زينب(ع) الشخصية الرسالية

زينب(ع) الشخصية الرسالية
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

زينب(ع) الشخصية الرسالية

زينب(ع): وليدة العصمة
كانت فاطمة الزهراء(ع) النموذج الأكمل للمرأة المسلمة، إذ عاشت العصمة في عقلها؛ فلم ينطلق عقلها إلا بالحق، وعاشتها في قلبها؛ فلم ينبض إلا بالخير، وعاشتها في حياتها؛ فلم تنطلق حياتها إلا بالقيم الروحية التي ترتفع إلى الله. وكانت(ع) المرأة المثقفة التي وقفت في مسجد رسول الله(ص)، وخطبت خطبتها التي دللت على قوة الموقف، وعلى سعة العلم، وعلى قوة الحجة. ولهذا أضحت تلميذة رسول الله(ص)، ورفيقة عليّ(ع)، فملأت المدينة ـ في زمن رسول الله وبعده أيضاً ـ علماً وروحاً وأخلاقاً وتوجيهاً.

وكانت ابنتها السيدة زينب(ع) مثالاً لأمها، فقد عاشت في أحضان أمها وهي طفلة، وعاشت في أحضان أبيها وهي شابة، وعاشت مع أخويها الحسن والحسين(ع) في كل أسرار الإمامة وانطلاقة العلم، ولذلك كانت تمثل المرأة التي امتلأ عقلها بالعلم، وامتلأت حياتها بالإخلاص لله تعالى والجهاد في سبيله.

ونحن حينما نذكر الأم والبنت، نجد في كل عناصر شخصيتهما القدوة، لا للنساء فحسب، ولكن للرجال والنساء معاً، لأنهما تتحركان من قاعدة الإيمان، وتنفتحان من خلال ثقافة الإسلام. وقد كانت السيدة زينب(ع) تمثل الإنسانة التي يذكر كتّاب سيرتها أنها من أفاضل النساء، وكانت قويةً في حجتها، صلبةً في مواقفها، شجاعةً في مواجهة التحدي.

رفيقة الحسين(ع)
وكانت زينب(ع) رفيقة الحسين(ع)، فامتلأ قلبها بحبّ أخيها، لأن قلبها امتلأ بحبّ الرسالة التي حملها أخوها الحسين(ع)، ولهذا تركت زوجها وابن عمها عبدالله بن جعفر في المدينة، وجاءت مع الإمام الحسين(ع) إلى كربلاء، ومعها ولداها. وكانت إلى جانب الحسين(ع) ترعى كلَّ عياله وكل عيال أصحابه، وكانت هي التي تشرف على علاج ابن أخيها الإمام علي بن الحسين(ع) عندما كان مريضاً في كربلاء، وكانت تجلس إلى الإمام الحسين، تتحدث معه وتسأله عن طبيعة الموقف ومجريات المعركة، وكانت تعيش القلق على حياته، حتى إنها عندما سمعته ينشد شعراً، شعرت بأنه ينعى نفسه، فأخذتها العاطفة، وانطلق الإمام الحسين(ع) يصبّرها ويقوّي موقفها ويوصيها بوصاياه: "إذا أنا هلكت فلا تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي بالويل والثبور"، وكأنه يقول: "لا تشمتي بنا الأعداء".

الإرادة والصبر، لا البكاء والتفجّع
أما الذين يتحدثون من قرّاء العزاء، بأنها ضربت جبينها بمقدَّم المحمل، حتى سال الدم من تحت قناعها، فإنهم لا يتحدثون بالحقيقة، لأن زينب(ع)، منذ كربلاء، تسلّمت القيادة بعد شهادة القائد، وكانت قويةً صلبةً، لم تسقط أمام المأساة، بالرغم من أن المأساة كانت من أصعب ما يمر على الإنسان، ومن أكثر ما يثير الحزن بفعل وحشية الأعداء، ومع ذلك، كانت تشعر بالمسؤولية تجاه عياله وتجاه العليل الإمام زين العابدين(ع) الذي أصبح إمامها بعد شهادة والده. وكانت قويةً أمام الطغاة، فلم تضعف ولم تهن ولم تسقط، وخصوصاً في الكوفة، حيث خطبت خطبتها، وأنّبت فيها الذين تخلّفوا عن نصرة الحسين أو شاركوا في حربه، وتحدثت إليهم بكل قوة، حتى قيل إنّ عيونهم امتلأت بالبكاء.

