ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
مفهوم الصّبر وقيمته في الإسلام
الصّبر أمام البلاء
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:155-157).
يؤكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة وغيرها، أن الصَّبر يمثل القيمة الإنسانية الّتي ترتفع بالإنسان إلى مواقع رضى الله، بحيث إنه ينال الصلوات منه سبحانه وتعالى، المعبّرة عن رضوان الله ومغفرته ورحمته، وإعطاء صفة الهدى للصابرين، لأنّ الله عزّ وجلّ يريد للإنسان أن يكون قوياً أمام التحدّيات، سواء في تحدي النفس الأمّارة بالسوء التي تجرّ الإنسان إلى خطّ الانحراف والبعد عن الله تعالى والتمرد عليه، أو في ما يواجهه الإنسان في حياته من المصائب والمشاكل والخسارة وكلّ أنواع البلاء من المرض وغيره.
إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يتماسك ولا يسقط أمام أيِّ حادثٍ يحدث له، أو أمام أيّ مشكلة تعرض له، أو أيّ شعور يتحرّك في داخل نفسه ليقوده إلى بعض الأعمال السلبية. فقد يواجه الإنسان بعض حالات الخوف، سواء من خلال ضغط القوى الظالمة والمستكبرة، أو من خلال بعض الأوضاع التي يخاف فيها الإنسان على نفسه أو أهله أو مواقعه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ـ وذلك عندما تتهدَّد المجاعة المجتمع من خلال الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تنال الواقع ـ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ ـ كما نلاحظه في نقص الأموال من خلال الأزمة الاقتصادية المالية الكونية التي أصابت الناس جميعاً، ومنهم المؤمنون الذين فقدوا أرصدتهم المالية بفعل هذه الأزمة ـ وَالأَنْفُسِ ـ وذلك عندما يفقد الإنسان بعض أحبائه وأعزائه ـ وَالثَّمَرَاتِ ـ عندما يحصل الجدب في الأراضي ويقلّ المطر.
معنى البلاء
وإذا كان الله يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} فإنّ ذلك لا يعني أنّه هو الذي يُنـزل البلاء بشكلٍ مباشر، ولكنَّ طبيعة الحياة والأسباب الّتي أعدّها الله تعالى قد تفرض الكثير من ذلك، لأن الله جعل للحياة قوانين قد تؤدِّي إلى النقص أو الزيادة، فالله يبسطُ الرزق لمن يشاء ويقدر له. والكثير من الناس يسقطون أمام أنواع البلاء هذه، ولكنَّ الله يريد للإنسان أن يكون قويّاً صلباً متوازناً ، فلا يسقطه البلاء بحيث يفقد إيمانه وعزته وحريته، لأنّ النقص الّذي يواجهه الإنسان في موقع ما، ينبغي أن يكون دافعاً له لتجديد حركته، ليتفادى هذا النقص في المستقبل، وليعوّض ما خسره بما يملكه من طاقة وجهد.
ـ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ـ نحن ملك الله ـ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون ـ فسنرجع إلى الله تعالى، وسنرى جزاء هذا الصّبر، وهو الرّحمة والثّواب والمغفرة ـ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ـ فالله يصلّي على الصابرين كما يصلّي على رسوله وعلى المؤمنين، والصّلاة من الله على المؤمنين هي المغفرة والرحمة والرضوان منه، أمّا الصلاة من الله على النبي(ص) فإنها تعني رفع درجته ـ وَرَحْمَةٌ ـ فالله يرحمهم في أنفسهم وأهلهم وكل أنواع حياتهم ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»}(البقرة:155-157).
ونقرأ في آيةٍ أخرى عن هؤلاء الذين أخلصوا لله وساروا في خطِّ الأنبياء، قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ـ وهم الذين عاشوا الإخلاص لله تعالى ـ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(آل عمران:146). ويقول تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا ـ لا يكن مجتمعكم مجتمع المنازعات والخلافات التي تضعفكم ـ فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ـ لأنّ الأمّة التي يتحدَّى بعضها بعضها الآخر، ويقتل بعضها بعضاً ستفشل، بينما إذا توحدّت فستنجح ـ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال: 46). وورد في نداء الله تعالى للنبي (ص): {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً}(المعارج:5)، والصبر الجميل هو الذي ليس فيه شكوى إلى الناس، بل الشكوى إلى الله تعالى.
