذا المخطط الخطير بكل قوة وزخم، وأمّا الثاني فيتمثّل بالعمل على دعم الفلسطينيين في القدس بكلِّ الإمكانات المتوافرة التي من شأنها تثبيت صمودهم، وتعزيز وجودهم في المدينة المقدّسة التي يراد لها أن تخلع الثوب العربي والإسلامي، لتلبس ثوب الاغتصاب اليهودي الساعي لتغيير هويتها التراثية والدينية والسياسية.
إن علينا أن نرصد الهجوم التهويدي على القدس في سياق الهجمة الإسرائيلية اليهودية الحاقدة على المسألة الفلسطينية لإنهائها بالكامل، ولتغدو الاعتداءات المتواصلة، والغارات العدوانية على غزة، وحملة الاعتقالات والتصفيات في الضفة، جزءاً لا يتجزَّأ منها، وهو الأمر الذي ينبغي أن يستدعي تحركاً عالمياً لمنع اليهود المغتصبين من تحقيق أهدافهم الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية بتواطؤ إقليمي ومساهمات دولية متواصلة.
ونحن في الوقت الذي نستشعر الخطر الكبير الذي يتهدّد القضية، نريد للحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني أن يدخل مرحلته الحاسمة، وأن يتحرك في المجالات العمليَّة، ليفضي إلى نتائج ملموسة لحساب القضية الفلسطينية التي تمر بمرحلة صعبة وخطيرة، تتعقّد معها أوضاع الشعب الفلسطيني على مختلف المستويات.
الإدارة الأمريكية الجديدة: الاستمرار في خط الهيمنة الامبراطورية
إنّنا نستمع إلى كلمات تنطلق من الساحة العربية، تعبّر عن تمنيات تارةً، وتشير إلى رهانات تارةً أخرى، وتتمحور حول تحوّلات استراتيجية في السياسة الأميركية قد تنعكس على المسألة الفلسطينية، وغيرها من المسائل التي تتصل بقضايا الشعوب العربية والإسلامية، والشعوب المستضعفة... إننا ندعو كل هؤلاء إلى عدم الذهاب بعيداً في استنتاجاتهم، لأنَّ الإدارة الأمريكية الجديدة لن تكون النقيض التام لإدارة بوش، ولن تتحرَّك خارج الدائرة التي تتصل بالمصلحة الأميركية في مسألة الهيمنة، وتسخير العلاقة مع المحاور الدولية بما يؤكّد السير في الخطِّ الإمبراطوري الساعي لاستمرار الإمساك بقيادة العالم، وتوفير الضمانات المتواصلة للكيان الصهيوني في احتلاله وأمنه وتفوّقه الاستراتيجي على العرب والمسلمين، وإن اختلفت اللغة التي يتداولها مسؤولو الإدارة الحالية عن المسؤولين السابقين، لأنَّ التوجُّهات لا تزال كما هي، وخصوصاً في المسألة الفلسطينية التي ستبقى رهينةً للحركة الصهيونية الداخلية التي أفرزتها الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة من جهة، وللخطط الأميركية الساعية لإعادة إمساك المنطقة بأساليب وخطوات جديدة من جهة أخرى، لأنَّ الأميركيين لا يرون فصلاً بين مناهجهم وخططهم في مسألة الهيمنة على المنطقة وبين ما تتطلبه مصلحة إسرائيل، ولكنّهم يبذلون الجهود لإيجاد الصيغ التي تزيل أيَّ خلل في الحركة التي يضحك فيها الأميركيون على الساسة العرب والمسلمين، الذين يُراد لهم أن يطوّعوا حساباتهم وحركتهم على وتيرة الحركة الأميركية في المنطقة.
إن علينا أن نراقب الإدارة الأميركية الجديدة، من خلال مندوبيها الذين يزورون المنطقة لدراسة الصيغ الجديدة التي تناسب خططهم وحركتهم، ولا سيما في زيارة بعضهم للبنان، حيث لاحظنا حرصاً أميركياً متزايداً على التدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية، وإن من خلال إيحاءات معينة تتصل تارةً بالانتخابات القادمة، وطوراً بالمسألة المتعلقة بالمقاومة، لتأكيد حرصهم الثابت على أمن العدو، ورفضهم لكلِّ ما من شأنه أن يهّدد هذا الأمن، وخصوصاً أنهم لم يستمعوا إلى من يذكّرهم بأنَّ طيران العدوّ الحربي والتجسّسي يواصل طلعاته العدوانية فوق الأراضي اللبنانية، وأن ذلك يمثل تهديداً متواصلاً للأمن اللبناني، وهو ما يستدعي حركةً لبنانيةً مضادّةً للحفاظ على السيادة وحماية الأرض.
