ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
ولادة الإمام المهديّ(عج):
موعدٌ جديدٌ مع الإسلام
وراثة المستضعفين للأرض
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(القصص: 5-6). ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء:105). ويقول أيضاً: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}(النّور:55).
توحي هذه الآيات إلينا، أنّ هناك مرحلةً مستقبليّةً من الزّمن سوف يقضي الله تعالى فيها بقوّة المستضعفين وضعف المستكبرين، وهكذا ينطلق عباد الله الصّالحون من أجل أن يسيطروا على الأرض كلّها ويرثوها، وليمتدّ الدين الذي أراد الله للنّاس أن يأخذوا به، وأن يمتثلوا أوامره ونواهيه، وتلك المرحلة هي المرحلة التي أشار إليها النبيّ(ص) عندما تحدّث عن نهاية العالم، وعن القيادة الإسلاميّة من أهل البيت(ع)، مِنْ وُلد الإمام الحسين(ع)، التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فقد ورد عن النبيّ (ص) فيما روي عنه: «لا تذهب الدنيا حتى يقوم بأمر أمّتي ـ بحكم الدنيا والسّيطرة عليها ـ رجلٌ من وُلد الحسين(ع) يملأها عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً». لأنّ الله تعالى يريد للدنيا هذه، في كلّ التطوّرات التي عاشها الناس، مما تحرّك فيه الظّالمون والمستكبرون والكافرون، أن يأتي زمنٌ لا يبقى فيه ظلمٌ في الأرض، بل أن يكون هناك عدلٌ يعيشه كلّ إنسان؛ عدل الإنسان مع نفسه فلا يظلمها، وعدله مع ربّه فلا يظلم حقّ ربّه، وعدله مع النّاس فلا يظلم أحداً منهم، وعدله في الحكم فلا يحكم إلا بالعدل.
لقد أراد الله تعالى أن لا تنتهي الدّنيا حتى تنطلق القيادة الإسلامية العادلة التي تقوم بالإسلام كلّه، ليكون العالم كلّه مسلماً لله على خطّ النبيّ إبراهيم(ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة:131). ونحن نعرف أنّ الإسلام لله هو أن يعيش النّاس في مواقع رضا الله تعالى، لأنّ الله أرسل كلّ الرسالات، وأنزل كلّ الكتب، ووضع الميزان للنّاس ليقوم النّاس بالقسط، والقسط هو العدل، وهذا ما يتمثّل في من ننتظره بكلّ عقولنا وقلوبنا وحياتنا، وهو الإمام المهديّ(عج).
اقتران القرآن بالعِترة
ويؤكّد النبيّ(ص) اقتران الكتاب الكريم بالعترة في مدى الزّمن، فقد ورد عن النبيّ (ص): "إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". فما دام هناك كتاب الله يُتلى، فهناك شخص من عترة النبيّ(ص) يتحرّك وينطلق من أجل أن ينفتح بالنّاس على رسالة الإسلام، اتّباعاً واقتداءً وخلافةً للنبي(ص).
وهكذا نعيش في حال الانتظار. ولكن، ما هي مهمّتنا عندما نتطلّع إلى تلك المرحلة، وما هي مسؤوليّتنا في حركتنا في الواقع عندما نتطلّع إلى هذه القيادة المهديّة العادلة؟ إنّنا حين نراقب حركة الإمامة، فإنّنا نلاحظ أنّ مهمّة الأئمّة من آباء المهديّ(عج) كانت أن يملؤوا الدّنيا إسلاماًَ في أحاديثهم وإرشاداتهم ودروسهم في المبدأ والتفاصيل، حتى لا يحتاج النّاس إلى أيّ حكم أو مفهوم إسلاميّ. ولذلك، عندما جاءت النّوبة إليه، وبدأت الغيبة، ورد في الرواية عنه، وهو يجيب من سأله، قوله: "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا"، لأنهم يحملون كلّ هذا التراث ليبلّغوه للنّاس، لأنّه لم يبق هناك شيء لم يبلّغوه من الإسلام، في التّفسير والسنّة، حتى إنّ النّاس لم يعيشوا أيّة حيرة في أيّ حكم شرعي، وفي أيّ قضية إسلامية.
