ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
ولادةُ نبيّ الرّحمة:
إحياءٌ لقيم العدل والحقّ والخير
بلغ العلى بكماله كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله صلّوا عليه وآله
الرّسول الشّاهد على الأمّة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(الأحزاب:45-46). ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}(سبأ:28).هو رسول الله محمد بن عبد الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى ليكون شاهداً على الأمةّ، يعيش معها ويبلّغها رسالات ربه، ويربّيها ويزكّيها ويعلّمها الكتاب والحكمة، ويواجه الذين يقفون ضدَّ الرسالة، ويؤكّد مبدأ التوحيد في مقابل الشرك، ليثير في ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في تخلّف الوثنية، والسائر في أوضاع الجهل، معركة التّمييز بين الحقيقة والخرافة، وبين التخلّف والتطوّر، وليفتح عقول الناس ليميّزوا الصواب من الخطأ، والخير من الشر، وليفكّروا في كل حركة يتحركون بها، تفكيراً عقلانياً يرتفع بهم إلى الإيمان بالله الواحد، ويبتعد بهم عن عبادة الأصنام التي يصنعونها من مجرَّد أحجار جامدة لا تحسّ ولا تختزن في داخلها أيّ حياة.ولقد أرسل اللّه رسوله الله شاهداً ومبشّراً؛ يبشّر الذين يؤمنون بالله وبرسالاته بأنَّ الله سوف يجزيهم جزاء المتَّقين بأن يدخلهم الجنَّة، ونذيراً للَّذين يكفرون بالله وينحرفون عن خطّه المستقيم، بأنّ النَّار مثواهم وبئس القرار.وقد كانت مهمَّته(ص) أن يدعو النّاس إلى الله الّذي حدَّد له منهاج الدعوة بقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ}(النحل:125)، وأراد له أن يكون السراج المنير الذي ينير للنَّاس عقولهم، ويضيء لهم تفكيرهم، ويُدخل الخير إلى قلوبهم وحياتهم العامة، لأنَّ دور النبي(ص) هو أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولذلك كان(ص) نوراً في عقله فلم يكن فيه أيّة ظلمة، بل كان المعصوم في العقل الّذي لا يخطئ في التفكير، وكان نوراً في قلبه، فلم يكن قلبه ينبض إلا بما ينير للناس إحساسهم الشّعوريّ والعاطفيّ، وكان نوراً في حياته فلم تصدر منه أيّة معصية.
الرّسول العالميّ ورسالة الحياة
كان النبيّ(ص) معصوماً بكلّه؛ بعقله وقلبه وحياته كلّها، ولم تكن دعوته مقتصرةً على المنطقة التي عاش فيها، وإن مثَّلت تلك المنطقة قاعدة الدعوة ومنطلقها، بل كانت دعوةً للنَّاس كافةً:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}(سبأ:28)، وفي آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107). وأراد الله له أن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف:158)، فقد كان الرَّسول العالمي الذي لا تقتصر رسالته على مجتمع دون مجتمع، وكانت رسالته خاتمة الرّسالات، لذلك فهي لا تختصّ بمكان دون مكان، ولا بزمان دون زمان، بل هي دعوة للحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال:24).
وامتدَّت رسالة النبي(ص) في أرجاء العالم كلّه، كما كانت رحمةً للعالمين كلّهم. وكان النبي(ص) يمثّل بشارة الأنبياء قبله، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه في حديث عيسى بن مريم(ع) لبني إسرائيل:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(الصَّف:6).
وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الخلق العظيم للنبي، حيث كان(ص) يمثّل القمَّة في أخلاقه، لأنه كان ليّن القلب ويحبّ النّاس كلّهم، سواء كانوا من أعدائه أو من أصدقائه، وكان يتألم لأعدائه ألماً عميقاً لأنّهم لم ينفتحوا على الرسالة، ولأنّهم سوف يخسرون الدنيا والآخرة، وكان قلبه ينبض بالرحمة والخير والمحبة، وكان طيب اللسان ينفتح لسانه على كلّ ما ينصح الناس ويرتفع بمستواهم ويؤلّف بينهم، وهكذا ألّف(ص) بين الفئات المتخاصمة، كما بين "الأوس" و"الخزرج"، بعدما كانت الحروب بينهم تمتد إلى عشرات السنين.
وكان (ص) يتابع المجتمع كلّه، من أجل أن يضع له النظام الذي يجمع كلمته وينظّم حياته، وفي هذا يقول تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ـ عظّموه ـ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف:175).
القدوة في الأخلاق والسّلوك
وقد أراد الله تعالى لنا أن نقتدي برسول الله(ص)، وأن نتخلّق بأخلاقه، فيكون النبي(ص) أسوةً لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}(الأحزاب:21)، فإذا كان رسول الله طيب القلب واللسان، فعلينا أن تكون قلوبنا وألسنتنا طيبةً، وإذا كان(ص) يحبّ الناس ويحنو عليهم، فعلينا أن نحبّ الناس ونحنو عليهم.