وعندما وصلت السيدة زينب(ع) إلى الكوفة، وأُحضرت إلى مجلس ابن زياد، قال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أحاديثكم. فقالت زينب(ع): "الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهّرنا تطهيراً، إنما يفضح الله الفاسق ويكذّب الفاجر" ـ كانت تتحداه بكل قوة وعنفوان ـ قال: كيف رأيتِ صنع الله بكم أهل البيت؟ قالت: "كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاكمون عنده"ـ وفي رواية أنها قالت له: "ستحاجّ وتُخاصم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أمُّك يا بن مرجانة" ـ فغضب ابن زياد عليها، وهمّ بها ـ أي همّ بضربها أو قتلها ـ فسكّن منه عمرو بن حريث... فقالت زينب : "يا بن زياد، حسبك ما ارتكبت منا، فلقد قتلت رجالنا، وقطَّعت أصلنا، وأبحت حريمنا، وسبيت نساءنا وذرارينا، فإن كان ذلك للاشتفاء فقد اشتفيت". وكانت(ع) هي التي حمت الإمام زين العابدين(ع) من القتل في مجلس ابن زياد، وهي التي كانت لا تهاب هذا الطاغية، وهي التي كانت القوية بموقفها وتحدته بكل الكلمات القاسية والموقف القويّ.

وينقل كتّاب السيرة الحسينية عن فاطمة بنت علي(ع) أنها قالت: "إن رجلاً من أهل الشام قام إلى يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية... يعنيني، وكنت جاريةً وضيئةً ـ جميلة ـ فأرعبت وفَرِقْتُ، وظننت أنه يفعل ذلك، فأخذت بثياب أختي ـ السيدة زينب ـ وهي أكبر مني وأعقل، فقالت: كذبتَ والله ولعنت، ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد، فقال: بل كذبتِ والله، لو شئتُ لفعلتُه. قالت: لا والله، ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. فقالت: بدين الله ودين أخي وأبي وجدي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلماً. قال: كذبتِ يا عدوّة الله. قالت: "أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانه. فقالت: فكأنه استحيى فسكت".

ونقف مع خطبتها في مجلس يزيد، حيث وقفت فيه وقفة أمها الزهراء(ع) وأبيها عليّ(ع)، وهي التي كانت تستقي من كلام عليّ، وكأن الذي يسمعها يسمع عليّاً(ع) يتحدث. خاطبت يزيد فقالت له: "وسيعلم من سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً، ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى. ألا فالعجب، كل العجب، لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء... ولئن اتّخذْتَنا مغنماً لتجدنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدّمتَ، وما ربّك بظلاّم للعبيد. فإلى الله المشتكى، وعليه المعوَّل. فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تَرْحَضُ ـ تغسل ـ عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة".

القائدة القدوة
ونستوحي من هذا الموقف الزينبي، أن زينب(ع) كانت تملك علماً تستطيع من خلاله أن تتحدث في الموقف عن آيات الله، وأن تنطلق لتوبّخ يزيد ولتعرّف مجتمعه بالسيرة النبوية الشريفة وبالرسالة الإسلامية، ونفهم من ذلك أن السيدة زينب(ع) كانت قوية الشخصية، فلا ترتجف أمام سلطان يزيد ولا أمام قوته وجيشه. كانت كأبيها عليّ(ع) الذي قال: "لو تضافرت العرب على قتالي، لما ولّيت عنها هارباً". كانت ابنة عليّ وأخت الحسين والعباس، وكانت الإنسانة التي تملك قوة الشخصية وعزة النفس، ولذلك لم تقف ذليلةً أمام يزيد وابن زياد، بل كانت تعيش موقف الإنسانة العزيزة في شخصيتها، وقد تمرّدت على كل أساليب الذل الذي أراد يزيد وابن زياد أن يسيطرا بها عليها.

وكانت(ع) في كل مسيرتها تملك الشخصية القيادية، كانت القائدة التي استطاعت أن تكمل حركة الثورة الحسينية، ولو لم تكن زينب لماتت هذه الثورة، ولكن الحسين(ع) ضحّى، وزينب أكملت التضحية، وعرّفت العالم ما معنى ثورة الحسين(ع). ولذلك فإننا عندما نتذكر زينب والحسين، نعرف كيف انطلقت كربلاء بقيادة الرجل المعصوم والمرأة التي ارتفعت وعاشت روحية العصمة، وإن لم تكن واجبة العصمة.

وكانت زينب(ع) الإنسانة الصابرة الصامدة. أمّا الصورة التي ينقلها الكثيرون من قرّاء العزاء، والذين يحاولون أن يصوّروا زينب بأنها ضعيفة مهزومة ذليلة؛ فهي ليست صورة زينب(ع). إن صورتها هي صورة الإنسانة القوية الصامدة الصابرة المتحدية.

ونحن حينما نتذكّرها، فإنّ علينا أن نجعلها القدوة التي نقتدي بها في مواقف القوة أمام الطغاة والظالمين، وأن لا نضعف أو نهون أو نسقط. وهذا ما يجعلنا نفهم أن المرأة المسلمة عندما تعيش روحيتها وقوتها الإسلامية، فإنها تستطيع أن تنتصر على الرجال في أقوى المواقف، كما يمكنها أن تسدّ نقاط الضعف في المسيرة.