صبر رسول الله في مواجهة التحدّيات
وهناك حديثٌ عن الإمام الصادق(ع)، يتحدّث فيه عن أسلوب النبي(ص) في مواجهة الأوضاع التي كان المشركون يتحدونه فيها، وكان الله تعالى يواكب آلام نبيّه وأحزانه ومواقفه، فيُنـزل عليه في كلِّ مرحلة من المراحل آيةً، يقول(ع): «إن من صَبَر صَبَر قليلاً ـ لأن العمر مهما امتدَّ فإنّه قصير ـ وإن من جزع جزع قليلاً». ثم قال(ع): «عليك بالصبر في جميع أمورك، فإنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً فأمره بالصبر والرفق، فقال تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ـ ليس فيه قسوّة أو شدّة ـ وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ}(المزمل:10-11) ـ فقد تكفّل الله سبحانه بمواجهة من غرّتهم أموالهم والنعم المغدَقة عليهم ـ وقال تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصِّلت:34-35) ـ فقد أمره الله سبحانه بالصبر على التحديات، ليكون أسلوبه مع أعدائه الأسلوب الذي يحوّلهم إلى أصدقاء ـ فصبر رسول الله(ص) حتى نالوه بالعظائمورموه بها ـ كاتهامه بالسحر والجنون والافتراء على الله، وغيرها من أساليب الأذى الّتي مارسوها ـ فضاق صدره ـ لا من خلال الحالة النفسية الخاصة، بل لأنّ مثل هذه الاتّهامات قد تعطّل عليه(ص) حركته والتفاف الناس حوله ـ فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}(الحجر:97-98) ـ اتركهم وانفتح على الله، وسبّحه، واسجد بين يديه، والله يفرّج عنك ويشرح لك صدرك ـ ثم كذّبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}(الأنعام:33-34) ـ وسيأتيك النصر، كما نصر الله الرسل الذين قبلك ـ فألزم النبي(ص) نفسه الصبر فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه ـ عندما جحدوا بآيات الله تعالى ـ فقال(ص): «قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي»، فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}(ق:38-39)، فصبر النبي (ص) في جميع أحواله، ثم بُشِّر في عترته بالأئمة ووُصفوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة:24)، فعند ذلك قال (ص): «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»، فشكر الله عزّ وجلّ ذلك له فأنزل الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}(الأعراف:137)، فقال (ص): «إنه بشرى وانتقام»، فأباح الله عزّ وجلّ له قتال المشركين، فأنزل الله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}(التوبة:5)، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(البقرة:191)،فقتلهم الله على يدي رسوله وأحبائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخره له في الآخرة. فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقرّ الله له عينه في أعدائه، مع ما يدّخر له في الآخرة».
ملازمة الصّبر للإيمان
وعن الصادق(ع): «إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه ـ كأن الله يمثّل الصلاة كشيء حيّ ـ والزكاة عن يساره، والبرّ مُطلٌّ عليه، ويتنحى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه». وعن الإمام عليّ(ع) أنه قال: «الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسنٌ جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرّم الله عزّ وجلّ عليك ـ عندما تشتهي نفسك الحرام فتصبر وتشعر بالحرمان ـ والذكر ذكران: ذكر الله عزّ وجلّ عند المصيبة ـ أن يقول: {إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(البقرة:156) ـ وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرّم عليك فيكون حاجزاً». وعن الإمام الباقر(ع) قال: «لما حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه به: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً». فالحق مكلف، لأنّ النّاس قد يكونون ضدّ الحق، فإذا تكلمت بكلمة الحق، فقد يتّهمونك ويضطهدونك، فإذا واجهت ذلك كلّه فعليك أن تتماسك.
وعن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: «الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان». وعن الإمام الباقر(ع): «الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذَّتها وشهوتها دخل النار».
هكذا يريد الله تعالى للإنسان عندما يواجه الحياة، في كلّ مشاكلها ومتاعبها وخسائرها وأوضاعها ومصائبها، أن يواجهها بالصبر وإرجاع الأمر إلى الله، وقد حدّثنا الله تعالى عن الصابرين في البأساء والضراء، لذلك علينا أن نعيش إنسانيتنا بقوة، وأن نعيش الانفتاح واللجوء إلى الله في كل شيء، فهو حسبُنَا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
القدس: تهويد فكري وأمني
في المشهد الفلسطيني، كان الموعد مجدداً مع بيت المقدس، من خلال الاحتفال بالمدينة المقدّسة كعاصمةٍ للثقافة العربية، ولكنَّ كيان العدوّ لم يحتمل هذا الموقع الثقافيّ العربيّ للقدس، بل تعامل معه كخطرٍ إرهابي، فعمل على تحويل المدينة إلى ثكنة عسكرية لقمع الأنشطة المرافقة لإعلانها كعاصمة للبعد الثقافي العربي، باعتبار الامتداد التاريخي الذي تمثل في إنتاجها الفكري، وفي إيحاءاتها الإبداعية، وفي ثقافتها الدينية المتنوّعة التي جمعت في مقدّساتها تاريخ الرسالات وحياة الأنبياء، ما يؤكد عروبتها التي تجمع الإسلام والمسيحية في لغتها العربية، والّتي تنفتح في ثقافتها على أكثر من موقع في العالم ممّن يتطلّعون إلى هذه المدينة كمدينة مقدّسة مرتبطة بانتمائهم الديني وامتدادهم التاريخي، الأمر الذي يبطل الخرافة اليهودية في اعتبارها عاصمةً للكيان الغاصب في المضمون اليهودي الأسطوري، وفي المزاعم التي يزعمونها حول الحقّ التاريخي لليهود في السيطرة على القدس... وهكذا منعت إسرائيل أيّ مظهرٍ الاحتفال، بما في ذلك احتفال الأطفال في إطلاقهم البالونات احتفاءً بالمناسبة، لأن هذه الدولة تخاف حتى من أطفال القدس الذين سوف ينفتح مستقبلهم على الالتزام بتراثها الديني، ولا سيّما حائط البراق والمسجد الأقصى.