وعندما نواجه شهادة أخ رسول الله ووصيّه وتلميذه وصهره في حقّه، وهو أعرف الناس به، فإنّنا نقرأ في قول عليّ(ع) عنه: "بعثه والنَّاس ضلالٌ في حيرة، وحاطبون في فتنة ـ أيّ أنّهم كانوا يعمدون إلى إثارة نار الفتن ـ قد استهوتهم الأهواء، واستنـزلتهم الكبرياء ـ عاشوا التكبّر ـ واستخفّتهم الجاهلية الجهلاء ـ كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه ـ حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ (صلى الله عليه وآله) في النصيحة، ومضى على الطريقة ـ الطريقة التي علّمه الله أن يأخذ بها ـ ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة".
ويقول(ع) عنه: "فهو إمام من اتَّقى، وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوؤه، وشهابٌ سطع نوره، وزند ـ وهو الزناد الذي يُقدح فيطلع منه الضوء ـ برق لمعه. سيرته القصد ـ الاستقامة ـ وسنّته الرشد، وكلامه الفصل ـ فلا تغيّر ولا تبدّل في كلامه ـ وحكمه العدل. أرسله على حين فترة من الرسل ـ لأن هناك فاصلاً بينه وبين عيسى(ع) ـ وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم".
ويقول عليّ(ع): "دفن الله به الضَّغائن ـ فقد استطاع الرسول(ص) من خلال المحبّة الّتي تمثلت به وبرسالته، أن يدفن العداوات والبغضاء والحقد بين النّاس ـ وأطفأ به النوائر ـ وهي العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضرّه إن لم يقتله ـ ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعزّ به الذلّة، وأذلّ به العزَّة. كلامه بيان، وصمته لسان"، لأنَّ صمته كان يوحي إلى النّاس بكلِّ ما يفكر فيه.
ويكمل عليّ(ع) في وصفه: "أرسله بالضياء، وقدّمه في الاصطفاء، فرتق به المفاتق ـ وهي ما كان بين الناس من فساد، وفي مصالحهم من اختلال ـ وساور به المُغالب ـ أي أنّ الله تعالى واثب بالنبي(ص) كلَّ من يغالب الحق ـ وذلّل به الصعوبة، وسهّل به الحزونة، حتى سرح الضلال عن يمين وشمال".
صفات أصحاب رسول الله(ص)
وقد عاش النبي(ص) مع المسلمين الذين أسلموا على يديه، وأخلصوا لله وللرسالة، وجاهدوا في سبيل الله، وقد تحدَّث الله تعالى عن صحابة النبي(ص)، الذين كان يتقدّمهم ربيب رسول الله وصهره وأوَّل الناس إسلاماً، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ـ الّذين هاجروا معه وقاتلوا معه في بدر وأُحد وخيبر وحنُين وفي كثير من مواقع الجهاد ـ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار ـ إذا دخلوا الحرب فإنهم ينطلقون للأخذ بأسباب القوة ضد الذين يسيؤون للإسلام والمسلمين ـ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ـ يتواصون فيما بينهم بالمرحمة ـ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(الفتح:29).
أمّا في وصفه اليهود فيقول تعالى:{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ ـ لا يستطيعون أن يقاتلوا وجهاً لوجه ـ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ـ الخلافات بينهم شديدة ـ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاًـ تظنُّ أنّهم يمثِّلون أمةً واحدةً وقوةً واحدةً ـ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(الحشر:14). أمّا الآن، فقد أصبح اليهود أشدّاء علينا، رحماء بينهم، وأصبح بأسنا بيننا شديداً، فالمسلم يقاتل المسلم، وعندما انقلبت الآية انقلب الواقع.
ولادة الحقّ
وفي مولد النبي(ص)، سواء كان تاريخه الثاني عشر من ربيع الأول، أو السابع عشر منه، علينا أن نعرف أن ولادته توحي إلينا بولادة الحق والعدل والخير، وعلينا أن نقتدي به ليعيش في كلِّ عقولنا وحركتنا وواقعنا، وعلينا أن نتوحّد برسول الله(ص)، لأنّنا في تشهّدنا عندما نشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإنّ هاتين الشهادتين تؤكّدان أصالة الوحدة بين المسلمين جميعاً. ولذلك علينا أن نعمل لتأكيد هذه الوحدة، ليكون الإسلام قوّةً في العالم.
والسلام على سيدنا رسول الله، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يبعث حيّاً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟
العالم الإسلامي: تحديات داخلية وخارجيّة
يطل العالم الإسلامي والعربي على ذكرى المولد النبوي الشريف، وهو يواجه تحديين أساسيين، يتمثل الأول منهما في التحدي الداخلي المنطلق من حالة التكفير التي تبرز آثارها السلبية في الممارسات الإقصائية التي تنطلق فيها فتاوى ومواقف تستحضر المسألة المذهبية بطريقة عشائرية بعيدة من أصالة الإسلام وانفتاحه على الآخر، لتدخل في نطاق القتل بدم بارد في العمليات الانتقامية والتفجيرات الانتحارية التي تطاول حتى النساء والأطفال والشيوخ، وتقدّم إلى العالم كلّه صورةً مشوّهةً عن الإسلام، وعن الواقع الإسلامي الذي تعمل مؤسسات غربية، وغرفٌ إعلامية تخصّصية، على إدارة حملة واسعة ضدّه، من خلال السعي لربط الكثير من السلوكيات العنفية بجذور ثقافية إسلامية.