والسلام على سيدتنا زينب(ع) يوم وُلدت، ويوم انتقلت إلى رحاب الله، ويوم تبعث حيّةً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

أمريكا وإسرائيل: الارتباط الأبدي
تتكشّف اللّعبة الأمريكيّة الجديدة في المنطقة عموماً يوماً بعد يوم، ويبرز الوجه الحقيقي للإدارة الأمريكية التي أعلنت على لسان رئيسها، أنّ الرابط بينها وبين إسرائيل "غير قابل للانفصام إلى الأبد"... ويتّضح أنّ الثابت الوحيد في حركة السياسة الأمريكية الاستكباريّة، أنّها تبيع العرب والمسلمين كلاماً، وتعطي إسرائيل المواقف والدعم العملي؛ ليتبيّن ـ بالتالي ـ أنّ اللقاءات الإسرائيلية ـ الأمريكية الأخيرة، وزيارات المبعوثين الأمريكيين إلى المنطقة، تكاد تتركّز على الإجراءات الشكلية، وعلى عملية الإخراج التي تجعل التطبيع العربي ـ الإسرائيلي أمراً واقعاً، بحيث يتحوّل إلى ورقة ضاغطة على الفلسطينيين لإنهاء القضيّة كلّها، وذلك في مقابل بضع كلماتٍ من العدوّ تتحدّث عن تجميد الاستيطان، الذي يُراد له أن يكون هو القضيّة بعيداً عن مسألة اللاجئين والقدس وغيرها.

إسرائيل والعرب: تجاوز الخطوط الحمر
لقد أعلن وزير خارجيّة العدوّ قبل أيّام، أنّ "الخطوط الحمر" التي وضعتها الحكومة الصهيونيّة لا تزال على ما هي عليه، فيما يخصّ القدس وعودة اللاجئين واستمرار الاستيطان، وغيرها، ومع ذلك فإنّ الإشارات التي انطلقت من أكثر من موقع عربي بفتح الأجواء والبحار والقنوات المائية وغيرها أمام العدوّ، توحي بأنّ العرب ـ على مستوى الأنظمة ـ قد قرّروا الذهاب إلى ما هو أبعد من التّطبيع، وأبعد من المصافحة؛ لأنّهم يفكرون في الانفتاح على العدوّ وتسهيل أمره في فتح جبهة جديدة ضدّ عدوّ مفترض في الشرق.

إنّ الإدارة الأمريكيّة التي كانت ـ بطريقة وبأخرى ـ شريكةً فيما حصل من أحداث داخل إيران، والتي كانت تنتظر تحوّلاً في المشهد الإيراني يدفع الأمور إلى الهدف الذي خطّطت له على مستوى المنطقة، كشفت عن وجهها الجديد مع انجلاء الصورة في إيران، وأوعزت إلى العدوّ أن يطلق تهديداته لها، وطلبت من بعض الأنظمة العربيّة أن تكون الواسطة الميدانيّة والعمليّة لإيصال الرسالة الإسرائيلية في حركة الطائرات والغوّاصات التي تُفتَح أمامها الأجواءُ والمساراتُ المائية، وأوحت إلى إيران بأنّ الحوار القادم سيكون مفتوحاً على التطوّرات، وعلى هدير آلة الحرب الإسرائيلية والأمريكية والغربية...

أمريكا والغزو المستمر
إنّ على شعوبنا أن تعرف أن أمريكا لم تخرج من مشروع الحرب حتى تدخل في مشروع السّلام، ولم تخرج من وهم إعادة تشكيل المنطقة على صورتها وصورة حليفها الإسرائيلي حتى تمدّ يداً توحي بالمحبة واحترام حرية شعوبنا في تقرير مصيرها، وهي في الوقت الذي ترهق جنودها في أفغانستان وسط حرارة الصيف الملتهبة، تتطلّع إلى طموحاتها الإمبراطورية التي تجد في المنطقة العربية والإسلامية ملاذها ومستودعها، وتنظر إلى شعوبنا بعيون إسرائيلية حاقدة تتلهّف لاستباحة ما تبقّى من قواعد ومواقع شعبية واستراتيجية عصيّة عليها.