ومع كل هذا الإرهاب على المستوى الأمني والفكري، لم نلاحظ صدور أيّ استنكار من المجتمع الدولي، وحتى من السلطات العربية والإسلامية، احتجاجاً على هذه الممارسات، ما يوحي لليهود بأن أنشطتهم التهويدية والعدوانية لا تجد رفضاً حاسماً من العالم الذي يُضحك الثكلى عندما يتحدث عن حقوق الإنسان.
إسرائيل: هجمة استيطانية وحرب مياه ضد الفلسطينيين
وفي جانب آخر، فإنَّ بعض المسؤولين الكبار في وزارة الحرب الإسرائيلية يطالب باجتياحٍ آخر لغزَّة، وذلك بعد فشلهم في تحقيق الأهداف المرسومة في إنهاء المقاومة وإدخال القطاع في عملية المساومة الصهيونية، وذلك على الرغم من تأييد الإدارات الغربية للعدوان الصهيوني، المتمثل بالمواقف السياسية التي اعتبرت اليهود في موقف الدفاع عن النفس ضد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، من دون دراسة للجرائم الإنسانية، وعمليات الإبادة للمدنيين، واختراق المحرّمات الدولية في قصف المستشفيات والمساجد والمدارس والجامعات، وتهديم البيوت على رؤوس أصحابها من الأطفال والنساء والشيوخ، وامتناع مجلس الأمن الدولي عن إدانة هذه الممارسات، وصمت المحاكم الجنائية الدولية عن تقديم إسرائيل لمحاكمتها على جرائم الحرب والإبادة الوحشية ضد المدنيين، مع أن اعترافات جنود العدوّ بأنّهم تلقّوا تعليمات حاسمة من قيادتهم بقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، لم تدع مجالاً لكلِّ المؤسسات الدولية للإنكار حتى على مستوى المناورة.
وإلى جانب ذلك كله، ومع الهجمة العنصرية الاستيطانية الأخيرة على بلدة أمّ الفحم، ثمة حرب أخرى يشّنها العدوّ ضد الفلسطينيين، تتمثل بحرب المياه التي تسرقها الشركات الإسرائيلية ـ بقوّة الاحتلال وإشرافه ـ من الأحواض المائية الفلسطينية، لتضخّها إلى المدن والمستوطنات الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتقوم ببيع الفائض منها للفلسطينيين، بحيث بلغت كمية المياه المشتراة للاستخدام المنزلي 47 مليون متر مكعَّب في العام الماضي، مع تأكيد خبراء القانون الدولي أن سيطرة إسرائيل على مياه الأراضي الفلسطينية واستغلالها لتزويد المستوطنات والمدن الإسرائيلية المحتلّة مخالفٌ للقانون الدولي، لأنه استغلال سلطةِ احتلالٍ لموارد طبيعية للمنطقة التي تحتلّها، ولكن هذه اللصوصية اليهودية لا تخضع للقانون الدولي الذي يبرر القائمون عليه كلَّ سرقاتها، بما في ذلك سرقة الوطن في احتلالها للأرض الفلسطينية، لأن المجتمع الدولي يرى أن من حق اليهود أن يرفضوا كلَّ القوانين الدولية، متسلّحين بحماية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبصمت العالم العربي والإسلامي.
أمريكا: دعوات شعبية لإنهاء الحرب على العراق
وفي المشهد الأمريكي، لاحظنا أن عشرات الآلاف من الأمريكيين تظاهروا في أكثر من ولاية للمطالبة بإنهاء الحرب على العراق الذي دخل في الذكرى السابعة لغزوه، حيث اعتبر هؤلاء أن البنتاغون والشركات الكبرى يمارسون تجارة الموت.
ولقد كنّا نود أن تنطلق التظاهرات المليونية من الدول العربية والإسلامية رفضاً للاحتلال، وتعبيراً للشعوب عن تضامنها مع الشعبين العراقي والأفغاني، والمطالبة بانسحاب القوات الأمريكية وحلف الأطلسي، ولا سيّما بعدما سقطت الخطة الأمريكية وفَشِلَ حلف الناتو، حتى إن الرئيس الجديد، أوباما، صرّح بأن الحرب لا يمكن أن تحقّق النجاح في أفغانستان، لأنّ الشعب يرفض القوات الأجنبية، بالرغم من ضعف قدراته العسكرية أمام القدرات الأمريكية والأطلسية.