أما التحدي الثاني فهو خارجي، ويبرز في استمرار الضغط الاستكباري لاستكمال الهجمة على مواقع الأمَّة وثرواتها، لإلحاقها بالرّكب الاستعماري، وإدخالها في بورصة المساومات الدولية التي تطلّ على مرحلة جديدة تبذل فيها الولايات المتحدة الأميركية جهوداً مضاعفةً للحفاظ على إرثها الإمبراطوري العالمي، وتتحفّز فيها مواقع دولية أخرى للمشاركة في لعبة المحاصصة الدولية التي تجعل من بلادنا مواقع استباحة دائمة، تارةً تحت عناوين مكافحة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، كما جرى في أفغانستان والعراق، وطوراً تحت عناوين الملاحقة القضائية، كما يجري في هذه الأيام مع السودان ورئيسه وشعبه.
الإدارة الجديدة: إحياء مشروع الهيمنة
إننا نعتقد أن مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة، والذي انكفأ مع بوش الابن، يحاول استعادة حيويته مع الإدارة الجديدة، ولكن بأساليب مغايرة، وضمن برنامج عمل جديد، لأن الهدف النهائي يتمثّل باستباحة بلداننا، وفرض التبعية السياسية عليها، ومنعها من اللحاق بالركب العلمي العالمي، وبالتالي عدم السماح لها باجتياز حاجز التفوّق النوعي الإسرائيلي، ومنعها من تهديد الأمن الإسرائيلي الاستراتيجي، كما يحاولون تصوير الأمور، بينما يشجّعون إسرائيل أو يوافقونها على استباحتها للأمن العربي، والأمن الفلسطيني على وجه الخصوص، منذ ما يزيد على ستين عاماً.
وضمن هذه الخطَّة، يمكن فهم اللعبة الجديدة التي تحاول محاور دولية تسويقها عبر وسطاء إقليمين ومحليين، بإثارة الجانب العرقي والقومي في المنطقة بعد فشل التحريض المذهبي، ومن هذه الزاوية بالذات، نشعر بكثير من الخطورة حيال ما نُقل عن أمين عام الجامعة العربية حول تحذيره من التدخّل الإيراني في الشؤون العربية الداخلية... فنحن نعتقد أنَّ شؤون الأمة كلها ينبغي أن تكون محصنّةً، وأن لا يُصار إلى اختراقها أو العبث بها، ولكن المسألة هي أن الولايات المتحدة الأميركية استباحت الأمة وشؤونها وشجونها، وتركت لكيان العدو أنَّ يعبث بأمنها ومقوّماتها، من دون أن يثير ذلك أسفاً أو يُحدث ألماً في الضمير السياسي العربي الرسمي في كثير من مكوّناته وأسسه، وقد رأينا البعض في الساحة العربية يحاول القفز فوق مسألة العدوان الإسرائيلي على غزّة، ليحاول تصوير المسألة في غزة كمشكلة إيرانية انطلقت من دعم الجمهورية الإسلامية في إيران لفصائل المقاومة، متجاوزين بذلك مسألة الاحتلال وإفرازاتها ونتائجها.
إننا ننظر بعين الريبة حيال الحديث عن أنَّ إيران تمثّل تحدياً للواقع العربي، والحال أن إيران التي كانت تسير في ركب السياسة الأميركية الإسرائيلية في عهد الشاه، لم تكن كذلك في نظر الكثير من العرب، الذين لا يتحمّلون المسؤولية القومية والإسلامية في المسألة الفلسطينية، ويريدون للآخرين أن يخرجوا من نطاق هذه المسؤولية بحجَّة أنَّها مسألة عربية فحسب، والواقع يشهد أنَّ العرب على مستوى الأنظمة عملوا بكلِّ ما لديهم من قوّة لترك الفلسطينيين وحدهم في الساحة، حتى في اللحظة التي كانت تحرقهم إسرائيل بمجازرها ومحارقها في العدوان الوحشي على غزّة.
ترحيب بالمصالحات العربية _ العربية
لقد دعونا مراراً وتكراراً إلى مصالحة عربية ـ عربية في العمق، لأننا نعتقد أن أية وحدة على المستوى العربي يمكن أن تؤسس لتفاهم أكبر على المستوى الإسلامي العام، ولذلك فنحن نرحّب بكلِّ خطوات الانفتاح والانفراج في العلاقات العربية ـ العربية التي جرت وتجري في هذه الأيام، ولكنّنا نحذّر من كل المحاولات الرامية إلى توجيه هذه المصالحات بعيداً من الخطوط الاستراتيجية التي تتصل بمصلحة العرب والمسلمين، وبمصالح الأمة وقضاياها... ومن هنا، نرى لزاماً على العاملين على تعبيد طرق المصالحات العربية، أن يسيروا بها في العمق الإسلامي، لينطلق الجميع على أساس استعادة الدور الموحَّد للأمَّة في مواجهة كل محاولات الاستلاب والاستباحة، ولينطلق البحث في استثمار الواقع العددي وواقع الإمكانات في الساحة العربية والإسلامية بما يتناسب مع حجم الدور الذي ينبغي للأمة أن تمارسه على مستوى العالم والمساهمة في القرارات العالمية، لا أن يُنظر إلى هذا الدور العربي أو ذاك الدور الإسلامي من زاوية الخطر الذي يتهدَّد هذا الشقيق أو ذاك الجار، لأننا نتطلّع إلى تكامل الأدوار في مواجهة الخطر الإسرائيلي، وإلى تفاهم الأقطاب العربية والإسلامية في مواجهة القطب الصهيوني الذي يُراد له أن يتحكّم بمصير المنطقة ومستقبلها.