ولكنّ المشكلة الكبرى تكمن في أولئك الذين مهّدوا السبيل لأمريكا وإسرائيل في اجتياح بلادنا، وهم يتيحون الفرصة لها مجدّداً لنهب ثروات الأمّة ومصادرة قرارها... إنّ هذه الأنظمة التي تمثّل وديعةً أمريكيّةً في قلب الأمّة، تهرول إلى التطبيع في هذه الأّيام، إلى المستوى الذي نشهد فيه زيارات لمسؤولين من إحدى الدول الخليجية إلى كيان العدوّ، بحجّة العمل على إطلاق سراح مواطنيهم الذين كانوا على متن سفينة سعت إلى كسر الحصار عن غزّة، في مشهدٍ يوحي بالغرابة والتناقض، بين شعوبٍ عربيةٍ تسعى لفك الحصار عن إخوتها في فلسطين المحتلّة، وأنظمةٍ تهرول باتّجاه عدوّها ليضع قيد الاستعباد في معصمها، وهي ترهن مستقبلها لحساب الغاصب والمستكبر.

الصين: العلاقة الملتبسة مع المسلمين
ووسط كلّ هذه المآسي والآلام التي تصيب الأمّة، تأتي الصرخة في هذه الأيّام من الصين، والذي سقط في بعض أقاليمها ما يزيد على الألف بين قتيل وجريح غالبيّتهم من المسلمين، وقد ألقت السلطات الصينيّة باللائمة على شخصيّات صينيّة مسلمة مقيمة في الولايات المتّحدة الأمريكية، وقالت إنّها كانت السبب فيما حصل من خلال ما أسمته "تحريضها على أعمال الشغب عبر الاتصالات الهاتفية والدعاية عبر مواقع الإنترنت".

ونحن في الوقت الذي نريد للمسلمين في كل مواقعهم في العالم أن يخلصوا الانتماء لأوطانهم، وأن يكونوا سفراء طيّبين في أيّ موقع حلّوا فيه، نرفض استخدامهم كورقة في لعبة الأمم، ونستنكر التعرّض لهم بالأساليب العنفية الحادّة التي تكاد مشاهدها تختفي في كلّ العالم، ولكنّها تبرز واضحةً جليّةً في المواقع أو الأقطار الإسلامية.

إنّنا نؤكّد العلاقة المتينة كشعوب وكدول عربية وإسلامية مع الشّعب الصيني والدولة الصينية، التي نعتقد أنّ لها مصالح في بلادنا ولنا مصالح عندها، ولكنّنا نريد منها تفسيراً لما حدث، وتوضيحاً لكلّ الملابسات، فلا يكفي إلقاء اللائمة على الآخرين الذين قد يتحمّلون مسؤوليةً في ذلك؛ لأنّنا أمام مشهدٍ مرعبٍ سالت فيه الدماء أنهاراً، ونخشى أن تتطوّر فيه الأمور بما يسيء إلى الأقلية المسلمة في الصين، أو إلى الدولة والشعب الصينيين، وهو ما نرفضه جملةً وتفصيلاً، ونريد لكلّ المعنيين أن يتعاونوا لإخماد نيران هذا الحريق الذي اشتعل في الشارع والتهب في النفوس.

الوضع اللبناني: أزمة محاور
ونصل إلى لبنان، إلى البلد الذي ترتفع فيه أسهم التفاؤل وتنخفض كما ترتفع أسهم البورصة وتنخفض ، في الوقت الذي أكّدت اللّقاءات والمشاورات العربية ـ العربية، والمداخلات الدوليّة التي واكبتها على خطّ تأليف الحكومة والملفّات الأخرى المطروحة للحلّ على هامشها، أنّ هذا "اللّبنان" لا يملك من أمره شيئاً فيما هي التشكيلة السياسية التي يُراد لها أن تقود البلد رسمياً، ومع ذلك، فإن المواقع النيابية والوزارية والرسمية عموماً تحدّثك عن الديمقراطية اللبنانية الفريدة، وتتلو عليك نصوصاً من الدستور تكاد تحسبها إنجيلاً أو قرآناً، ولا نجد أحداً ينظر إلى كلّ حالات الوصاية والمحاور الدولية والإقليمية، التي تتدخّل في تفاصيل المسألة الحكومية أو حتى في التسميات الوزارية والنيابية، نظرة استغراب واستهجان، وكأنّ المسألة أصبحت التزاماً لبنانياً داخلياً ينبغي الوفاء به لكلّ أولئك الذين يشرفون على البلد من بعيد أو قريب.

إنّ لسان حال الجميع يقول: ممنوع أن يتحوّل لبنان إلى وطن، وممنوع أن تنطلق في ربوعه دولة، ولا سبيل أمام اللّبنانيين إلا بالتسليم للآخرين بلبنان المزرعة، أو لبنان الكرة التي تمثّل كتلاً مذهبيةً وطائفيةً وحزبيةً تتقاذفها الأقدام الدولية والإقليمية في كلّ الاتجاهات.

