ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الإمام الباقر(ع):
رائد النهضة العلمية
الباقر(ع) إمام العلم والحوار
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].
من أئمة أهل هذا البيت(ع)، الإمام محمد بن علي الباقر(ع)، الذي صادفت ذكرى ولادته في أول هذا الشهر، شهر رجب؛ هذا الإمام الذي كانت مدرسته العلمية الثقافية تشمل كل قضايا الإسلام العقيدية والشرعية والحركية والحياتية؛ فاستطاع أن يصنع للأمة جيلاً من القيادات العلمية والفكرية.
وكانت مدرسته العلمية سبباً في ظهور مدرسة ولده الإمام جعفر الصادق(ع)، الذي ملأ العالم الإسلامي في تلك المرحلة علماً وحكمةً وفلسفةً، فكان إمام الحوار الذي لا يضيق بحوار أيّ شخص مهما كانت انحرافاته العقيدية؛ لأن خط أهل البيت(ع) هو خط الإسلام الذي جاء به رسول الله(ص) من أجل أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمة الشرّ إلى نور الخير.
وكان الإمام الباقر(ع) يعلّم أصحابه أن يسألوه، فإذا أعطاهم فكرةً إسلاميةً في أيّ جانب من جوانب الإسلام، فإنّه يطلب منهم أن يسألوه عن أساس هذه الفكرة من القرآن؛ من أين استفادها، وكيف عبّر القرآن عنها، لأنه كان يهدف إلى مسألتين:
الأولى: أن يعلّم أصحابه أن يسألوا عن كل ما يجهلونه، وعلى العلماء الذين يسألهم الناس عن أسس الإسلام، وعن الشريعة، وعن كل قضايا الحياة التي وجّه الله تعالى الناس إليها، أن لا يضيقوا ذرعاً بأيّ مسألة، فواجبهم الإجابة عن كل شيء.
الثانية: أنه أراد لأصحابه وللناس كافةً أن يقرأوا القرآن بتدبّر، وأن يتفهموه ليأخذوا برنامج حياتهم من آياته، وأراد للناس أن يستوعبوها، حتى يبقى القرآن على مدى الزمن هو القاعدة الثقافية التي ينبغي للناس أن يأخذوا بها.
شهادات العلماء فيه
وعندما ندرس كلمات العلماء الذين كانوا في زمان الإمام الباقر(ع)، نجد أنهم كانوا يعظّمونه أعظم درجة، فنقرأ عن "ابن سعد" في طبقاته قوله: "إنّه كان عالماً عابداً ثقةً عند جميع المسلمين". فالمسلمون بكافة انتماءاتهم وعقائدهم كانوا يثقون به، على الرغم من أن البعض كان لا يعتقد بإمامته.
وروى عنه أبو حنيفة وغيره من أئمّة العلم والمذاهب. وجاء عن "عطاء"، وهو أحد أعلام التابعين، أنّه قال: "ما رأيت العلماء عند أحدٍ أصغر علماً منهم في مجلس أبي جعفر الباقر(ع)، لقد رأيت الحكم بن عيينة ـ وهو من العلماء المعروفين في تلك المرحلة ـ عنده كأنّه عصفورٌ مغلوبٌ لا يملك من أمره شيئاً". وعن "محيي الدين النووي" أنه قال: "محمد بن علي بن الحسين القرشي الهاشمي المعروف بالباقر؛ سمّي بذلك لأنّه بقر العلم، أي شقّه، فعرف أصله وخفاياه، وهو تابعي جليل، وإمام بارع، مجمَع على جلالته، معدود في فقهاء المدينة وأئمّتهم".
الأئمة(ع) مقصد الراغبين
وهكذا نرى أن أئمة أهل البيت(ع) كانوا موقع تقدير عند كل المسلمين، لأنهم كانوا يرونهم في الدرجة العليا من العلم، وكانوا يرجعون إليهم ويستفيدون منهم. وعندما ندرس تراث الإمام الباقر(ع)، نجد أنه ما من مسألة من المسائل الإسلامية، في العقيدة والشريعة أو أيّ جانب من الجوانب، إلا ورأينا الإمام(ع) يتحدث عنها بكل سعة علمه. وكان الإمام(ع) عندما يجلس مع الناس في ديوانه، لا يترك أحداً يأتيه إلا ويعظه ويرشده، لأنه كان يشعر بأنّ العلم الذي يملكه هو أمانة الله عنده.
ولذلك، كان الناس عندما يقصدونه في أيّ مكان يحلّ فيه، يسألونه ويجيبهم، وكان يبتدئهم بالكلام إذا لم يسألوه. وهذه هي المسؤولية التي حمّلها الله تعالى للعلماء في أن يثقفوا الناس؛ فعندما يأتي الناس إليهم، عليهم أن يشغلوهم بالثقافة التي ترفع مستواهم العلمي الذي يقرّبهم إلى الله تعالى. وقد ورد: "ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا، إلا بعد أن أخذ على العلماء أن يعلّموا"، ولا سيما عندما تنتشر البدع بين الناس. لذلك لا بد للعلماء من أن ينطلقوا من أجل رفع مستوى الناس وتثقيفهم، ليكون المسلمون في الدرجة العليا في الثقافة الإسلامية، وهذا ما أراده الله للناس، أن يعيشوا القيمة العلمية: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9].
