ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الفتنة في البلاد الإسلامية
الفتنة وليدة النفاق
بعد أن استقرّ الرسول(ص) في المدينة، كانت المشكلة الأساس التي واجهته آنذاك هي حركة النفاق في صفوف المسلمين، هؤلاء الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وقد دخلوا في المجتمع الإسلامي وتغلغلوا فيه على أساس أنهم مسلمون، ما جعل لهم الفرصة في أن يربكوا الحياة الإسلامية، ويثيروا الفتنة بين المسلمين، بفعل العقد النفسية التي كانت تتحكّم في نفوسهم، ومن خلال تحالفهم الخفيّ مع اليهود بهدف زعزعة الاستقرار في المجتمع الإسلامي.
وينقل مؤرخو السيرة النبوية الشريفة، أنّ شخصاً يهودياً دخل على فئة من المسلمين، وهم مختلفون في انتسابهم القبلي، بعضهم من قبيلة "الأوس"، وبعضهم من قبيلة "الخزرج"، وقد كانت المدينة مسرحاً للحروب بين هاتين القبيلتين مدة عشرات السنين، حتى جاء الإسلام ووحّدهم وآخى بينهم، فرجعوا إخواناً كما صرّح القرآن بذلك: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْمِنْهَا}(آل عمران:103). وبدأ هذا اليهودي ـ وكان معه أيضاً جماعة من المنافقين ـ يذكّر هؤلاء الناس بحروبهم السابقة، وبانتصار هذه القبيلة في حرب على القبيلة الأخرى، ويعيد تلاوة الأشعار التي كان ينشدها المنتصرون ضد المهزومين، فأثار الحساسيات، وأصبح كل فريق من هذه القبيلة أو تلك يعيد حديث القوة ضد القبيلة الأخرى، واشتدَّ الخلاف فيما بينهم، حتى قالوا: "السلاح السلاح". وجاء رسول إلى النبي(ص)، وقال له: أدرك المسلمين الذين أُثيرت الفتنة بينهم، وأسرع النبي(ص) إلى أولئك وقال لهم: "أكفرٌ بعد إيمان؟"، فقد آخى الله بينكم من خلال إيمانكم، وتجاوزتم بفضل هذا الإيمان كلَّ أنواع الحقد والعداوة والضغينة والعصبيات القبلية، فهل تعودون إلى ما كنتم عليه؟! وعندما سمعوا كلام رسول الله(ص)، خجلوا وخشعوا ورجعوا إلى وحدتهم الإسلامية.
غاية المنافقين إحداث الانشقاق
ويحدّثنا الله تعالى في سورة التوبة عن أولئك الذين تخلّفوا عن السير مع النبي(ص) في حروبه الدفاعية ضدّ الكافرين المعتدين على الإسلام والعاملين على إسقاطه، ففضحه الله تعالى، وبيّن خلفياتهم، وحذّر النبي(ص) والمسلمين منهم. يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْـ لو خرجوا معكم في الجيش الذي خرج ليدافع عن الإسلام ـ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ـ إلا فساداً واضطراباً في الرأي، وارتباكاً في الموقف، بما يدسّونه في الوسط الإسلامي وفي المجتمع الإسلامي من كلِّ ما يثير الفتنة ـ وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْـ الإيضاع هو الإسراع في الشرّ، أي لأسرعوا في إثارة الشرّ من خلال مجتمعكم، وذلك بما يثيرونه من عوامل الفتنة بين المسلمين، وما يستغلُّونه من الحساسيات المثيرة للمشاعر، وتعقيد العلاقات، ليمزّقوا وحدة الصف، ويحطّموا قوة الموقف ـ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَـ يحاولون أن يخططوا للفتنة في داخل المجتمع الإسلامي، حتى يُسقطوا الوحدة الإسلامية التي تعتصم بحبل الله جميعاً وتبتعد عن الفرقة ـ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ـ هناك جماعة ساذجون طيّبون، إذا سمعوا كلمات الفتنة فإنهم لا يفكرون في خلفياتها ولا في الأشخاص الذين يثيرونها، ولا يدرسون المسـألة من خلال السلبية التي تحدث من جرّاء ذلك، بل يتأثّرون بأساليبهم وأقوالهم وحركاتهم ـوَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُـ من خلال ما قاموا به من خطط التفرقة وإثارة الحساسيات بين المسلمين ـ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورُـ بدعوة الناس إلى الخلاف وإثارتهم ضد دعوات الجهاد، وتحالفهم مع اليهود والمشركين ضد الإسلام والمسلمين، وتخطيطهم للمؤامرات التي تمثِّل الكيد لله ولرسوله، وامتدّ بهم الأمر، وخُيِّل إليهم أنهم أمسكوا بزمام الأمور، وسيطروا على مقدّرات المسلمين ـ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِـ بظهور أمر الإسلام ـوَهُمْ كَارِهُونَ}(التوبة:47-48).
الوحدة تبدِّد الفتنة
ونلاحظ من هذه الآيات، ومن الواقع السلبي الذي أحاط بالمجتمع الإسلامي، من خلال ما حدّثنا القرآن عن المنافقين في المدينة، نلاحظ أنَّ الإسلام لم يتحدَّث عن حركة النفاق في مكَّة، لأنَّ المسلمين في مكة كانوا يمثلون وحدةً قويةً متراصّةً، وكانوا جميعاً مشغولين بالدفاع عن الإسلام، وبمواجهة الشرك والمشركين، إذ كانت لديهم قضيّةٌ واحدة، ولم تكن تعنيهم أنفسهم، ولم يستطع المشركون أن ينفذوا إلى داخلهم، أمَّا في المدينة، فقد اختلف الأمر؛ لأنَّ المجتمع في المدينة أصبح متنوّعاً، إذ كان اليهود في بعضه، وكان رؤساء القبائل الجاهليّون الذين أبعدهم الإسلام عن القيادة في بعضه الآخر؛ ولذلك بدأت حركة النفاق في المدينة، فعانى النبي(ص) منها، وأربكت واقع المسلمين.