لقد استعبد هؤلاء الشّعب اللبناني، واستعبد الشعب نفسه عندما ارتضى بأن يجدد مأساته كلّ أربع سنوات في انتخابات شكلية تذهب فيها بعض الأسماء وتعود أخرى، وتبقى اللّوحة العامّة كما رسمها الرسّامون وهندسها المهندسون.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

زينب(ع) الشخصية الرسالية

زينب(ع): وليدة العصمة
كانت فاطمة الزهراء(ع) النموذج الأكمل للمرأة المسلمة، إذ عاشت العصمة في عقلها؛ فلم ينطلق عقلها إلا بالحق، وعاشتها في قلبها؛ فلم ينبض إلا بالخير، وعاشتها في حياتها؛ فلم تنطلق حياتها إلا بالقيم الروحية التي ترتفع إلى الله. وكانت(ع) المرأة المثقفة التي وقفت في مسجد رسول الله(ص)، وخطبت خطبتها التي دللت على قوة الموقف، وعلى سعة العلم، وعلى قوة الحجة. ولهذا أضحت تلميذة رسول الله(ص)، ورفيقة عليّ(ع)، فملأت المدينة ـ في زمن رسول الله وبعده أيضاً ـ علماً وروحاً وأخلاقاً وتوجيهاً.

وكانت ابنتها السيدة زينب(ع) مثالاً لأمها، فقد عاشت في أحضان أمها وهي طفلة، وعاشت في أحضان أبيها وهي شابة، وعاشت مع أخويها الحسن والحسين(ع) في كل أسرار الإمامة وانطلاقة العلم، ولذلك كانت تمثل المرأة التي امتلأ عقلها بالعلم، وامتلأت حياتها بالإخلاص لله تعالى والجهاد في سبيله.

ونحن حينما نذكر الأم والبنت، نجد في كل عناصر شخصيتهما القدوة، لا للنساء فحسب، ولكن للرجال والنساء معاً، لأنهما تتحركان من قاعدة الإيمان، وتنفتحان من خلال ثقافة الإسلام. وقد كانت السيدة زينب(ع) تمثل الإنسانة التي يذكر كتّاب سيرتها أنها من أفاضل النساء، وكانت قويةً في حجتها، صلبةً في مواقفها، شجاعةً في مواجهة التحدي.

رفيقة الحسين(ع)
وكانت زينب(ع) رفيقة الحسين(ع)، فامتلأ قلبها بحبّ أخيها، لأن قلبها امتلأ بحبّ الرسالة التي حملها أخوها الحسين(ع)، ولهذا تركت زوجها وابن عمها عبدالله بن جعفر في المدينة، وجاءت مع الإمام الحسين(ع) إلى كربلاء، ومعها ولداها. وكانت إلى جانب الحسين(ع) ترعى كلَّ عياله وكل عيال أصحابه، وكانت هي التي تشرف على علاج ابن أخيها الإمام علي بن الحسين(ع) عندما كان مريضاً في كربلاء، وكانت تجلس إلى الإمام الحسين، تتحدث معه وتسأله عن طبيعة الموقف ومجريات المعركة، وكانت تعيش القلق على حياته، حتى إنها عندما سمعته ينشد شعراً، شعرت بأنه ينعى نفسه، فأخذتها العاطفة، وانطلق الإمام الحسين(ع) يصبّرها ويقوّي موقفها ويوصيها بوصاياه: "إذا أنا هلكت فلا تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي بالويل والثبور"، وكأنه يقول: "لا تشمتي بنا الأعداء".

الإرادة والصبر، لا البكاء والتفجّع
أما الذين يتحدثون من قرّاء العزاء، بأنها ضربت جبينها بمقدَّم المحمل، حتى سال الدم من تحت قناعها، فإنهم لا يتحدثون بالحقيقة، لأن زينب(ع)، منذ كربلاء، تسلّمت القيادة بعد شهادة القائد، وكانت قويةً صلبةً، لم تسقط أمام المأساة، بالرغم من أن المأساة كانت من أصعب ما يمر على الإنسان، ومن أكثر ما يثير الحزن بفعل وحشية الأعداء، ومع ذلك، كانت تشعر بالمسؤولية تجاه عياله وتجاه العليل الإمام زين العابدين(ع) الذي أصبح إمامها بعد شهادة والده. وكانت قويةً أمام الطغاة، فلم تضعف ولم تهن ولم تسقط، وخصوصاً في الكوفة، حيث خطبت خطبتها، وأنّبت فيها الذين تخلّفوا عن نصرة الحسين أو شاركوا في حربه، وتحدثت إليهم بكل قوة، حتى قيل إنّ عيونهم امتلأت بالبكاء.