الأخلاق والعبادة
وفي حديث للإمام الباقر(ع)، اعتبر أنّ الجانب الأخلاقي يلتقي بالعبادة. يقول(ع): "ما من عبادة أفضل من عفة بطنٍ أو فرج ـ إن الإنسان الذي يعفّ بطنه عن الحرام، فلا يأكل أو يشرب حراماً، والذي يعفّ فرجه عن الحرام، فلا يزني ولا يلوط ولا يقوم بالعلاقات الجنسية المحرّمة، فإن ذلك من أفضل العبادات ـ وما من شيء أحبّ إلى الله تعالى من أن يُسأل ـ فالله تعالى يحبّ للعباد إذا نزلت بهم مصيبة أو كانت لهم حاجة، أن يسألوه، والله يحبّ الإنسان الذي يدعوه، وقد طلب سبحانه من عباده أن يدعوه: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} ـ وما يدفع القضاء إلا الدعاء ـ فإن الله تعالى إذا عرف أن عبده سوف يدعوه بما أهمّه، وكان القضاء موجّهاً إليه بحسب الأسباب الطبيعية، رفع ذلك عنه ـ وإنّ أسرع الخير ثواباً البرّ ـ فالخير الذي يحصل الإنسان على ثوابه بشكل سريع هو العطاء وقضاء حوائج الناس ـ وأسرع الشر عقوبة البغي ـ وهو العدوان على الناس ـ وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحوّل عنه ـ فمن أكبر العيوب أن يحدّق الإنسان بعيوب الناس من حوله، ولا يلتفت إلى عيوبه في أخلاقه وسلوكه وكل أوضاعه، أو أن يطلب من الناس التقوى والصدق والأمانة وهو ليس بتقي وليس صادقاً ولا أميناً ـ وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه".
وروى الأصمعي عن أبي جعفر قال: سمعته يقول لابنه: "يا بني، إياك والكسل ـ لا تكسل عن عمل الخير وعن رفع مستواك في الدنيا والآخرة، بل كن متحركاً من أجل الوصول إلى الأهداف الكبرى التي تلتزم بها ـ والضجر ـ لا تضجر من القراءة والتعلّم والعمل ـ فإنهما مفتاح كل شر. إنك إن كسلت لم تؤدِّ حقاً ـ لأن الكسل يدعوك إلى الاسترخاء ـ وإن ضجرت لم تصبر على حق"، لأن الإنسان عندما يضجر، فإن ذلك يمنعه من الانفتاح على الحق.
صفـات الشيعـة
وورد عن الإمام الباقر(ع) في صفات المجتمع الشيعي أنه قال: "إنما شيعة عليّ المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودتنا، المتزاورون لإحياء الدين، إذا غضبوا لم يظلموا ـ لأن الغضب لا يبرر لك أن تظلم من تغضب منه ـ وإذا رضوا لم يسرفوا ـ بل يتوازنون ويتعادلون ـ بَرَكة على من جاوروا ـ فالشيعي إذا جاور إنساناً يكون بَركة عليه ـ سلم لمن خالطوا".
وعن عبيد الله بن الوليد أنه قال: "قال لنا أبو جعفر يوماً: يُدخل أحدُكم يدَه في كمّ صاحبه فيأخذ منه ما يريد؟ قلنا: لا. قال: فلستم إخواناً كما تزعمون". وعنه(ع): "الكمال، كل الكمال، التفقّه في الدين ـ أن يملك الإنسان الثقافة الدينية الواسعة، بحيث يكون مسلماً يعيش الإسلام في عقله وقلبه وكل حياته وعلاقاته ـ والصبر على النائبة ـ والله تعالى بشّر الصابرين بأن عليهم صلوات من ربهم ورحمة وهدى ـ وتقدير المعيشة"، بحيث يعرفون كيف ينظّمون معيشتهم بالطريقة التي يجعلونها فيها على قدر حاجاتهم، حتى لا يحتاجوا الناس في ذلك. وعنه(ع) في قول الله عزّ وجلّ: {وقولوا للناس حسناً} [البقرة:83]، قال: "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يُقال فيكم".
لقد علّمنا أئمتنا الإسلام الأصيل، وأرادوا لنا أن نكون الطليعة التي تنفتح على الإسلام وتتحرك في حضاريته، وتنطلق إلى العالم كله بالدعوة الإسلامية، حتى يعرف الناس الإسلام، فإذا قرأوه من خلال القرآن الكريم وسنّة النبي (ص) وتراث أهل البيت(ع)، فسوف يحبونه ويلتزمونه وينطلقون فيه. لذلك علينا أن نهتم بهذا التراث الرائع الحضاري الذي جاء عن أئمة أهل البيت(ع). والسلام على الإمام الباقر يوم وُلد، ويوم انتقل إلى جوار ربه، ويوم يُبعث حيّاً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
العرب والسلم الإسرائيلي الخادع
يجاهر بعض المسؤولين العرب بأن المرحلة الحالية هي الأفضل لتحقيق ما يسمّونه "سلاماً" مع كيان العدوّ، آخذين في الاعتبار وضعية السقوط والانهزام التي جعلتهم ينظرون إلى حكومة العدو اليمينية المتطرفة كخشبة خلاص، مع أن رئيس هذه الحكومة كان حريصاً إلى أبعد الحدود، عندما قام بتوصيف الدولة الفلسطينية التي يتطلّع إلى تقديمها إلى الأنظمة كعربون وفاء لخضوعها وخنوعها، وهي التي وصفها كاتب صهيوني بأنها مجرد "منطقة صناعية".
وهكذا، تتوضّح شيئاً فشيئاً رؤية الأنظمة حيال ما يسمّونه "عملية السلام"، فإسرائيل تقوم في هذه الأيام بأوسع عملية تهويد للقدس المحتلة، وقد باشرت قوات الاحتلال بطرح مناقصات لبيع أملاك اللاجئين الفلسطينيين داخل فلسطين العام 1948، كما أن عملية الاستيطان تجري بوتيرة متسارعة لتغيير صورة القدس والضفة الغربية وتعديلها تماماً. ومن اللافت أن وزير حرب العدوّ جاء إلى فلسطين من مصر ليعطي ترخيصاً ببناء 300 وحدة سكنية استيطانية جديدة. ومع ذلك، فإن العرب على مستوى الكثير من الأنظمة، يتطلّعون إلى السلام من الزاوية التي تنتهي فيها القضية الفلسطينية، ويُحكم فيها العدو قبضته الاستيطانية على بقية الأرض المحتلة في العام 67، فيحقق ما يتطلّع إليه حول فكرة الدولة اليهودية التي حدّث "هرتزل" اليهود عنها فقال لهم: "إذا أردتم فإنها لن تكون أسطورةً".