وفي العراق، نلاحظ عودةً للتفجيرات الانتحارية التي تطاول المدنيين في المساجد والشوارع ومجالس العزاء، في سياق دفع جديد لطاقات الأمة في المكان الخاطئ والحرام، وفي استحلالٍ متواصل لدماء المسلمين والمسالمين، انطلاقاً من بعض الفتاوى التي يطلقها الجهلة أو الذين لا معرفة لهم بالموازين الشرعية، وبعيداً من روح المقاومة التي ينبغي أن تتوجّه إلى الاحتلال، لا أن تنطلق في سياق حقدٍ أعمى يستهدف الآخر المختلِف في المذهب أو العرق أو السياسة، وتلك هي مأساة العالم الإسلامي المتمثلة في محاور دولية كبرى تنهب ثرواته وتحتل بلاده، وفي حركات تكفيرية أعمَتْها العينُ السياسية الضيقة، وعصبيةُ الحقد المذهبي، عن التطلّع إلى الأفق الرحب الذي يمكن للمسلمين والعرب أن يواجهوا المحتل من خلاله، إذا ما تمسكوا بوحدتهم وتضامنهم لا بتمزّقاتهم وعدوان بعضهم على بعض.
لبنان: الطائفية تزوير للإرادة ومصادرة للحرية
أما في لبنان، فينطلق السؤال عن الكيفيّة الّتي تعيد الطّوائف من خلالها إنتاج مواقعها في مناطقها الجغرافية، وفي رئاستها السياسية والدينية، وفي علاقاتها الخارجية، وفي مصادرها التمويلية، ومن الطبيعي أن تمثل الطائفة في هذه العناصر الذاتية مظهر الدولة التي تبحث عن مصالحها الخاصة بعيداً عن مصلحة الوطن، الأمر الذي ينعكس على الوحدة الوطنية شروخاً وتصدعات، وعندما تتعدّد الدول تبعاً لتعدد الطوائف في بلد واحد، فإنّ السلطة تتمظهر بمظهر المحاصصة بين الطوائف، الأمر الذي يلغي الحكم، وبالتالي فإنه يلغي الدولة، وبذلك تتدخّل الدول الأجنبية لتحلَّ محلَّ الدولة، لتتعدَّد مواقعها حسب تنوع مصالحها، فلا يبقى هناك الإنسان المواطن، بل الإنسان الطائفي الذي يعمل على أن يكون وطنه في خدمة طائفته وليس العكس، وهذا هو واقع العالم العربي الذي لم يعرف الدولة في تاريخه الحديث، بل عرف ألواناً معيّنةً من السلطات الشخصانية أو العائلية التي تلغي الدولة لأنها تختصرها في دائرة الشخص والعائلة، ولعلّ الخلل المتمثّل في منطق الانتخابات، يكمن في أن المواطن لا يمارس حريته في الاختيار، بل إن الطائفة تمارس عبر زعاماتها ضغوطها في تزوير إرادته ومصادرة حريته، لتكون قضية طائفته لا قضية وطنه.
لبنان ... تشريع العمالة وتحرير المجرمين
ولعلَّ من المعيب أن ينطلق بين الفينة والأخرى من يسعى لتحرير العملاء واللصوص والمجرمين من قيود القانون ومستلزمات العدالة، وآخر هذه المحاولات، المشروع الّذي يُعمل على تقديمه إلى المجلس النيابي للعفو عن رموز الجريمة والعمالة، ممن كانوا يد الاحتلال وعينه في احتلال أرض الوطن وقتل مواطنيهم وتدمير بلدهم، وزج الأحرار والشرفاء في المعتقلات وبؤر التعذيب المتعددة.
إنَّنا نفهم أنه في الوقت الذي يراد لبلد ما أن ينتقل من مرحلة إلى أخرى، ومن محطة إلى محطة، أن تنطلق بعض التشريعات التي تمثل الحماية للبلد في مستقبله وفي تطلعات أجياله، بما يحميه من الداخل، ويمنع لصوص الأوطان من العودة إلى سياستهم السابقة في اللصوصية الدولية أو الإقليمية أو ما إلى ذلك... ولكننا نلاحظ أن العفو في لبنان أصبح جزءاً من اللعبة السياسية، ودخل في الحسابات الطائفية والمذهبية، ويراد له أن يتحوّل إلى سلعة انتخابية في بلد تتأنق فيه الخيانة والعمالة فتلبس ثوب المصلحة الوطنية، ويتأنّق الذّل حتى يُصبح غفراناً، ويُكابر المحترفون لخطوط الخيانة والإجرام إلى الدرجة التي تُعطى العمالة فيه معنى الوطنية، فتصبح حرّيّة المجرمين والعملاء بمثابة الحرية والاستقلال اللَّذين لا قيامة للبلد من دونهما!!
إنّ المشكلة في لبنان، أنَّ العمالة انطلقت على مستوى القيادات السياسية، ولذلك فقد استسهلت هذه القيادات أن يتحرّك من هو دونها في هذا الخطّ، لا بل أرادت أن يتحرّك التشريع على مستوى القاعدة ليعطي المشروعية لها، ليظلَّ البلد رهينة الوصايات الخارجية في الحسابات السياسية الكبرى، وفي المشاريع الداخلية الصغرى، ولنظل في دوامة الاستزلام لزعامات الداخل التي تعيش كل معاني الاستزلام لزعامات الخارج... وعوّض الله اللبنانيين عن كل هذا الإرث المجبول بالذل والهوان والموت.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
مفهوم الصّبر وقيمته في الإسلام
الصّبر أمام البلاء
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:155-157).
يؤكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة وغيرها، أن الصَّبر يمثل القيمة الإنسانية الّتي ترتفع بالإنسان إلى مواقع رضى الله، بحيث إنه ينال الصلوات منه سبحانه وتعالى، المعبّرة عن رضوان الله ومغفرته ورحمته، وإعطاء صفة الهدى للصابرين، لأنّ الله عزّ وجلّ يريد للإنسان أن يكون قوياً أمام التحدّيات، سواء في تحدي النفس الأمّارة بالسوء التي تجرّ الإنسان إلى خطّ الانحراف والبعد عن الله تعالى والتمرد عليه، أو في ما يواجهه الإنسان في حياته من المصائب والمشاكل والخسارة وكلّ أنواع البلاء من المرض وغيره.
إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يتماسك ولا يسقط أمام أيِّ حادثٍ يحدث له، أو أمام أيّ مشكلة تعرض له، أو أيّ شعور يتحرّك في داخل نفسه ليقوده إلى بعض الأعمال السلبية. فقد يواجه الإنسان بعض حالات الخوف، سواء من خلال ضغط القوى الظالمة والمستكبرة، أو من خلال بعض الأوضاع التي يخاف فيها الإنسان على نفسه أو أهله أو مواقعه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ـ وذلك عندما تتهدَّد المجاعة المجتمع من خلال الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تنال الواقع ـ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ ـ كما نلاحظه في نقص الأموال من خلال الأزمة الاقتصادية المالية الكونية التي أصابت الناس جميعاً، ومنهم المؤمنون الذين فقدوا أرصدتهم المالية بفعل هذه الأزمة ـ وَالأَنْفُسِ ـ وذلك عندما يفقد الإنسان بعض أحبائه وأعزائه ـ وَالثَّمَرَاتِ ـ عندما يحصل الجدب في الأراضي ويقلّ المطر.
معنى البلاء
وإذا كان الله يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} فإنّ ذلك لا يعني أنّه هو الذي يُنـزل البلاء بشكلٍ مباشر، ولكنَّ طبيعة الحياة والأسباب الّتي أعدّها الله تعالى قد تفرض الكثير من ذلك، لأن الله جعل للحياة قوانين قد تؤدِّي إلى النقص أو الزيادة، فالله يبسطُ الرزق لمن يشاء ويقدر له. والكثير من الناس يسقطون أمام أنواع البلاء هذه، ولكنَّ الله يريد للإنسان أن يكون قويّاً صلباً متوازناً ، فلا يسقطه البلاء بحيث يفقد إيمانه وعزته وحريته، لأنّ النقص الّذي يواجهه الإنسان في موقع ما، ينبغي أن يكون دافعاً له لتجديد حركته، ليتفادى هذا النقص في المستقبل، وليعوّض ما خسره بما يملكه من طاقة وجهد.
ـ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ـ نحن ملك الله ـ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون ـ فسنرجع إلى الله تعالى، وسنرى جزاء هذا الصّبر، وهو الرّحمة والثّواب والمغفرة ـ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ـ فالله يصلّي على الصابرين كما يصلّي على رسوله وعلى المؤمنين، والصّلاة من الله على المؤمنين هي المغفرة والرحمة والرضوان منه، أمّا الصلاة من الله على النبي(ص) فإنها تعني رفع درجته ـ وَرَحْمَةٌ ـ فالله يرحمهم في أنفسهم وأهلهم وكل أنواع حياتهم ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»}(البقرة:155-157).
ونقرأ في آيةٍ أخرى عن هؤلاء الذين أخلصوا لله وساروا في خطِّ الأنبياء، قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ـ وهم الذين عاشوا الإخلاص لله تعالى ـ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(آل عمران:146). ويقول تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا ـ لا يكن مجتمعكم مجتمع المنازعات والخلافات التي تضعفكم ـ فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ـ لأنّ الأمّة التي يتحدَّى بعضها بعضها الآخر، ويقتل بعضها بعضاً ستفشل، بينما إذا توحدّت فستنجح ـ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال: 46). وورد في نداء الله تعالى للنبي (ص): {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً}(المعارج:5)، والصبر الجميل هو الذي ليس فيه شكوى إلى الناس، بل الشكوى إلى الله تعالى.