تاريخ المنافقين يعيد نفسه
هذا الواقع التاريخي في المدينة يعيشه المسلمون الآن. لقد انطلق المنافقون في داخل العالم الإسلامي بالتحالف مع الاستكبار العالمي والكفر العالمي، وجعل مواقعهم في بلاد الإسلام خاضعةً للاستكبار، وبدأت الخطة بضرب الوعي الديني وإثارة خلافات الماضي بفعل الأطماع التي يقدّمها إليهم المستكبرون الذين يملكون المال والسلطة والقوة العسكرية. وبذلك عمل كل هؤلاء في داخل المجتمع الإسلامي وخارجه على إثارة الفتنة بين السنّة والشيعة، فأصبحت عملية التكفير والتضليل شائعةً فيما بينهم، حتى إن الكثيرين منهم، بفعل اجتهاداتهم الحاقدة الخبيثة، يستحلون دماء المسلم الآخر لمجرد وجود خلاف فقهي أو كلامي معه. وهذا ما نلاحظه في الفتنة التي تعمّ الواقع الإسلامي، سواء في العراق أو أفغانستان أو باكستان أو الصومال أو السودان، أو غيرها من البلدان التي لم يصل فيها الأمر إلى أن يقتل المسلمُ المسلم فحسب؛ بل وصل إلى أن يكفّر المسلم المسلم بسبب الاختلاف في المذهب، حتى أصبحت بعض الشخصيات الإسلامية التي تعتبر نفسها قياديةً، تتحدث عن غزوٍ شيعيّ لمجتمعات السنّة، وهم لا يتحدثون عن غزو أمريكي أو إسرائيلي بالقوّة نفسها، لمجرد أن هناك اختلافاً في وجهات النّظر بين الشّيعة والسنّة والّذي يمكن حلّه عن طريق الحوار، وقد أمرنا الله تعالى بالحوار حتى مع أهل الكتاب، وقد بتنا نخشى من أيّ قضية تثير الخلاف لأنها ستؤدي إلى الفتنة. وقد رأينا الكثيرين من الزعامات المذهبية والطائفية في لبنان تحاول إثارة العصبية العمياء لخلق الفتنة بين السنّة والشيعة في موسم الانتخابات، ونرى أيضاً كيف أن البعض في إيران يحاولون إثارة الفتنة وإضعاف إيران من خلال هذه الفوضى المنطلقة من خطط الداخل والخارج.
المنافقون: عمارٌ في الخارج، وخرابٌ في الداخل
وقد تحدَّث الإمام عليّ(ع) عن هذا الواقع، فقال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه ـ مسلمون، ولكنهم يعيشون الحقد على المسلمين الآخرين، ولا يعيشون الإسلام كما أراد الله لنا ورسوله، في أن نسلم كل أمرنا لله، وأن نطيع الله في كل ما أمرنا به ونهانا عنه ـومساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدىـ ولذلك نجد الناس يصلّون في المساجد، ولكنهم يحقدون على بعضهم بعضاً، وربما إذا خرجوا من المساجد قَتلوا أو كفرَّوا بعضهم بعضاً، من دون أن يعيشوا أجواء الهدى ـسكانها وعمّارها شرّ أهل الأرض. منهم تخرج الفتنة ـ من هؤلاء المصلّين في المساجد، وما أكثر المساجد الموجودة في العالم الإسلامي، والمصلّون فيها يعيشون الفتنة المذهبية والطائفية، حتى أصبح بعضهم يفجّر المصلّين في المساجد، كما في العراق أو أفغانستان أو باكستان ـ وإليهم تأوي الخطيئة؛ يردّون مَن شذّ عنها فيها، ويسوقون مَن تأخّر عنها إليها. يقول الله سبحانه: فبي حلفت، لأبعثنّ على أولئك فتنةً تترك الحليم فيها حيران". وهذا ما عاقبنا الله به، فنحن نجد أن الفتنة تشمل العالم الإسلامي، وتدمّر سياسة المسلمين واقتصادهم وأوضاعهم، وهو ما لاحظناه في احتلال بلاد المسلمين، وفي الأزمة الاقتصادية العالمية التي خسر فيها العالم الإسلامي الآلاف من المليارات، من خلال الفتنة التي فقد المسلمون فيها وحدتهم وقوتهم.
التبعية للباطل
وورد عن أمير المؤمنين(ع): "ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكمـ لأن هؤلاء يفكرون في مصالحهم وأطماعهم، ويخططون مع الاستكبار العالمي لإسقاط الواقع الإسلامي كله ـ فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة".
ويحلل الإمام عليّ(ع) في منشأ الفتنة، فيقول: "إنما بدءُ وقوع الفتن من أهواءٍ تُتّبع، وأحكام تبتدع، يخالَف فيها حكم الله، يتولّى فيها رجال رجالاً، ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلافٌ، ولو أنَّ الباطل خَلص لم يخفَ على ذي حِجى، لكنه يؤخذ من هذا ضِغث، ومن هذا ضِغث، فيمزجان فيجلّلان معاً، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى. إني سمعت رسول الله(ص) يقول: كيف أنتم إذا لَبِسَتْكُم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير".
ويتحدث الإمام عليّ(ع) عن أن الفتنة قد تأتي من خلال الحاجة إلى المال، وهذا ما لاحظناه في الأموال الانتخابية التي جعلت الإنسان لا يتحرك من خلال قناعاته، يقول(ع): "اللهمَّ صنْ وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأَسترزق طالبي رزقِك، وأستعطف شرار خلقك، وأُبتلى بحمد من أعطاني ـ فكل من يعطيني أمدحه وأعطيه تأييدي وصوتي ـ وأُفتتن بذمّ من منعني". وورد عنه(ع): "كن في الفتنة كابن اللّبونـ وهو ابن الناقة الذي دخل في عامه الثاني ـ لا ظهر فيُركبـ لأنه صغير ولا يحتمل ظهره الركوب ـولا ضرع فيُحلب"، لأنه ذكر.
مواجهة الفتنة بالوحدة
إن الفتن قد جاءت إلى العالم الإسلاميّ كأنها المطر، لأن المستكبرين والمنافقين يثيرون الفتنة في واقعنا، حتى يضعف الإسلام ويسقط. ولذلك فإننا مسؤولون عن الوحدة الإسلامية، وعن مواجهة الفتنة بكلِّ أشكالها، ولا سيما الفتنة التي تقع بين المتدينين الذين تنفذ إليهم حبائل الشيطان.