ولهذا، فإننا عندما نستمع إلى وزير حرب العدوّ يتحدث من إحدى العواصم العربية عن العمل لتحقيق "تسوية سلمية إقليمية شاملة يمكن في إطارها إدارة محادثات مع الفلسطينيين، ومع كلٍ من سوريا ولبنان"، وعندما يتحدث الإعلام الصهيوني عن نقاط عشر لإصلاح ذات البين بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، يتم على أساسها إجراء انتخابات فلسطينية، وتُفتح بعدها المعابر باتجاه غزة، فإن علينا أن نعرف أن المسألة لا تنطلق من وحي الخوف على الفلسطينيين، أو من الحرص على الارتقاء بوضعهم الذي وصل إلى مستوى الكارثة، بل من زاوية استثمار أوضاعهم الصعبة، وضمّها إلى الوضع العربي المتعَب والمرهَق على مستوى الأنظمة، والذي عبّر عنه بيان وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير، وتأكيدهم الاستعداد "لفعل كل ما يلزم" في سبيل دعم التحرك الأمريكي في المنطقة، لتبرز إلينا التسوية الأمريكية الإسرائيلية بحلّتها الجديدة، فيذهب اللاجئون إلى أصقاع العالم، ويوطَّن الآخرون في البلدان العربية المجاورة لفلسطين، وتدخل إسرائيل إلى المفاصل العربية والإسلامية كلها، ويصفّق العالم المتواطئ لـ"الإنجاز التاريخي" الذي تحققت فيه أحلام "هرتزل" وتطلّعات "بن غوريون"، ونال فيه العرب المزيد من الأوسمة وجوائز نوبل على أنقاض هذا الصدّيق أو هذا الذبيح الذي هو الشعب الفلسطيني.
الفخّ الأمريكي للفلسطينيين
إننا نحذّر من أن كل ما يجري في الكواليس، إضافةً إلى الحركة المكوكية للمبعوثين الأمريكيين في المنطقة، إنما هو لإخماد جذوة القضية الفلسطينية بالكامل، وللضحك على عقول السذّج في العالم العربي والإسلامي، ولشرعنة الاحتلال وتقديم كامل التسهيلات له تحت لافتة "السلام"، وصولاً إلى تطويق حركات المقاومة، وإطفاء شعلة حركات التحرر، وتحقيق النهاية المأساوية الكبرى لأنصع قضية وأبرز حالة من حالات المظلومية التي عاش العالم مآسيها فصولاً منذ ما يزيد على القرن من الزمن، أي منذ أن قال هرتزل في العام 1897 في "بازل" في سويسرا: "في بازل أسست الدولة الصهيونية، وسوف ترى هذه الدولة النور بعد خمسين سنةً على وجه التأكيد".
الشعوب العربية والوحدة
إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية التي حاصروها بحروب الفتنة، وأرهقوا كاهلها بالاحتلال والفوضى الأمنية والحروب الأهلية؛ من أفغانستان، إلى باكستان، إلى الصومال والسودان والعراق. ندعوها ـ مع شعورنا بحجم الضغوط التي تنهال عليها ـ إلى الوقوف وقفةً وحدويةً حاسمةً، واستعادة لحمتها الداخلية، من خلال الالتفاف حول قضيتها المركزية التي تشكّل فلسطين والقدس عنواناً أساسياً فيها، والسعي على مختلف المستويات لمنع هذا العالم الظالم والمستكبر من أن يُحكم سيطرته على المنطقة بالكامل، من خلال حصوله على التوقيع العربي والإسلامي القاضي بمنح فلسطين التاريخية، فلسطين العربية والإسلامية، لليهود المحتلّين.
وإنه لمن دواعي الأسى والبؤس أن تبلغ الهجمة الاستكبارية على الأمة وفلسطين هذا المبلغ، فيما تواصل آلة الدمار الذاتي حركتها في الصومال، فيغرق البلد في بحرٍ من الدماء، ويطل على مرحلة جديدة من مراحل التدخّل الاستكباري في أوضاعه الداخلية... وفيما تواصل آلة الحقد التكفيرية عملها في العراق، فتنفد إلى بلدة تركمانية وادعة في محافظة كركوك، من خلال شاحنة محمّلة بأكثر من طن من المتفجّرات، فتقتل وتجرح أكثر من 300 شخص من المستضعفين الفقراء الذين فُجعوا بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وشبابهم، في عملية قتل وإبادة جماعية تشبه في بشاعتها ووحشيتها عمليات الإبادة التي يمارسها العدو الإسرائيلي في فلسطين المحتلة وقطاع غزة، وعمليات القتل الجماعي للفلاّحين والعائلات المستضعفة في أفغانستان من قِبَل الأمريكيين.
الحقد المذهبي في العراق
ومع أن هذا الحقد قد عبّر عن نفسه في أكثر من موقع في العراق في الآونة الأخيرة، وخصوصاً في مدينة الصدر التي فُجعت بعشرات القتلى والجرحى من أبنائها في جريمة التفجير الأخيرة، إلا أنه أراد من خلال جريمة كركوك، الدخول على الخط العرقي من جهة، والمذهبي من جهة ثانية، لإثارة المزيد من نقاط الضعف في الداخل العراقي لحساب المحتل الأمريكي الذي تسعى مثل هذه الجرائم لتوفير أرضية جديدة له، تجعله يصر على عدم الخروج من المدن العراقية في هذه المرحلة.
ونحن في الوقت الذي نعرف مدى استفادة الاحتلال من هذه الجرائم، نستغرب عدم صدور بيانات الاستنكار والإدانة من العلماء المسلمين، وخصوصاً من المواقع الوحدوية الحريصة على وحدة المسلمين، لأن ما جرى يمثل أبشع صورة من صور القتل الجماعي والإبادة للأطفال والمدنيين، مما توعد الإسلام فاعله بالنار وبئس القرار.
