ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
أهل البيت (ع) قمة في العلم والحركية والقيم
الولادات الشّعبانية
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33].
في بداية هذا الشّهر، شهر شعبان، عدّة ذكريات: ذكرى مولد الإمام الحسين(ع) في الثالث منه، وذكرى ولادة أبي الفضل العباس(ع) في الرابع منه، وذكرى ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في الخامس منه.
وعندما نعيش هذه الذّكريات، فإنّما نعيش الإسلام كلّه في كلّ قيمه ومعانيه، وكلّ حركته وكلّ أسرار التّضحية التي تمثّلت في كلّ واحد من هؤلاء الذين أغنوا الواقع الإسلاميّ بالأسرار التي أفاضت على التّاريخ الكثير من العلم والروحانيّة، والكثير من الحركيّة والقيم.
الحسين(ع) ربيب النبوّة والإمامة
فالحسين(ع)، الذي كان حبيب رسول الله(ص)، وكان حبيب فاطمة الزّهراء(ع)، وكان وأخاه سيّدَيْ شباب أهل الجنّة، انطلق مع جدّه ليعيش في طفولته أنفاسه، ولينفتح على كلّ عاطفته ومحبّته ورعايته، كما عاش مع أمّه السيّدة الطّاهرة المعصومة التي عاشت مع الله منذ طفولتها، وعاشت مع رسول الله(ص) بعض شبابها، وتعلّمت منه وتخلّقت بأخلاقه، حتى إنّ رسول الله دخل في عقل الزّهراء(ع) وقلبها وامتدّ في حياتها، فكانت الإنسانة التي اختزنت في كلّ شخصيّتها معنى رسول الله(ص)، وكانت علاقتها به وعلاقته بها عميقةً للغاية، بفعل عطائها المتدفّق من قلبها ومشاعرها وأحاسيسها، ما جعله يشعر بأمومة جديدة في ابنته، حتى قال عنها إنّها أمّ أبيها، لأنّها عوّضت أباها عاطفة الأمّ التي فقدها منذ طفولته الأولى.
إذاً، عاش الحسين(ع) مع أمّه، هو وأخوه، وامتدّت حياته مع أبيه عليّ(ع)، وعاش كلّ قيم أبيه الّذي علّمه أسرار الرّوحانية والمحبّة لله، وكذلك عاش كلّ آلام أبيه. وكان عليّ(ع) الإنسان الذي عاش مع الحقّ، فلم يترك له الحقّ صديقاً، واستطاع أن يعمل بكلّ ما عنده من طاقة في سبيل أن يجسّد الإسلام حتّى في الظروف الصّعبة؛ لأنّه كان يريد أن يؤكّد السياسة الإسلامية التي ترفع مستوى النّاس وتحلّ مشاكلهم. وكان الحسين(ع) يعيش كلّ هذا الجو، فعاش شجاعة أبيه وروحانيّته وقوّة موقفه في الدّفاع عن الإسلام، حتّى انطبعت شخصيّته بشخصيّة أبيه(عليهما السّلام).
ولذلك، فإن حركة الحسين(ع) كانت حركة الإمامة في موقعه، ولم تكن حركةً ذاتيّةً أو شخصيّةً، ولم يكن(ع) طالب سلطان، ولكنّه كان إماماً يشعر بأنّ الإمامة تفرض عليه الامتداد في كلّ قضايا النّاس، ليمنحهم القيمة العليا في روحانيّتها وحركيّتها وكلّ المواقع التي ترتفع بمستواهم. ولذلك أراد الحسين(ع) للحاكم الإسلاميّ أن يجسّد الإسلام في عقله ليكون خيراً كلّه، وفي قلبه ليكون الخيرَ كلّه، وأن يجسّد العدل في حياته لتكون حياته عدلاً كلّها، بحيث يعيش آلام النّاس ومشاكلهم، وليجعل الحياة كلّها صلاحاً وإصلاحاً: "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..."، ولم يكن الحسين(ع) إنسان العنف، بل كان إنسان الرّفق: "فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين".
وانطلق الحسين(ع) ليكون إنسان الحوار مع خصومه وأعدائه الذين تغلغلت الدّنيا في عقولهم، فكانت قلوبهم معه ولكنّ سيوفهم عليه، فكان يقف أمامهم بين وقت وآخر ليرشدهم ويبصّرهم الحقيقة كلّها، ولكنّ الدّنيا شغلتهم وراقهم زبرجها... حتّى إذا أرادوا منه أن يقرّ بشرعيّة حكم يزيد وابن زياد ، وينزل على حكمهم؛ انتفض(ع) انتفاضة الإنسان الذي انطلق الحقّ في كل كيانه، وبكلّ مسؤوليّة قال لهم: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام". وقال لهم بكلّ شجاعة وقوّةٍ في الموقف: "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ـ فالعزّة لله ولرسوله وللمؤمنين ـ ولا أقرّ إقرار العبيد"، لأنّني أعيش الحرّيّة التي منحها الله للإنسان، وقد رفض له أن يذلّ نفسه.
وانطلق(ع) بكلّ شجاعته، وهو الذي ورث شجاعة أبيه، ولذلك صاح ابن سعد بجيشه: "أتدرون من تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب". وانطلقوا بآلافهم ليقاتلوه وحيداً، فكان(ع) أمّةً في موقفه حين واجههم، حتى قال بعضهم: "والله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل أهله وولده أربط جأشاً وأقوى عزيمةً منه، وإنّ الرجّالة كانت لتشدّ عليه فيشدّ عليها، فينكشفون من بين يديه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب".
وكان(ع) مثال الإمامة المسؤولة، والرّسالة المتحدّية، والشّجاعة الصّابرة، وهو وإن قُتل في تلك المرحلة، إلا أنّه بقي حيّاً في الأمّة، ليكون ثورةً في كلّ جيل، وحركةً في كلّ موقع من مواقع مواجهة الاستكبار.
العبّاس: تجلّي الإيمان والجهاد
وكان مع الحسين(ع) أخوه العباس بن عليّ(ع)، ليكون للحسين كما كان أبوه عليّ لرسول الله(ص). يقول الذين كتبوا عنه: "كان العبّاس رجلاً شجاعاً، وسيماً، جميلاً، فارساً، يركب الفرس المطهّم، ورجلاه تخطّان الأرض، وكان لواء الحسين بن عليّ(ع) بيده يوم قُتل". وعن الإمام الصّادق(ع): "كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة ـ كانت بصيرته بصيرة العارفين الذي يعرفون الأمور في أعماقها، كان عالماً قبل أن يكون شجاعاً، وكان يمثل العقل الذي يتحرّك بالحقّ كلّه والحقيقة كلّها ـ صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً". وعن الإمام زين العابدين(ع): "رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه".
ولذلك، علينا أن نتصوّر هذه الشّخصيّة الرّساليّة الإيمانيّة للعبّاس قبل أن نتصوّر جهاده، لأنّ جهاده انطلق من رسالته، ولأنّ تضحيته انطلقت من دينه؛ وبذلك يكون العبّاس قدوةً للمقاومين والمجاهدين، وقدوةً للّذين يحملون الرسالة ويواجهون كلّ أعدائها.
الإمام زين العابدين: تجسيدٌ للموقف الحقّ
أمّا الإمام علي بن الحسين(ع)، فيُروى عن الزّهري أنه قال: "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه". وقال الإمام الشافعي: إنّه "أفقه أهل المدينة". وقد استطاع أن يعلّم أساتذة العالم الإسلامي آنذاك، فهو أستاذ كلّ المرحلة التي عاشها، لأنّه كان يستقبلهم ويعطيهم من علمه علماً، ومن خشيته لله خشيةً، ومن ورعه ورعاً.
وعن سفيان بن عُيينة قال: "قلت للزّهري: ألقيت علي بن الحسين؟ قال: نعم، لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أرَ أحداً، وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً، وإن كان يبغضه، إلا وهو لشدّة مداراته يداريه".
عاش الإمام زين العابدين(ع) مأساة كربلاء بكلّ تفاصيلها وكان الصابر. وهو الّذي كان يجلس إليه أبوه الحسين (ع) بين وقتٍٍ وآخر، يعدّه ليكون خليفته من بعده، وليتسلّم شؤون الإمامة. عاش(ع) آلام السّبي، ووقف أمام ابن زياد ويزيد بكلّ شجاعة وقوّة، حتى أسكتهما. ثم انطلق(ع) لتكون إمامته حركةً متنوّعة الأبعاد، فلم يكن مجرّد عابدٍ يعبد الله في اللّيل والنّهار، ولكنّه كان يعلّم الناس ويرشدهم، ولذلك كانت أدعيته أدعيةً ثقافيةً تعبّر تعبيراً عميقاً عن كلّ قيم الإسلام.
كان عليّ بن الحسين(ع) يعيش ليله ونهاره مشغولاً بالإسلام كلّه، يغرس في نفوس المجتمع الإسلاميّ الروحانيّة التي تربطه بالله، وبخوف الله، وبمحبّة الله، وبالجهاد في سبيل الله. واستطاع أن يجعل كلّ حياته مليئةً بالجهاد في مواقع الدّعوة الإسلاميّة؛ كان كرسول الله وكأبيه الحسين وجدّه عليّ، ينطلق من موقع المسؤوليّة.
أئمّة أهل البيت(ع): رموز هداية
إنّ هؤلاء هم أئمّتنا، هم قادتنا، هم هدانا، هم الذين نواليهم من كلّ عقولنا موالاة العقل والقلب والحياة. ليست المسألة بيننا وبين أهل البيت(ع) مسألةً عاطفيةً، ولكنّها مسألة إماميّة إسلاميّة مسؤولة. إنّ أهل البيت لا يريدون منّا أن نحبّهم حبّاً شخصياً، بل أن نحبّهم حبّاً رسالياً. أمّا قضية بكاء الإمام زين العابدين(ع)، فإنّه كان يريد أن يثير قضيّة الحسين لتعيش في وجدان كلّ النّاس، لا من ناحية قرابته له، بل من ناحية أنّه يرى في الحسين الإمام الذي ورث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد في الدّعوة إلى الله والإخلاص إليه.
هؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
نسأل الله تعالى أن يشفّعهم فينا، ويحشرنا معهم في الآخرة. والسّلام عليهم يوم وُلدوا ويوم توفّوا ويوم يبعثون أحياء.
الخطبة السياسيّة
تهويد فلسطين
في حمأة الزّيارات المتوالية للوزراء والمسؤولين والمبعوثين الأمريكيين إلى الكيان الغاصب، يواصل العدوّ زحفه الاستيطاني المدروس، فقد بدأت الهجرة اليهوديّة من الأراضي الفلسطينية المحتلّة في العام 1948 إلى تلك المحتلة في العام 1967، للاستيطان هناك وفق ما يسمّونه "الهجرة الأيديولوجية" التي تتوالى فيها عمليّات القضم التدريجيّ للقدس والضفّة الغربية، فيما تقف الأمم المتّحدة، في الذكرى الخامسة لصدور قرار محكمة العدل الدولية حيال جدار الفصل، والذي قالت إنّه يتعارض مع القانون الدولي، متفرّجةً وصامتةً حيال ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من ظلم وقهر واضطهاد، فيما يواصل العدوّ بناءه للجدار، ويقدّم فرصة أخرى إلى المستوطنين للهجوم على بيوت الفلسطينيين لطردهم منها، كما حصل في القدس مؤخّراً.
أمّا الإدارة الأمريكيّة التي تلوّح للعرب بخيار التّسوية، في سياق خديعةٍ رسمت تفاصيلها بدقّة مع حكومة العدوّ، فقد أذعنت لفكرة أنّ "الاستيطان لا يمكن أن يتوقّف"، كما قال أحد الوزراء الصّهاينة، ولذلك، فهي تعكف على بدء المرحلة الثانية من مراحل خطّتها الجهنميّة، والّتي تتّفق فيها مع العدوّ على تجميد مؤقّت للاستيطان يهلّل له العرب وتصفّق له دول الاتحاد الأوروبي، وتبدأ بعدها مرحلة التطبيع الفعلي التي يُشارك فيها رئيس حكومة العدوّ ورئيس الكيان بالذهاب إلى مبنى سفارة عربيّة جديدة في كيانه، ليقطع قالب الحلوى في ذكرى ثورة أُريد تدنيسها، أو في يوم وطنيّ أُريد له أن يتحوّل إلى يوم تتجسّد فيه كلّ معاني التبعيّة والظّلم والاغتصاب.
إنّنا نحذّر المسلمين جميعاً، ولا سيّما الفلسطينيين، من أنّ العدوّ يتصرّف وكأنّ هذه المرحلة تمثل المرحلة المثالية له لكي يقضي نهائياً على القضيّة كلّها، ويجرّد الفلسطينيّين من حقوقهم الأساسية في مسألة الدولة وحقّ العودة، وكذلك في مسألة القدس التي استباح العدوّ فيها كلّ شيء، من دون أن تنطلق صرخة عربية وإسلامية ذات فاعليّة وتأثير.
أيّها الفلسطينيّون، لقد اجتمعت أمم الأرض عليكم، وغدر بكم أقرب الناس إليكم، وكادت المرجعيات التي تحمل عناوين الإفتاء والمفاتيح الرسمية للحلال والحرام أن تصرّح علناً بالتنازل عن قدس الأقداس، وعن الأقصى الشّريف، ولم يبقَ أمامكم إلا أن تستعيدوا وحدتكم، وتنتصروا على الذات، وتعودوا إلى خطّ المواجهة الحقيقية مع العدوّ، لأنّ العالم لم ولن يرفّ له جفن أمام كلّ مآسيكم، وهو العالم الذي غطّى كلّ مسيرة الاغتصاب للأرض والمقدّسات منذ أكثر من نصف قرنٍ، ولا يزال يتحرّك في الاتّجاه نفسه.
الإدارة الأمريكيّة الجديدة نحو سياسة قديمة
أمّا الإدارة الأمريكية التي تستعيد شيئاً فشيئاً صورتها السابقة في عهد بوش، فنجدها لا تزال تتعامل مع الملفّ النوويّ الإيراني في سياق ما يفرضه الاحتضان الدائم للكيان الإسرائيلي الغاصب الذي يضرب بعرض الجدار كلّ الأعراف والقوانين الدوليّة، ولا سيّما المتعلّقة بامتلاك السلاح النوويّ، ونسمع تصريحات وزير الدفاع الأمريكي وهو يضرب لإيران موعداً، أقصاه الخريف المقبل، للدخول في حوار، مع أنّ رئيسه كان قد طرح قبل أشهر عنوان التخلّص من كلّ السّلاح النوويّ في العالم، وبالتالي كان عليه أن يطلب من المسؤولين الصّهاينة الاستجابة لهذا الطرح، إذا كانت إدارته جادّةً في معالجة ملفّ عالمي شائك يُراد له أن يتحوّل إلى قيدٍ يهدّد سيادة دولة أظهرت كلّ الدراسات الدولية أنّها لم تخرج قيد أنملة عن الشروط التي حدّدتها الوكالة الدولية للطاقة، في مسألة استثمار الطاقة النوويّة لأغراض سلميّة.
إنّنا نقول للأمريكيين الذين يأتون إلى القدس المحتلّة زرافاتٍ ووحداناً لطمأنة العدوّ، ولحثّ العرب "على اتّخاذ خطوات جوهرية في اتجاه التطبيع مع إسرائيل"، على حدّ تعبير المبعوث الأمريكي إلى المنطقة، إنّنا نقول لهم: لقد أوشكتم، وفي فترة زمنيّة محدودة، أن تُسقطوا كلّ الأهداف التي حاول رئيسكم أن يحصدها في خطاباته المدروسة والمحسوبة للعالم العربيّ والإسلاميّ، كما أوشكتم على رفع منسوب الكراهية لإدارتكم إلى أعلى المستويات، تماماً كما تدنّت شعبيّة رئيسكم في بلادكم إلى أدنى المستويات في فترة زمنيّة قياسيّة مما لم يحدث لبوش نفسه، ولذلك عليكم أن تبحثوا عن وسائل أخرى للحوار مع دول المنطقة وشعوبها، بعد استخدامكم الفاشل لكلّ أساليب الحصار والمقاطعة وفرض العقوبات، وصولاً إلى الحروب التي أحرقت أيديكم.
اليمن: أزمة التدخّلات
وإلى جانب ذلك كلّه، نشعر بالخطورة حيال تطوّر الأوضاع في اليمن، ونخشى من أن يكون اليمن قد دخل في دوّامةٍ من الفوضى والعنف، بفعل أسباب داخليّة وتدخّلات خارجيّة تريد للبلد أن يعيش الاهتزاز الأمنيّ إلى جانب الاهتزاز السياسيّ، بما يفسح في المجال لتطوّرات جديدة خطيرة تدخله في متاهات المجهول.
إنّنا نريد لجميع مكوّنات الشّعب اليمنيّ العزيز أن تعمل على استقرار البلد ووحدته، وأن تنبذ كلّ دعوة للانفصال والتقسيم، كما نريد للدولة أن تنفتح على الحركة المطلبيّة بما يعيد الأوضاع إلى جادة الهدوء والاستقرار، ويعيد اليمن سعيداً بطوائفه ومذاهبه وفئاته المتعدّدة.
نيجيريا.. أحداث بغيضة
أمّا نيجيريا التي غرقت في بحر من الدّماء بفعل جهات متعصّبة لا تخلص للإسلام أو للمسيحيّة، فإنّ جميع المسؤولين، بمن فيهم علماء الدين، مدعوّون إلى تطويق هؤلاء وقطع الطريق على أعمالهم الإجراميّة التي أكّدت أنّ هؤلاء لا يحترمون الإنسان ولا يحملون قيم الرسالات والأديان.
لبنان: دعوة إلى التّعاون والوحدة
أمّا في لبنان، فإنّنا نؤكّد أنّ على اللّبنانيّين الذين يحاولون أن تكون حكومتهم المقبلة حكومة وحدة وطنيّة، أن يعملوا على إزالة كلّ العوائق التي نصبها ولا يزال ينصبها اللاعبون الدوليّون والإقليميّون أمام وحدتهم الحقيقيّة، ولا سيّما تجاه قضاياهم الكبرى والتحدّيات المقبلة والمصيريّة، بحيث لا تكون الوحدة الوطنيّة في الحكومة المقبلة حالةً انتقاليّةً نحو انتكاسات جديدة، بل انعكاساً للإرادة الحقيقيّة لدى المسؤولين في الارتفاع إلى مستوى تطلّعات الشّعب اللّبناني كلّه، في الانتقال بلبنان من حال الفرقة إلى التلاقي، ومن حال المناكفات إلى التعاون، ومن حال التمزّق إلى الوحدة، لقطع الطّريق على كلّ الذين يحاولون أن يحرّكوا اللّعبة لإدخال البلد مجدّداً في الاهتزازات الأمنيّة والكهوف السياسيّة والفتن المذهبيّة والطائفيّة.
أيّها اللّبنانيّون، لقد جرّبتم تقديس كلّ اللامقدّس في بلدكم، حتّى جعلتم من أطركم الحزبيّة والطائفيّة والمذهبيّة أصناماً تعبدونها، فلماذا لا تجرّبون ـ ولو لمرّة واحدة ـ أن تقدّسوا إنسان هذا البلد، في عزّته وكرامته وحرّيته المسؤولة واستقلاليّة إرادته، وتأكيد القيم الروحيّة والأخلاقيّة في كلّ مفردات الحياة.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
أهل البيت (ع) قمة في العلم والحركية والقيم
الولادات الشّعبانية
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33].
في بداية هذا الشّهر، شهر شعبان، عدّة ذكريات: ذكرى مولد الإمام الحسين(ع) في الثالث منه، وذكرى ولادة أبي الفضل العباس(ع) في الرابع منه، وذكرى ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في الخامس منه.
وعندما نعيش هذه الذّكريات، فإنّما نعيش الإسلام كلّه في كلّ قيمه ومعانيه، وكلّ حركته وكلّ أسرار التّضحية التي تمثّلت في كلّ واحد من هؤلاء الذين أغنوا الواقع الإسلاميّ بالأسرار التي أفاضت على التّاريخ الكثير من العلم والروحانيّة، والكثير من الحركيّة والقيم.
الحسين(ع) ربيب النبوّة والإمامة
فالحسين(ع)، الذي كان حبيب رسول الله(ص)، وكان حبيب فاطمة الزّهراء(ع)، وكان وأخاه سيّدَيْ شباب أهل الجنّة، انطلق مع جدّه ليعيش في طفولته أنفاسه، ولينفتح على كلّ عاطفته ومحبّته ورعايته، كما عاش مع أمّه السيّدة الطّاهرة المعصومة التي عاشت مع الله منذ طفولتها، وعاشت مع رسول الله(ص) بعض شبابها، وتعلّمت منه وتخلّقت بأخلاقه، حتى إنّ رسول الله دخل في عقل الزّهراء(ع) وقلبها وامتدّ في حياتها، فكانت الإنسانة التي اختزنت في كلّ شخصيّتها معنى رسول الله(ص)، وكانت علاقتها به وعلاقته بها عميقةً للغاية، بفعل عطائها المتدفّق من قلبها ومشاعرها وأحاسيسها، ما جعله يشعر بأمومة جديدة في ابنته، حتى قال عنها إنّها أمّ أبيها، لأنّها عوّضت أباها عاطفة الأمّ التي فقدها منذ طفولته الأولى.
إذاً، عاش الحسين(ع) مع أمّه، هو وأخوه، وامتدّت حياته مع أبيه عليّ(ع)، وعاش كلّ قيم أبيه الّذي علّمه أسرار الرّوحانية والمحبّة لله، وكذلك عاش كلّ آلام أبيه. وكان عليّ(ع) الإنسان الذي عاش مع الحقّ، فلم يترك له الحقّ صديقاً، واستطاع أن يعمل بكلّ ما عنده من طاقة في سبيل أن يجسّد الإسلام حتّى في الظروف الصّعبة؛ لأنّه كان يريد أن يؤكّد السياسة الإسلامية التي ترفع مستوى النّاس وتحلّ مشاكلهم. وكان الحسين(ع) يعيش كلّ هذا الجو، فعاش شجاعة أبيه وروحانيّته وقوّة موقفه في الدّفاع عن الإسلام، حتّى انطبعت شخصيّته بشخصيّة أبيه(عليهما السّلام).
ولذلك، فإن حركة الحسين(ع) كانت حركة الإمامة في موقعه، ولم تكن حركةً ذاتيّةً أو شخصيّةً، ولم يكن(ع) طالب سلطان، ولكنّه كان إماماً يشعر بأنّ الإمامة تفرض عليه الامتداد في كلّ قضايا النّاس، ليمنحهم القيمة العليا في روحانيّتها وحركيّتها وكلّ المواقع التي ترتفع بمستواهم. ولذلك أراد الحسين(ع) للحاكم الإسلاميّ أن يجسّد الإسلام في عقله ليكون خيراً كلّه، وفي قلبه ليكون الخيرَ كلّه، وأن يجسّد العدل في حياته لتكون حياته عدلاً كلّها، بحيث يعيش آلام النّاس ومشاكلهم، وليجعل الحياة كلّها صلاحاً وإصلاحاً: "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..."، ولم يكن الحسين(ع) إنسان العنف، بل كان إنسان الرّفق: "فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين".
وانطلق الحسين(ع) ليكون إنسان الحوار مع خصومه وأعدائه الذين تغلغلت الدّنيا في عقولهم، فكانت قلوبهم معه ولكنّ سيوفهم عليه، فكان يقف أمامهم بين وقت وآخر ليرشدهم ويبصّرهم الحقيقة كلّها، ولكنّ الدّنيا شغلتهم وراقهم زبرجها... حتّى إذا أرادوا منه أن يقرّ بشرعيّة حكم يزيد وابن زياد ، وينزل على حكمهم؛ انتفض(ع) انتفاضة الإنسان الذي انطلق الحقّ في كل كيانه، وبكلّ مسؤوليّة قال لهم: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام". وقال لهم بكلّ شجاعة وقوّةٍ في الموقف: "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ـ فالعزّة لله ولرسوله وللمؤمنين ـ ولا أقرّ إقرار العبيد"، لأنّني أعيش الحرّيّة التي منحها الله للإنسان، وقد رفض له أن يذلّ نفسه.
وانطلق(ع) بكلّ شجاعته، وهو الذي ورث شجاعة أبيه، ولذلك صاح ابن سعد بجيشه: "أتدرون من تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب". وانطلقوا بآلافهم ليقاتلوه وحيداً، فكان(ع) أمّةً في موقفه حين واجههم، حتى قال بعضهم: "والله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل أهله وولده أربط جأشاً وأقوى عزيمةً منه، وإنّ الرجّالة كانت لتشدّ عليه فيشدّ عليها، فينكشفون من بين يديه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب".
وكان(ع) مثال الإمامة المسؤولة، والرّسالة المتحدّية، والشّجاعة الصّابرة، وهو وإن قُتل في تلك المرحلة، إلا أنّه بقي حيّاً في الأمّة، ليكون ثورةً في كلّ جيل، وحركةً في كلّ موقع من مواقع مواجهة الاستكبار.
العبّاس: تجلّي الإيمان والجهاد
وكان مع الحسين(ع) أخوه العباس بن عليّ(ع)، ليكون للحسين كما كان أبوه عليّ لرسول الله(ص). يقول الذين كتبوا عنه: "كان العبّاس رجلاً شجاعاً، وسيماً، جميلاً، فارساً، يركب الفرس المطهّم، ورجلاه تخطّان الأرض، وكان لواء الحسين بن عليّ(ع) بيده يوم قُتل". وعن الإمام الصّادق(ع): "كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة ـ كانت بصيرته بصيرة العارفين الذي يعرفون الأمور في أعماقها، كان عالماً قبل أن يكون شجاعاً، وكان يمثل العقل الذي يتحرّك بالحقّ كلّه والحقيقة كلّها ـ صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً". وعن الإمام زين العابدين(ع): "رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه".
ولذلك، علينا أن نتصوّر هذه الشّخصيّة الرّساليّة الإيمانيّة للعبّاس قبل أن نتصوّر جهاده، لأنّ جهاده انطلق من رسالته، ولأنّ تضحيته انطلقت من دينه؛ وبذلك يكون العبّاس قدوةً للمقاومين والمجاهدين، وقدوةً للّذين يحملون الرسالة ويواجهون كلّ أعدائها.
الإمام زين العابدين: تجسيدٌ للموقف الحقّ
أمّا الإمام علي بن الحسين(ع)، فيُروى عن الزّهري أنه قال: "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه". وقال الإمام الشافعي: إنّه "أفقه أهل المدينة". وقد استطاع أن يعلّم أساتذة العالم الإسلامي آنذاك، فهو أستاذ كلّ المرحلة التي عاشها، لأنّه كان يستقبلهم ويعطيهم من علمه علماً، ومن خشيته لله خشيةً، ومن ورعه ورعاً.
وعن سفيان بن عُيينة قال: "قلت للزّهري: ألقيت علي بن الحسين؟ قال: نعم، لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أرَ أحداً، وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً، وإن كان يبغضه، إلا وهو لشدّة مداراته يداريه".
عاش الإمام زين العابدين(ع) مأساة كربلاء بكلّ تفاصيلها وكان الصابر. وهو الّذي كان يجلس إليه أبوه الحسين (ع) بين وقتٍٍ وآخر، يعدّه ليكون خليفته من بعده، وليتسلّم شؤون الإمامة. عاش(ع) آلام السّبي، ووقف أمام ابن زياد ويزيد بكلّ شجاعة وقوّة، حتى أسكتهما. ثم انطلق(ع) لتكون إمامته حركةً متنوّعة الأبعاد، فلم يكن مجرّد عابدٍ يعبد الله في اللّيل والنّهار، ولكنّه كان يعلّم الناس ويرشدهم، ولذلك كانت أدعيته أدعيةً ثقافيةً تعبّر تعبيراً عميقاً عن كلّ قيم الإسلام.
كان عليّ بن الحسين(ع) يعيش ليله ونهاره مشغولاً بالإسلام كلّه، يغرس في نفوس المجتمع الإسلاميّ الروحانيّة التي تربطه بالله، وبخوف الله، وبمحبّة الله، وبالجهاد في سبيل الله. واستطاع أن يجعل كلّ حياته مليئةً بالجهاد في مواقع الدّعوة الإسلاميّة؛ كان كرسول الله وكأبيه الحسين وجدّه عليّ، ينطلق من موقع المسؤوليّة.
أئمّة أهل البيت(ع): رموز هداية
إنّ هؤلاء هم أئمّتنا، هم قادتنا، هم هدانا، هم الذين نواليهم من كلّ عقولنا موالاة العقل والقلب والحياة. ليست المسألة بيننا وبين أهل البيت(ع) مسألةً عاطفيةً، ولكنّها مسألة إماميّة إسلاميّة مسؤولة. إنّ أهل البيت لا يريدون منّا أن نحبّهم حبّاً شخصياً، بل أن نحبّهم حبّاً رسالياً. أمّا قضية بكاء الإمام زين العابدين(ع)، فإنّه كان يريد أن يثير قضيّة الحسين لتعيش في وجدان كلّ النّاس، لا من ناحية قرابته له، بل من ناحية أنّه يرى في الحسين الإمام الذي ورث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد في الدّعوة إلى الله والإخلاص إليه.
هؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
نسأل الله تعالى أن يشفّعهم فينا، ويحشرنا معهم في الآخرة. والسّلام عليهم يوم وُلدوا ويوم توفّوا ويوم يبعثون أحياء.
الخطبة السياسيّة
تهويد فلسطين
في حمأة الزّيارات المتوالية للوزراء والمسؤولين والمبعوثين الأمريكيين إلى الكيان الغاصب، يواصل العدوّ زحفه الاستيطاني المدروس، فقد بدأت الهجرة اليهوديّة من الأراضي الفلسطينية المحتلّة في العام 1948 إلى تلك المحتلة في العام 1967، للاستيطان هناك وفق ما يسمّونه "الهجرة الأيديولوجية" التي تتوالى فيها عمليّات القضم التدريجيّ للقدس والضفّة الغربية، فيما تقف الأمم المتّحدة، في الذكرى الخامسة لصدور قرار محكمة العدل الدولية حيال جدار الفصل، والذي قالت إنّه يتعارض مع القانون الدولي، متفرّجةً وصامتةً حيال ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من ظلم وقهر واضطهاد، فيما يواصل العدوّ بناءه للجدار، ويقدّم فرصة أخرى إلى المستوطنين للهجوم على بيوت الفلسطينيين لطردهم منها، كما حصل في القدس مؤخّراً.
أمّا الإدارة الأمريكيّة التي تلوّح للعرب بخيار التّسوية، في سياق خديعةٍ رسمت تفاصيلها بدقّة مع حكومة العدوّ، فقد أذعنت لفكرة أنّ "الاستيطان لا يمكن أن يتوقّف"، كما قال أحد الوزراء الصّهاينة، ولذلك، فهي تعكف على بدء المرحلة الثانية من مراحل خطّتها الجهنميّة، والّتي تتّفق فيها مع العدوّ على تجميد مؤقّت للاستيطان يهلّل له العرب وتصفّق له دول الاتحاد الأوروبي، وتبدأ بعدها مرحلة التطبيع الفعلي التي يُشارك فيها رئيس حكومة العدوّ ورئيس الكيان بالذهاب إلى مبنى سفارة عربيّة جديدة في كيانه، ليقطع قالب الحلوى في ذكرى ثورة أُريد تدنيسها، أو في يوم وطنيّ أُريد له أن يتحوّل إلى يوم تتجسّد فيه كلّ معاني التبعيّة والظّلم والاغتصاب.
إنّنا نحذّر المسلمين جميعاً، ولا سيّما الفلسطينيين، من أنّ العدوّ يتصرّف وكأنّ هذه المرحلة تمثل المرحلة المثالية له لكي يقضي نهائياً على القضيّة كلّها، ويجرّد الفلسطينيّين من حقوقهم الأساسية في مسألة الدولة وحقّ العودة، وكذلك في مسألة القدس التي استباح العدوّ فيها كلّ شيء، من دون أن تنطلق صرخة عربية وإسلامية ذات فاعليّة وتأثير.
أيّها الفلسطينيّون، لقد اجتمعت أمم الأرض عليكم، وغدر بكم أقرب الناس إليكم، وكادت المرجعيات التي تحمل عناوين الإفتاء والمفاتيح الرسمية للحلال والحرام أن تصرّح علناً بالتنازل عن قدس الأقداس، وعن الأقصى الشّريف، ولم يبقَ أمامكم إلا أن تستعيدوا وحدتكم، وتنتصروا على الذات، وتعودوا إلى خطّ المواجهة الحقيقية مع العدوّ، لأنّ العالم لم ولن يرفّ له جفن أمام كلّ مآسيكم، وهو العالم الذي غطّى كلّ مسيرة الاغتصاب للأرض والمقدّسات منذ أكثر من نصف قرنٍ، ولا يزال يتحرّك في الاتّجاه نفسه.
الإدارة الأمريكيّة الجديدة نحو سياسة قديمة
أمّا الإدارة الأمريكية التي تستعيد شيئاً فشيئاً صورتها السابقة في عهد بوش، فنجدها لا تزال تتعامل مع الملفّ النوويّ الإيراني في سياق ما يفرضه الاحتضان الدائم للكيان الإسرائيلي الغاصب الذي يضرب بعرض الجدار كلّ الأعراف والقوانين الدوليّة، ولا سيّما المتعلّقة بامتلاك السلاح النوويّ، ونسمع تصريحات وزير الدفاع الأمريكي وهو يضرب لإيران موعداً، أقصاه الخريف المقبل، للدخول في حوار، مع أنّ رئيسه كان قد طرح قبل أشهر عنوان التخلّص من كلّ السّلاح النوويّ في العالم، وبالتالي كان عليه أن يطلب من المسؤولين الصّهاينة الاستجابة لهذا الطرح، إذا كانت إدارته جادّةً في معالجة ملفّ عالمي شائك يُراد له أن يتحوّل إلى قيدٍ يهدّد سيادة دولة أظهرت كلّ الدراسات الدولية أنّها لم تخرج قيد أنملة عن الشروط التي حدّدتها الوكالة الدولية للطاقة، في مسألة استثمار الطاقة النوويّة لأغراض سلميّة.
إنّنا نقول للأمريكيين الذين يأتون إلى القدس المحتلّة زرافاتٍ ووحداناً لطمأنة العدوّ، ولحثّ العرب "على اتّخاذ خطوات جوهرية في اتجاه التطبيع مع إسرائيل"، على حدّ تعبير المبعوث الأمريكي إلى المنطقة، إنّنا نقول لهم: لقد أوشكتم، وفي فترة زمنيّة محدودة، أن تُسقطوا كلّ الأهداف التي حاول رئيسكم أن يحصدها في خطاباته المدروسة والمحسوبة للعالم العربيّ والإسلاميّ، كما أوشكتم على رفع منسوب الكراهية لإدارتكم إلى أعلى المستويات، تماماً كما تدنّت شعبيّة رئيسكم في بلادكم إلى أدنى المستويات في فترة زمنيّة قياسيّة مما لم يحدث لبوش نفسه، ولذلك عليكم أن تبحثوا عن وسائل أخرى للحوار مع دول المنطقة وشعوبها، بعد استخدامكم الفاشل لكلّ أساليب الحصار والمقاطعة وفرض العقوبات، وصولاً إلى الحروب التي أحرقت أيديكم.
اليمن: أزمة التدخّلات
وإلى جانب ذلك كلّه، نشعر بالخطورة حيال تطوّر الأوضاع في اليمن، ونخشى من أن يكون اليمن قد دخل في دوّامةٍ من الفوضى والعنف، بفعل أسباب داخليّة وتدخّلات خارجيّة تريد للبلد أن يعيش الاهتزاز الأمنيّ إلى جانب الاهتزاز السياسيّ، بما يفسح في المجال لتطوّرات جديدة خطيرة تدخله في متاهات المجهول.
إنّنا نريد لجميع مكوّنات الشّعب اليمنيّ العزيز أن تعمل على استقرار البلد ووحدته، وأن تنبذ كلّ دعوة للانفصال والتقسيم، كما نريد للدولة أن تنفتح على الحركة المطلبيّة بما يعيد الأوضاع إلى جادة الهدوء والاستقرار، ويعيد اليمن سعيداً بطوائفه ومذاهبه وفئاته المتعدّدة.
نيجيريا.. أحداث بغيضة
أمّا نيجيريا التي غرقت في بحر من الدّماء بفعل جهات متعصّبة لا تخلص للإسلام أو للمسيحيّة، فإنّ جميع المسؤولين، بمن فيهم علماء الدين، مدعوّون إلى تطويق هؤلاء وقطع الطريق على أعمالهم الإجراميّة التي أكّدت أنّ هؤلاء لا يحترمون الإنسان ولا يحملون قيم الرسالات والأديان.
لبنان: دعوة إلى التّعاون والوحدة
أمّا في لبنان، فإنّنا نؤكّد أنّ على اللّبنانيّين الذين يحاولون أن تكون حكومتهم المقبلة حكومة وحدة وطنيّة، أن يعملوا على إزالة كلّ العوائق التي نصبها ولا يزال ينصبها اللاعبون الدوليّون والإقليميّون أمام وحدتهم الحقيقيّة، ولا سيّما تجاه قضاياهم الكبرى والتحدّيات المقبلة والمصيريّة، بحيث لا تكون الوحدة الوطنيّة في الحكومة المقبلة حالةً انتقاليّةً نحو انتكاسات جديدة، بل انعكاساً للإرادة الحقيقيّة لدى المسؤولين في الارتفاع إلى مستوى تطلّعات الشّعب اللّبناني كلّه، في الانتقال بلبنان من حال الفرقة إلى التلاقي، ومن حال المناكفات إلى التعاون، ومن حال التمزّق إلى الوحدة، لقطع الطّريق على كلّ الذين يحاولون أن يحرّكوا اللّعبة لإدخال البلد مجدّداً في الاهتزازات الأمنيّة والكهوف السياسيّة والفتن المذهبيّة والطائفيّة.
أيّها اللّبنانيّون، لقد جرّبتم تقديس كلّ اللامقدّس في بلدكم، حتّى جعلتم من أطركم الحزبيّة والطائفيّة والمذهبيّة أصناماً تعبدونها، فلماذا لا تجرّبون ـ ولو لمرّة واحدة ـ أن تقدّسوا إنسان هذا البلد، في عزّته وكرامته وحرّيته المسؤولة واستقلاليّة إرادته، وتأكيد القيم الروحيّة والأخلاقيّة في كلّ مفردات الحياة.