مسؤوليّتنا في زمن الغيبة الكبرى
ولذلك، بدأت الغيبة الكبرى التي انطلقت من حكمة الله، ولكن بقيت القضايا الإسلاميّة التي تركها الأئمّة(ع) في هذه المرحلة من الغيبة، فعلى كلّ مسلم ومسلمة، وخصوصاً على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين هم "أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدّنيا"، أن ينطلقوا ليأخذوا بكلّ هذا التراث من الكتاب والسنّة، وما تركه أئمّة أهل البيت(ع)، لينشروه على النّاس، وقد جاء الحديث عن النبيّ(ص) محذّراً ومهدّداً العلماء الذين يجلسون في بيوتهم ولا يقومون بمهمّة الدعوة: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، وإن لم يفعل فعليه لعنة الله".
فعلينا أن نشغل أنفسنا، كلٌّ بحسب ثقافته وقدراته وظروفه، من أجل أن يمتدّ الإسلام ثقافةً وحركةً في العالم كلّه، فالله تعالى يحمّل كلّ شخص يعرف حكماً شرعياً أو مفهوماً إسلاميّاً، مسؤوليّة أن يشرحه ويعلّمه للنّاس. فالقضيّة ليست فقط أنّنا نتطلّع إلى الله أن يعجّل فرجه، بل أن نقوم نحن بما يريد أن نقوم به من الانطلاق بالرّسالة، حتى نصنع في كلّ موقعٍ من مواقع هذه الحياة الدّنيا، في الغرب أو الشّرق، موقعاً إسلاميّاً ومجتمعاً إسلاميّاً.
إنّ مسؤوليّتنا ليست أن ننتظره لينطلق هو في نشر الإسلام، بل أن ننطلق بالإسلام في غيبته ونحمله إلى كلّ العالم، ليرى أنّ هناك حركةً إسلاميّةً تنفتح على كلّ الواقع في الحياة. وهناك مسؤوليّة أخرى، وهي أنّ هناك في العالم الذي نعيش فيه عدلاً وظلماً، وهناك شعوب تعيش تحت ظلم الظالمين، ومسؤوليّتنا هي أن نعمل على نشر العدل بين النّاس، لأنّ الله يأمر بالعدل والإحسان، ويريد لنا أن نعدل مع الجميع، من أجل تحقيق الهدف الكبير الذي هو هدف الإمام الحجّة(عج)، لنفتح في كلّ موقعٍ ساحةً للعدل، فنقف مع كلّ قضية عادلة في العالم، ومع كلّ شعبٍ يطالب بالعدالة في حقوقه، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، لأنّ الله تعالى يرفض الظّلم لكلّ النّاس حتى لو كانوا كفّاراً، وقد ورد في بعض الروايات، أنّ الله تعالى "أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه في مملكةِ جبّار من الجبّارين، أن ائتِ هذا الجبّار وقل له إنّي إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتَهم ولو كانوا كفّاراً". فلا يجوز لنا أن نكون مع الذين يظلمون النّاس وينكرون عليهم حقوقهم في كافّة جوانب الحياة.
وهناك في العالم فريقٌ من النّاس سمّاهم الله بالمستضعفين، هؤلاء الذين تسيطر عليهم الدّول المستكبرة، وتصادر كلّ أوضاعهم، فعلينا أن نعمل لنعالج قضايا المستضعفين، وأن نؤيّدهم وننصرهم، وأن يكون هذا اليوم؛ يوم الخامس عشر من شعبان، يوم المستضعفين الذي أشار الله إلى إرادته في نهاية المطاف:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ}(القصص:5). علينا أن نعمل من أجل نصرة المستضعفين، ومن أجل توحيد قضاياهم، ليكون المستضعفون قوّةً تواجه المستكبرين وتسقط استكبارهم.
في الغيبة الكبرى، هناك الكثير من العمل الذي حمّلنا الله مسؤوليّته، العمل على نشر الإسلام ونشر العدل في العالم، والعمل على إسقاط المستكبرين، حتى إذا انطلق عصر الظهور، فإنّ علينا أن ننطلق إليه لنقول له: يا سيّدنا، يا إمامنا، يا حجّة الله على خلقه، لقد قمنا بما نستطيعه من المسؤوليّات. علينا أن نبايعه حتى لو لم يكن ذلك بشكلٍ مباشر، لأنّنا سنبايع الرسالة والعدالة والقضيّة.
الحذر من المدّعين
وعلينا أن نحذر من كلّ هؤلاء الذين يحاولون خديعة النّاس، فيدّعون أنهم سفراء للإمام الحجّة(ع)، وأنهم يلتقون به، هؤلاء كذّابون خدّاعون مبطلون، ويحاولون أن يستغلوا عاطفة الناس، وعلينا أن نحاربهم ونسقطهم ونعمل على إظهار كذبهم وخداعهم. إنّ الإمام(ع) لم يجتمع مع أحد بعد انتهاء مرحلة السفراء، وكلّ من يدّعي أنه اجتمع معه فإنّ ذلك لا أساس له.