إيران: امتحان ناجح
أما إيران التي أوشكت أن تخرج من دائرة امتحان داخلي تسببت به حدّة المنافسة الانتخابية، وحرية الحركة التي وفّرها النظام الإسلامي، بشيء من الاهتزاز الداخلي، فقد أصبحت، في بعض المشاهد التي التقطها الإعلام الغربي، وبعض الإعلام العربي، من داخل الشارع الإيراني، وعمل على بثها ونشرها بشكل متواصل، مثاراً للجدل والتحليلات، وموقعاً تُذرف عليه الدموع الغربية التي يعبِّر أصحابها عن قلقهم حيال ما جرى في الشارع الإيراني، وحيال التجربة الشعبية والديمقراطية فيه، ومن بين هؤلاء من يدعم أكثر الديكتاتوريات ظلماً في المنطقة، ومع كونهم لم يكلّفوا أنفسهم التصريح بكلمة استنكار واحدة حيال المجازر التي ارتكبها العدوّ في غزة، ناهيك عن عملية التعمية الكبيرة التي مارسها الإعلام الغربي في العديد من مؤسساته وأجهزته الكبرى في مسألة المحرقة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة.
إننا نريد للشعب الإيراني، الذي عرف من خلال هذه التجربة مدى توق العالم المستكبر لتدمير ثورته، وإسقاط دولته، مع أن هذا المخاض كلّه كان يدور في نطاق النظام وفي قلب الثورة، نريد لهذا الشعب أن يعمل على عودة اللحمة إلى خطوطه الشعبية والسياسية، ولينطلق في عملية تضميد الجراح من خلال تحسسه خطورة الهجمة الخارجية عليه، والتي عبّر عنها رئيس كيان العدوّ أوضح تعبير، عندما قال: "يصعب معرفة من سيزول أولاً في إيران، اليورانيوم المخصّب أو النظام البائس، والأمل هو أن يكون النظام هو الذي سيزول".
وينبغي للشعب الإيراني كلّه أن يردَّ على هذا المجرم البائس ليقول له: إن الذي يزول هو الشرّ، وإن الذي يبقى هو الخير والحقيقة، وإسرائيل هي الشرّ بأبشع صوره، وإيران هي الخير، وهي الحقيقة في تجاربها الحيّة والعلمية، وفي وقفتها بوجه الاستكبار ودعمها لحركات المقاومة والتحرر، وهي التي ستبقى ويزول العدوّ بإذن الله.
التقاسم الدولي للبنان
أما لبنان الذي يطل على المنطقة من بوابة الديمقراطية العجائبية، التي استولدت إحدى تجاربها الصارخة في النموذج الانتخابي الأخير، والذي أعاد الحميّة والعصبية سالمة غانمة إلى قواعدها المذهبية والحزبية، فقد دخل في لعبة التقاسم الإقليمي والدولي من جديد؛ في التسميات والمحاصصات والأرقام التي يتداولها الخارج ويستحسن الداخل تمريرها تحت عناوين وطنية تلبس لبوس المرحلة، وتتدثّر بعباءتها المطرّزة بالخيوط الدولية والإقليمية، والموشّاة بحرير الاعتدال والممانعة العربية، الأمر الذي يضفي طابعاً مميّزاً لبلد اكتوى بنيران الخلافات العربية ـ العربية، والعربية ـ الإسلامية، إضافةً إلى الخلافات الإقليمية والدولية، وقد يكتوي بدفء المصالحات أو التفاهمات التي غالباً ما تبصر النور على بساط الراحة الدولي، الذي يريد للبنان أن يصوغ مشاريعه الداخلية، على مستوى المجلس والحكومة وغيرهما، من وحي الصياغة العامة في المنطقة، والممهورة بتواقيع دولية محسوبة.
فهنيئاً للبنانيين تجاربهم الصاخبة في الانتخابات، والسجالات التي ترتفع وتيرتها وتنخفض تبعاً للنصائح القادمة من المنطقة أو من وراء البحار، وهنيئاً لهم كل هذه التفاهمات التي تُرسم خطوطها التفصيلية في الخارج، ويتم تظهيرها في الداخل، وعسى أن تشفع الأوضاع الجديدة لهم بتطلّعات عربية وإسلامية ترفع عن كاهلهم ضغط المديونية بملياراتها الخمسين، إذا كان قد بقي في جعبة العرب ما يدفعونه بعد البلايين التي أكلتها الأزمة الاقتصادية العالمية، وصفقات الأسلحة الحديثة التي لا يؤمَّل أن تُستعمل في تحرير الأرض والإنسان.
رصاص الفرح محرّم
وأخيراً، إننا مجدداً أمام ظاهرة التخلّف التي تحوّلت إلى جريمة تفتك بأمن الناس وراحتهم وأرواحهم، من خلال كل هذه الهستيريا وهذا الجنون الذي يهز الشوارع ويقتحم البيوت، في حالات إطلاق الرصاص عند كل مناسبة يُنتخب فيها مسؤول أو يتحدث فيها زعيم سياسي أو طائفي.
لقد حذّرنا في السابق من أن ظاهرة التخلّف هذه لا تدخل في نطاق الحرمة الشرعية فحسب، بل تمثل جريمة قتلٍ بدم بارد، وهو ما يستدعي التحرك السريع من الدولة والمسؤولين، ومن كل من يملك أن يمنع هؤلاء من التمادي في جريمتهم وقتلهم الناس وترويعهم الأطفال، واعتدائهم على السلم الأهلي وعلى الأمن الاجتماعي وعلى النظام العام، مما لا يمكن السكوت عليه بحال من الأحوال، أو القبول بتكراره، أو الركون إلى نتائجه، لأن المطلوب هو معاقبة هؤلاء المرتكبين لهذه الاعتداءات، والتحرك السياسي والشعبي والقانوني لمنع أية حالة مماثلة في المستقبل.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الإمام الباقر(ع):
رائد النهضة العلمية
الباقر(ع) إمام العلم والحوار
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].