إنَّنا نريد لجامعة الدول العربية، ومنظَّمة المؤتمر الإسلامي، والدول التي تنضوي تحت لوائهما، أن تفكِّر في السبل الآيلة إلى إخراج العالم العربي والإسلامي من دائرة الاحتلال والحروب والتفتيت التي تضرب عميقاً في العراق وأفغانستان والصومال والسودان وفلسطين المحتلة، والّتي تتعدّى هذه المواقع إلى مواقع تتهدّدها بالاضطراب والاهتزاز السياسي والأمني وما إلى ذلك.
إنَّنا ندعو إلى وحدة سياسية على مستوى العالم الإسلامي، في علاقات الدول بعضها ببعض، وفي استثمار الثروات الطبيعية في هذا العالم لمصلحة شعوبه لا لمصلحة دول العولمة المتوحشة، كما ندعو إلى حلف إسلامي يوثّق العلاقة الإسلامية الداخلية، فلا يستحلّ مسلمٌ دمَ مسلمٍ ولا دمَ أيّ بريء، بصرف النظر عن هويته الدينية أو العرقية أو المذهبية... كما ندعو إلى تأسيس جبهة إسلامية عربية مشتركة تدير الحوار العقلاني الهادئ، وتعمل لتأصيل الاجتهاد في الانفتاح على الكتاب والسنّة بروح علمية موضوعيّة، ليكون الإسلام قوّةً في العالم، ولينطلق المسلمون أمّةً واحدةً كما أرادها الرسول الأكرم (ص)، لا أن يكونوا مِزَقاً وشِيَعاً يبحثون عن أدوارهم الخاصة على حساب اجتماعهم الإسلامي العام.
لإقامة جبهة عربية إسلامية تحررية
كما ندعو إلى جبهة عربية إسلامية تعمل على تحرير بلادنا من عملاء الموساد الإسرائيلي، الذين لا يقتصر عملهم على العبث بالأمن الاستراتيجي للأمة، أو ملاحقتهم للقادة السياسيين والأمنيين فيها فحسب، بل يعملون أيضاً على ملاحقة العلماء والأساتذة الجامعيين، وقد ذكرت إحدى لجان حقوق الإنسان الأميركية في التقرير المقدَّم إلى وزارة الخارجية الأميركية، أنَّ عملاء الموساد قتلوا في مواقع متعددة في العراق350 عالماً نووياً و300 أستاذ جامعيّ، مستغلّين الوضع الأمني الهش الذي أفرزه الاحتلال.
إننا ندعو إلى جبهة عربية إسلامية للدفاع عن المسجد الأقصى الذي يتعرَّض في هذه الأيام لهجمة صهيونية جديدة لا تستهدف بنيانه فحسب، بل تنطلق لاستباحته من خلال تسهيلات الشرطة الإسرائيلية التي وفّرتها للمستوطنين الذين دنّسوا المسجد ودخلوا إلى باحته الداخلية، في سياق الهجمة المبرمجة عليه وعلى القدس لتهويدها وتهجير أهلها.
لبنان: القضاء تحت رحمة السياسة
أما في لبنان، فلا يزال الجدل يدور حول التعيينات القضائية، فيطرح البعض أنها كانت خاضعةً لبعض العلاقات السياسية التي تجعل القضاء تحت رحمة السياسة، وتجعل القاضي في قبضة التعليمات الصادرة من هذه القيادة المذهبية أو الطائفية أو الحزبية، أو الطموحات الوظيفية المتدرّجة، أو المالية المغرية، الأمر الذي يجعل الشعب يفقد الثقة بالقضاء، وخصوصاً أن بعض التجارب السابقة كانت توحي إليه بواقعية أساس الشك... وينتظر الشعب التعيينات الإدارية التي لا بدّ من أن يكون أصحابها منفتحين على الشعب كله والوطن كله، لا على الجهات المسؤولة عن تعيينهم التي تكلّفهم بمخالفة القوانين الإدارية لحساب مصالح مَن عيَّنهم، وخصوصاً الانتخابية منها.