إنّنا ننتظره بالعمل والرّسالة والعدالة والحركة الجادّة التي تنطلق من أجل إقامة العدل بين النّاس في هذا الموقع أو ذاك، ولذلك، فإنّنا نقف حتى مع الذين يخالفوننا في الرأي أو المذهب إذا كانت لديهم قضيّة عدل، لأنّ الله يريد العدل للنّاس كافّةً.
اللّهمّ أرنا الطّلعةَ الرشيدة، والغرّة الحميدة، واجعلنا من أنصاره وأعوانه، والمستشهدين بين يديه. اللّهمّ صلِِّ على وليّ أمرك القائمِ المؤمَّل، والعدل المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس منك يا ربّ العالمين.
الخطبة الثّانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المشهد الفلسطينيّ: زيادة المأساة
في المشهد الفلسطينيّ، يستمرّ مسلسل التّشريد للعائلات الفلسطينيّة من منازلها، ليُلقى الفلسطينيّون في الشّوارع، ويستولي اليهود على بقيّة منازل القدس شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى الدّولة اليهوديّة الصافية التي تعهّد بها بوش. ويتحرّك الرئيس الحاليّ للولايات المتّحدة الأمريكية في ما يُشبه التّغطية لكلّ ذلك، عبر دفع العرب إلى التّطبيع مع العدوّ، حتّى في ظلّ هذا الواقع الذي تزداد فيه أعداد اللاجئين الفلسطينيّين بدلاً من تطبيق حقّ العودة، وتكاد تزول فيه القُدس في معالمها الإسلاميّة والعربيّة أمام اعتبارها عاصمةً للدولة الفلسطينيّة الموهومة.
إنّ ما يحدث في هذه الأيّام في فلسطين المحتلّة، وتحديداً في القدس، ليس مجرّد طردٍ لعائلات فلسطينيّة من بيوتها، ولكنّه إلقاءٌ لقضيّة فلسطين كلّها على قارعة الطريق، واستباحة واقعيّة وسياسيّة لأمّة بكاملها، واستهانةٌ مذلّة بكلّ ما هو عربيّ وإسلاميّ، حيث لا يجد العرب الرسميّون، الذين نقل عنهم المبعوث الأمريكيّ إلى المنطقة أنّهم تحدّثوا معه بما يخالف تصريحاتهم، أيّ مصلحةٍ في إطلاق أيّ موقفٍ قويّ، حتّى على مستوى عدم اللّقاء بهذا المبعوث الأمريكيّ أو ذاك، فضلاً عن الإعلان عن تعليق مبادرتهم أو الدعوة إلى لقاء طارئ يدرس تداعيات الواقع في فلسطين.
إنّنا نقول للشّعوب العربيّة والإسلاميّة التي ربّما استسلمت لكثيرٍ من الأوضاع الضّاغطة التي تمارسها الأنظمة: إنّ أبسط ما يجب أن تفعلوه تجاه هذا المنكر الصريح في فلسطين، هو إطلاق الصّوت عالياً في كلّ الشوارع والساحات، للتعبير عن رفض ما يجري اليوم تجاه القضيّة الفلسطينيّة، في ظلّ الصّمت العربيّ الرسميّ المريب.
لقد كانت لعبة الأمم تتحرّك في الفترة الماضية لتضرب على الوتر المذهبيّ، السنّي ـ الشّيعي، من أجل شرذمة الصفّ الإسلامي الواحد الذي قدرُه الوحيد هو أن يتّحد، لا في الشّعارات، بل في خطّ الحركة، وأن يعيد ترتيب أولويّاته بما ينسجم مع ما يريد الله تعالى ورسولُه، في رفض الظّلم والاحتلال والاغتصاب لبلاد المسلمين في فلسطين، كما في كلّ مواقع الأمّة الإسلاميّة.
ولقد حذَّرَنا رسولُ الله(ص) من عمق التاريخ، حيث قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلةُ على قصعتها"، فقيل له: أمن قلّة بنا يومئذٍ؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغثاء السّيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوّكم، ويجعل في قلوبكم الوهن". وكيف بنا اليوم وقد اختلفنا على حقّنا، وعندنا كتاب الله، حبلٌ ممدودٌ من السّماء إلى الأرض، واتّحدت الأمم كلّها على باطلها في مواجهة قضايانا المصيريّة والحاسمة؟!