وعندما وصلت السيدة زينب(ع) إلى الكوفة، وأُحضرت إلى مجلس ابن زياد، قال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أحاديثكم. فقالت زينب(ع): "الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهّرنا تطهيراً، إنما يفضح الله الفاسق ويكذّب الفاجر" ـ كانت تتحداه بكل قوة وعنفوان ـ قال: كيف رأيتِ صنع الله بكم أهل البيت؟ قالت: "كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاكمون عنده"ـ وفي رواية أنها قالت له: "ستحاجّ وتُخاصم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أمُّك يا بن مرجانة" ـ فغضب ابن زياد عليها، وهمّ بها ـ أي همّ بضربها أو قتلها ـ فسكّن منه عمرو بن حريث... فقالت زينب : "يا بن زياد، حسبك ما ارتكبت منا، فلقد قتلت رجالنا، وقطَّعت أصلنا، وأبحت حريمنا، وسبيت نساءنا وذرارينا، فإن كان ذلك للاشتفاء فقد اشتفيت". وكانت(ع) هي التي حمت الإمام زين العابدين(ع) من القتل في مجلس ابن زياد، وهي التي كانت لا تهاب هذا الطاغية، وهي التي كانت القوية بموقفها وتحدته بكل الكلمات القاسية والموقف القويّ.

وينقل كتّاب السيرة الحسينية عن فاطمة بنت علي(ع) أنها قالت: "إن رجلاً من أهل الشام قام إلى يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية... يعنيني، وكنت جاريةً وضيئةً ـ جميلة ـ فأرعبت وفَرِقْتُ، وظننت أنه يفعل ذلك، فأخذت بثياب أختي ـ السيدة زينب ـ وهي أكبر مني وأعقل، فقالت: كذبتَ والله ولعنت، ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد، فقال: بل كذبتِ والله، لو شئتُ لفعلتُه. قالت: لا والله، ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. فقالت: بدين الله ودين أخي وأبي وجدي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلماً. قال: كذبتِ يا عدوّة الله. قالت: "أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانه. فقالت: فكأنه استحيى فسكت".

ونقف مع خطبتها في مجلس يزيد، حيث وقفت فيه وقفة أمها الزهراء(ع) وأبيها عليّ(ع)، وهي التي كانت تستقي من كلام عليّ، وكأن الذي يسمعها يسمع عليّاً(ع) يتحدث. خاطبت يزيد فقالت له: "وسيعلم من سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً، ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى. ألا فالعجب، كل العجب، لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء... ولئن اتّخذْتَنا مغنماً لتجدنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدّمتَ، وما ربّك بظلاّم للعبيد. فإلى الله المشتكى، وعليه المعوَّل. فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تَرْحَضُ ـ تغسل ـ عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة".

القائدة القدوة
ونستوحي من هذا الموقف الزينبي، أن زينب(ع) كانت تملك علماً تستطيع من خلاله أن تتحدث في الموقف عن آيات الله، وأن تنطلق لتوبّخ يزيد ولتعرّف مجتمعه بالسيرة النبوية الشريفة وبالرسالة الإسلامية، ونفهم من ذلك أن السيدة زينب(ع) كانت قوية الشخصية، فلا ترتجف أمام سلطان يزيد ولا أمام قوته وجيشه. كانت كأبيها عليّ(ع) الذي قال: "لو تضافرت العرب على قتالي، لما ولّيت عنها هارباً". كانت ابنة عليّ وأخت الحسين والعباس، وكانت الإنسانة التي تملك قوة الشخصية وعزة النفس، ولذلك لم تقف ذليلةً أمام يزيد وابن زياد، بل كانت تعيش موقف الإنسانة العزيزة في شخصيتها، وقد تمرّدت على كل أساليب الذل الذي أراد يزيد وابن زياد أن يسيطرا بها عليها.

وكانت(ع) في كل مسيرتها تملك الشخصية القيادية، كانت القائدة التي استطاعت أن تكمل حركة الثورة الحسينية، ولو لم تكن زينب لماتت هذه الثورة، ولكن الحسين(ع) ضحّى، وزينب أكملت التضحية، وعرّفت العالم ما معنى ثورة الحسين(ع). ولذلك فإننا عندما نتذكر زينب والحسين، نعرف كيف انطلقت كربلاء بقيادة الرجل المعصوم والمرأة التي ارتفعت وعاشت روحية العصمة، وإن لم تكن واجبة العصمة.

وكانت زينب(ع) الإنسانة الصابرة الصامدة. أمّا الصورة التي ينقلها الكثيرون من قرّاء العزاء، والذين يحاولون أن يصوّروا زينب بأنها ضعيفة مهزومة ذليلة؛ فهي ليست صورة زينب(ع). إن صورتها هي صورة الإنسانة القوية الصامدة الصابرة المتحدية.

ونحن حينما نتذكّرها، فإنّ علينا أن نجعلها القدوة التي نقتدي بها في مواقف القوة أمام الطغاة والظالمين، وأن لا نضعف أو نهون أو نسقط. وهذا ما يجعلنا نفهم أن المرأة المسلمة عندما تعيش روحيتها وقوتها الإسلامية، فإنها تستطيع أن تنتصر على الرجال في أقوى المواقف، كما يمكنها أن تسدّ نقاط الضعف في المسيرة.