صبر رسول الله في مواجهة التحدّيات
وهناك حديثٌ عن الإمام الصادق(ع)، يتحدّث فيه عن أسلوب النبي(ص) في مواجهة الأوضاع التي كان المشركون يتحدونه فيها، وكان الله تعالى يواكب آلام نبيّه وأحزانه ومواقفه، فيُنـزل عليه في كلِّ مرحلة من المراحل آيةً، يقول(ع): «إن من صَبَر صَبَر قليلاً ـ لأن العمر مهما امتدَّ فإنّه قصير ـ وإن من جزع جزع قليلاً». ثم قال(ع): «عليك بالصبر في جميع أمورك، فإنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً فأمره بالصبر والرفق، فقال تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ـ ليس فيه قسوّة أو شدّة ـ وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ}(المزمل:10-11) ـ فقد تكفّل الله سبحانه بمواجهة من غرّتهم أموالهم والنعم المغدَقة عليهم ـ وقال تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصِّلت:34-35) ـ فقد أمره الله سبحانه بالصبر على التحديات، ليكون أسلوبه مع أعدائه الأسلوب الذي يحوّلهم إلى أصدقاء ـ فصبر رسول الله(ص) حتى نالوه بالعظائمورموه بها ـ كاتهامه بالسحر والجنون والافتراء على الله، وغيرها من أساليب الأذى الّتي مارسوها ـ فضاق صدره ـ لا من خلال الحالة النفسية الخاصة، بل لأنّ مثل هذه الاتّهامات قد تعطّل عليه(ص) حركته والتفاف الناس حوله ـ فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}(الحجر:97-98) ـ اتركهم وانفتح على الله، وسبّحه، واسجد بين يديه، والله يفرّج عنك ويشرح لك صدرك ـ ثم كذّبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}(الأنعام:33-34) ـ وسيأتيك النصر، كما نصر الله الرسل الذين قبلك ـ فألزم النبي(ص) نفسه الصبر فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه ـ عندما جحدوا بآيات الله تعالى ـ فقال(ص): «قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي»، فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}(ق:38-39)، فصبر النبي (ص) في جميع أحواله، ثم بُشِّر في عترته بالأئمة ووُصفوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة:24)، فعند ذلك قال (ص): «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»، فشكر الله عزّ وجلّ ذلك له فأنزل الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}(الأعراف:137)، فقال (ص): «إنه بشرى وانتقام»، فأباح الله عزّ وجلّ له قتال المشركين، فأنزل الله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}(التوبة:5)، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(البقرة:191)،فقتلهم الله على يدي رسوله وأحبائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخره له في الآخرة. فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقرّ الله له عينه في أعدائه، مع ما يدّخر له في الآخرة».
ملازمة الصّبر للإيمان
وعن الصادق(ع): «إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه ـ كأن الله يمثّل الصلاة كشيء حيّ ـ والزكاة عن يساره، والبرّ مُطلٌّ عليه، ويتنحى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه». وعن الإمام عليّ(ع) أنه قال: «الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسنٌ جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرّم الله عزّ وجلّ عليك ـ عندما تشتهي نفسك الحرام فتصبر وتشعر بالحرمان ـ والذكر ذكران: ذكر الله عزّ وجلّ عند المصيبة ـ أن يقول: {إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(البقرة:156) ـ وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرّم عليك فيكون حاجزاً». وعن الإمام الباقر(ع) قال: «لما حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه به: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً». فالحق مكلف، لأنّ النّاس قد يكونون ضدّ الحق، فإذا تكلمت بكلمة الحق، فقد يتّهمونك ويضطهدونك، فإذا واجهت ذلك كلّه فعليك أن تتماسك.
وعن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: «الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان». وعن الإمام الباقر(ع): «الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذَّتها وشهوتها دخل النار».
هكذا يريد الله تعالى للإنسان عندما يواجه الحياة، في كلّ مشاكلها ومتاعبها وخسائرها وأوضاعها ومصائبها، أن يواجهها بالصبر وإرجاع الأمر إلى الله، وقد حدّثنا الله تعالى عن الصابرين في البأساء والضراء، لذلك علينا أن نعيش إنسانيتنا بقوة، وأن نعيش الانفتاح واللجوء إلى الله في كل شيء، فهو حسبُنَا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
القدس: تهويد فكري وأمني
في المشهد الفلسطيني، كان الموعد مجدداً مع بيت المقدس، من خلال الاحتفال بالمدينة المقدّسة كعاصمةٍ للثقافة العربية، ولكنَّ كيان العدوّ لم يحتمل هذا الموقع الثقافيّ العربيّ للقدس، بل تعامل معه كخطرٍ إرهابي، فعمل على تحويل المدينة إلى ثكنة عسكرية لقمع الأنشطة المرافقة لإعلانها كعاصمة للبعد الثقافي العربي، باعتبار الامتداد التاريخي الذي تمثل في إنتاجها الفكري، وفي إيحاءاتها الإبداعية، وفي ثقافتها الدينية المتنوّعة التي جمعت في مقدّساتها تاريخ الرسالات وحياة الأنبياء، ما يؤكد عروبتها التي تجمع الإسلام والمسيحية في لغتها العربية، والّتي تنفتح في ثقافتها على أكثر من موقع في العالم ممّن يتطلّعون إلى هذه المدينة كمدينة مقدّسة مرتبطة بانتمائهم الديني وامتدادهم التاريخي، الأمر الذي يبطل الخرافة اليهودية في اعتبارها عاصمةً للكيان الغاصب في المضمون اليهودي الأسطوري، وفي المزاعم التي يزعمونها حول الحقّ التاريخي لليهود في السيطرة على القدس... وهكذا منعت إسرائيل أيّ مظهرٍ الاحتفال، بما في ذلك احتفال الأطفال في إطلاقهم البالونات احتفاءً بالمناسبة، لأن هذه الدولة تخاف حتى من أطفال القدس الذين سوف ينفتح مستقبلهم على الالتزام بتراثها الديني، ولا سيّما حائط البراق والمسجد الأقصى.
ومع كل هذا الإرهاب على المستوى الأمني والفكري، لم نلاحظ صدور أيّ استنكار من المجتمع الدولي، وحتى من السلطات العربية والإسلامية، احتجاجاً على هذه الممارسات، ما يوحي لليهود بأن أنشطتهم التهويدية والعدوانية لا تجد رفضاً حاسماً من العالم الذي يُضحك الثكلى عندما يتحدث عن حقوق الإنسان.
إسرائيل: هجمة استيطانية وحرب مياه ضد الفلسطينيين
وفي جانب آخر، فإنَّ بعض المسؤولين الكبار في وزارة الحرب الإسرائيلية يطالب باجتياحٍ آخر لغزَّة، وذلك بعد فشلهم في تحقيق الأهداف المرسومة في إنهاء المقاومة وإدخال القطاع في عملية المساومة الصهيونية، وذلك على الرغم من تأييد الإدارات الغربية للعدوان الصهيوني، المتمثل بالمواقف السياسية التي اعتبرت اليهود في موقف الدفاع عن النفس ضد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، من دون دراسة للجرائم الإنسانية، وعمليات الإبادة للمدنيين، واختراق المحرّمات الدولية في قصف المستشفيات والمساجد والمدارس والجامعات، وتهديم البيوت على رؤوس أصحابها من الأطفال والنساء والشيوخ، وامتناع مجلس الأمن الدولي عن إدانة هذه الممارسات، وصمت المحاكم الجنائية الدولية عن تقديم إسرائيل لمحاكمتها على جرائم الحرب والإبادة الوحشية ضد المدنيين، مع أن اعترافات جنود العدوّ بأنّهم تلقّوا تعليمات حاسمة من قيادتهم بقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، لم تدع مجالاً لكلِّ المؤسسات الدولية للإنكار حتى على مستوى المناورة.
وإلى جانب ذلك كله، ومع الهجمة العنصرية الاستيطانية الأخيرة على بلدة أمّ الفحم، ثمة حرب أخرى يشّنها العدوّ ضد الفلسطينيين، تتمثل بحرب المياه التي تسرقها الشركات الإسرائيلية ـ بقوّة الاحتلال وإشرافه ـ من الأحواض المائية الفلسطينية، لتضخّها إلى المدن والمستوطنات الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتقوم ببيع الفائض منها للفلسطينيين، بحيث بلغت كمية المياه المشتراة للاستخدام المنزلي 47 مليون متر مكعَّب في العام الماضي، مع تأكيد خبراء القانون الدولي أن سيطرة إسرائيل على مياه الأراضي الفلسطينية واستغلالها لتزويد المستوطنات والمدن الإسرائيلية المحتلّة مخالفٌ للقانون الدولي، لأنه استغلال سلطةِ احتلالٍ لموارد طبيعية للمنطقة التي تحتلّها، ولكن هذه اللصوصية اليهودية لا تخضع للقانون الدولي الذي يبرر القائمون عليه كلَّ سرقاتها، بما في ذلك سرقة الوطن في احتلالها للأرض الفلسطينية، لأن المجتمع الدولي يرى أن من حق اليهود أن يرفضوا كلَّ القوانين الدولية، متسلّحين بحماية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبصمت العالم العربي والإسلامي.
أمريكا: دعوات شعبية لإنهاء الحرب على العراق
وفي المشهد الأمريكي، لاحظنا أن عشرات الآلاف من الأمريكيين تظاهروا في أكثر من ولاية للمطالبة بإنهاء الحرب على العراق الذي دخل في الذكرى السابعة لغزوه، حيث اعتبر هؤلاء أن البنتاغون والشركات الكبرى يمارسون تجارة الموت.
ولقد كنّا نود أن تنطلق التظاهرات المليونية من الدول العربية والإسلامية رفضاً للاحتلال، وتعبيراً للشعوب عن تضامنها مع الشعبين العراقي والأفغاني، والمطالبة بانسحاب القوات الأمريكية وحلف الأطلسي، ولا سيّما بعدما سقطت الخطة الأمريكية وفَشِلَ حلف الناتو، حتى إن الرئيس الجديد، أوباما، صرّح بأن الحرب لا يمكن أن تحقّق النجاح في أفغانستان، لأنّ الشعب يرفض القوات الأجنبية، بالرغم من ضعف قدراته العسكرية أمام القدرات الأمريكية والأطلسية.
وفي العراق، نلاحظ عودةً للتفجيرات الانتحارية التي تطاول المدنيين في المساجد والشوارع ومجالس العزاء، في سياق دفع جديد لطاقات الأمة في المكان الخاطئ والحرام، وفي استحلالٍ متواصل لدماء المسلمين والمسالمين، انطلاقاً من بعض الفتاوى التي يطلقها الجهلة أو الذين لا معرفة لهم بالموازين الشرعية، وبعيداً من روح المقاومة التي ينبغي أن تتوجّه إلى الاحتلال، لا أن تنطلق في سياق حقدٍ أعمى يستهدف الآخر المختلِف في المذهب أو العرق أو السياسة، وتلك هي مأساة العالم الإسلامي المتمثلة في محاور دولية كبرى تنهب ثرواته وتحتل بلاده، وفي حركات تكفيرية أعمَتْها العينُ السياسية الضيقة، وعصبيةُ الحقد المذهبي، عن التطلّع إلى الأفق الرحب الذي يمكن للمسلمين والعرب أن يواجهوا المحتل من خلاله، إذا ما تمسكوا بوحدتهم وتضامنهم لا بتمزّقاتهم وعدوان بعضهم على بعض.
لبنان: الطائفية تزوير للإرادة ومصادرة للحرية
أما في لبنان، فينطلق السؤال عن الكيفيّة الّتي تعيد الطّوائف من خلالها إنتاج مواقعها في مناطقها الجغرافية، وفي رئاستها السياسية والدينية، وفي علاقاتها الخارجية، وفي مصادرها التمويلية، ومن الطبيعي أن تمثل الطائفة في هذه العناصر الذاتية مظهر الدولة التي تبحث عن مصالحها الخاصة بعيداً عن مصلحة الوطن، الأمر الذي ينعكس على الوحدة الوطنية شروخاً وتصدعات، وعندما تتعدّد الدول تبعاً لتعدد الطوائف في بلد واحد، فإنّ السلطة تتمظهر بمظهر المحاصصة بين الطوائف، الأمر الذي يلغي الحكم، وبالتالي فإنه يلغي الدولة، وبذلك تتدخّل الدول الأجنبية لتحلَّ محلَّ الدولة، لتتعدَّد مواقعها حسب تنوع مصالحها، فلا يبقى هناك الإنسان المواطن، بل الإنسان الطائفي الذي يعمل على أن يكون وطنه في خدمة طائفته وليس العكس، وهذا هو واقع العالم العربي الذي لم يعرف الدولة في تاريخه الحديث، بل عرف ألواناً معيّنةً من السلطات الشخصانية أو العائلية التي تلغي الدولة لأنها تختصرها في دائرة الشخص والعائلة، ولعلّ الخلل المتمثّل في منطق الانتخابات، يكمن في أن المواطن لا يمارس حريته في الاختيار، بل إن الطائفة تمارس عبر زعاماتها ضغوطها في تزوير إرادته ومصادرة حريته، لتكون قضية طائفته لا قضية وطنه.
لبنان ... تشريع العمالة وتحرير المجرمين
ولعلَّ من المعيب أن ينطلق بين الفينة والأخرى من يسعى لتحرير العملاء واللصوص والمجرمين من قيود القانون ومستلزمات العدالة، وآخر هذه المحاولات، المشروع الّذي يُعمل على تقديمه إلى المجلس النيابي للعفو عن رموز الجريمة والعمالة، ممن كانوا يد الاحتلال وعينه في احتلال أرض الوطن وقتل مواطنيهم وتدمير بلدهم، وزج الأحرار والشرفاء في المعتقلات وبؤر التعذيب المتعددة.
إنَّنا نفهم أنه في الوقت الذي يراد لبلد ما أن ينتقل من مرحلة إلى أخرى، ومن محطة إلى محطة، أن تنطلق بعض التشريعات التي تمثل الحماية للبلد في مستقبله وفي تطلعات أجياله، بما يحميه من الداخل، ويمنع لصوص الأوطان من العودة إلى سياستهم السابقة في اللصوصية الدولية أو الإقليمية أو ما إلى ذلك... ولكننا نلاحظ أن العفو في لبنان أصبح جزءاً من اللعبة السياسية، ودخل في الحسابات الطائفية والمذهبية، ويراد له أن يتحوّل إلى سلعة انتخابية في بلد تتأنق فيه الخيانة والعمالة فتلبس ثوب المصلحة الوطنية، ويتأنّق الذّل حتى يُصبح غفراناً، ويُكابر المحترفون لخطوط الخيانة والإجرام إلى الدرجة التي تُعطى العمالة فيه معنى الوطنية، فتصبح حرّيّة المجرمين والعملاء بمثابة الحرية والاستقلال اللَّذين لا قيامة للبلد من دونهما!!
إنّ المشكلة في لبنان، أنَّ العمالة انطلقت على مستوى القيادات السياسية، ولذلك فقد استسهلت هذه القيادات أن يتحرّك من هو دونها في هذا الخطّ، لا بل أرادت أن يتحرّك التشريع على مستوى القاعدة ليعطي المشروعية لها، ليظلَّ البلد رهينة الوصايات الخارجية في الحسابات السياسية الكبرى، وفي المشاريع الداخلية الصغرى، ولنظل في دوامة الاستزلام لزعامات الداخل التي تعيش كل معاني الاستزلام لزعامات الخارج... وعوّض الله اللبنانيين عن كل هذا الإرث المجبول بالذل والهوان والموت.