لبنان: لإخراج المشاريع الإنمائية من السجالات السياسية
وعلينا في لبنان أن نتحرك على مستوى حماية أمننا الاجتماعي، إلى جانب السعي لحماية أمننا السياسي والاقتصادي، وهو الأمر الذي يفرض على الدولة بكلِّ مسؤوليها إيلاء مسألة الإنماء المسؤولية اللازمة، وخصوصاً في المشاريع الإنمائية والحيوية الملحّة والسياسة المائية على وجه التحديد، ومنها المشاريع المتَّصلة بنهر الليطاني، وتلك المتصلة بتأمين مياه الشفة والري للمواطنين، وأبرزها مشروعا مياه عين الزرقا والوزاني، لأنّنا نخشى أن تستمر حال التباطؤ في التعامل مع الحاجات الملحّة للناس، بما يجعل المسألة رهينةً للخطط الخارجية الرامية إلى منع لبنان من الاستفادة من مياهه، والتي تلتقي بطريقة وبأخرى بالخطط الإسرائيلية التي سبق أن تحدث عنها أكثر من مسؤول إسرائيلي، وبينهم بن غوريون الذي قال: "إنّنا لن نقبل أن تبقى إسرائيل عطشى ومياه الليطاني تذهب هدراً إلى البحر".
إنّنا ندعو الدولة إلى القيام بمسؤوليَّاتها في هذا الإطار، وإخراج هذه المشاريع وغيرها من دائرة السجال السياسي والانتخابي، وخصوصاً أن الضوضاء السياسية والمطلبية التي تتحرّك في الجدال العنيف بين المسؤولين، توحي ـ في حركة الفعل وردّ الفعل ـ بسقوط حكومة الوحدة الوطنية، وبفشل المسؤولين وتواطؤهم في مسألة منع الناس من الحصول على حقوقها التي تمثّل قيداً لازماً في رقبة الدولة، وخصوصاً حقوق ضحايا العدوان الإسرائيلي في تموز من العام2006، والتي جعلت الناس تفكِّر في أن حركة العدوان على حقوقهم تتواصل داخلياً كما انطلق العدوان الصهيوني عليها قبل سنوات.
إننا نحمّل المسؤولين في الدولة المسؤولية في ذلك كله، وخصوصاً أولئك الذين يتحركون في المواقع العليا للمسؤولية، لأن إخضاع مثل هذه الأمور للحرتقات السياسية، وللألاعيب النفاقية، يعني رهن البلد للعدوّ وللتطوّرات القادمة بمعاييرها الخطيرة التي قد تراكم التعقيدات وتزيد الأمور حدّةً على أبواب الانتخابات النيابية التي يتحدَّث الجميع عن الحرص على إجرائها، ولكنهم يمهّدون السبل لمزيد من التوترات والخلافات، ويزرعون الأرض بالمزيد من الألغام السياسية لحساب زعاماتهم وأوضاعهم، الأمر الذي قد يُدخل البلد في متاهات وكهوف وظلمات هو في أمسِّ الحاجة للخروج منها إلى ربيع الأمن والسلم والحياة.
السعودية: الاعتداء على زوّار الحرم خطر على الوحدة الإسلامية
وأخيراً، إننا أمام ما حدث من اعتداء على زوّار الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة، ومقبرة البقيع التي تضم قبور عدد من الأئمة والصحابة، والذين كانوا يحيون ذكرى وفاة النبي الأعظم (ص)، وأمام حجم الإصابات التي لحقت بهم، نشعر بأنَّ المسألة تدخل في نطاق الخطورة، وخصوصاً أن البعض أراد لها أن تتحرك في الجانب المذهبي الذي ينعكس سلباً على كل الجهود الآيلة إلى تعزيز الوحدة الإسلامية، وحماية خط الانفتاح والحوار بين جميع الفئات والمذاهب في المملكة العربية السعودية.
ولذلك، فإننا في الوقت الذي ندعو إلى إطلاق سراح المعتقلين، نطالب السلطات السعودية بأن تقتص من كلِّ أولئك الذين اعتدوا على الزوّار المؤمنين، في نطاق سعيها لإعادة اللحمة إلى الواقع الإسلامي الذي هو في أمسِّ الحاجة إلى خطوات توحيدية تجمع المسلمين وتوحّدهم في مواجهة أعداء الأمة والدين والإنسانية.