إن الشعب يطالب بالدولة التي تخدم قضاياه ومصالحه، ولا سيما المستضعفين من أفراده، لا الدولة التي تخدم قضايا الأغنياء الذين لا يخضعون لنظام الضرائب على ثرواتهم التي لا تُعرف مصادرها، بينما يفترض، بحسب القانون، أن تتمّ محاسبتهم على سرقتهم للشعب في موارده الحيوية. ونستذكر قول النبي محمد (ص): "إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
إن قوة الدولة ليست بالمساومات ولا بالتسويات، ولا بالخضوع للحسابات الإقليمية والدولية، ولكنها بالقيادة التي تخلص لشعبها ووطنها، وترتفع فوق الأهواء الشخصية والمذهبية والطائفية.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
ولادةُ نبيّ الرّحمة:
إحياءٌ لقيم العدل والحقّ والخير
بلغ العلى بكماله كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله صلّوا عليه وآله
الرّسول الشّاهد على الأمّة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(الأحزاب:45-46). ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}(سبأ:28).هو رسول الله محمد بن عبد الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى ليكون شاهداً على الأمةّ، يعيش معها ويبلّغها رسالات ربه، ويربّيها ويزكّيها ويعلّمها الكتاب والحكمة، ويواجه الذين يقفون ضدَّ الرسالة، ويؤكّد مبدأ التوحيد في مقابل الشرك، ليثير في ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في تخلّف الوثنية، والسائر في أوضاع الجهل، معركة التّمييز بين الحقيقة والخرافة، وبين التخلّف والتطوّر، وليفتح عقول الناس ليميّزوا الصواب من الخطأ، والخير من الشر، وليفكّروا في كل حركة يتحركون بها، تفكيراً عقلانياً يرتفع بهم إلى الإيمان بالله الواحد، ويبتعد بهم عن عبادة الأصنام التي يصنعونها من مجرَّد أحجار جامدة لا تحسّ ولا تختزن في داخلها أيّ حياة.ولقد أرسل اللّه رسوله الله شاهداً ومبشّراً؛ يبشّر الذين يؤمنون بالله وبرسالاته بأنَّ الله سوف يجزيهم جزاء المتَّقين بأن يدخلهم الجنَّة، ونذيراً للَّذين يكفرون بالله وينحرفون عن خطّه المستقيم، بأنّ النَّار مثواهم وبئس القرار.وقد كانت مهمَّته(ص) أن يدعو النّاس إلى الله الّذي حدَّد له منهاج الدعوة بقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ}(النحل:125)، وأراد له أن يكون السراج المنير الذي ينير للنَّاس عقولهم، ويضيء لهم تفكيرهم، ويُدخل الخير إلى قلوبهم وحياتهم العامة، لأنَّ دور النبي(ص) هو أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولذلك كان(ص) نوراً في عقله فلم يكن فيه أيّة ظلمة، بل كان المعصوم في العقل الّذي لا يخطئ في التفكير، وكان نوراً في قلبه، فلم يكن قلبه ينبض إلا بما ينير للناس إحساسهم الشّعوريّ والعاطفيّ، وكان نوراً في حياته فلم تصدر منه أيّة معصية.
الرّسول العالميّ ورسالة الحياة
كان النبيّ(ص) معصوماً بكلّه؛ بعقله وقلبه وحياته كلّها، ولم تكن دعوته مقتصرةً على المنطقة التي عاش فيها، وإن مثَّلت تلك المنطقة قاعدة الدعوة ومنطلقها، بل كانت دعوةً للنَّاس كافةً:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}(سبأ:28)، وفي آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107). وأراد الله له أن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف:158)، فقد كان الرَّسول العالمي الذي لا تقتصر رسالته على مجتمع دون مجتمع، وكانت رسالته خاتمة الرّسالات، لذلك فهي لا تختصّ بمكان دون مكان، ولا بزمان دون زمان، بل هي دعوة للحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال:24).
وامتدَّت رسالة النبي(ص) في أرجاء العالم كلّه، كما كانت رحمةً للعالمين كلّهم. وكان النبي(ص) يمثّل بشارة الأنبياء قبله، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه في حديث عيسى بن مريم(ع) لبني إسرائيل:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(الصَّف:6).
وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الخلق العظيم للنبي، حيث كان(ص) يمثّل القمَّة في أخلاقه، لأنه كان ليّن القلب ويحبّ النّاس كلّهم، سواء كانوا من أعدائه أو من أصدقائه، وكان يتألم لأعدائه ألماً عميقاً لأنّهم لم ينفتحوا على الرسالة، ولأنّهم سوف يخسرون الدنيا والآخرة، وكان قلبه ينبض بالرحمة والخير والمحبة، وكان طيب اللسان ينفتح لسانه على كلّ ما ينصح الناس ويرتفع بمستواهم ويؤلّف بينهم، وهكذا ألّف(ص) بين الفئات المتخاصمة، كما بين "الأوس" و"الخزرج"، بعدما كانت الحروب بينهم تمتد إلى عشرات السنين.
وكان (ص) يتابع المجتمع كلّه، من أجل أن يضع له النظام الذي يجمع كلمته وينظّم حياته، وفي هذا يقول تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ـ عظّموه ـ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف:175).
القدوة في الأخلاق والسّلوك
وقد أراد الله تعالى لنا أن نقتدي برسول الله(ص)، وأن نتخلّق بأخلاقه، فيكون النبي(ص) أسوةً لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}(الأحزاب:21)، فإذا كان رسول الله طيب القلب واللسان، فعلينا أن تكون قلوبنا وألسنتنا طيبةً، وإذا كان(ص) يحبّ الناس ويحنو عليهم، فعلينا أن نحبّ الناس ونحنو عليهم.