من أئمة أهل هذا البيت(ع)، الإمام محمد بن علي الباقر(ع)، الذي صادفت ذكرى ولادته في أول هذا الشهر، شهر رجب؛ هذا الإمام الذي كانت مدرسته العلمية الثقافية تشمل كل قضايا الإسلام العقيدية والشرعية والحركية والحياتية؛ فاستطاع أن يصنع للأمة جيلاً من القيادات العلمية والفكرية.
وكانت مدرسته العلمية سبباً في ظهور مدرسة ولده الإمام جعفر الصادق(ع)، الذي ملأ العالم الإسلامي في تلك المرحلة علماً وحكمةً وفلسفةً، فكان إمام الحوار الذي لا يضيق بحوار أيّ شخص مهما كانت انحرافاته العقيدية؛ لأن خط أهل البيت(ع) هو خط الإسلام الذي جاء به رسول الله(ص) من أجل أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمة الشرّ إلى نور الخير.
وكان الإمام الباقر(ع) يعلّم أصحابه أن يسألوه، فإذا أعطاهم فكرةً إسلاميةً في أيّ جانب من جوانب الإسلام، فإنّه يطلب منهم أن يسألوه عن أساس هذه الفكرة من القرآن؛ من أين استفادها، وكيف عبّر القرآن عنها، لأنه كان يهدف إلى مسألتين:
الأولى: أن يعلّم أصحابه أن يسألوا عن كل ما يجهلونه، وعلى العلماء الذين يسألهم الناس عن أسس الإسلام، وعن الشريعة، وعن كل قضايا الحياة التي وجّه الله تعالى الناس إليها، أن لا يضيقوا ذرعاً بأيّ مسألة، فواجبهم الإجابة عن كل شيء.
الثانية: أنه أراد لأصحابه وللناس كافةً أن يقرأوا القرآن بتدبّر، وأن يتفهموه ليأخذوا برنامج حياتهم من آياته، وأراد للناس أن يستوعبوها، حتى يبقى القرآن على مدى الزمن هو القاعدة الثقافية التي ينبغي للناس أن يأخذوا بها.
شهادات العلماء فيه
وعندما ندرس كلمات العلماء الذين كانوا في زمان الإمام الباقر(ع)، نجد أنهم كانوا يعظّمونه أعظم درجة، فنقرأ عن "ابن سعد" في طبقاته قوله: "إنّه كان عالماً عابداً ثقةً عند جميع المسلمين". فالمسلمون بكافة انتماءاتهم وعقائدهم كانوا يثقون به، على الرغم من أن البعض كان لا يعتقد بإمامته.
وروى عنه أبو حنيفة وغيره من أئمّة العلم والمذاهب. وجاء عن "عطاء"، وهو أحد أعلام التابعين، أنّه قال: "ما رأيت العلماء عند أحدٍ أصغر علماً منهم في مجلس أبي جعفر الباقر(ع)، لقد رأيت الحكم بن عيينة ـ وهو من العلماء المعروفين في تلك المرحلة ـ عنده كأنّه عصفورٌ مغلوبٌ لا يملك من أمره شيئاً". وعن "محيي الدين النووي" أنه قال: "محمد بن علي بن الحسين القرشي الهاشمي المعروف بالباقر؛ سمّي بذلك لأنّه بقر العلم، أي شقّه، فعرف أصله وخفاياه، وهو تابعي جليل، وإمام بارع، مجمَع على جلالته، معدود في فقهاء المدينة وأئمّتهم".
الأئمة(ع) مقصد الراغبين
وهكذا نرى أن أئمة أهل البيت(ع) كانوا موقع تقدير عند كل المسلمين، لأنهم كانوا يرونهم في الدرجة العليا من العلم، وكانوا يرجعون إليهم ويستفيدون منهم. وعندما ندرس تراث الإمام الباقر(ع)، نجد أنه ما من مسألة من المسائل الإسلامية، في العقيدة والشريعة أو أيّ جانب من الجوانب، إلا ورأينا الإمام(ع) يتحدث عنها بكل سعة علمه. وكان الإمام(ع) عندما يجلس مع الناس في ديوانه، لا يترك أحداً يأتيه إلا ويعظه ويرشده، لأنه كان يشعر بأنّ العلم الذي يملكه هو أمانة الله عنده.
ولذلك، كان الناس عندما يقصدونه في أيّ مكان يحلّ فيه، يسألونه ويجيبهم، وكان يبتدئهم بالكلام إذا لم يسألوه. وهذه هي المسؤولية التي حمّلها الله تعالى للعلماء في أن يثقفوا الناس؛ فعندما يأتي الناس إليهم، عليهم أن يشغلوهم بالثقافة التي ترفع مستواهم العلمي الذي يقرّبهم إلى الله تعالى. وقد ورد: "ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا، إلا بعد أن أخذ على العلماء أن يعلّموا"، ولا سيما عندما تنتشر البدع بين الناس. لذلك لا بد للعلماء من أن ينطلقوا من أجل رفع مستوى الناس وتثقيفهم، ليكون المسلمون في الدرجة العليا في الثقافة الإسلامية، وهذا ما أراده الله للناس، أن يعيشوا القيمة العلمية: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9].