قضية فلسطين قضيّة إسلاميّة ـ عربيّة
وإنّنا في هذه المناسبة، نقول لكلّ الفصائل التي كان مبرّر وجودها التاريخي والحاضر، أنّها فصائل مقاومة وتحرير: إنّ قضيّة فلسطين لا تعنيكم وحدكم، فضلاً عن أن يحتكرها فصيلٌ واحدٌ منكم، وليس لأحد الحقّ في التّنازل عن أيّ شيءٍ منها لصالح المحتلّ الغاصب؛ لأنّ القضيّة هي ملك كلّ المسلمين وكلّ العرب؛ لأنّها تتّصل بالتّاريخ والحاضر والمستقبل، كما تتّصل بالأرض والمقدّسات... وإنّنا ندعو الشّعب الفلسطيني الذي أثبت أنّه الشّعب الذي يشبه الشّعب المعجزة أمام كلّ محاولات الإلغاء، إلى أخذ المبادرة في الضّغط على قياداته لنبذ الخلافات الهامشيّة، والتوحّد في إطار مواجهة الاحتلال؛ لأنّ هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق الانتصار على كلّ مخطّطاته.
الشّروط الأمريكيّة المذلّة للتّسوية
وعلى خطّ آخر، تتوالى الضّغوط الأميركيّة على العرب الرسميّين لحثّهم على القبول بالشّروط الإسرائيليّة للتّسوية، تحت عنوان القيام بخطوات جديدة، والضّغط على بعض الدّول العربيّة لنشر صواريخ أمريكيّة وقواعد اتّصالات مركزيّة، في إطار مظلّة دفاعيّة بوجه إيران نوويّة ـ كما سمعنا عن ذلك في بعض وسائل الإعلام ـ ليتّضح الهدف من تخويف هذه الدّول من إيران، ليس على صعيد صفقات الأسلحة فحسب، بل لإقامة المزيد من القواعد العسكريّة في بلدان عربيّة جديدة، بما يؤسّس لاحتلال واقعيّ موضعيّ، واحتلال سياسيّ واقتصاديّ أوسع.
إنّنا نحذّر من الخطّة التي تعمل لها الإدارة الأمريكيّة التي تبحث عن مصالحها في قلب المصلحة الإسرائيليّة، وتعمل للتمركز في أكثر من مكانٍ في قلب هذه الأمّة، لتوسّع من دائرة انتشارها العسكريّ والأمنيّ والسياسيّ بعد فشلها الذريع في العراق وأفغانستان، وندعو القوى الحيّة في الأمّة إلى رفض هذا الاحتلال المقنّع، كما رفضت الاحتلال المباشر.
لبنان: الحذر من الاستغراق في المسألة السياسيّة
أمّا في لبنان، فقد تخدّر النّاس أمام حركة الخطاب السياسيّ، وفي الخلافات حول مسألة المحاصصة التي تبدأ من تشكيل الحكومة ولا تنتهي عند الوظائف الصّغيرة، ليستغرق المواطنون في اللّعبة السياسيّة على حساب همومهم المعيشية، وأزماتهم الاقتصاديّة التي يزيدها تقنين الكهرباء ظلاماً، وانتشار الغشّ والخداع في السّلع الأساسيّة تردّياً، حيث لا رقيب ولا حسيب؛ لأنّ الكلّ غائبون عن معاناة النّاس وتحدّيات المستقبل.
لقد أدمن اللّبنانيّون هذا النّموذج العجيب من العمل السياسيّ، حتّى باتوا يستوحشون في كلّ مفترق سياسيّ ودستوريّ إذا ما تحرّك المسؤولون بشيءٍ من المسؤوليّة التاريخيّة أمام مصير الشعب، في حاضره ومستقبله؛ لأنّ اللّبنانيّين أدمنوا فكرة أنّهم لا يستطيعون أن يديروا البلد إلا بعجلةٍ خارجيّة، وأنّ سفينة بلدهم لا تتحرّك إلا بدفعٍ إقليميّ أو دوليّ، حتّى بتنا شعباً لا يعرف ماذا يريد في واقع الأمور، وإن كان ينظم القصائد الطّوال في ما يريده على مستوى الشّعارات والعناوين الفارغة من أيّ مضمون حقيقيّ، وأصبحنا بلداً يغري الآخرين باستعماره سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً حتّى الغثيان.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
ولادة الإمام المهديّ(عج):
موعدٌ جديدٌ مع الإسلام
وراثة المستضعفين للأرض
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(القصص: 5-6). ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء:105). ويقول أيضاً: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}(النّور:55).
توحي هذه الآيات إلينا، أنّ هناك مرحلةً مستقبليّةً من الزّمن سوف يقضي الله تعالى فيها بقوّة المستضعفين وضعف المستكبرين، وهكذا ينطلق عباد الله الصّالحون من أجل أن يسيطروا على الأرض كلّها ويرثوها، وليمتدّ الدين الذي أراد الله للنّاس أن يأخذوا به، وأن يمتثلوا أوامره ونواهيه، وتلك المرحلة هي المرحلة التي أشار إليها النبيّ(ص) عندما تحدّث عن نهاية العالم، وعن القيادة الإسلاميّة من أهل البيت(ع)، مِنْ وُلد الإمام الحسين(ع)، التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فقد ورد عن النبيّ (ص) فيما روي عنه: «لا تذهب الدنيا حتى يقوم بأمر أمّتي ـ بحكم الدنيا والسّيطرة عليها ـ رجلٌ من وُلد الحسين(ع) يملأها عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً». لأنّ الله تعالى يريد للدنيا هذه، في كلّ التطوّرات التي عاشها الناس، مما تحرّك فيه الظّالمون والمستكبرون والكافرون، أن يأتي زمنٌ لا يبقى فيه ظلمٌ في الأرض، بل أن يكون هناك عدلٌ يعيشه كلّ إنسان؛ عدل الإنسان مع نفسه فلا يظلمها، وعدله مع ربّه فلا يظلم حقّ ربّه، وعدله مع النّاس فلا يظلم أحداً منهم، وعدله في الحكم فلا يحكم إلا بالعدل.
لقد أراد الله تعالى أن لا تنتهي الدّنيا حتى تنطلق القيادة الإسلامية العادلة التي تقوم بالإسلام كلّه، ليكون العالم كلّه مسلماً لله على خطّ النبيّ إبراهيم(ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة:131). ونحن نعرف أنّ الإسلام لله هو أن يعيش النّاس في مواقع رضا الله تعالى، لأنّ الله أرسل كلّ الرسالات، وأنزل كلّ الكتب، ووضع الميزان للنّاس ليقوم النّاس بالقسط، والقسط هو العدل، وهذا ما يتمثّل في من ننتظره بكلّ عقولنا وقلوبنا وحياتنا، وهو الإمام المهديّ(عج).
اقتران القرآن بالعِترة
ويؤكّد النبيّ(ص) اقتران الكتاب الكريم بالعترة في مدى الزّمن، فقد ورد عن النبيّ (ص): "إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". فما دام هناك كتاب الله يُتلى، فهناك شخص من عترة النبيّ(ص) يتحرّك وينطلق من أجل أن ينفتح بالنّاس على رسالة الإسلام، اتّباعاً واقتداءً وخلافةً للنبي(ص).
وهكذا نعيش في حال الانتظار. ولكن، ما هي مهمّتنا عندما نتطلّع إلى تلك المرحلة، وما هي مسؤوليّتنا في حركتنا في الواقع عندما نتطلّع إلى هذه القيادة المهديّة العادلة؟ إنّنا حين نراقب حركة الإمامة، فإنّنا نلاحظ أنّ مهمّة الأئمّة من آباء المهديّ(عج) كانت أن يملؤوا الدّنيا إسلاماًَ في أحاديثهم وإرشاداتهم ودروسهم في المبدأ والتفاصيل، حتى لا يحتاج النّاس إلى أيّ حكم أو مفهوم إسلاميّ. ولذلك، عندما جاءت النّوبة إليه، وبدأت الغيبة، ورد في الرواية عنه، وهو يجيب من سأله، قوله: "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا"، لأنهم يحملون كلّ هذا التراث ليبلّغوه للنّاس، لأنّه لم يبق هناك شيء لم يبلّغوه من الإسلام، في التّفسير والسنّة، حتى إنّ النّاس لم يعيشوا أيّة حيرة في أيّ حكم شرعي، وفي أيّ قضية إسلامية.
مسؤوليّتنا في زمن الغيبة الكبرى
ولذلك، بدأت الغيبة الكبرى التي انطلقت من حكمة الله، ولكن بقيت القضايا الإسلاميّة التي تركها الأئمّة(ع) في هذه المرحلة من الغيبة، فعلى كلّ مسلم ومسلمة، وخصوصاً على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين هم "أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدّنيا"، أن ينطلقوا ليأخذوا بكلّ هذا التراث من الكتاب والسنّة، وما تركه أئمّة أهل البيت(ع)، لينشروه على النّاس، وقد جاء الحديث عن النبيّ(ص) محذّراً ومهدّداً العلماء الذين يجلسون في بيوتهم ولا يقومون بمهمّة الدعوة: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، وإن لم يفعل فعليه لعنة الله".
فعلينا أن نشغل أنفسنا، كلٌّ بحسب ثقافته وقدراته وظروفه، من أجل أن يمتدّ الإسلام ثقافةً وحركةً في العالم كلّه، فالله تعالى يحمّل كلّ شخص يعرف حكماً شرعياً أو مفهوماً إسلاميّاً، مسؤوليّة أن يشرحه ويعلّمه للنّاس. فالقضيّة ليست فقط أنّنا نتطلّع إلى الله أن يعجّل فرجه، بل أن نقوم نحن بما يريد أن نقوم به من الانطلاق بالرّسالة، حتى نصنع في كلّ موقعٍ من مواقع هذه الحياة الدّنيا، في الغرب أو الشّرق، موقعاً إسلاميّاً ومجتمعاً إسلاميّاً.
إنّ مسؤوليّتنا ليست أن ننتظره لينطلق هو في نشر الإسلام، بل أن ننطلق بالإسلام في غيبته ونحمله إلى كلّ العالم، ليرى أنّ هناك حركةً إسلاميّةً تنفتح على كلّ الواقع في الحياة. وهناك مسؤوليّة أخرى، وهي أنّ هناك في العالم الذي نعيش فيه عدلاً وظلماً، وهناك شعوب تعيش تحت ظلم الظالمين، ومسؤوليّتنا هي أن نعمل على نشر العدل بين النّاس، لأنّ الله يأمر بالعدل والإحسان، ويريد لنا أن نعدل مع الجميع، من أجل تحقيق الهدف الكبير الذي هو هدف الإمام الحجّة(عج)، لنفتح في كلّ موقعٍ ساحةً للعدل، فنقف مع كلّ قضية عادلة في العالم، ومع كلّ شعبٍ يطالب بالعدالة في حقوقه، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، لأنّ الله تعالى يرفض الظّلم لكلّ النّاس حتى لو كانوا كفّاراً، وقد ورد في بعض الروايات، أنّ الله تعالى "أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه في مملكةِ جبّار من الجبّارين، أن ائتِ هذا الجبّار وقل له إنّي إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتَهم ولو كانوا كفّاراً". فلا يجوز لنا أن نكون مع الذين يظلمون النّاس وينكرون عليهم حقوقهم في كافّة جوانب الحياة.
وهناك في العالم فريقٌ من النّاس سمّاهم الله بالمستضعفين، هؤلاء الذين تسيطر عليهم الدّول المستكبرة، وتصادر كلّ أوضاعهم، فعلينا أن نعمل لنعالج قضايا المستضعفين، وأن نؤيّدهم وننصرهم، وأن يكون هذا اليوم؛ يوم الخامس عشر من شعبان، يوم المستضعفين الذي أشار الله إلى إرادته في نهاية المطاف:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ}(القصص:5). علينا أن نعمل من أجل نصرة المستضعفين، ومن أجل توحيد قضاياهم، ليكون المستضعفون قوّةً تواجه المستكبرين وتسقط استكبارهم.
في الغيبة الكبرى، هناك الكثير من العمل الذي حمّلنا الله مسؤوليّته، العمل على نشر الإسلام ونشر العدل في العالم، والعمل على إسقاط المستكبرين، حتى إذا انطلق عصر الظهور، فإنّ علينا أن ننطلق إليه لنقول له: يا سيّدنا، يا إمامنا، يا حجّة الله على خلقه، لقد قمنا بما نستطيعه من المسؤوليّات. علينا أن نبايعه حتى لو لم يكن ذلك بشكلٍ مباشر، لأنّنا سنبايع الرسالة والعدالة والقضيّة.
الحذر من المدّعين
وعلينا أن نحذر من كلّ هؤلاء الذين يحاولون خديعة النّاس، فيدّعون أنهم سفراء للإمام الحجّة(ع)، وأنهم يلتقون به، هؤلاء كذّابون خدّاعون مبطلون، ويحاولون أن يستغلوا عاطفة الناس، وعلينا أن نحاربهم ونسقطهم ونعمل على إظهار كذبهم وخداعهم. إنّ الإمام(ع) لم يجتمع مع أحد بعد انتهاء مرحلة السفراء، وكلّ من يدّعي أنه اجتمع معه فإنّ ذلك لا أساس له.
إنّنا ننتظره بالعمل والرّسالة والعدالة والحركة الجادّة التي تنطلق من أجل إقامة العدل بين النّاس في هذا الموقع أو ذاك، ولذلك، فإنّنا نقف حتى مع الذين يخالفوننا في الرأي أو المذهب إذا كانت لديهم قضيّة عدل، لأنّ الله يريد العدل للنّاس كافّةً.
اللّهمّ أرنا الطّلعةَ الرشيدة، والغرّة الحميدة، واجعلنا من أنصاره وأعوانه، والمستشهدين بين يديه. اللّهمّ صلِِّ على وليّ أمرك القائمِ المؤمَّل، والعدل المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس منك يا ربّ العالمين.
الخطبة الثّانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المشهد الفلسطينيّ: زيادة المأساة
في المشهد الفلسطينيّ، يستمرّ مسلسل التّشريد للعائلات الفلسطينيّة من منازلها، ليُلقى الفلسطينيّون في الشّوارع، ويستولي اليهود على بقيّة منازل القدس شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى الدّولة اليهوديّة الصافية التي تعهّد بها بوش. ويتحرّك الرئيس الحاليّ للولايات المتّحدة الأمريكية في ما يُشبه التّغطية لكلّ ذلك، عبر دفع العرب إلى التّطبيع مع العدوّ، حتّى في ظلّ هذا الواقع الذي تزداد فيه أعداد اللاجئين الفلسطينيّين بدلاً من تطبيق حقّ العودة، وتكاد تزول فيه القُدس في معالمها الإسلاميّة والعربيّة أمام اعتبارها عاصمةً للدولة الفلسطينيّة الموهومة.
إنّ ما يحدث في هذه الأيّام في فلسطين المحتلّة، وتحديداً في القدس، ليس مجرّد طردٍ لعائلات فلسطينيّة من بيوتها، ولكنّه إلقاءٌ لقضيّة فلسطين كلّها على قارعة الطريق، واستباحة واقعيّة وسياسيّة لأمّة بكاملها، واستهانةٌ مذلّة بكلّ ما هو عربيّ وإسلاميّ، حيث لا يجد العرب الرسميّون، الذين نقل عنهم المبعوث الأمريكيّ إلى المنطقة أنّهم تحدّثوا معه بما يخالف تصريحاتهم، أيّ مصلحةٍ في إطلاق أيّ موقفٍ قويّ، حتّى على مستوى عدم اللّقاء بهذا المبعوث الأمريكيّ أو ذاك، فضلاً عن الإعلان عن تعليق مبادرتهم أو الدعوة إلى لقاء طارئ يدرس تداعيات الواقع في فلسطين.
إنّنا نقول للشّعوب العربيّة والإسلاميّة التي ربّما استسلمت لكثيرٍ من الأوضاع الضّاغطة التي تمارسها الأنظمة: إنّ أبسط ما يجب أن تفعلوه تجاه هذا المنكر الصريح في فلسطين، هو إطلاق الصّوت عالياً في كلّ الشوارع والساحات، للتعبير عن رفض ما يجري اليوم تجاه القضيّة الفلسطينيّة، في ظلّ الصّمت العربيّ الرسميّ المريب.
لقد كانت لعبة الأمم تتحرّك في الفترة الماضية لتضرب على الوتر المذهبيّ، السنّي ـ الشّيعي، من أجل شرذمة الصفّ الإسلامي الواحد الذي قدرُه الوحيد هو أن يتّحد، لا في الشّعارات، بل في خطّ الحركة، وأن يعيد ترتيب أولويّاته بما ينسجم مع ما يريد الله تعالى ورسولُه، في رفض الظّلم والاحتلال والاغتصاب لبلاد المسلمين في فلسطين، كما في كلّ مواقع الأمّة الإسلاميّة.
ولقد حذَّرَنا رسولُ الله(ص) من عمق التاريخ، حيث قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلةُ على قصعتها"، فقيل له: أمن قلّة بنا يومئذٍ؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغثاء السّيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوّكم، ويجعل في قلوبكم الوهن". وكيف بنا اليوم وقد اختلفنا على حقّنا، وعندنا كتاب الله، حبلٌ ممدودٌ من السّماء إلى الأرض، واتّحدت الأمم كلّها على باطلها في مواجهة قضايانا المصيريّة والحاسمة؟!
قضية فلسطين قضيّة إسلاميّة ـ عربيّة
وإنّنا في هذه المناسبة، نقول لكلّ الفصائل التي كان مبرّر وجودها التاريخي والحاضر، أنّها فصائل مقاومة وتحرير: إنّ قضيّة فلسطين لا تعنيكم وحدكم، فضلاً عن أن يحتكرها فصيلٌ واحدٌ منكم، وليس لأحد الحقّ في التّنازل عن أيّ شيءٍ منها لصالح المحتلّ الغاصب؛ لأنّ القضيّة هي ملك كلّ المسلمين وكلّ العرب؛ لأنّها تتّصل بالتّاريخ والحاضر والمستقبل، كما تتّصل بالأرض والمقدّسات... وإنّنا ندعو الشّعب الفلسطيني الذي أثبت أنّه الشّعب الذي يشبه الشّعب المعجزة أمام كلّ محاولات الإلغاء، إلى أخذ المبادرة في الضّغط على قياداته لنبذ الخلافات الهامشيّة، والتوحّد في إطار مواجهة الاحتلال؛ لأنّ هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق الانتصار على كلّ مخطّطاته.
الشّروط الأمريكيّة المذلّة للتّسوية
وعلى خطّ آخر، تتوالى الضّغوط الأميركيّة على العرب الرسميّين لحثّهم على القبول بالشّروط الإسرائيليّة للتّسوية، تحت عنوان القيام بخطوات جديدة، والضّغط على بعض الدّول العربيّة لنشر صواريخ أمريكيّة وقواعد اتّصالات مركزيّة، في إطار مظلّة دفاعيّة بوجه إيران نوويّة ـ كما سمعنا عن ذلك في بعض وسائل الإعلام ـ ليتّضح الهدف من تخويف هذه الدّول من إيران، ليس على صعيد صفقات الأسلحة فحسب، بل لإقامة المزيد من القواعد العسكريّة في بلدان عربيّة جديدة، بما يؤسّس لاحتلال واقعيّ موضعيّ، واحتلال سياسيّ واقتصاديّ أوسع.
إنّنا نحذّر من الخطّة التي تعمل لها الإدارة الأمريكيّة التي تبحث عن مصالحها في قلب المصلحة الإسرائيليّة، وتعمل للتمركز في أكثر من مكانٍ في قلب هذه الأمّة، لتوسّع من دائرة انتشارها العسكريّ والأمنيّ والسياسيّ بعد فشلها الذريع في العراق وأفغانستان، وندعو القوى الحيّة في الأمّة إلى رفض هذا الاحتلال المقنّع، كما رفضت الاحتلال المباشر.
لبنان: الحذر من الاستغراق في المسألة السياسيّة
أمّا في لبنان، فقد تخدّر النّاس أمام حركة الخطاب السياسيّ، وفي الخلافات حول مسألة المحاصصة التي تبدأ من تشكيل الحكومة ولا تنتهي عند الوظائف الصّغيرة، ليستغرق المواطنون في اللّعبة السياسيّة على حساب همومهم المعيشية، وأزماتهم الاقتصاديّة التي يزيدها تقنين الكهرباء ظلاماً، وانتشار الغشّ والخداع في السّلع الأساسيّة تردّياً، حيث لا رقيب ولا حسيب؛ لأنّ الكلّ غائبون عن معاناة النّاس وتحدّيات المستقبل.
لقد أدمن اللّبنانيّون هذا النّموذج العجيب من العمل السياسيّ، حتّى باتوا يستوحشون في كلّ مفترق سياسيّ ودستوريّ إذا ما تحرّك المسؤولون بشيءٍ من المسؤوليّة التاريخيّة أمام مصير الشعب، في حاضره ومستقبله؛ لأنّ اللّبنانيّين أدمنوا فكرة أنّهم لا يستطيعون أن يديروا البلد إلا بعجلةٍ خارجيّة، وأنّ سفينة بلدهم لا تتحرّك إلا بدفعٍ إقليميّ أو دوليّ، حتّى بتنا شعباً لا يعرف ماذا يريد في واقع الأمور، وإن كان ينظم القصائد الطّوال في ما يريده على مستوى الشّعارات والعناوين الفارغة من أيّ مضمون حقيقيّ، وأصبحنا بلداً يغري الآخرين باستعماره سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً حتّى الغثيان.