وعندما نواجه شهادة أخ رسول الله ووصيّه وتلميذه وصهره في حقّه، وهو أعرف الناس به، فإنّنا نقرأ في قول عليّ(ع) عنه: "بعثه والنَّاس ضلالٌ في حيرة، وحاطبون في فتنة ـ أيّ أنّهم كانوا يعمدون إلى إثارة نار الفتن ـ قد استهوتهم الأهواء، واستنـزلتهم الكبرياء ـ عاشوا التكبّر ـ واستخفّتهم الجاهلية الجهلاء ـ كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه ـ حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ (صلى الله عليه وآله) في النصيحة، ومضى على الطريقة ـ الطريقة التي علّمه الله أن يأخذ بها ـ ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة".
ويقول(ع) عنه: "فهو إمام من اتَّقى، وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوؤه، وشهابٌ سطع نوره، وزند ـ وهو الزناد الذي يُقدح فيطلع منه الضوء ـ برق لمعه. سيرته القصد ـ الاستقامة ـ وسنّته الرشد، وكلامه الفصل ـ فلا تغيّر ولا تبدّل في كلامه ـ وحكمه العدل. أرسله على حين فترة من الرسل ـ لأن هناك فاصلاً بينه وبين عيسى(ع) ـ وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم".
ويقول عليّ(ع): "دفن الله به الضَّغائن ـ فقد استطاع الرسول(ص) من خلال المحبّة الّتي تمثلت به وبرسالته، أن يدفن العداوات والبغضاء والحقد بين النّاس ـ وأطفأ به النوائر ـ وهي العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضرّه إن لم يقتله ـ ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعزّ به الذلّة، وأذلّ به العزَّة. كلامه بيان، وصمته لسان"، لأنَّ صمته كان يوحي إلى النّاس بكلِّ ما يفكر فيه.
ويكمل عليّ(ع) في وصفه: "أرسله بالضياء، وقدّمه في الاصطفاء، فرتق به المفاتق ـ وهي ما كان بين الناس من فساد، وفي مصالحهم من اختلال ـ وساور به المُغالب ـ أي أنّ الله تعالى واثب بالنبي(ص) كلَّ من يغالب الحق ـ وذلّل به الصعوبة، وسهّل به الحزونة، حتى سرح الضلال عن يمين وشمال".
صفات أصحاب رسول الله(ص)
وقد عاش النبي(ص) مع المسلمين الذين أسلموا على يديه، وأخلصوا لله وللرسالة، وجاهدوا في سبيل الله، وقد تحدَّث الله تعالى عن صحابة النبي(ص)، الذين كان يتقدّمهم ربيب رسول الله وصهره وأوَّل الناس إسلاماً، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ـ الّذين هاجروا معه وقاتلوا معه في بدر وأُحد وخيبر وحنُين وفي كثير من مواقع الجهاد ـ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار ـ إذا دخلوا الحرب فإنهم ينطلقون للأخذ بأسباب القوة ضد الذين يسيؤون للإسلام والمسلمين ـ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ـ يتواصون فيما بينهم بالمرحمة ـ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(الفتح:29).
أمّا في وصفه اليهود فيقول تعالى:{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ ـ لا يستطيعون أن يقاتلوا وجهاً لوجه ـ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ـ الخلافات بينهم شديدة ـ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاًـ تظنُّ أنّهم يمثِّلون أمةً واحدةً وقوةً واحدةً ـ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(الحشر:14). أمّا الآن، فقد أصبح اليهود أشدّاء علينا، رحماء بينهم، وأصبح بأسنا بيننا شديداً، فالمسلم يقاتل المسلم، وعندما انقلبت الآية انقلب الواقع.
ولادة الحقّ
وفي مولد النبي(ص)، سواء كان تاريخه الثاني عشر من ربيع الأول، أو السابع عشر منه، علينا أن نعرف أن ولادته توحي إلينا بولادة الحق والعدل والخير، وعلينا أن نقتدي به ليعيش في كلِّ عقولنا وحركتنا وواقعنا، وعلينا أن نتوحّد برسول الله(ص)، لأنّنا في تشهّدنا عندما نشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإنّ هاتين الشهادتين تؤكّدان أصالة الوحدة بين المسلمين جميعاً. ولذلك علينا أن نعمل لتأكيد هذه الوحدة، ليكون الإسلام قوّةً في العالم.
والسلام على سيدنا رسول الله، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يبعث حيّاً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟
العالم الإسلامي: تحديات داخلية وخارجيّة
يطل العالم الإسلامي والعربي على ذكرى المولد النبوي الشريف، وهو يواجه تحديين أساسيين، يتمثل الأول منهما في التحدي الداخلي المنطلق من حالة التكفير التي تبرز آثارها السلبية في الممارسات الإقصائية التي تنطلق فيها فتاوى ومواقف تستحضر المسألة المذهبية بطريقة عشائرية بعيدة من أصالة الإسلام وانفتاحه على الآخر، لتدخل في نطاق القتل بدم بارد في العمليات الانتقامية والتفجيرات الانتحارية التي تطاول حتى النساء والأطفال والشيوخ، وتقدّم إلى العالم كلّه صورةً مشوّهةً عن الإسلام، وعن الواقع الإسلامي الذي تعمل مؤسسات غربية، وغرفٌ إعلامية تخصّصية، على إدارة حملة واسعة ضدّه، من خلال السعي لربط الكثير من السلوكيات العنفية بجذور ثقافية إسلامية.
أما التحدي الثاني فهو خارجي، ويبرز في استمرار الضغط الاستكباري لاستكمال الهجمة على مواقع الأمَّة وثرواتها، لإلحاقها بالرّكب الاستعماري، وإدخالها في بورصة المساومات الدولية التي تطلّ على مرحلة جديدة تبذل فيها الولايات المتحدة الأميركية جهوداً مضاعفةً للحفاظ على إرثها الإمبراطوري العالمي، وتتحفّز فيها مواقع دولية أخرى للمشاركة في لعبة المحاصصة الدولية التي تجعل من بلادنا مواقع استباحة دائمة، تارةً تحت عناوين مكافحة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، كما جرى في أفغانستان والعراق، وطوراً تحت عناوين الملاحقة القضائية، كما يجري في هذه الأيام مع السودان ورئيسه وشعبه.
الإدارة الجديدة: إحياء مشروع الهيمنة
إننا نعتقد أن مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة، والذي انكفأ مع بوش الابن، يحاول استعادة حيويته مع الإدارة الجديدة، ولكن بأساليب مغايرة، وضمن برنامج عمل جديد، لأن الهدف النهائي يتمثّل باستباحة بلداننا، وفرض التبعية السياسية عليها، ومنعها من اللحاق بالركب العلمي العالمي، وبالتالي عدم السماح لها باجتياز حاجز التفوّق النوعي الإسرائيلي، ومنعها من تهديد الأمن الإسرائيلي الاستراتيجي، كما يحاولون تصوير الأمور، بينما يشجّعون إسرائيل أو يوافقونها على استباحتها للأمن العربي، والأمن الفلسطيني على وجه الخصوص، منذ ما يزيد على ستين عاماً.
وضمن هذه الخطَّة، يمكن فهم اللعبة الجديدة التي تحاول محاور دولية تسويقها عبر وسطاء إقليمين ومحليين، بإثارة الجانب العرقي والقومي في المنطقة بعد فشل التحريض المذهبي، ومن هذه الزاوية بالذات، نشعر بكثير من الخطورة حيال ما نُقل عن أمين عام الجامعة العربية حول تحذيره من التدخّل الإيراني في الشؤون العربية الداخلية... فنحن نعتقد أنَّ شؤون الأمة كلها ينبغي أن تكون محصنّةً، وأن لا يُصار إلى اختراقها أو العبث بها، ولكن المسألة هي أن الولايات المتحدة الأميركية استباحت الأمة وشؤونها وشجونها، وتركت لكيان العدو أنَّ يعبث بأمنها ومقوّماتها، من دون أن يثير ذلك أسفاً أو يُحدث ألماً في الضمير السياسي العربي الرسمي في كثير من مكوّناته وأسسه، وقد رأينا البعض في الساحة العربية يحاول القفز فوق مسألة العدوان الإسرائيلي على غزّة، ليحاول تصوير المسألة في غزة كمشكلة إيرانية انطلقت من دعم الجمهورية الإسلامية في إيران لفصائل المقاومة، متجاوزين بذلك مسألة الاحتلال وإفرازاتها ونتائجها.
إننا ننظر بعين الريبة حيال الحديث عن أنَّ إيران تمثّل تحدياً للواقع العربي، والحال أن إيران التي كانت تسير في ركب السياسة الأميركية الإسرائيلية في عهد الشاه، لم تكن كذلك في نظر الكثير من العرب، الذين لا يتحمّلون المسؤولية القومية والإسلامية في المسألة الفلسطينية، ويريدون للآخرين أن يخرجوا من نطاق هذه المسؤولية بحجَّة أنَّها مسألة عربية فحسب، والواقع يشهد أنَّ العرب على مستوى الأنظمة عملوا بكلِّ ما لديهم من قوّة لترك الفلسطينيين وحدهم في الساحة، حتى في اللحظة التي كانت تحرقهم إسرائيل بمجازرها ومحارقها في العدوان الوحشي على غزّة.
ترحيب بالمصالحات العربية _ العربية
لقد دعونا مراراً وتكراراً إلى مصالحة عربية ـ عربية في العمق، لأننا نعتقد أن أية وحدة على المستوى العربي يمكن أن تؤسس لتفاهم أكبر على المستوى الإسلامي العام، ولذلك فنحن نرحّب بكلِّ خطوات الانفتاح والانفراج في العلاقات العربية ـ العربية التي جرت وتجري في هذه الأيام، ولكنّنا نحذّر من كل المحاولات الرامية إلى توجيه هذه المصالحات بعيداً من الخطوط الاستراتيجية التي تتصل بمصلحة العرب والمسلمين، وبمصالح الأمة وقضاياها... ومن هنا، نرى لزاماً على العاملين على تعبيد طرق المصالحات العربية، أن يسيروا بها في العمق الإسلامي، لينطلق الجميع على أساس استعادة الدور الموحَّد للأمَّة في مواجهة كل محاولات الاستلاب والاستباحة، ولينطلق البحث في استثمار الواقع العددي وواقع الإمكانات في الساحة العربية والإسلامية بما يتناسب مع حجم الدور الذي ينبغي للأمة أن تمارسه على مستوى العالم والمساهمة في القرارات العالمية، لا أن يُنظر إلى هذا الدور العربي أو ذاك الدور الإسلامي من زاوية الخطر الذي يتهدَّد هذا الشقيق أو ذاك الجار، لأننا نتطلّع إلى تكامل الأدوار في مواجهة الخطر الإسرائيلي، وإلى تفاهم الأقطاب العربية والإسلامية في مواجهة القطب الصهيوني الذي يُراد له أن يتحكّم بمصير المنطقة ومستقبلها.
إنَّنا نريد لجامعة الدول العربية، ومنظَّمة المؤتمر الإسلامي، والدول التي تنضوي تحت لوائهما، أن تفكِّر في السبل الآيلة إلى إخراج العالم العربي والإسلامي من دائرة الاحتلال والحروب والتفتيت التي تضرب عميقاً في العراق وأفغانستان والصومال والسودان وفلسطين المحتلة، والّتي تتعدّى هذه المواقع إلى مواقع تتهدّدها بالاضطراب والاهتزاز السياسي والأمني وما إلى ذلك.
إنَّنا ندعو إلى وحدة سياسية على مستوى العالم الإسلامي، في علاقات الدول بعضها ببعض، وفي استثمار الثروات الطبيعية في هذا العالم لمصلحة شعوبه لا لمصلحة دول العولمة المتوحشة، كما ندعو إلى حلف إسلامي يوثّق العلاقة الإسلامية الداخلية، فلا يستحلّ مسلمٌ دمَ مسلمٍ ولا دمَ أيّ بريء، بصرف النظر عن هويته الدينية أو العرقية أو المذهبية... كما ندعو إلى تأسيس جبهة إسلامية عربية مشتركة تدير الحوار العقلاني الهادئ، وتعمل لتأصيل الاجتهاد في الانفتاح على الكتاب والسنّة بروح علمية موضوعيّة، ليكون الإسلام قوّةً في العالم، ولينطلق المسلمون أمّةً واحدةً كما أرادها الرسول الأكرم (ص)، لا أن يكونوا مِزَقاً وشِيَعاً يبحثون عن أدوارهم الخاصة على حساب اجتماعهم الإسلامي العام.
لإقامة جبهة عربية إسلامية تحررية
كما ندعو إلى جبهة عربية إسلامية تعمل على تحرير بلادنا من عملاء الموساد الإسرائيلي، الذين لا يقتصر عملهم على العبث بالأمن الاستراتيجي للأمة، أو ملاحقتهم للقادة السياسيين والأمنيين فيها فحسب، بل يعملون أيضاً على ملاحقة العلماء والأساتذة الجامعيين، وقد ذكرت إحدى لجان حقوق الإنسان الأميركية في التقرير المقدَّم إلى وزارة الخارجية الأميركية، أنَّ عملاء الموساد قتلوا في مواقع متعددة في العراق350 عالماً نووياً و300 أستاذ جامعيّ، مستغلّين الوضع الأمني الهش الذي أفرزه الاحتلال.
إننا ندعو إلى جبهة عربية إسلامية للدفاع عن المسجد الأقصى الذي يتعرَّض في هذه الأيام لهجمة صهيونية جديدة لا تستهدف بنيانه فحسب، بل تنطلق لاستباحته من خلال تسهيلات الشرطة الإسرائيلية التي وفّرتها للمستوطنين الذين دنّسوا المسجد ودخلوا إلى باحته الداخلية، في سياق الهجمة المبرمجة عليه وعلى القدس لتهويدها وتهجير أهلها.
لبنان: القضاء تحت رحمة السياسة
أما في لبنان، فلا يزال الجدل يدور حول التعيينات القضائية، فيطرح البعض أنها كانت خاضعةً لبعض العلاقات السياسية التي تجعل القضاء تحت رحمة السياسة، وتجعل القاضي في قبضة التعليمات الصادرة من هذه القيادة المذهبية أو الطائفية أو الحزبية، أو الطموحات الوظيفية المتدرّجة، أو المالية المغرية، الأمر الذي يجعل الشعب يفقد الثقة بالقضاء، وخصوصاً أن بعض التجارب السابقة كانت توحي إليه بواقعية أساس الشك... وينتظر الشعب التعيينات الإدارية التي لا بدّ من أن يكون أصحابها منفتحين على الشعب كله والوطن كله، لا على الجهات المسؤولة عن تعيينهم التي تكلّفهم بمخالفة القوانين الإدارية لحساب مصالح مَن عيَّنهم، وخصوصاً الانتخابية منها.
إن الشعب يطالب بالدولة التي تخدم قضاياه ومصالحه، ولا سيما المستضعفين من أفراده، لا الدولة التي تخدم قضايا الأغنياء الذين لا يخضعون لنظام الضرائب على ثرواتهم التي لا تُعرف مصادرها، بينما يفترض، بحسب القانون، أن تتمّ محاسبتهم على سرقتهم للشعب في موارده الحيوية. ونستذكر قول النبي محمد (ص): "إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
إن قوة الدولة ليست بالمساومات ولا بالتسويات، ولا بالخضوع للحسابات الإقليمية والدولية، ولكنها بالقيادة التي تخلص لشعبها ووطنها، وترتفع فوق الأهواء الشخصية والمذهبية والطائفية.