الأخلاق والعبادة
وفي حديث للإمام الباقر(ع)، اعتبر أنّ الجانب الأخلاقي يلتقي بالعبادة. يقول(ع): "ما من عبادة أفضل من عفة بطنٍ أو فرج ـ إن الإنسان الذي يعفّ بطنه عن الحرام، فلا يأكل أو يشرب حراماً، والذي يعفّ فرجه عن الحرام، فلا يزني ولا يلوط ولا يقوم بالعلاقات الجنسية المحرّمة، فإن ذلك من أفضل العبادات ـ وما من شيء أحبّ إلى الله تعالى من أن يُسأل ـ فالله تعالى يحبّ للعباد إذا نزلت بهم مصيبة أو كانت لهم حاجة، أن يسألوه، والله يحبّ الإنسان الذي يدعوه، وقد طلب سبحانه من عباده أن يدعوه: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} ـ وما يدفع القضاء إلا الدعاء ـ فإن الله تعالى إذا عرف أن عبده سوف يدعوه بما أهمّه، وكان القضاء موجّهاً إليه بحسب الأسباب الطبيعية، رفع ذلك عنه ـ وإنّ أسرع الخير ثواباً البرّ ـ فالخير الذي يحصل الإنسان على ثوابه بشكل سريع هو العطاء وقضاء حوائج الناس ـ وأسرع الشر عقوبة البغي ـ وهو العدوان على الناس ـ وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحوّل عنه ـ فمن أكبر العيوب أن يحدّق الإنسان بعيوب الناس من حوله، ولا يلتفت إلى عيوبه في أخلاقه وسلوكه وكل أوضاعه، أو أن يطلب من الناس التقوى والصدق والأمانة وهو ليس بتقي وليس صادقاً ولا أميناً ـ وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه".
وروى الأصمعي عن أبي جعفر قال: سمعته يقول لابنه: "يا بني، إياك والكسل ـ لا تكسل عن عمل الخير وعن رفع مستواك في الدنيا والآخرة، بل كن متحركاً من أجل الوصول إلى الأهداف الكبرى التي تلتزم بها ـ والضجر ـ لا تضجر من القراءة والتعلّم والعمل ـ فإنهما مفتاح كل شر. إنك إن كسلت لم تؤدِّ حقاً ـ لأن الكسل يدعوك إلى الاسترخاء ـ وإن ضجرت لم تصبر على حق"، لأن الإنسان عندما يضجر، فإن ذلك يمنعه من الانفتاح على الحق.
صفـات الشيعـة
وورد عن الإمام الباقر(ع) في صفات المجتمع الشيعي أنه قال: "إنما شيعة عليّ المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودتنا، المتزاورون لإحياء الدين، إذا غضبوا لم يظلموا ـ لأن الغضب لا يبرر لك أن تظلم من تغضب منه ـ وإذا رضوا لم يسرفوا ـ بل يتوازنون ويتعادلون ـ بَرَكة على من جاوروا ـ فالشيعي إذا جاور إنساناً يكون بَركة عليه ـ سلم لمن خالطوا".
وعن عبيد الله بن الوليد أنه قال: "قال لنا أبو جعفر يوماً: يُدخل أحدُكم يدَه في كمّ صاحبه فيأخذ منه ما يريد؟ قلنا: لا. قال: فلستم إخواناً كما تزعمون". وعنه(ع): "الكمال، كل الكمال، التفقّه في الدين ـ أن يملك الإنسان الثقافة الدينية الواسعة، بحيث يكون مسلماً يعيش الإسلام في عقله وقلبه وكل حياته وعلاقاته ـ والصبر على النائبة ـ والله تعالى بشّر الصابرين بأن عليهم صلوات من ربهم ورحمة وهدى ـ وتقدير المعيشة"، بحيث يعرفون كيف ينظّمون معيشتهم بالطريقة التي يجعلونها فيها على قدر حاجاتهم، حتى لا يحتاجوا الناس في ذلك. وعنه(ع) في قول الله عزّ وجلّ: {وقولوا للناس حسناً} [البقرة:83]، قال: "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يُقال فيكم".
لقد علّمنا أئمتنا الإسلام الأصيل، وأرادوا لنا أن نكون الطليعة التي تنفتح على الإسلام وتتحرك في حضاريته، وتنطلق إلى العالم كله بالدعوة الإسلامية، حتى يعرف الناس الإسلام، فإذا قرأوه من خلال القرآن الكريم وسنّة النبي (ص) وتراث أهل البيت(ع)، فسوف يحبونه ويلتزمونه وينطلقون فيه. لذلك علينا أن نهتم بهذا التراث الرائع الحضاري الذي جاء عن أئمة أهل البيت(ع). والسلام على الإمام الباقر يوم وُلد، ويوم انتقل إلى جوار ربه، ويوم يُبعث حيّاً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
العرب والسلم الإسرائيلي الخادع
يجاهر بعض المسؤولين العرب بأن المرحلة الحالية هي الأفضل لتحقيق ما يسمّونه "سلاماً" مع كيان العدوّ، آخذين في الاعتبار وضعية السقوط والانهزام التي جعلتهم ينظرون إلى حكومة العدو اليمينية المتطرفة كخشبة خلاص، مع أن رئيس هذه الحكومة كان حريصاً إلى أبعد الحدود، عندما قام بتوصيف الدولة الفلسطينية التي يتطلّع إلى تقديمها إلى الأنظمة كعربون وفاء لخضوعها وخنوعها، وهي التي وصفها كاتب صهيوني بأنها مجرد "منطقة صناعية".
وهكذا، تتوضّح شيئاً فشيئاً رؤية الأنظمة حيال ما يسمّونه "عملية السلام"، فإسرائيل تقوم في هذه الأيام بأوسع عملية تهويد للقدس المحتلة، وقد باشرت قوات الاحتلال بطرح مناقصات لبيع أملاك اللاجئين الفلسطينيين داخل فلسطين العام 1948، كما أن عملية الاستيطان تجري بوتيرة متسارعة لتغيير صورة القدس والضفة الغربية وتعديلها تماماً. ومن اللافت أن وزير حرب العدوّ جاء إلى فلسطين من مصر ليعطي ترخيصاً ببناء 300 وحدة سكنية استيطانية جديدة. ومع ذلك، فإن العرب على مستوى الكثير من الأنظمة، يتطلّعون إلى السلام من الزاوية التي تنتهي فيها القضية الفلسطينية، ويُحكم فيها العدو قبضته الاستيطانية على بقية الأرض المحتلة في العام 67، فيحقق ما يتطلّع إليه حول فكرة الدولة اليهودية التي حدّث "هرتزل" اليهود عنها فقال لهم: "إذا أردتم فإنها لن تكون أسطورةً".