والسلام على سيدتنا زينب(ع) يوم وُلدت، ويوم انتقلت إلى رحاب الله، ويوم تبعث حيّةً.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

أمريكا وإسرائيل: الارتباط الأبدي
تتكشّف اللّعبة الأمريكيّة الجديدة في المنطقة عموماً يوماً بعد يوم، ويبرز الوجه الحقيقي للإدارة الأمريكية التي أعلنت على لسان رئيسها، أنّ الرابط بينها وبين إسرائيل "غير قابل للانفصام إلى الأبد"... ويتّضح أنّ الثابت الوحيد في حركة السياسة الأمريكية الاستكباريّة، أنّها تبيع العرب والمسلمين كلاماً، وتعطي إسرائيل المواقف والدعم العملي؛ ليتبيّن ـ بالتالي ـ أنّ اللقاءات الإسرائيلية ـ الأمريكية الأخيرة، وزيارات المبعوثين الأمريكيين إلى المنطقة، تكاد تتركّز على الإجراءات الشكلية، وعلى عملية الإخراج التي تجعل التطبيع العربي ـ الإسرائيلي أمراً واقعاً، بحيث يتحوّل إلى ورقة ضاغطة على الفلسطينيين لإنهاء القضيّة كلّها، وذلك في مقابل بضع كلماتٍ من العدوّ تتحدّث عن تجميد الاستيطان، الذي يُراد له أن يكون هو القضيّة بعيداً عن مسألة اللاجئين والقدس وغيرها.

إسرائيل والعرب: تجاوز الخطوط الحمر
لقد أعلن وزير خارجيّة العدوّ قبل أيّام، أنّ "الخطوط الحمر" التي وضعتها الحكومة الصهيونيّة لا تزال على ما هي عليه، فيما يخصّ القدس وعودة اللاجئين واستمرار الاستيطان، وغيرها، ومع ذلك فإنّ الإشارات التي انطلقت من أكثر من موقع عربي بفتح الأجواء والبحار والقنوات المائية وغيرها أمام العدوّ، توحي بأنّ العرب ـ على مستوى الأنظمة ـ قد قرّروا الذهاب إلى ما هو أبعد من التّطبيع، وأبعد من المصافحة؛ لأنّهم يفكرون في الانفتاح على العدوّ وتسهيل أمره في فتح جبهة جديدة ضدّ عدوّ مفترض في الشرق.

إنّ الإدارة الأمريكيّة التي كانت ـ بطريقة وبأخرى ـ شريكةً فيما حصل من أحداث داخل إيران، والتي كانت تنتظر تحوّلاً في المشهد الإيراني يدفع الأمور إلى الهدف الذي خطّطت له على مستوى المنطقة، كشفت عن وجهها الجديد مع انجلاء الصورة في إيران، وأوعزت إلى العدوّ أن يطلق تهديداته لها، وطلبت من بعض الأنظمة العربيّة أن تكون الواسطة الميدانيّة والعمليّة لإيصال الرسالة الإسرائيلية في حركة الطائرات والغوّاصات التي تُفتَح أمامها الأجواءُ والمساراتُ المائية، وأوحت إلى إيران بأنّ الحوار القادم سيكون مفتوحاً على التطوّرات، وعلى هدير آلة الحرب الإسرائيلية والأمريكية والغربية...

أمريكا والغزو المستمر
إنّ على شعوبنا أن تعرف أن أمريكا لم تخرج من مشروع الحرب حتى تدخل في مشروع السّلام، ولم تخرج من وهم إعادة تشكيل المنطقة على صورتها وصورة حليفها الإسرائيلي حتى تمدّ يداً توحي بالمحبة واحترام حرية شعوبنا في تقرير مصيرها، وهي في الوقت الذي ترهق جنودها في أفغانستان وسط حرارة الصيف الملتهبة، تتطلّع إلى طموحاتها الإمبراطورية التي تجد في المنطقة العربية والإسلامية ملاذها ومستودعها، وتنظر إلى شعوبنا بعيون إسرائيلية حاقدة تتلهّف لاستباحة ما تبقّى من قواعد ومواقع شعبية واستراتيجية عصيّة عليها.

ولكنّ المشكلة الكبرى تكمن في أولئك الذين مهّدوا السبيل لأمريكا وإسرائيل في اجتياح بلادنا، وهم يتيحون الفرصة لها مجدّداً لنهب ثروات الأمّة ومصادرة قرارها... إنّ هذه الأنظمة التي تمثّل وديعةً أمريكيّةً في قلب الأمّة، تهرول إلى التطبيع في هذه الأّيام، إلى المستوى الذي نشهد فيه زيارات لمسؤولين من إحدى الدول الخليجية إلى كيان العدوّ، بحجّة العمل على إطلاق سراح مواطنيهم الذين كانوا على متن سفينة سعت إلى كسر الحصار عن غزّة، في مشهدٍ يوحي بالغرابة والتناقض، بين شعوبٍ عربيةٍ تسعى لفك الحصار عن إخوتها في فلسطين المحتلّة، وأنظمةٍ تهرول باتّجاه عدوّها ليضع قيد الاستعباد في معصمها، وهي ترهن مستقبلها لحساب الغاصب والمستكبر.