هذا هو نداء الله ورسوله، وعلينا أن نستجيب لذلك، حتى نعيش بسلام مع أنفسنا ومع المستضعفين من حولنا.
الخطبة الثانية
لاءات نتنياهو
من فلسطين المحتلة، أطلق رئيس حكومة العدوّ لاءاته الحاسمة التي تمثل سياسةً إسرائيليةً ثابتةً غير قابلة للجدل: لا لعودة الفلسطينيين، لا مجال لدولة فلسطينية قابلة للحياة، لا لوقف الاستيطان، لا تنازل عن القدس عاصمةً موحَّدةً وأبدية لإسرائيل... ومع ذلك، فقد حظي هذا الخطاب بمباركة الرئيس الأميركي الذي اعتبره "خطوةً كبيرةً إلى الأمام"، لأن الخطة الأميركية الإسرائيلية التي رُسمت مسبقاً، اقتضت أن يتلفّظ "نتنياهو" بكلمة الدولة الفلسطينية، وإن كانت على جزء بسيط من أرض فلسطين ومنزوعة السلاح والسيادة والكرامة، لينطلق بعدها الصوت الأميركي، وحتى الأوروبي، بأنَّ الكرة باتت الآن في الملعب العربي، وأن على الأنظمة العربية، وخصوصاً تلك التي تحمل عنوان الاعتدال، أن تسرع الخطى لملاقاة العدوّ في منتصف الطريق، ولتنضم إلى دعوته إلى مفاوضات دون شروط مسبقة.
لقد نطق رئيس وزراء العدوّ بالكلمة ـ الفخّ: «الدولة»، فأرعب حتى عرب الاعتدال، بعدما انهال بالشروط التي نسفت المبادرة العربية من أساسها، وتركت للعرب أن يحددوا بأنفسهم مكان وزمان تشييعها إلى مثواها الأخير، وقال للفلسطينيين كلمة واحدة: "عليكم قبل أي شيء أن تعترفوا بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي"، ليبشّرهم بالاستعداد لتهجيرهم من فلسطين العام 1948 ومن القدس، وليطلب منهم أن يخرجوا من التاريخ والجغرافيا، ويقدّموا إلى عدوّهم صك الاستسلام النهائي الممهور بتوقيع ملزِم، مفاده أن فلسطين ليست لكم، وأن من شرّدتهم العصابات الصهيونية في أصقاع الأرض وجهاتها الأربع كانوا هم المغتصبين للأرض، وليس اليهود الذين جاؤوا من أوروبا وأميركا وبلاد العالم ليغيّروا خارطة فلسطين، ويبدّلوا صورتها وواقعها وتاريخها، في نطاق خطة غربية حظيت بإجماع الغربيين، ومثّلت أكبر طعنة لحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لقد كان نتنياهو في هذا الخطاب وفيّاً لصهيونيَّته وعنصريَّته وحقده على العرب والمسلمين، تماماً كما كان "أوباما" وفيّاً للإمبراطورية الأميركية في خطابه في مصر، فهو قال كل شيء ولم يقل شيئاً، وتناول مختلف عناوين الصراع ولم يقدّم شيئاً، وأوحى إلى العرب بأنه رجل سلام في الوقت الذي وضعهم أمام خيار الحرب القادمة.
الموقف الأميركي الداعم للصهاينة
أما المبعوث الأميركي إلى المنطقة، فقد جاء ليستكمل ما توعّد به رئيس حكومة العدوّ، وليعمل على تحويل الخطاب الصهيوني التلمودي إلى حركة سياسية، وليتحدَّث بوضوح لافتٍ عن أنَّ الخطَّة الجديدة تقضي بإطلاق المفاوضات على المسارات كافةً، مع "التطبيع الكامل بين إسرائيل وجيرانها"، كما قال، ما يعني أن الهدف يتركّز على محاصرة الفلسطينيين بالمسارات الأخرى، ودفعهم إلى التسليم بالشروط الإسرائيلية، وسَوْق العالم العربي والإسلامي إلى الفخّ الإسرائيلي الذي يُصار فيه إلى اغتيال القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع على أساس الاعتراف العربي والإسلامي والفلسطيني بالهزيمة السَّاحقة، والاستعداد لإدخال إسرائيل في كلِّ المفاصل العربية والإسلامية، لتهديم وتهويد وإبادة كل ما بقي صامداً وثابتاً إلى الآن أمام الهجمة الدولية والإسرائيلية.
الوحدة الفلسطينية هي الخلاص
إنني أقول للفلسطينيين، للشعب الذي لاحقته مجازر العدوّ منذ أكثر من 60 عاماً: لقد أنهكتكم السياسة العربية المتواطئة، والأنظمة المتخاذلة، وأخذ منكم العدوّ كل شيء، حتى المياه الجوفية، وحتى السماء التي أسقط سيادتها بالكامل، وحتى حقول الزيتون التي تمَّ تجريفها، ولم يبق لكم ما تخسرونه، وليس في جعبتكم ما تقاومون به إلا وحدتكم وتماسككم، ولم يبق لكم من خيار إلا إعادة إطلاق حركة المقاومة في نطاق خطة وطنية جامعة، وخصوصاً أن العدو لم يكشف عن خططه ونياته وأهدافه فحسب، بل كشف الإدارة الأميركية الجديدة على حقيقتها، واستطاع تعريتها، وقدّم صورتها الواضحة إلى الشعوب العربية بعد كل محاولات هذه الإدارة تجميل صورتها بخطابات منمّقة، وكلمات منافقة، وأساليب خادعة.
لبنان في مهبّ الحرب الإسرائيلية
وأقول للبنانيين: إن العدوّ، وإن لم يُعلن الحرب على لبنان، فقد وضعه أمام خيارين: إما الاقتتال الداخلي لتمرير التوطين، وإما الذهاب مخفوراً إلى طاولة التفاوض التي حسم أمرها نهائياً بما أسماه "نتنياهو" "الإجماع الدولي الواسع على حلّ مشكلة اللاجئين" "خارج حدود إسرائيل"، كما قال ... وبالتَّالي لم يبق أمام اللُّبنانيين إلا الردّ عبر خيار حاسم، ينطلق من إجماع لبنانيّ داخليّ برفض التوطين، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ هذا الرفض لا يمكن أن يتحوّل إلى موقف رادع وحاسم إلا باعتماد لبنان كلّه على ورقة المقاومة، التي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تتحوّل إلى ورقة سجالية، بعدما أثبتت أنها عنصر القوة الرادع الذي أخضع العدو ودفعه إلى الاعتراف بالعجز والفشل، وبالتالي فإن هذا العنصر قابل لفرض شروطه على العدو، وخصوصاً إذا تحوّل إلى قوة سياسية موازية تحظى بالإجماع اللبناني في مؤتمر الحوار وغيره.
اللاءات العربية الساقطة
أما العرب الذين سقطت لاءاتهم الواحدة تلو الأخرى، ولم يبق أمامهم إلا ورقة التوت المسمّاة مبادرة عربية، فحريٌّ بهم أن ينهضوا من كبوتهم التاريخية، وأن يستمعوا إلى نبض شعوبهم، وأن يرجعوا إلى أحسابهم وأصولهم وتراثهم، وأن تستمع قياداتهم الرسمية إلى مطالب شعوبها، لأن هذه الشعوب قادرة على تغيير المعادلة في المنطقة، وتعديل صورة الأوضاع لمصلحة العرب والمسلمين، ولمصلحة الفلسطينيين بالذات، حتى في الوقت الذي تريد الأنظمة أن تطمئنّ إلى استمراريتها.
إيران مرجعية للحرية السياسية
إننا ندعو الأنظمة العربية إلى الاعتبار من المشهد الشعبي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن هذه الحيوية الشعبية التي لا مثيل لها في العالم كله، وحتى عندما تعترض هذه الحيوية بعض السلبيات، أو يشوبها شيء من الإرباك، بفعل الحرية التي وفّرها النظام، وأتاح فيها للشعب أن يعبّر عن رأيه بوضوح وشفافية، قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها، فإنَّ ذلك يمثل مدعاةً للاحترام وللاعتزاز بهذه الحركية الإسلامية التي تضاهي بحيويتها وامتدادها وتفاعلها أكثر ديمقراطيات العالم نضوجاً ورسوخاً.
ونحن في الوقت الذي نبعث إلى هذا الشعب الحر والأبيّ بتحيات الإسلام المفعمة بروح الحرص على هذه الثورة المباركة التي أسقطت طاووس أمريكا والصهيونية في المنطقة، وجعلت إيران تتقدّم كل دول العالم في دعم حركات التحرر وفصائل المقاومة، نريد له، وفي رحاب تعبيره الحرّ عن الانتخابات، والملاحظات التي قد ترسمها جهة هنا أو جهة هناك، نريد أن يأخذ في الاعتبار مصلحة الجمهورية الإسلامية، ومصلحة النظام الإسلامي، ومصلحة الأمة كلها، في حفظ وصون هذه الدولة التي مثّلت الامتداد الحقيقي للخط الإسلامي المحمدي الأصيل، والتي أدخلت الرعب في قلوب أعداء الأمة، وخصوصاً الكيان الصهيوني، والتي أكّدت من خلال تجربتها المميّزة، أن الإسلام قادرٌ على أن يحتضن مشروع الدولة العادلة، وأن يقدّم النموذج والقدوة الصالحة في هذا المجال، مع كل ما قد يعترض مسار هذه الدولة من تحديات وإخفاقات داخلية، وتعديات وضغوطات خارجية.
إنني أتوجّه بالنداء إلى كل هذا الجيل من قيادة الثورة، هذا الجيل الذي رافق الإمام الخميني وانطلق معه في المسيرة الإسلامية الظافرة، أن يدرس كل ردود الفعل السلبية التي تحاول تشويه هذه الحركة الشعبية الحيوية في هذا الجانب أو ذاك، وليكن هدفهم هو حماية هذه التجربة، وقطع الطريق على كل المحاولات الرامية لإحداث اهتزاز حقيقي في النظام الإسلامي، وفي صورة إيران وسمعتها وحركيتها.
التفاهم اللبناني ـ اللبناني
أمَّا لبنان المنهمك في هذه الأيام بترتيب ساحته الداخلية، على مرأى ومسمع من الجهات الإقليمية التي باتت أقرب إلى رفض أية حركة لبنانية محلية تقود إلى تخريب التفاهمات الخارجية، أو تعطيل فاعليّة مانعة الصواعق العربية ـ العربية... فقد آن الأوان للمسؤولين فيه أن يدركوا أن الأطراف الإقليميين قد رسموا سقفاً يحفظ توازناتهم الجديدة، ويحمي توجّهاتهم القابلة لتوسيع دائرة التفاهم والتنسيق فيما بينهم، وبالتالي، فقد بات مطلوباً من اللّبنانيين أن يبادروا إلى رسم تفاهمٍ داخليٍّ فعّال يحمي المصلحة الوطنية، ويجعل الشَّعب يطمئنُّ إلى وجود دولة تعنى بتأصيل روحيَّة المشاركة التي تجعل الجميع يشعر بأنه معنيٌّ بالسعي لتحقيق حلم الدولة العادلة والقوية، والتي تؤمّن الخير والرفاه والعدل لأهلها في الداخل، وتقطع الطريق على المتربصين بها شراً من الخارج، وتعيد البلد إلى موقعه الطبيعي، ودوره الأصيل، في رفد حركة المقاومة، والانفتاح على واقع الحرية والعزة والكرامة في المنطقة والعالم.
إننا نريد من اللبنانيين جميعاً، ومن المسؤولين بخاصة، أن يركِّزوا جهودهم على كيف يمكن التأسيس لمستقبلٍ زاهرٍ للبلد، وأن يتحركوا في نطاق تأصيل المواطنة، وحلّ المشاكل المستعصية، من اقتصادية ومعيشية وتربوية وغيرها، وأن يكون هاجسهم حماية الوطن في توازناته ومنطلقاته ومصالحه، لا الرضوخ إلى التعليمات الوافدة من هذا الموقع الإقليمي أو ذاك الموقع الدولي، لأن الأساس هو مصلحة الوطن والمواطن، لا مصالح الآخرين الذين يريدون للبلد أن يكون رهينةً في أيديهم، وفي أيدي الأعداء والطامعين.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الفتنة في البلاد الإسلامية
الفتنة وليدة النفاق
بعد أن استقرّ الرسول(ص) في المدينة، كانت المشكلة الأساس التي واجهته آنذاك هي حركة النفاق في صفوف المسلمين، هؤلاء الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وقد دخلوا في المجتمع الإسلامي وتغلغلوا فيه على أساس أنهم مسلمون، ما جعل لهم الفرصة في أن يربكوا الحياة الإسلامية، ويثيروا الفتنة بين المسلمين، بفعل العقد النفسية التي كانت تتحكّم في نفوسهم، ومن خلال تحالفهم الخفيّ مع اليهود بهدف زعزعة الاستقرار في المجتمع الإسلامي.
وينقل مؤرخو السيرة النبوية الشريفة، أنّ شخصاً يهودياً دخل على فئة من المسلمين، وهم مختلفون في انتسابهم القبلي، بعضهم من قبيلة "الأوس"، وبعضهم من قبيلة "الخزرج"، وقد كانت المدينة مسرحاً للحروب بين هاتين القبيلتين مدة عشرات السنين، حتى جاء الإسلام ووحّدهم وآخى بينهم، فرجعوا إخواناً كما صرّح القرآن بذلك: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْمِنْهَا}(آل عمران:103). وبدأ هذا اليهودي ـ وكان معه أيضاً جماعة من المنافقين ـ يذكّر هؤلاء الناس بحروبهم السابقة، وبانتصار هذه القبيلة في حرب على القبيلة الأخرى، ويعيد تلاوة الأشعار التي كان ينشدها المنتصرون ضد المهزومين، فأثار الحساسيات، وأصبح كل فريق من هذه القبيلة أو تلك يعيد حديث القوة ضد القبيلة الأخرى، واشتدَّ الخلاف فيما بينهم، حتى قالوا: "السلاح السلاح". وجاء رسول إلى النبي(ص)، وقال له: أدرك المسلمين الذين أُثيرت الفتنة بينهم، وأسرع النبي(ص) إلى أولئك وقال لهم: "أكفرٌ بعد إيمان؟"، فقد آخى الله بينكم من خلال إيمانكم، وتجاوزتم بفضل هذا الإيمان كلَّ أنواع الحقد والعداوة والضغينة والعصبيات القبلية، فهل تعودون إلى ما كنتم عليه؟! وعندما سمعوا كلام رسول الله(ص)، خجلوا وخشعوا ورجعوا إلى وحدتهم الإسلامية.
غاية المنافقين إحداث الانشقاق
ويحدّثنا الله تعالى في سورة التوبة عن أولئك الذين تخلّفوا عن السير مع النبي(ص) في حروبه الدفاعية ضدّ الكافرين المعتدين على الإسلام والعاملين على إسقاطه، ففضحه الله تعالى، وبيّن خلفياتهم، وحذّر النبي(ص) والمسلمين منهم. يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْـ لو خرجوا معكم في الجيش الذي خرج ليدافع عن الإسلام ـ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ـ إلا فساداً واضطراباً في الرأي، وارتباكاً في الموقف، بما يدسّونه في الوسط الإسلامي وفي المجتمع الإسلامي من كلِّ ما يثير الفتنة ـ وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْـ الإيضاع هو الإسراع في الشرّ، أي لأسرعوا في إثارة الشرّ من خلال مجتمعكم، وذلك بما يثيرونه من عوامل الفتنة بين المسلمين، وما يستغلُّونه من الحساسيات المثيرة للمشاعر، وتعقيد العلاقات، ليمزّقوا وحدة الصف، ويحطّموا قوة الموقف ـ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَـ يحاولون أن يخططوا للفتنة في داخل المجتمع الإسلامي، حتى يُسقطوا الوحدة الإسلامية التي تعتصم بحبل الله جميعاً وتبتعد عن الفرقة ـ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ـ هناك جماعة ساذجون طيّبون، إذا سمعوا كلمات الفتنة فإنهم لا يفكرون في خلفياتها ولا في الأشخاص الذين يثيرونها، ولا يدرسون المسـألة من خلال السلبية التي تحدث من جرّاء ذلك، بل يتأثّرون بأساليبهم وأقوالهم وحركاتهم ـوَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُـ من خلال ما قاموا به من خطط التفرقة وإثارة الحساسيات بين المسلمين ـ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورُـ بدعوة الناس إلى الخلاف وإثارتهم ضد دعوات الجهاد، وتحالفهم مع اليهود والمشركين ضد الإسلام والمسلمين، وتخطيطهم للمؤامرات التي تمثِّل الكيد لله ولرسوله، وامتدّ بهم الأمر، وخُيِّل إليهم أنهم أمسكوا بزمام الأمور، وسيطروا على مقدّرات المسلمين ـ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِـ بظهور أمر الإسلام ـوَهُمْ كَارِهُونَ}(التوبة:47-48).
الوحدة تبدِّد الفتنة
ونلاحظ من هذه الآيات، ومن الواقع السلبي الذي أحاط بالمجتمع الإسلامي، من خلال ما حدّثنا القرآن عن المنافقين في المدينة، نلاحظ أنَّ الإسلام لم يتحدَّث عن حركة النفاق في مكَّة، لأنَّ المسلمين في مكة كانوا يمثلون وحدةً قويةً متراصّةً، وكانوا جميعاً مشغولين بالدفاع عن الإسلام، وبمواجهة الشرك والمشركين، إذ كانت لديهم قضيّةٌ واحدة، ولم تكن تعنيهم أنفسهم، ولم يستطع المشركون أن ينفذوا إلى داخلهم، أمَّا في المدينة، فقد اختلف الأمر؛ لأنَّ المجتمع في المدينة أصبح متنوّعاً، إذ كان اليهود في بعضه، وكان رؤساء القبائل الجاهليّون الذين أبعدهم الإسلام عن القيادة في بعضه الآخر؛ ولذلك بدأت حركة النفاق في المدينة، فعانى النبي(ص) منها، وأربكت واقع المسلمين.
تاريخ المنافقين يعيد نفسه
هذا الواقع التاريخي في المدينة يعيشه المسلمون الآن. لقد انطلق المنافقون في داخل العالم الإسلامي بالتحالف مع الاستكبار العالمي والكفر العالمي، وجعل مواقعهم في بلاد الإسلام خاضعةً للاستكبار، وبدأت الخطة بضرب الوعي الديني وإثارة خلافات الماضي بفعل الأطماع التي يقدّمها إليهم المستكبرون الذين يملكون المال والسلطة والقوة العسكرية. وبذلك عمل كل هؤلاء في داخل المجتمع الإسلامي وخارجه على إثارة الفتنة بين السنّة والشيعة، فأصبحت عملية التكفير والتضليل شائعةً فيما بينهم، حتى إن الكثيرين منهم، بفعل اجتهاداتهم الحاقدة الخبيثة، يستحلون دماء المسلم الآخر لمجرد وجود خلاف فقهي أو كلامي معه. وهذا ما نلاحظه في الفتنة التي تعمّ الواقع الإسلامي، سواء في العراق أو أفغانستان أو باكستان أو الصومال أو السودان، أو غيرها من البلدان التي لم يصل فيها الأمر إلى أن يقتل المسلمُ المسلم فحسب؛ بل وصل إلى أن يكفّر المسلم المسلم بسبب الاختلاف في المذهب، حتى أصبحت بعض الشخصيات الإسلامية التي تعتبر نفسها قياديةً، تتحدث عن غزوٍ شيعيّ لمجتمعات السنّة، وهم لا يتحدثون عن غزو أمريكي أو إسرائيلي بالقوّة نفسها، لمجرد أن هناك اختلافاً في وجهات النّظر بين الشّيعة والسنّة والّذي يمكن حلّه عن طريق الحوار، وقد أمرنا الله تعالى بالحوار حتى مع أهل الكتاب، وقد بتنا نخشى من أيّ قضية تثير الخلاف لأنها ستؤدي إلى الفتنة. وقد رأينا الكثيرين من الزعامات المذهبية والطائفية في لبنان تحاول إثارة العصبية العمياء لخلق الفتنة بين السنّة والشيعة في موسم الانتخابات، ونرى أيضاً كيف أن البعض في إيران يحاولون إثارة الفتنة وإضعاف إيران من خلال هذه الفوضى المنطلقة من خطط الداخل والخارج.
المنافقون: عمارٌ في الخارج، وخرابٌ في الداخل
وقد تحدَّث الإمام عليّ(ع) عن هذا الواقع، فقال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه ـ مسلمون، ولكنهم يعيشون الحقد على المسلمين الآخرين، ولا يعيشون الإسلام كما أراد الله لنا ورسوله، في أن نسلم كل أمرنا لله، وأن نطيع الله في كل ما أمرنا به ونهانا عنه ـومساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدىـ ولذلك نجد الناس يصلّون في المساجد، ولكنهم يحقدون على بعضهم بعضاً، وربما إذا خرجوا من المساجد قَتلوا أو كفرَّوا بعضهم بعضاً، من دون أن يعيشوا أجواء الهدى ـسكانها وعمّارها شرّ أهل الأرض. منهم تخرج الفتنة ـ من هؤلاء المصلّين في المساجد، وما أكثر المساجد الموجودة في العالم الإسلامي، والمصلّون فيها يعيشون الفتنة المذهبية والطائفية، حتى أصبح بعضهم يفجّر المصلّين في المساجد، كما في العراق أو أفغانستان أو باكستان ـ وإليهم تأوي الخطيئة؛ يردّون مَن شذّ عنها فيها، ويسوقون مَن تأخّر عنها إليها. يقول الله سبحانه: فبي حلفت، لأبعثنّ على أولئك فتنةً تترك الحليم فيها حيران". وهذا ما عاقبنا الله به، فنحن نجد أن الفتنة تشمل العالم الإسلامي، وتدمّر سياسة المسلمين واقتصادهم وأوضاعهم، وهو ما لاحظناه في احتلال بلاد المسلمين، وفي الأزمة الاقتصادية العالمية التي خسر فيها العالم الإسلامي الآلاف من المليارات، من خلال الفتنة التي فقد المسلمون فيها وحدتهم وقوتهم.
التبعية للباطل
وورد عن أمير المؤمنين(ع): "ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكمـ لأن هؤلاء يفكرون في مصالحهم وأطماعهم، ويخططون مع الاستكبار العالمي لإسقاط الواقع الإسلامي كله ـ فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة".
ويحلل الإمام عليّ(ع) في منشأ الفتنة، فيقول: "إنما بدءُ وقوع الفتن من أهواءٍ تُتّبع، وأحكام تبتدع، يخالَف فيها حكم الله، يتولّى فيها رجال رجالاً، ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلافٌ، ولو أنَّ الباطل خَلص لم يخفَ على ذي حِجى، لكنه يؤخذ من هذا ضِغث، ومن هذا ضِغث، فيمزجان فيجلّلان معاً، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى. إني سمعت رسول الله(ص) يقول: كيف أنتم إذا لَبِسَتْكُم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير".
ويتحدث الإمام عليّ(ع) عن أن الفتنة قد تأتي من خلال الحاجة إلى المال، وهذا ما لاحظناه في الأموال الانتخابية التي جعلت الإنسان لا يتحرك من خلال قناعاته، يقول(ع): "اللهمَّ صنْ وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأَسترزق طالبي رزقِك، وأستعطف شرار خلقك، وأُبتلى بحمد من أعطاني ـ فكل من يعطيني أمدحه وأعطيه تأييدي وصوتي ـ وأُفتتن بذمّ من منعني". وورد عنه(ع): "كن في الفتنة كابن اللّبونـ وهو ابن الناقة الذي دخل في عامه الثاني ـ لا ظهر فيُركبـ لأنه صغير ولا يحتمل ظهره الركوب ـولا ضرع فيُحلب"، لأنه ذكر.
مواجهة الفتنة بالوحدة
إن الفتن قد جاءت إلى العالم الإسلاميّ كأنها المطر، لأن المستكبرين والمنافقين يثيرون الفتنة في واقعنا، حتى يضعف الإسلام ويسقط. ولذلك فإننا مسؤولون عن الوحدة الإسلامية، وعن مواجهة الفتنة بكلِّ أشكالها، ولا سيما الفتنة التي تقع بين المتدينين الذين تنفذ إليهم حبائل الشيطان.
هذا هو نداء الله ورسوله، وعلينا أن نستجيب لذلك، حتى نعيش بسلام مع أنفسنا ومع المستضعفين من حولنا.
الخطبة الثانية
لاءات نتنياهو
من فلسطين المحتلة، أطلق رئيس حكومة العدوّ لاءاته الحاسمة التي تمثل سياسةً إسرائيليةً ثابتةً غير قابلة للجدل: لا لعودة الفلسطينيين، لا مجال لدولة فلسطينية قابلة للحياة، لا لوقف الاستيطان، لا تنازل عن القدس عاصمةً موحَّدةً وأبدية لإسرائيل... ومع ذلك، فقد حظي هذا الخطاب بمباركة الرئيس الأميركي الذي اعتبره "خطوةً كبيرةً إلى الأمام"، لأن الخطة الأميركية الإسرائيلية التي رُسمت مسبقاً، اقتضت أن يتلفّظ "نتنياهو" بكلمة الدولة الفلسطينية، وإن كانت على جزء بسيط من أرض فلسطين ومنزوعة السلاح والسيادة والكرامة، لينطلق بعدها الصوت الأميركي، وحتى الأوروبي، بأنَّ الكرة باتت الآن في الملعب العربي، وأن على الأنظمة العربية، وخصوصاً تلك التي تحمل عنوان الاعتدال، أن تسرع الخطى لملاقاة العدوّ في منتصف الطريق، ولتنضم إلى دعوته إلى مفاوضات دون شروط مسبقة.
لقد نطق رئيس وزراء العدوّ بالكلمة ـ الفخّ: «الدولة»، فأرعب حتى عرب الاعتدال، بعدما انهال بالشروط التي نسفت المبادرة العربية من أساسها، وتركت للعرب أن يحددوا بأنفسهم مكان وزمان تشييعها إلى مثواها الأخير، وقال للفلسطينيين كلمة واحدة: "عليكم قبل أي شيء أن تعترفوا بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي"، ليبشّرهم بالاستعداد لتهجيرهم من فلسطين العام 1948 ومن القدس، وليطلب منهم أن يخرجوا من التاريخ والجغرافيا، ويقدّموا إلى عدوّهم صك الاستسلام النهائي الممهور بتوقيع ملزِم، مفاده أن فلسطين ليست لكم، وأن من شرّدتهم العصابات الصهيونية في أصقاع الأرض وجهاتها الأربع كانوا هم المغتصبين للأرض، وليس اليهود الذين جاؤوا من أوروبا وأميركا وبلاد العالم ليغيّروا خارطة فلسطين، ويبدّلوا صورتها وواقعها وتاريخها، في نطاق خطة غربية حظيت بإجماع الغربيين، ومثّلت أكبر طعنة لحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لقد كان نتنياهو في هذا الخطاب وفيّاً لصهيونيَّته وعنصريَّته وحقده على العرب والمسلمين، تماماً كما كان "أوباما" وفيّاً للإمبراطورية الأميركية في خطابه في مصر، فهو قال كل شيء ولم يقل شيئاً، وتناول مختلف عناوين الصراع ولم يقدّم شيئاً، وأوحى إلى العرب بأنه رجل سلام في الوقت الذي وضعهم أمام خيار الحرب القادمة.
الموقف الأميركي الداعم للصهاينة
أما المبعوث الأميركي إلى المنطقة، فقد جاء ليستكمل ما توعّد به رئيس حكومة العدوّ، وليعمل على تحويل الخطاب الصهيوني التلمودي إلى حركة سياسية، وليتحدَّث بوضوح لافتٍ عن أنَّ الخطَّة الجديدة تقضي بإطلاق المفاوضات على المسارات كافةً، مع "التطبيع الكامل بين إسرائيل وجيرانها"، كما قال، ما يعني أن الهدف يتركّز على محاصرة الفلسطينيين بالمسارات الأخرى، ودفعهم إلى التسليم بالشروط الإسرائيلية، وسَوْق العالم العربي والإسلامي إلى الفخّ الإسرائيلي الذي يُصار فيه إلى اغتيال القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع على أساس الاعتراف العربي والإسلامي والفلسطيني بالهزيمة السَّاحقة، والاستعداد لإدخال إسرائيل في كلِّ المفاصل العربية والإسلامية، لتهديم وتهويد وإبادة كل ما بقي صامداً وثابتاً إلى الآن أمام الهجمة الدولية والإسرائيلية.
الوحدة الفلسطينية هي الخلاص
إنني أقول للفلسطينيين، للشعب الذي لاحقته مجازر العدوّ منذ أكثر من 60 عاماً: لقد أنهكتكم السياسة العربية المتواطئة، والأنظمة المتخاذلة، وأخذ منكم العدوّ كل شيء، حتى المياه الجوفية، وحتى السماء التي أسقط سيادتها بالكامل، وحتى حقول الزيتون التي تمَّ تجريفها، ولم يبق لكم ما تخسرونه، وليس في جعبتكم ما تقاومون به إلا وحدتكم وتماسككم، ولم يبق لكم من خيار إلا إعادة إطلاق حركة المقاومة في نطاق خطة وطنية جامعة، وخصوصاً أن العدو لم يكشف عن خططه ونياته وأهدافه فحسب، بل كشف الإدارة الأميركية الجديدة على حقيقتها، واستطاع تعريتها، وقدّم صورتها الواضحة إلى الشعوب العربية بعد كل محاولات هذه الإدارة تجميل صورتها بخطابات منمّقة، وكلمات منافقة، وأساليب خادعة.
لبنان في مهبّ الحرب الإسرائيلية
وأقول للبنانيين: إن العدوّ، وإن لم يُعلن الحرب على لبنان، فقد وضعه أمام خيارين: إما الاقتتال الداخلي لتمرير التوطين، وإما الذهاب مخفوراً إلى طاولة التفاوض التي حسم أمرها نهائياً بما أسماه "نتنياهو" "الإجماع الدولي الواسع على حلّ مشكلة اللاجئين" "خارج حدود إسرائيل"، كما قال ... وبالتَّالي لم يبق أمام اللُّبنانيين إلا الردّ عبر خيار حاسم، ينطلق من إجماع لبنانيّ داخليّ برفض التوطين، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ هذا الرفض لا يمكن أن يتحوّل إلى موقف رادع وحاسم إلا باعتماد لبنان كلّه على ورقة المقاومة، التي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تتحوّل إلى ورقة سجالية، بعدما أثبتت أنها عنصر القوة الرادع الذي أخضع العدو ودفعه إلى الاعتراف بالعجز والفشل، وبالتالي فإن هذا العنصر قابل لفرض شروطه على العدو، وخصوصاً إذا تحوّل إلى قوة سياسية موازية تحظى بالإجماع اللبناني في مؤتمر الحوار وغيره.
اللاءات العربية الساقطة
أما العرب الذين سقطت لاءاتهم الواحدة تلو الأخرى، ولم يبق أمامهم إلا ورقة التوت المسمّاة مبادرة عربية، فحريٌّ بهم أن ينهضوا من كبوتهم التاريخية، وأن يستمعوا إلى نبض شعوبهم، وأن يرجعوا إلى أحسابهم وأصولهم وتراثهم، وأن تستمع قياداتهم الرسمية إلى مطالب شعوبها، لأن هذه الشعوب قادرة على تغيير المعادلة في المنطقة، وتعديل صورة الأوضاع لمصلحة العرب والمسلمين، ولمصلحة الفلسطينيين بالذات، حتى في الوقت الذي تريد الأنظمة أن تطمئنّ إلى استمراريتها.
إيران مرجعية للحرية السياسية
إننا ندعو الأنظمة العربية إلى الاعتبار من المشهد الشعبي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن هذه الحيوية الشعبية التي لا مثيل لها في العالم كله، وحتى عندما تعترض هذه الحيوية بعض السلبيات، أو يشوبها شيء من الإرباك، بفعل الحرية التي وفّرها النظام، وأتاح فيها للشعب أن يعبّر عن رأيه بوضوح وشفافية، قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها، فإنَّ ذلك يمثل مدعاةً للاحترام وللاعتزاز بهذه الحركية الإسلامية التي تضاهي بحيويتها وامتدادها وتفاعلها أكثر ديمقراطيات العالم نضوجاً ورسوخاً.
ونحن في الوقت الذي نبعث إلى هذا الشعب الحر والأبيّ بتحيات الإسلام المفعمة بروح الحرص على هذه الثورة المباركة التي أسقطت طاووس أمريكا والصهيونية في المنطقة، وجعلت إيران تتقدّم كل دول العالم في دعم حركات التحرر وفصائل المقاومة، نريد له، وفي رحاب تعبيره الحرّ عن الانتخابات، والملاحظات التي قد ترسمها جهة هنا أو جهة هناك، نريد أن يأخذ في الاعتبار مصلحة الجمهورية الإسلامية، ومصلحة النظام الإسلامي، ومصلحة الأمة كلها، في حفظ وصون هذه الدولة التي مثّلت الامتداد الحقيقي للخط الإسلامي المحمدي الأصيل، والتي أدخلت الرعب في قلوب أعداء الأمة، وخصوصاً الكيان الصهيوني، والتي أكّدت من خلال تجربتها المميّزة، أن الإسلام قادرٌ على أن يحتضن مشروع الدولة العادلة، وأن يقدّم النموذج والقدوة الصالحة في هذا المجال، مع كل ما قد يعترض مسار هذه الدولة من تحديات وإخفاقات داخلية، وتعديات وضغوطات خارجية.
إنني أتوجّه بالنداء إلى كل هذا الجيل من قيادة الثورة، هذا الجيل الذي رافق الإمام الخميني وانطلق معه في المسيرة الإسلامية الظافرة، أن يدرس كل ردود الفعل السلبية التي تحاول تشويه هذه الحركة الشعبية الحيوية في هذا الجانب أو ذاك، وليكن هدفهم هو حماية هذه التجربة، وقطع الطريق على كل المحاولات الرامية لإحداث اهتزاز حقيقي في النظام الإسلامي، وفي صورة إيران وسمعتها وحركيتها.
التفاهم اللبناني ـ اللبناني
أمَّا لبنان المنهمك في هذه الأيام بترتيب ساحته الداخلية، على مرأى ومسمع من الجهات الإقليمية التي باتت أقرب إلى رفض أية حركة لبنانية محلية تقود إلى تخريب التفاهمات الخارجية، أو تعطيل فاعليّة مانعة الصواعق العربية ـ العربية... فقد آن الأوان للمسؤولين فيه أن يدركوا أن الأطراف الإقليميين قد رسموا سقفاً يحفظ توازناتهم الجديدة، ويحمي توجّهاتهم القابلة لتوسيع دائرة التفاهم والتنسيق فيما بينهم، وبالتالي، فقد بات مطلوباً من اللّبنانيين أن يبادروا إلى رسم تفاهمٍ داخليٍّ فعّال يحمي المصلحة الوطنية، ويجعل الشَّعب يطمئنُّ إلى وجود دولة تعنى بتأصيل روحيَّة المشاركة التي تجعل الجميع يشعر بأنه معنيٌّ بالسعي لتحقيق حلم الدولة العادلة والقوية، والتي تؤمّن الخير والرفاه والعدل لأهلها في الداخل، وتقطع الطريق على المتربصين بها شراً من الخارج، وتعيد البلد إلى موقعه الطبيعي، ودوره الأصيل، في رفد حركة المقاومة، والانفتاح على واقع الحرية والعزة والكرامة في المنطقة والعالم.
إننا نريد من اللبنانيين جميعاً، ومن المسؤولين بخاصة، أن يركِّزوا جهودهم على كيف يمكن التأسيس لمستقبلٍ زاهرٍ للبلد، وأن يتحركوا في نطاق تأصيل المواطنة، وحلّ المشاكل المستعصية، من اقتصادية ومعيشية وتربوية وغيرها، وأن يكون هاجسهم حماية الوطن في توازناته ومنطلقاته ومصالحه، لا الرضوخ إلى التعليمات الوافدة من هذا الموقع الإقليمي أو ذاك الموقع الدولي، لأن الأساس هو مصلحة الوطن والمواطن، لا مصالح الآخرين الذين يريدون للبلد أن يكون رهينةً في أيديهم، وفي أيدي الأعداء والطامعين.