ولهذا، فإننا عندما نستمع إلى وزير حرب العدوّ يتحدث من إحدى العواصم العربية عن العمل لتحقيق "تسوية سلمية إقليمية شاملة يمكن في إطارها إدارة محادثات مع الفلسطينيين، ومع كلٍ من سوريا ولبنان"، وعندما يتحدث الإعلام الصهيوني عن نقاط عشر لإصلاح ذات البين بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، يتم على أساسها إجراء انتخابات فلسطينية، وتُفتح بعدها المعابر باتجاه غزة، فإن علينا أن نعرف أن المسألة لا تنطلق من وحي الخوف على الفلسطينيين، أو من الحرص على الارتقاء بوضعهم الذي وصل إلى مستوى الكارثة، بل من زاوية استثمار أوضاعهم الصعبة، وضمّها إلى الوضع العربي المتعَب والمرهَق على مستوى الأنظمة، والذي عبّر عنه بيان وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير، وتأكيدهم الاستعداد "لفعل كل ما يلزم" في سبيل دعم التحرك الأمريكي في المنطقة، لتبرز إلينا التسوية الأمريكية الإسرائيلية بحلّتها الجديدة، فيذهب اللاجئون إلى أصقاع العالم، ويوطَّن الآخرون في البلدان العربية المجاورة لفلسطين، وتدخل إسرائيل إلى المفاصل العربية والإسلامية كلها، ويصفّق العالم المتواطئ لـ"الإنجاز التاريخي" الذي تحققت فيه أحلام "هرتزل" وتطلّعات "بن غوريون"، ونال فيه العرب المزيد من الأوسمة وجوائز نوبل على أنقاض هذا الصدّيق أو هذا الذبيح الذي هو الشعب الفلسطيني.
الفخّ الأمريكي للفلسطينيين
إننا نحذّر من أن كل ما يجري في الكواليس، إضافةً إلى الحركة المكوكية للمبعوثين الأمريكيين في المنطقة، إنما هو لإخماد جذوة القضية الفلسطينية بالكامل، وللضحك على عقول السذّج في العالم العربي والإسلامي، ولشرعنة الاحتلال وتقديم كامل التسهيلات له تحت لافتة "السلام"، وصولاً إلى تطويق حركات المقاومة، وإطفاء شعلة حركات التحرر، وتحقيق النهاية المأساوية الكبرى لأنصع قضية وأبرز حالة من حالات المظلومية التي عاش العالم مآسيها فصولاً منذ ما يزيد على القرن من الزمن، أي منذ أن قال هرتزل في العام 1897 في "بازل" في سويسرا: "في بازل أسست الدولة الصهيونية، وسوف ترى هذه الدولة النور بعد خمسين سنةً على وجه التأكيد".
الشعوب العربية والوحدة
إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية التي حاصروها بحروب الفتنة، وأرهقوا كاهلها بالاحتلال والفوضى الأمنية والحروب الأهلية؛ من أفغانستان، إلى باكستان، إلى الصومال والسودان والعراق. ندعوها ـ مع شعورنا بحجم الضغوط التي تنهال عليها ـ إلى الوقوف وقفةً وحدويةً حاسمةً، واستعادة لحمتها الداخلية، من خلال الالتفاف حول قضيتها المركزية التي تشكّل فلسطين والقدس عنواناً أساسياً فيها، والسعي على مختلف المستويات لمنع هذا العالم الظالم والمستكبر من أن يُحكم سيطرته على المنطقة بالكامل، من خلال حصوله على التوقيع العربي والإسلامي القاضي بمنح فلسطين التاريخية، فلسطين العربية والإسلامية، لليهود المحتلّين.
وإنه لمن دواعي الأسى والبؤس أن تبلغ الهجمة الاستكبارية على الأمة وفلسطين هذا المبلغ، فيما تواصل آلة الدمار الذاتي حركتها في الصومال، فيغرق البلد في بحرٍ من الدماء، ويطل على مرحلة جديدة من مراحل التدخّل الاستكباري في أوضاعه الداخلية... وفيما تواصل آلة الحقد التكفيرية عملها في العراق، فتنفد إلى بلدة تركمانية وادعة في محافظة كركوك، من خلال شاحنة محمّلة بأكثر من طن من المتفجّرات، فتقتل وتجرح أكثر من 300 شخص من المستضعفين الفقراء الذين فُجعوا بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وشبابهم، في عملية قتل وإبادة جماعية تشبه في بشاعتها ووحشيتها عمليات الإبادة التي يمارسها العدو الإسرائيلي في فلسطين المحتلة وقطاع غزة، وعمليات القتل الجماعي للفلاّحين والعائلات المستضعفة في أفغانستان من قِبَل الأمريكيين.
الحقد المذهبي في العراق
ومع أن هذا الحقد قد عبّر عن نفسه في أكثر من موقع في العراق في الآونة الأخيرة، وخصوصاً في مدينة الصدر التي فُجعت بعشرات القتلى والجرحى من أبنائها في جريمة التفجير الأخيرة، إلا أنه أراد من خلال جريمة كركوك، الدخول على الخط العرقي من جهة، والمذهبي من جهة ثانية، لإثارة المزيد من نقاط الضعف في الداخل العراقي لحساب المحتل الأمريكي الذي تسعى مثل هذه الجرائم لتوفير أرضية جديدة له، تجعله يصر على عدم الخروج من المدن العراقية في هذه المرحلة.
ونحن في الوقت الذي نعرف مدى استفادة الاحتلال من هذه الجرائم، نستغرب عدم صدور بيانات الاستنكار والإدانة من العلماء المسلمين، وخصوصاً من المواقع الوحدوية الحريصة على وحدة المسلمين، لأن ما جرى يمثل أبشع صورة من صور القتل الجماعي والإبادة للأطفال والمدنيين، مما توعد الإسلام فاعله بالنار وبئس القرار.