الصين: العلاقة الملتبسة مع المسلمين
ووسط كلّ هذه المآسي والآلام التي تصيب الأمّة، تأتي الصرخة في هذه الأيّام من الصين، والذي سقط في بعض أقاليمها ما يزيد على الألف بين قتيل وجريح غالبيّتهم من المسلمين، وقد ألقت السلطات الصينيّة باللائمة على شخصيّات صينيّة مسلمة مقيمة في الولايات المتّحدة الأمريكية، وقالت إنّها كانت السبب فيما حصل من خلال ما أسمته "تحريضها على أعمال الشغب عبر الاتصالات الهاتفية والدعاية عبر مواقع الإنترنت".

ونحن في الوقت الذي نريد للمسلمين في كل مواقعهم في العالم أن يخلصوا الانتماء لأوطانهم، وأن يكونوا سفراء طيّبين في أيّ موقع حلّوا فيه، نرفض استخدامهم كورقة في لعبة الأمم، ونستنكر التعرّض لهم بالأساليب العنفية الحادّة التي تكاد مشاهدها تختفي في كلّ العالم، ولكنّها تبرز واضحةً جليّةً في المواقع أو الأقطار الإسلامية.

إنّنا نؤكّد العلاقة المتينة كشعوب وكدول عربية وإسلامية مع الشّعب الصيني والدولة الصينية، التي نعتقد أنّ لها مصالح في بلادنا ولنا مصالح عندها، ولكنّنا نريد منها تفسيراً لما حدث، وتوضيحاً لكلّ الملابسات، فلا يكفي إلقاء اللائمة على الآخرين الذين قد يتحمّلون مسؤوليةً في ذلك؛ لأنّنا أمام مشهدٍ مرعبٍ سالت فيه الدماء أنهاراً، ونخشى أن تتطوّر فيه الأمور بما يسيء إلى الأقلية المسلمة في الصين، أو إلى الدولة والشعب الصينيين، وهو ما نرفضه جملةً وتفصيلاً، ونريد لكلّ المعنيين أن يتعاونوا لإخماد نيران هذا الحريق الذي اشتعل في الشارع والتهب في النفوس.

الوضع اللبناني: أزمة محاور
ونصل إلى لبنان، إلى البلد الذي ترتفع فيه أسهم التفاؤل وتنخفض كما ترتفع أسهم البورصة وتنخفض ، في الوقت الذي أكّدت اللّقاءات والمشاورات العربية ـ العربية، والمداخلات الدوليّة التي واكبتها على خطّ تأليف الحكومة والملفّات الأخرى المطروحة للحلّ على هامشها، أنّ هذا "اللّبنان" لا يملك من أمره شيئاً فيما هي التشكيلة السياسية التي يُراد لها أن تقود البلد رسمياً، ومع ذلك، فإن المواقع النيابية والوزارية والرسمية عموماً تحدّثك عن الديمقراطية اللبنانية الفريدة، وتتلو عليك نصوصاً من الدستور تكاد تحسبها إنجيلاً أو قرآناً، ولا نجد أحداً ينظر إلى كلّ حالات الوصاية والمحاور الدولية والإقليمية، التي تتدخّل في تفاصيل المسألة الحكومية أو حتى في التسميات الوزارية والنيابية، نظرة استغراب واستهجان، وكأنّ المسألة أصبحت التزاماً لبنانياً داخلياً ينبغي الوفاء به لكلّ أولئك الذين يشرفون على البلد من بعيد أو قريب.

إنّ لسان حال الجميع يقول: ممنوع أن يتحوّل لبنان إلى وطن، وممنوع أن تنطلق في ربوعه دولة، ولا سبيل أمام اللّبنانيين إلا بالتسليم للآخرين بلبنان المزرعة، أو لبنان الكرة التي تمثّل كتلاً مذهبيةً وطائفيةً وحزبيةً تتقاذفها الأقدام الدولية والإقليمية في كلّ الاتجاهات.

لقد استعبد هؤلاء الشّعب اللبناني، واستعبد الشعب نفسه عندما ارتضى بأن يجدد مأساته كلّ أربع سنوات في انتخابات شكلية تذهب فيها بعض الأسماء وتعود أخرى، وتبقى اللّوحة العامّة كما رسمها الرسّامون وهندسها المهندسون.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية