ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الإمام علي(ع) مدرسة الأجيال
علي(ع) ربيب رسول الله
لا تقل شيعةٌ هواةُ عليٍّ إنّ في كلِّ منصف شيعيّا
جلجلَ الحبُّ في المسيحيِّ حتى عُدّ مِنْ فرطِ حبِّه علويّا
يا سماءُ اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرتُ عليّا
في هذه الأيام، وفي الثالث عشر من هذا الشهر، كانت ولادة عليّ(ع) في الكعبة، وهو المولود الذي لم يولد قبله ولا بعده في بيت الله سواه؛ إكراماً من الله جلّ اسمه له بذلك، وإجلالاً لمحلّه في التعظيم. قال "الألوسي" ـ وهو من علماء السنّة: "وكون الأمير، كرّم الله وجهه، وُلد في البيت أمرٌ مشهورٌ في الدنيا، وذُكر في كتب الفريقين السنّة والشيعة"... ويقول عبد الباقي العمري:
أنت العليّ الذي فوق العُلى رُفعا
ببطن مكَّةَ وسطَ البيتِ قد وُضعا
كان عليٌّ(ع) يعيش في بيتِ الله، والله تعالى ليس له بيتٌ كما للناس بيوت، ولكنّ بيت الله هو البيت الذي ترتفع فيه عبادة الإنسان ودعاؤه وابتهالاته ومعراج روحه إلى الله. وقد كان عليّ(ع) منذ انطلق في وعيه، الشخصَ الذي أحبَّ الله فأحبّه الله: "لأعطين الراية غداًـ قالها النبي(ص) في وقعة خيبر ـ رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله". وكان عليّ(ع) يخاطب ربه في تواضعه لله وخشوعه بين يديه: "وكيف تعذّبني وحبّك في قلبي". ونقرأ في دعاء كميل: "فهبني يا إلهي صبرتُ على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرتُ على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك". لو أدخلتني النار، فإنَّ ذلك يعني فراقي عنك، وأنا لا أطيق أن أفارقك، فقلبي معك وعقلي معك، وإحساسي معك، وحياتي معك، لأنني يا ربّ انطلقتُ من خلال معرفتي بأنّك أنت الله الذي لا إله غيره.
فضائل علي(ع)
وينقل التاريخ أنّ أحد أصحاب الإمام عليّ(ع)، وهو ضرار بن ضمرة، دخل على معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين، فقال معاوية: صف لي عليّاً. قال: اعفني. قال معاوثة: لتصفنّه. قال: "أمّا إذا كان لا بدَّ من وصفه، فإنَّه كان ـ والله ـ بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ـ فكلمته هي الكلمة الفاصلة ـ ويحكم عدلاًـ كل حكمه هو العدل الذي يعطي كلَّ ذي حق حقه ـ يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ـ ليس معنياً بالدنيا، وليس منجذباً إليها، لأن آفاقه متعلّقة بالآخرة مع الله تعالى ـ ويأنس بالليل ووحشته ـ لأنَّ اللَّيل هو حال الهدوء التي يناجي فيها ربه، ويقف فيها في صلاته مع ربه ـ وكان غزير الدمعةـ كان يبكي، وكانت دموعه تنسكب على كل وجهه ـ طويل الفكرة ـ كان مشغولاً بالفكر، وكانت أفكاره منفتحةً على الكون كلِّه وعلى الحياة كلها وعلى المسؤولية كلها، لأنها كانت منفتحةً على المعرفة بالله ومسؤولية الإنسان أمامه ـ يقلّب كفّه، ويخاطب نفسه ـ يتحدث دائماً مع نفسه، ليدرسها ويحاسبها في كل دقائقها وأوضاعها، لم يكن كالكثيرين من الناس مشغولاً عن نفسه بسبب شغله مع الناس ـ يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا ـ لم يكن يشعر بأنه هو الخليفة، وهم الرعية والأتباع ـ يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبّئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا، وقربه منا، لا نكاد نكلّمه هيبةً له ـ كانت هيبته تفرض نفسها عليهم من جهة عناصر شخصيته ـ فإنْ تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله ـ لا يجامل الأقوياء بما يريدونه من الباطل ـ ولا ييأس الضعيف من عدله ـ إذا جاءه الضعيف، فإنه يعطيه حقه ـ وأَشهد لقد رأيته قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: "يا دنيا غرّي غيري، ألي تعرّضت أم إليّ تشوّفت، هيهات هيهات! قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير. آهٍ آهٍ ـ إذا كان أمير المؤمنين يتأوَّه، فماذا نقول نحن؟ ـ آهٍ من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق". فبكى معاوية، ووكفت دموعه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال: رحم الله أبا الحسن، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: "حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها"، ثم خرج.
وعن أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة، قال: "لم يُروَ في فضائل أحد من الصحابة بالأحاديث الحسان ما روي في فضائل عليّ بن أبي طالب". وقال بعضهم: "ما أقول في رجل أخفى أولياؤه فضائله خوفاً، وأعداؤه حسداً، وظهر من بين ذين ما ملأ الخافقين".
هذا هو عليّ(ع) الذي ارتفع بالله لأنه أعطى الله كله، ولم يُبقِ لنفسه شيئاً من نفسه، وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة التي روي أنها نزلت في حقه ليلة الغار، عندما بات على فراش رسول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُرَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207). لقد باع عليّ نفسه لله؛ باع عقله وقلبه ومشاعره وحياته لله، ولذلك كان عليّ(ع) مع الحق لأن الله هو الحق، وكان الحق مع عليّ يدور معه حيثما دار.
بيت الرسول حضن عليٍّ(ع)
ومن خصائص عليّ(ع) أنه تربّى في حجر رسول الله، لأنَّ أبا طالب كان صاحب عيال وقليل المال، فجاء أحد إخوانه وأخذ بعض أولاده، وجاء النبي(ص) وأخذ عليّاً، وفي بعض الروايات أنه كان في الثانية من عمره، فرُبي في حجر النبي(ص)، وتأدّب بآدابه، وتخلّق بأخلاقه، واهتدى بهداه، واقتدى بأقواله وأفعاله، ولازمه طول حياته، وتحدث هو(ع) عن ذلك فقال: "وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنـزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدرهـ كالأمُّ التي ينام ولدها في حضنها ـ ويكنفني فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قولـ عندما أتكلَّم فإني أتكلم بالصدق ـ ولا خطلةً في فعل، ولقد قرن الله به ـ بالنبي ـ من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره ـ فالله ربّى النبي(ص) وأدّبه ـ ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه ـ كما يتبع ولد الناقة أمه. وبذلك كان هذا الملك العظيم يعلّم النبي(ص) وكان عليّ(ع) يقتدي به ويمشي وراءه ـ يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي وأشمّ ريح النبوَّة".
كرامة الإعراض عن الوثن
ومن فضائله(ع) السبق إلى الإسلام، وعدم السجود لصنم قطّ، ولذلك فإن المسلمين من أهل السنّة عندما يذكرون عليّاًَ يقولون: "كرّم الله وجهه"، وهي من أعظم الكلمات، لأن الله كرّم وجهه عن السجود لصنم، وقد قال ابن أبي الحديد: "ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلا السابق إلى كلِّ خير، محمد رسول الله(ص)".
المبيت في فراش النبي(ص)
ومن فضائله(ع)، مبيته على الفراش ليلة الهجرة، وفداؤه النبي بنفسه، مع أنه كان معرّضاً للخطر، وهو ما أخبره النبي(ص) به، ولكنَّ عليّاً(ع) كان يسأل: "أوتسلم يا رسول الله"؟ قال(ص): "بلى"، فقال: "اذهب راشداً مهدياً، فلا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليَّ". ومن فضائله، أنّ النبي(ص) أقامه مقامه يوم الهجرة ليؤدّي أماناته، ويردّ ودائعه، ويقضي ديونه، ويحمل الفواطم إليه في المدينة، ولم يأتمن على ذلك أحداً غيره، لما علم من كفاءته وشجاعته، وقد قام(ع) بما أمره به. ومن فضائله(ع)، المؤاخاة بينه وبين رسول الله(ص)، عندما آخى النبي(ص) بين المهاجرين والأنصار، وآخاه النبي، وقال له: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، أنت الذي تمثل الأخوَّة كأصدق وأعمق ما يكون.
علي(ع) بطل الحرب والسّلم
وكان عليّ(ع) بطل الإسلام الذي خاض حروب المسلمين، وقد قتل في "بدر" نصف قتلى المشركين، وشارك المسلمين في النصف الآخر، وكان بطل "أحد" و"الأحزاب"، عندما انطلق المشركون في أحلافهم، وهجموا على المدينة ليسقطوها ويسقطوا الإسلام، وجاء عمرو بن عبد ودّ، وبدأ يتبختر على المسلمين، والنبي(ص) يقول: "من لِعَمْرو وقد ضمنت له على الله الجنة". ولم يقم إلاّ عليّ(ع) لثلاث مرات، عند ذلك أذِن له النبي(ص)، ورفع يديه إلى السماء وقال: "اللهمَّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين". ثم قال(ص): "برز الإسلام كلّه إلى الشرك كله"، فقد تجسّد الإسلام آنذاك في عليّ، لذا كان انتصاره على عمرو يعدّ انتصاراً للإسلام، وتجسّد الشّرك في عَمْرو، وانتصاره سيعدّ انتصاراً للشرك.
وقتل عليّ(ع) عَمْراً، وجاء الوسام من النبيّ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، ليقول: "ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين". وكان بطل وقعة خيبر الذي فتح الله على يديه بعد أن أرسل النبي(ص) مَن قبله وكان يرجع، فيجبّن أصحابه وأصحابه يجبّنونه. وانطلق عليّ إلى باب خيبر واقتلعه، وهو الذي قال: "والله ما قلعت باب خيبر بقوّة جسدية، بل بقوة ربَّانية".
كان(ع) بطل الإسلام في كل حروب رسول الله(ص)، وكان معه في ليله ونهاره، وكان النبي يحدّثه بكل ما ينـزل عليه من الوحي، حتى كان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني، فما من آية إلا وأعرف أنها نزلت في سهلٍ أو جبل، وفي ليل أو نهار".
وكان النبي(ص) يعرّف الناس بمقام عليّ(ع) في كلِّ شؤونه، وكان من كلامه(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، "مَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه". وعنه(ص): "عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". وقال(ص): "مَنْ أراد أن ينظر إلى آدمَ في علمه، ونوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، والى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب". وعندما زوّجه النبي(ص) السيدة الزهراء(ع)، قال له: "إن الله زوّجك فاطمة في السماء قبل أن أزوّجك إياها في الأرض، ولو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ".
جهاد علي(ع)
لقد عاش عليّ(ع) لله وفي سبيل الإسلام، ولذلك صبر وضحّى في سبيل الإسلام، ولم يكن أحد في الصحابة يوازيه، فضلاً عن أن يتقدّمه، وهو ما عبّر عنه الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سألوه: لماذا قدّمت عليّاً؟ قال: "احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل أنه إمام الكل". وكان يناجي ربه ويتحدث إليه عن سبب مطالبته بالخلافة. يقول(ع): "اللهمَّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم في دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللهمَّ إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة".
وكان يخاطب المسلمين الذين تتحرك الفتن في مجتمعاتهم، فيوصيهم: "كنْ في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيُركب، ولا ضرع فيُحلب". وكان(ع) يقول: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"، لأن قضيتي ليست شخصيةً وإنما هي إسلامية.
وقال في كلمة له(ع) عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "وما أعمال البرّ كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا كنفثة في بحر لجيّـ أي النفخة في الموج ـ وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أَجَل، ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر". وقال(ع): "احذر أن يراك الله عند معصيته، ويفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين، فإذا قويت فاقوَ على طاعة الله، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله". وسئل(ع) عن الخير ما هو، فقال: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجلٍ أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجلٍ يسارع في الخيرات".
علي(ع) مدرسة الأجيال
لا يزال عليّ(ع) معنا، لا تزال دروسه وأفكاره وقربه من ربه معنا، ولذلك لا نملك إلا أن نحبّ علياً(ع)، وعليّ(ع) فوق الحب، ولا نملك إلا أن ننحني لعصمته، لأنه(ع) في أعلى درجات العصمة، وهو الذي عصم نفسه وعصم فكره وعصم كل حياته، وكانت حياته كلها لله: فكراً وجهاداً وطاعةً.
وإنني أتألم بكل حزن، أنّ كثيراً من الناس ـ من المشايخ وغير المشايخ ـ ينسبون إليّ بكل حقدهم، أنني أقول إن عليّاً ليس معصوماً، وهل هناك عاقل يحترم فكره ويفهم عليّاً يمكن أن يقول بعدم عصمة عليّ(ع)؟! لقد قلتها مراراً: لو كان فوق العصمة شيء، فعليٌّ فوق العصمة، ولكن ختم الله على قلوبهم، واستحلّوا الكذب، وحرّفوا الكلم عن مواضعه.
أسأل الله أن يهديهم سواء السبيل، وقد ابتُليت ـ كما ابتلي عليّ(ع) ـ بالذين يكذبون ويحرّفون الكلم عن مواضعه، ولكنني أقول كما قال النبي(ص): "إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي".
الخطبة الثانية
عباد الله... اتقوا الله
التّمهيد لتوطين الفلسطينيّين في الخارج
في فلسطين المحتلَّة، يواصل العدوُّ اغتصابه المنظَّم للأرض الفلسطينية، بزحفه الاستيطاني الوحشي على بقية هذه الأرض في الضفة الغربية، لتتوضّح الصورة أكثر في أهداف العدوّ البعيدة، والتي تعمل على شطر الضفة الغربية إلى قسمين بشريط استيطاني يعلن نهاية الدولة الفلسطينية قبل ولادتها، في الوقت الذي يستمع رئيس وزرائه إلى مزيد من التصفيق الأوروبي والأمريكي، بعدما تحدَّث لفظياً عن شيء سمّاه الدولة الفلسطينية، بل لعلّه بات واضحاً سعي العدوّ من خلال ذلك إلى إنهاء القضية الفلسطينية ميدانياً وواقعياً.
وفي الاتجاه نفسه، يتواصل زحف الموفدين الأمريكيين إلى المنطقة لتهيئة الأجواء العربية لتوطين الفلسطينيين خارج فلسطين، والتمهيد لمفاوضات قد تبدأ بعدما تنتهي إسرائيل من مشروعها لإنهاء الدولة، لتكون المسألة ـ فيما هي الخطة الأمريكية الإسرائيلية ـ مصالحة العرب مع عدوّهم، وتطبيع الوضع معه، بعد تغييب الشعب الفلسطيني عن المسرح، وتشتيته رسمياً هذه المرة بعد التشتيت القسريّ الذي تسبَّب به الاحتلال ومجازره في مدى زمني يزيد على الستين عاماً.
ونحن في هذا الوقت، نستمع إلى ما يصدر عن اللّقاءات الحوارية بين حركتي فتح وحماس، كما نسمع توجيهات عربيةً حاسمةً مفادها أنَّ على الفلسطينيين أن ينهوا حوارهم جديّاً في الأيام القليلة القادمة، لنلاحظ أنَّ البرنامج العربي الذي أُعدّ للحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني، يكاد يكون نسخةً طبق الأصل عن البرنامج الغربي الذي يريد للفلسطينيين أن يتوحّدوا في الشكل، ليتمَّ التوقيع النهائي في احتفالية التسوية الكبرى التي يصرخ فيها العرب، وتصرخ فيها كثير من الدول الإسلامية، قائلةً: "لقد وقّع أصحاب القضية، فهل يبقى أمامنا إلا التوقيع؟!.
المقاومة الفلسطينيّة لمواجهة الخطر
إننا نحذّر الفلسطينيين عموماً، وفصائل المقاومة والانتفاضة على وجه الخصوص، من أن ما يُعدّ لهم هو أخطر بكثير مما جرى في "أوسلو"، أو في الاتفاقات العربية السابقة مع العدوّ، ولذلك فإنَّ عليهم أن يتعاملوا مع الوضع الدولي والعربي بدقّة متناهية، ومتابعة سياسية عالية، وبصمود استراتيجي في خطِّ المواجهة على جميع الجبهات الجهادية والسياسية... وإنَّنا في الوقت الذي نؤكِّد الوحدة الفلسطينية الداخلية، نشدِّد على ضرورة أن تتحرك هذه الوحدة في خطِّ استمرار جذوة المقاومة، والمحافظة على قضية فلسطين من دون أدنى تنازل. وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني وفصائله المجاهِدة، فتدعمه بكل الإمكانات والطاقات، حتى لا تذهب جهوده التحريرية ضحية التفريط العربي، والإفراط الدولي، والخذلان الآتي من المواقع الإسلامية المعنية بالقضية، والمسؤولة عن التفريط بالقدس وما حولها.
لبناء العراق بناءً وطنيّاً
وليس بعيداً من فلسطين، نلحظُ خروجاً للمحتل الأمريكي من المدن العراقية، تحت ضغط المقاومة من جهة، وبفعل الإصرار الشَّعبي العراقي على عدم الاعتراف بالاحتلال، والامتناع عن توفير أيَّة فرصة له للامتداد في هيمنته واحتلاله، وهو ما حرصت على تأكيده السلطة السياسية العراقية. ولكنّنا نقول للشعب العراقي بكل فئاته وأطيافه، والذي أثبت للعالم أنه شعب يتوق إلى الحرية والتحرر، ويرفض الاحتلال وكل مكوّناته، إنّ عليه أن يكون واعياً للخطة السياسية الراهنة، والمرحلة الدقيقة والصعبة القادمة، لأنّنا نلاحظ وجود علاقة معيَّنة بين تصاعد الهجمات الوحشية التي استهدفت المدنيين العراقيين، من كركوك إلى العاصمة إلى مدن الجنوب، وبين طموح الاحتلال للبقاء في العراق طويلاً، وهو الأمر الذي تحدَّث عنه أكثر من مسؤول أمريكي، ليعلن صراحةً إمكان البقاء في العراق لعشر سنوات قادمة.
ولذلك، فإنني أدعو الشعب العراقي ومقاومته الشريفة من جهة، والسلطة السياسية العراقية الرسمية من جهة ثانية، إلى ملاحقة الاحتلال في كل صغيرة وكبيرة، وعدم إفساح المجال له للاستفادة من أيّ وضع سياسي أو أمني قد يكون هو المحرّك والدافع له، وأؤكد على العراقيين جميعاً، وعلى المسلمين من السنّة والشيعة في العراق، أن يعملوا على جميع المستويات لحماية وحدتهم، وإعادة اللّحمة فيما بينهم، والتي كان الاحتلال والجهات التكفيرية السبب في محاولات تمزيقها، وأن يبدأ الاستعداد الفعلي لبناء العراق الجديد بناءً وطنياً كاملاً، تسقط معه كل دعوات التقسيم و"الفدرلة"، وتنطلق معه ورشة البناء العمراني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي على جميع المستويات.
إيران تسقط محاولات الاختراق
أمّا الجمهورية الإسلامية في إيران، التي فاجأت العالم بحيوية شعبها وروحيته المتحركة في المجالات الانتخابية والسياسية، وكهذه الحرية الممتدة في حركة الشارع، والتي أضفت على النظام الإسلامي طابعاً حركيّاً مميّزاً قد لا نجد له مثيلاً في طول المنطقة وعرضها، لا بل حتَّى على المستوى العالمي، فقد استطاعت أن تفاجئ العالم مجدّداً بسرعة امتصاصها للمشاكل الصغيرة الناشئة من الحرية التي أتاحها النظام الإسلامي على مستوى الاعتراض القانوني على أية حالة شاذَّة في الانتخابات، وإفساحها المجال للتعبير عن ذلك حتى في الشارع، ومن ثمَّ اعتماد حالة من الشفافية في إعلان النتائج الانتخابية أمام الناس.
إن ذلك كله يُسجَّل للنظام الإسلامي الذي أسقط كلَّ محاولات الاختراق الخارجية، وانطلقت قياداته التي تمثّل الرموز الحركية الأساسية، وعلى رأسها مرشد الثورة سماحة السيد الخامنئي، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام سماحة الشيخ رفسنجاني، في خطاب حاسمٍ يؤكد وحدة القيادة في خطِّ الثورة التي لا تخرج من ساحةٍ حيويةٍ إلا وتدخل في ساحة حيوية أخرى، ليس على المستوى الميداني فحسب، بل على المستوى السياسي والفكري والفقهي الذي نريده أن يواكب حركة هذه الجمهورية المباركة، ليرصد نقاط الضعف فيها، فيعمل على تحويلها إلى نقاط قوة، ويرصد الوهن الذي قد يصيب النظام في بعض خطوطه، فيعمل على معالجته بروح وحدوية حوارية يشترك فيها الجميع، ليعطوا قوةً جديدةً وفاعليةً جديدةً، وهو الأمر الذي نريد للشعب الإيراني كلِّه أن يساهم فيه بوعيٍ ووحدة وانفتاح.
الحكومة اللّبنانيّة تنجز في الخارج
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنّ البلد الذي يئنُّ تحت وطأة المديونية المتوحشة، والأزمات المعيشية المتفاقمة، ويكتوي بنيران أسعار المحروقات التي تلهب ساحات الفقراء ـ وما أكثرهم في لبنان ـ ويعيش في ظلمة دامسة وسط حرّ الصيف، نلاحظ أنّ لبنان هذا لا يزال صغيراً في حركة الكثيرين داخله ممّن يعيش بعضهم حالات الزهو الرخيص لحساب هذا الزعيم أو ذاك، ولا يعيشون صحوة ضمير واحدة أمام ما جَنَتْه أيديهم في الاعتداء على أمن الناس وسلمهم وأرواحهم، كما حصل في بيروت بعد الذي حصل في الضاحية، من إطلاق رصاص متخلّف تحوّل إلى رصاص قاتل.
إنَّ الغريب في هذا "اللبنان"، أو بلد الإبداع والإشعاع كما يحلو للكثيرين أن يسمّوه، أو كما نريده جميعاً، أن أموره تُطبخ في الخارج، وأوضاعه تُرسم في الصالونات العربية والإقليمية والدولية، بما في ذلك خصوصياته في المجلس النيابي والحكومة، وحتى على مستوى أسماء الوزراء والكثيرين من النواب، ومع ذلك، فإن شعارات الحرية والاستقلال والسيادة تطفو على السطح، ومشاعر الإخلاص للزعامات تنتصر على مشاعر الاحترام للبلد وأمنه وكرامة أبنائه جميعاً، والكل يهتف بعد كل حالة من حالات السقوط الإنساني والحضاري ممجّداً لبنان الواحد الموحَّد، الذي تحوّل إلى صنمٍ يُعبَد على مستوى الشعارات السياسية، بينما هو كرة تُرمى في الملاعب الإقليمية والدولية على مستوى الممارسات اليومية.
إنَّ لسان حال الناس الذين لا يزالون يعيشون الوعي أمام هذا الوحل السياسي الذي تحوّل إلى سلعة مذهبية وطائفية وشخصانية، يخاطب الجميع: عودوا إلى رشدكم، حتى يؤوب الشعب إلى سلامه وأمنه الاجتماعي الذي استُبيح مراراً وتكراراً وعند كل مناسبة وموعد، فقد أعطاكم الناس أصواتهم بالجملة والمفرّق في الانتخابات وفي كل ملهاة سياسية داخلية، ولم تعطوه أمناً ولا استقراراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ولا خطة لمواجهة تحديات العدوّ، وماذا بقي في جعبتكم أن تقدّموه في قادم الأيام بعدما أُنجزت في الخارج ـ أو كادت ـ ملامح التشكيلة الحكومية القادمة، وبقي على الداخل أن يبلور تفاهم الخارج وينسج على موّاله؟!... وأخيراً نقول: قليلاً من الحياء السياسي يرحمكم الله!
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الإمام علي(ع) مدرسة الأجيال
علي(ع) ربيب رسول الله
لا تقل شيعةٌ هواةُ عليٍّ إنّ في كلِّ منصف شيعيّا
جلجلَ الحبُّ في المسيحيِّ حتى عُدّ مِنْ فرطِ حبِّه علويّا
يا سماءُ اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرتُ عليّا
في هذه الأيام، وفي الثالث عشر من هذا الشهر، كانت ولادة عليّ(ع) في الكعبة، وهو المولود الذي لم يولد قبله ولا بعده في بيت الله سواه؛ إكراماً من الله جلّ اسمه له بذلك، وإجلالاً لمحلّه في التعظيم. قال "الألوسي" ـ وهو من علماء السنّة: "وكون الأمير، كرّم الله وجهه، وُلد في البيت أمرٌ مشهورٌ في الدنيا، وذُكر في كتب الفريقين السنّة والشيعة"... ويقول عبد الباقي العمري:
أنت العليّ الذي فوق العُلى رُفعا
ببطن مكَّةَ وسطَ البيتِ قد وُضعا
كان عليٌّ(ع) يعيش في بيتِ الله، والله تعالى ليس له بيتٌ كما للناس بيوت، ولكنّ بيت الله هو البيت الذي ترتفع فيه عبادة الإنسان ودعاؤه وابتهالاته ومعراج روحه إلى الله. وقد كان عليّ(ع) منذ انطلق في وعيه، الشخصَ الذي أحبَّ الله فأحبّه الله: "لأعطين الراية غداًـ قالها النبي(ص) في وقعة خيبر ـ رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله". وكان عليّ(ع) يخاطب ربه في تواضعه لله وخشوعه بين يديه: "وكيف تعذّبني وحبّك في قلبي". ونقرأ في دعاء كميل: "فهبني يا إلهي صبرتُ على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرتُ على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك". لو أدخلتني النار، فإنَّ ذلك يعني فراقي عنك، وأنا لا أطيق أن أفارقك، فقلبي معك وعقلي معك، وإحساسي معك، وحياتي معك، لأنني يا ربّ انطلقتُ من خلال معرفتي بأنّك أنت الله الذي لا إله غيره.
فضائل علي(ع)
وينقل التاريخ أنّ أحد أصحاب الإمام عليّ(ع)، وهو ضرار بن ضمرة، دخل على معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين، فقال معاوية: صف لي عليّاً. قال: اعفني. قال معاوثة: لتصفنّه. قال: "أمّا إذا كان لا بدَّ من وصفه، فإنَّه كان ـ والله ـ بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ـ فكلمته هي الكلمة الفاصلة ـ ويحكم عدلاًـ كل حكمه هو العدل الذي يعطي كلَّ ذي حق حقه ـ يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ـ ليس معنياً بالدنيا، وليس منجذباً إليها، لأن آفاقه متعلّقة بالآخرة مع الله تعالى ـ ويأنس بالليل ووحشته ـ لأنَّ اللَّيل هو حال الهدوء التي يناجي فيها ربه، ويقف فيها في صلاته مع ربه ـ وكان غزير الدمعةـ كان يبكي، وكانت دموعه تنسكب على كل وجهه ـ طويل الفكرة ـ كان مشغولاً بالفكر، وكانت أفكاره منفتحةً على الكون كلِّه وعلى الحياة كلها وعلى المسؤولية كلها، لأنها كانت منفتحةً على المعرفة بالله ومسؤولية الإنسان أمامه ـ يقلّب كفّه، ويخاطب نفسه ـ يتحدث دائماً مع نفسه، ليدرسها ويحاسبها في كل دقائقها وأوضاعها، لم يكن كالكثيرين من الناس مشغولاً عن نفسه بسبب شغله مع الناس ـ يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا ـ لم يكن يشعر بأنه هو الخليفة، وهم الرعية والأتباع ـ يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبّئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا، وقربه منا، لا نكاد نكلّمه هيبةً له ـ كانت هيبته تفرض نفسها عليهم من جهة عناصر شخصيته ـ فإنْ تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله ـ لا يجامل الأقوياء بما يريدونه من الباطل ـ ولا ييأس الضعيف من عدله ـ إذا جاءه الضعيف، فإنه يعطيه حقه ـ وأَشهد لقد رأيته قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: "يا دنيا غرّي غيري، ألي تعرّضت أم إليّ تشوّفت، هيهات هيهات! قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير. آهٍ آهٍ ـ إذا كان أمير المؤمنين يتأوَّه، فماذا نقول نحن؟ ـ آهٍ من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق". فبكى معاوية، ووكفت دموعه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال: رحم الله أبا الحسن، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: "حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها"، ثم خرج.
وعن أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة، قال: "لم يُروَ في فضائل أحد من الصحابة بالأحاديث الحسان ما روي في فضائل عليّ بن أبي طالب". وقال بعضهم: "ما أقول في رجل أخفى أولياؤه فضائله خوفاً، وأعداؤه حسداً، وظهر من بين ذين ما ملأ الخافقين".
هذا هو عليّ(ع) الذي ارتفع بالله لأنه أعطى الله كله، ولم يُبقِ لنفسه شيئاً من نفسه، وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة التي روي أنها نزلت في حقه ليلة الغار، عندما بات على فراش رسول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُرَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207). لقد باع عليّ نفسه لله؛ باع عقله وقلبه ومشاعره وحياته لله، ولذلك كان عليّ(ع) مع الحق لأن الله هو الحق، وكان الحق مع عليّ يدور معه حيثما دار.
بيت الرسول حضن عليٍّ(ع)
ومن خصائص عليّ(ع) أنه تربّى في حجر رسول الله، لأنَّ أبا طالب كان صاحب عيال وقليل المال، فجاء أحد إخوانه وأخذ بعض أولاده، وجاء النبي(ص) وأخذ عليّاً، وفي بعض الروايات أنه كان في الثانية من عمره، فرُبي في حجر النبي(ص)، وتأدّب بآدابه، وتخلّق بأخلاقه، واهتدى بهداه، واقتدى بأقواله وأفعاله، ولازمه طول حياته، وتحدث هو(ع) عن ذلك فقال: "وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنـزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدرهـ كالأمُّ التي ينام ولدها في حضنها ـ ويكنفني فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قولـ عندما أتكلَّم فإني أتكلم بالصدق ـ ولا خطلةً في فعل، ولقد قرن الله به ـ بالنبي ـ من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره ـ فالله ربّى النبي(ص) وأدّبه ـ ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه ـ كما يتبع ولد الناقة أمه. وبذلك كان هذا الملك العظيم يعلّم النبي(ص) وكان عليّ(ع) يقتدي به ويمشي وراءه ـ يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي وأشمّ ريح النبوَّة".
كرامة الإعراض عن الوثن
ومن فضائله(ع) السبق إلى الإسلام، وعدم السجود لصنم قطّ، ولذلك فإن المسلمين من أهل السنّة عندما يذكرون عليّاًَ يقولون: "كرّم الله وجهه"، وهي من أعظم الكلمات، لأن الله كرّم وجهه عن السجود لصنم، وقد قال ابن أبي الحديد: "ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلا السابق إلى كلِّ خير، محمد رسول الله(ص)".
المبيت في فراش النبي(ص)
ومن فضائله(ع)، مبيته على الفراش ليلة الهجرة، وفداؤه النبي بنفسه، مع أنه كان معرّضاً للخطر، وهو ما أخبره النبي(ص) به، ولكنَّ عليّاً(ع) كان يسأل: "أوتسلم يا رسول الله"؟ قال(ص): "بلى"، فقال: "اذهب راشداً مهدياً، فلا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليَّ". ومن فضائله، أنّ النبي(ص) أقامه مقامه يوم الهجرة ليؤدّي أماناته، ويردّ ودائعه، ويقضي ديونه، ويحمل الفواطم إليه في المدينة، ولم يأتمن على ذلك أحداً غيره، لما علم من كفاءته وشجاعته، وقد قام(ع) بما أمره به. ومن فضائله(ع)، المؤاخاة بينه وبين رسول الله(ص)، عندما آخى النبي(ص) بين المهاجرين والأنصار، وآخاه النبي، وقال له: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، أنت الذي تمثل الأخوَّة كأصدق وأعمق ما يكون.
علي(ع) بطل الحرب والسّلم
وكان عليّ(ع) بطل الإسلام الذي خاض حروب المسلمين، وقد قتل في "بدر" نصف قتلى المشركين، وشارك المسلمين في النصف الآخر، وكان بطل "أحد" و"الأحزاب"، عندما انطلق المشركون في أحلافهم، وهجموا على المدينة ليسقطوها ويسقطوا الإسلام، وجاء عمرو بن عبد ودّ، وبدأ يتبختر على المسلمين، والنبي(ص) يقول: "من لِعَمْرو وقد ضمنت له على الله الجنة". ولم يقم إلاّ عليّ(ع) لثلاث مرات، عند ذلك أذِن له النبي(ص)، ورفع يديه إلى السماء وقال: "اللهمَّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين". ثم قال(ص): "برز الإسلام كلّه إلى الشرك كله"، فقد تجسّد الإسلام آنذاك في عليّ، لذا كان انتصاره على عمرو يعدّ انتصاراً للإسلام، وتجسّد الشّرك في عَمْرو، وانتصاره سيعدّ انتصاراً للشرك.
وقتل عليّ(ع) عَمْراً، وجاء الوسام من النبيّ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، ليقول: "ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين". وكان بطل وقعة خيبر الذي فتح الله على يديه بعد أن أرسل النبي(ص) مَن قبله وكان يرجع، فيجبّن أصحابه وأصحابه يجبّنونه. وانطلق عليّ إلى باب خيبر واقتلعه، وهو الذي قال: "والله ما قلعت باب خيبر بقوّة جسدية، بل بقوة ربَّانية".
كان(ع) بطل الإسلام في كل حروب رسول الله(ص)، وكان معه في ليله ونهاره، وكان النبي يحدّثه بكل ما ينـزل عليه من الوحي، حتى كان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني، فما من آية إلا وأعرف أنها نزلت في سهلٍ أو جبل، وفي ليل أو نهار".
وكان النبي(ص) يعرّف الناس بمقام عليّ(ع) في كلِّ شؤونه، وكان من كلامه(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، "مَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه". وعنه(ص): "عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". وقال(ص): "مَنْ أراد أن ينظر إلى آدمَ في علمه، ونوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، والى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب". وعندما زوّجه النبي(ص) السيدة الزهراء(ع)، قال له: "إن الله زوّجك فاطمة في السماء قبل أن أزوّجك إياها في الأرض، ولو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ".
جهاد علي(ع)
لقد عاش عليّ(ع) لله وفي سبيل الإسلام، ولذلك صبر وضحّى في سبيل الإسلام، ولم يكن أحد في الصحابة يوازيه، فضلاً عن أن يتقدّمه، وهو ما عبّر عنه الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سألوه: لماذا قدّمت عليّاً؟ قال: "احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل أنه إمام الكل". وكان يناجي ربه ويتحدث إليه عن سبب مطالبته بالخلافة. يقول(ع): "اللهمَّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم في دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللهمَّ إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة".
وكان يخاطب المسلمين الذين تتحرك الفتن في مجتمعاتهم، فيوصيهم: "كنْ في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيُركب، ولا ضرع فيُحلب". وكان(ع) يقول: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"، لأن قضيتي ليست شخصيةً وإنما هي إسلامية.
وقال في كلمة له(ع) عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "وما أعمال البرّ كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا كنفثة في بحر لجيّـ أي النفخة في الموج ـ وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أَجَل، ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر". وقال(ع): "احذر أن يراك الله عند معصيته، ويفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين، فإذا قويت فاقوَ على طاعة الله، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله". وسئل(ع) عن الخير ما هو، فقال: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجلٍ أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجلٍ يسارع في الخيرات".
علي(ع) مدرسة الأجيال
لا يزال عليّ(ع) معنا، لا تزال دروسه وأفكاره وقربه من ربه معنا، ولذلك لا نملك إلا أن نحبّ علياً(ع)، وعليّ(ع) فوق الحب، ولا نملك إلا أن ننحني لعصمته، لأنه(ع) في أعلى درجات العصمة، وهو الذي عصم نفسه وعصم فكره وعصم كل حياته، وكانت حياته كلها لله: فكراً وجهاداً وطاعةً.
وإنني أتألم بكل حزن، أنّ كثيراً من الناس ـ من المشايخ وغير المشايخ ـ ينسبون إليّ بكل حقدهم، أنني أقول إن عليّاً ليس معصوماً، وهل هناك عاقل يحترم فكره ويفهم عليّاً يمكن أن يقول بعدم عصمة عليّ(ع)؟! لقد قلتها مراراً: لو كان فوق العصمة شيء، فعليٌّ فوق العصمة، ولكن ختم الله على قلوبهم، واستحلّوا الكذب، وحرّفوا الكلم عن مواضعه.
أسأل الله أن يهديهم سواء السبيل، وقد ابتُليت ـ كما ابتلي عليّ(ع) ـ بالذين يكذبون ويحرّفون الكلم عن مواضعه، ولكنني أقول كما قال النبي(ص): "إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي".
الخطبة الثانية
عباد الله... اتقوا الله
التّمهيد لتوطين الفلسطينيّين في الخارج
في فلسطين المحتلَّة، يواصل العدوُّ اغتصابه المنظَّم للأرض الفلسطينية، بزحفه الاستيطاني الوحشي على بقية هذه الأرض في الضفة الغربية، لتتوضّح الصورة أكثر في أهداف العدوّ البعيدة، والتي تعمل على شطر الضفة الغربية إلى قسمين بشريط استيطاني يعلن نهاية الدولة الفلسطينية قبل ولادتها، في الوقت الذي يستمع رئيس وزرائه إلى مزيد من التصفيق الأوروبي والأمريكي، بعدما تحدَّث لفظياً عن شيء سمّاه الدولة الفلسطينية، بل لعلّه بات واضحاً سعي العدوّ من خلال ذلك إلى إنهاء القضية الفلسطينية ميدانياً وواقعياً.
وفي الاتجاه نفسه، يتواصل زحف الموفدين الأمريكيين إلى المنطقة لتهيئة الأجواء العربية لتوطين الفلسطينيين خارج فلسطين، والتمهيد لمفاوضات قد تبدأ بعدما تنتهي إسرائيل من مشروعها لإنهاء الدولة، لتكون المسألة ـ فيما هي الخطة الأمريكية الإسرائيلية ـ مصالحة العرب مع عدوّهم، وتطبيع الوضع معه، بعد تغييب الشعب الفلسطيني عن المسرح، وتشتيته رسمياً هذه المرة بعد التشتيت القسريّ الذي تسبَّب به الاحتلال ومجازره في مدى زمني يزيد على الستين عاماً.
ونحن في هذا الوقت، نستمع إلى ما يصدر عن اللّقاءات الحوارية بين حركتي فتح وحماس، كما نسمع توجيهات عربيةً حاسمةً مفادها أنَّ على الفلسطينيين أن ينهوا حوارهم جديّاً في الأيام القليلة القادمة، لنلاحظ أنَّ البرنامج العربي الذي أُعدّ للحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني، يكاد يكون نسخةً طبق الأصل عن البرنامج الغربي الذي يريد للفلسطينيين أن يتوحّدوا في الشكل، ليتمَّ التوقيع النهائي في احتفالية التسوية الكبرى التي يصرخ فيها العرب، وتصرخ فيها كثير من الدول الإسلامية، قائلةً: "لقد وقّع أصحاب القضية، فهل يبقى أمامنا إلا التوقيع؟!.
المقاومة الفلسطينيّة لمواجهة الخطر
إننا نحذّر الفلسطينيين عموماً، وفصائل المقاومة والانتفاضة على وجه الخصوص، من أن ما يُعدّ لهم هو أخطر بكثير مما جرى في "أوسلو"، أو في الاتفاقات العربية السابقة مع العدوّ، ولذلك فإنَّ عليهم أن يتعاملوا مع الوضع الدولي والعربي بدقّة متناهية، ومتابعة سياسية عالية، وبصمود استراتيجي في خطِّ المواجهة على جميع الجبهات الجهادية والسياسية... وإنَّنا في الوقت الذي نؤكِّد الوحدة الفلسطينية الداخلية، نشدِّد على ضرورة أن تتحرك هذه الوحدة في خطِّ استمرار جذوة المقاومة، والمحافظة على قضية فلسطين من دون أدنى تنازل. وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني وفصائله المجاهِدة، فتدعمه بكل الإمكانات والطاقات، حتى لا تذهب جهوده التحريرية ضحية التفريط العربي، والإفراط الدولي، والخذلان الآتي من المواقع الإسلامية المعنية بالقضية، والمسؤولة عن التفريط بالقدس وما حولها.
لبناء العراق بناءً وطنيّاً
وليس بعيداً من فلسطين، نلحظُ خروجاً للمحتل الأمريكي من المدن العراقية، تحت ضغط المقاومة من جهة، وبفعل الإصرار الشَّعبي العراقي على عدم الاعتراف بالاحتلال، والامتناع عن توفير أيَّة فرصة له للامتداد في هيمنته واحتلاله، وهو ما حرصت على تأكيده السلطة السياسية العراقية. ولكنّنا نقول للشعب العراقي بكل فئاته وأطيافه، والذي أثبت للعالم أنه شعب يتوق إلى الحرية والتحرر، ويرفض الاحتلال وكل مكوّناته، إنّ عليه أن يكون واعياً للخطة السياسية الراهنة، والمرحلة الدقيقة والصعبة القادمة، لأنّنا نلاحظ وجود علاقة معيَّنة بين تصاعد الهجمات الوحشية التي استهدفت المدنيين العراقيين، من كركوك إلى العاصمة إلى مدن الجنوب، وبين طموح الاحتلال للبقاء في العراق طويلاً، وهو الأمر الذي تحدَّث عنه أكثر من مسؤول أمريكي، ليعلن صراحةً إمكان البقاء في العراق لعشر سنوات قادمة.
ولذلك، فإنني أدعو الشعب العراقي ومقاومته الشريفة من جهة، والسلطة السياسية العراقية الرسمية من جهة ثانية، إلى ملاحقة الاحتلال في كل صغيرة وكبيرة، وعدم إفساح المجال له للاستفادة من أيّ وضع سياسي أو أمني قد يكون هو المحرّك والدافع له، وأؤكد على العراقيين جميعاً، وعلى المسلمين من السنّة والشيعة في العراق، أن يعملوا على جميع المستويات لحماية وحدتهم، وإعادة اللّحمة فيما بينهم، والتي كان الاحتلال والجهات التكفيرية السبب في محاولات تمزيقها، وأن يبدأ الاستعداد الفعلي لبناء العراق الجديد بناءً وطنياً كاملاً، تسقط معه كل دعوات التقسيم و"الفدرلة"، وتنطلق معه ورشة البناء العمراني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي على جميع المستويات.
إيران تسقط محاولات الاختراق
أمّا الجمهورية الإسلامية في إيران، التي فاجأت العالم بحيوية شعبها وروحيته المتحركة في المجالات الانتخابية والسياسية، وكهذه الحرية الممتدة في حركة الشارع، والتي أضفت على النظام الإسلامي طابعاً حركيّاً مميّزاً قد لا نجد له مثيلاً في طول المنطقة وعرضها، لا بل حتَّى على المستوى العالمي، فقد استطاعت أن تفاجئ العالم مجدّداً بسرعة امتصاصها للمشاكل الصغيرة الناشئة من الحرية التي أتاحها النظام الإسلامي على مستوى الاعتراض القانوني على أية حالة شاذَّة في الانتخابات، وإفساحها المجال للتعبير عن ذلك حتى في الشارع، ومن ثمَّ اعتماد حالة من الشفافية في إعلان النتائج الانتخابية أمام الناس.
إن ذلك كله يُسجَّل للنظام الإسلامي الذي أسقط كلَّ محاولات الاختراق الخارجية، وانطلقت قياداته التي تمثّل الرموز الحركية الأساسية، وعلى رأسها مرشد الثورة سماحة السيد الخامنئي، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام سماحة الشيخ رفسنجاني، في خطاب حاسمٍ يؤكد وحدة القيادة في خطِّ الثورة التي لا تخرج من ساحةٍ حيويةٍ إلا وتدخل في ساحة حيوية أخرى، ليس على المستوى الميداني فحسب، بل على المستوى السياسي والفكري والفقهي الذي نريده أن يواكب حركة هذه الجمهورية المباركة، ليرصد نقاط الضعف فيها، فيعمل على تحويلها إلى نقاط قوة، ويرصد الوهن الذي قد يصيب النظام في بعض خطوطه، فيعمل على معالجته بروح وحدوية حوارية يشترك فيها الجميع، ليعطوا قوةً جديدةً وفاعليةً جديدةً، وهو الأمر الذي نريد للشعب الإيراني كلِّه أن يساهم فيه بوعيٍ ووحدة وانفتاح.
الحكومة اللّبنانيّة تنجز في الخارج
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنّ البلد الذي يئنُّ تحت وطأة المديونية المتوحشة، والأزمات المعيشية المتفاقمة، ويكتوي بنيران أسعار المحروقات التي تلهب ساحات الفقراء ـ وما أكثرهم في لبنان ـ ويعيش في ظلمة دامسة وسط حرّ الصيف، نلاحظ أنّ لبنان هذا لا يزال صغيراً في حركة الكثيرين داخله ممّن يعيش بعضهم حالات الزهو الرخيص لحساب هذا الزعيم أو ذاك، ولا يعيشون صحوة ضمير واحدة أمام ما جَنَتْه أيديهم في الاعتداء على أمن الناس وسلمهم وأرواحهم، كما حصل في بيروت بعد الذي حصل في الضاحية، من إطلاق رصاص متخلّف تحوّل إلى رصاص قاتل.
إنَّ الغريب في هذا "اللبنان"، أو بلد الإبداع والإشعاع كما يحلو للكثيرين أن يسمّوه، أو كما نريده جميعاً، أن أموره تُطبخ في الخارج، وأوضاعه تُرسم في الصالونات العربية والإقليمية والدولية، بما في ذلك خصوصياته في المجلس النيابي والحكومة، وحتى على مستوى أسماء الوزراء والكثيرين من النواب، ومع ذلك، فإن شعارات الحرية والاستقلال والسيادة تطفو على السطح، ومشاعر الإخلاص للزعامات تنتصر على مشاعر الاحترام للبلد وأمنه وكرامة أبنائه جميعاً، والكل يهتف بعد كل حالة من حالات السقوط الإنساني والحضاري ممجّداً لبنان الواحد الموحَّد، الذي تحوّل إلى صنمٍ يُعبَد على مستوى الشعارات السياسية، بينما هو كرة تُرمى في الملاعب الإقليمية والدولية على مستوى الممارسات اليومية.
إنَّ لسان حال الناس الذين لا يزالون يعيشون الوعي أمام هذا الوحل السياسي الذي تحوّل إلى سلعة مذهبية وطائفية وشخصانية، يخاطب الجميع: عودوا إلى رشدكم، حتى يؤوب الشعب إلى سلامه وأمنه الاجتماعي الذي استُبيح مراراً وتكراراً وعند كل مناسبة وموعد، فقد أعطاكم الناس أصواتهم بالجملة والمفرّق في الانتخابات وفي كل ملهاة سياسية داخلية، ولم تعطوه أمناً ولا استقراراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ولا خطة لمواجهة تحديات العدوّ، وماذا بقي في جعبتكم أن تقدّموه في قادم الأيام بعدما أُنجزت في الخارج ـ أو كادت ـ ملامح التشكيلة الحكومية القادمة، وبقي على الداخل أن يبلور تفاهم الخارج وينسج على موّاله؟!... وأخيراً نقول: قليلاً من الحياء السياسي يرحمكم الله!