إيران: امتحان ناجح
أما إيران التي أوشكت أن تخرج من دائرة امتحان داخلي تسببت به حدّة المنافسة الانتخابية، وحرية الحركة التي وفّرها النظام الإسلامي، بشيء من الاهتزاز الداخلي، فقد أصبحت، في بعض المشاهد التي التقطها الإعلام الغربي، وبعض الإعلام العربي، من داخل الشارع الإيراني، وعمل على بثها ونشرها بشكل متواصل، مثاراً للجدل والتحليلات، وموقعاً تُذرف عليه الدموع الغربية التي يعبِّر أصحابها عن قلقهم حيال ما جرى في الشارع الإيراني، وحيال التجربة الشعبية والديمقراطية فيه، ومن بين هؤلاء من يدعم أكثر الديكتاتوريات ظلماً في المنطقة، ومع كونهم لم يكلّفوا أنفسهم التصريح بكلمة استنكار واحدة حيال المجازر التي ارتكبها العدوّ في غزة، ناهيك عن عملية التعمية الكبيرة التي مارسها الإعلام الغربي في العديد من مؤسساته وأجهزته الكبرى في مسألة المحرقة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة.
إننا نريد للشعب الإيراني، الذي عرف من خلال هذه التجربة مدى توق العالم المستكبر لتدمير ثورته، وإسقاط دولته، مع أن هذا المخاض كلّه كان يدور في نطاق النظام وفي قلب الثورة، نريد لهذا الشعب أن يعمل على عودة اللحمة إلى خطوطه الشعبية والسياسية، ولينطلق في عملية تضميد الجراح من خلال تحسسه خطورة الهجمة الخارجية عليه، والتي عبّر عنها رئيس كيان العدوّ أوضح تعبير، عندما قال: "يصعب معرفة من سيزول أولاً في إيران، اليورانيوم المخصّب أو النظام البائس، والأمل هو أن يكون النظام هو الذي سيزول".
وينبغي للشعب الإيراني كلّه أن يردَّ على هذا المجرم البائس ليقول له: إن الذي يزول هو الشرّ، وإن الذي يبقى هو الخير والحقيقة، وإسرائيل هي الشرّ بأبشع صوره، وإيران هي الخير، وهي الحقيقة في تجاربها الحيّة والعلمية، وفي وقفتها بوجه الاستكبار ودعمها لحركات المقاومة والتحرر، وهي التي ستبقى ويزول العدوّ بإذن الله.
التقاسم الدولي للبنان
أما لبنان الذي يطل على المنطقة من بوابة الديمقراطية العجائبية، التي استولدت إحدى تجاربها الصارخة في النموذج الانتخابي الأخير، والذي أعاد الحميّة والعصبية سالمة غانمة إلى قواعدها المذهبية والحزبية، فقد دخل في لعبة التقاسم الإقليمي والدولي من جديد؛ في التسميات والمحاصصات والأرقام التي يتداولها الخارج ويستحسن الداخل تمريرها تحت عناوين وطنية تلبس لبوس المرحلة، وتتدثّر بعباءتها المطرّزة بالخيوط الدولية والإقليمية، والموشّاة بحرير الاعتدال والممانعة العربية، الأمر الذي يضفي طابعاً مميّزاً لبلد اكتوى بنيران الخلافات العربية ـ العربية، والعربية ـ الإسلامية، إضافةً إلى الخلافات الإقليمية والدولية، وقد يكتوي بدفء المصالحات أو التفاهمات التي غالباً ما تبصر النور على بساط الراحة الدولي، الذي يريد للبنان أن يصوغ مشاريعه الداخلية، على مستوى المجلس والحكومة وغيرهما، من وحي الصياغة العامة في المنطقة، والممهورة بتواقيع دولية محسوبة.
فهنيئاً للبنانيين تجاربهم الصاخبة في الانتخابات، والسجالات التي ترتفع وتيرتها وتنخفض تبعاً للنصائح القادمة من المنطقة أو من وراء البحار، وهنيئاً لهم كل هذه التفاهمات التي تُرسم خطوطها التفصيلية في الخارج، ويتم تظهيرها في الداخل، وعسى أن تشفع الأوضاع الجديدة لهم بتطلّعات عربية وإسلامية ترفع عن كاهلهم ضغط المديونية بملياراتها الخمسين، إذا كان قد بقي في جعبة العرب ما يدفعونه بعد البلايين التي أكلتها الأزمة الاقتصادية العالمية، وصفقات الأسلحة الحديثة التي لا يؤمَّل أن تُستعمل في تحرير الأرض والإنسان.
رصاص الفرح محرّم
وأخيراً، إننا مجدداً أمام ظاهرة التخلّف التي تحوّلت إلى جريمة تفتك بأمن الناس وراحتهم وأرواحهم، من خلال كل هذه الهستيريا وهذا الجنون الذي يهز الشوارع ويقتحم البيوت، في حالات إطلاق الرصاص عند كل مناسبة يُنتخب فيها مسؤول أو يتحدث فيها زعيم سياسي أو طائفي.
لقد حذّرنا في السابق من أن ظاهرة التخلّف هذه لا تدخل في نطاق الحرمة الشرعية فحسب، بل تمثل جريمة قتلٍ بدم بارد، وهو ما يستدعي التحرك السريع من الدولة والمسؤولين، ومن كل من يملك أن يمنع هؤلاء من التمادي في جريمتهم وقتلهم الناس وترويعهم الأطفال، واعتدائهم على السلم الأهلي وعلى الأمن الاجتماعي وعلى النظام العام، مما لا يمكن السكوت عليه بحال من الأحوال، أو القبول بتكراره، أو الركون إلى نتائجه، لأن المطلوب هو معاقبة هؤلاء المرتكبين لهذه الاعتداءات، والتحرك السياسي والشعبي والقانوني لمنع أية حالة مماثلة في المستقبل.