عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟
الإدارة الأميركيّة: تدمير منهجي للقضية الفلسطينية
تدخل المسألة الفلسطينية في نطاق الأولويات الأميركية والدولية، ولكنها ليست أولويات الحل، بل أولويات التدمير المنهجي للقضية، والتمهيد أمام إسرائيل لإحكام سيطرتها على كامل فلسطين، وتكريس الأمر الواقع الذي تفرض فيه الجزر الاستيطانية والجدار الفاصل وعمليات الاغتيال والاعتقال شروطاً جديدة، لا نافذة تطل منها على فلسطين الدولة.
وفي ظل عملية الخداع للأنظمة المتهالكة، وفي الوقت الذي يعلن رئيس وزراء العدو بأنه لا سبيل للتوصل إلى تسوية سلمية نهائية في هذا العام، تفعل الجرافات الإسرائيلية فعلها في تدمير بيوت الفلسطينيين المقدسيين في شكل متواصل، ويتحدث العدو عن بيوت جديدة هي على لائحة الهدم القادم في القدس الشرقية، بحجة أنها مشادة على أراضٍ هي ملكٌ لليهود... للوصول إلى واقع التهويد الكامل للقدس، وتشريد أهلها، وتحقيق مقولة بوش بيهودية الدولة، وسط هذيان عربي لا يستحضر إلاّ تهاويل الخوف من إيران، وإلى المستوى الذي تخشى فيه الأنظمة من الاحتفال باستقبال جثامين الشهداء الذين أطلقتهم عملية الرضوان، لأنها تخاف من أن تضبط متلبسةً باستقبال من أشاروا إلى وجهة الصراع الحقيقية وإلى العدو الحقيقي.
وفي هذا الجو الذي تدفع فيه السلطة الفلسطينية من مفاوضات استهلاكية فارغة المضمون إلى مفاوضات مماثلة، وحيث ينهش الوحش الصهيوني بالجسد الفلسطيني، يتصاعد الخلاف بين حركتي "فتح" و"حماس"، ليغدو اتفاق التهدئة مع العدو نذيراً بحرب جديدة بين الفلسطينيين، ولتنطلق الاعتقالات في الضفة والقطاع، وكأنه لا يكفي الفلسطينيين إرهاب العدو واعتقالاته، ولتعود أجواء الشحن والتعقيد، وتبتعد أجواء الحوار، بما يثير التساؤل: هل كان اتفاق التهدئة مناسبةً لانطلاق جولة من الضغوط الدولية والأميركية والإسرائيلية، وحتى العربية، التي تمنع الفلسطينيين من تسيير عجلة حوارهم الداخلي، وصولاً إلى التّوافق حول حكومة الوحدة الوطنية، والعمل ـ في المقابل ـ على استضعاف الفريق الجهادي المقاوم، لدفعه إلى إلغاء خيار المقاومة، والنـزول عند الشروط المذلة لكيان العدو، بما يسقط مقولة الدولة، ويجعل القضية بين نارين: نار الخلافات الداخلية، ونار العدوان الإسرائيلي المدعوم من الاستكبار ومواقع الانهزام في المنطقة؟!
إننا نحذِّر من أن العدو يبني مشروعه الإرهابي في فلسطين بالانتقال من مرحلة إلى أخرى، وسط هذا الدخان الذي يثيره حول إيران ودول الممانعة وحركات المقاومة، والخطورة تكمن في أن سقوط فلسطين يعني سقوط القاعدة التي ترتكز عليها بقية القضايا العربية والإسلامية، الأمر الذي يطلّ بنا على واقع احتلالي متجدد يهدد الأمة في كيانها ووجودها.
التّكفيريّون إنتاج مواقف دموية
ولعل الطامَّة الكبرى تكمن في أن الجهات التكفيرية التي تزعم أنها تحمل عنوان الإسلام وهموم العرب، لا تنظر إلى كل فظائع الاحتلال في فلسطين، وجرائم الحلف الأطلسي في أفغانستان، وإرهاب الاحتلال الأميركي للعراق بعين بصيرة، بل تعمل دائماً لجعل المناسبات الإسلامية محطاتٍ دامية، كما فعلت في مجازرها الوحشية الأخيرة في العراق، وفي استهدافها إلى زوار قبر الإمام الكاظم(ع) في ذكرى شهادته، إمعاناً منها في استهداف وحدة المسلمين، وفي الإصرار على المنهج التكفيري الذي لا يتوانى عن استخدام النساء في العمليات التفجيرية الانتحارية، ظناً منهم بأن قتل المسلمين المؤمنين يجعلهم يتقربون أكثر إلى الله، ورفضاً منهم لحديث النبي(ص): «
كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».
إننا في الوقت الذي نعتقد بأنّ الاحتلال هو المسؤول الأول عن هذه الجرائم والمجازر، سواء تلك التي حدثت في الكاظمية، الّتي حصلت في كركوك، نستغرب هذا الصمت من المرجعيات العربية والإسلامية التي نستمع مراراً لمواقف لها تتوقف فيها عند تفاصيل صغيرة هنا وهناك، ولكنَّها لا تكلِّف نفسها التعليق على هذه المجازر واستنكارها وتبيان الموقف الإسلامي الشرعي من استهداف المسلمين الآمنين المسالمين.
لبنان: الديمقراطيّة التوافقيّة والمواطنة
أمَّا في لبنان، فإننا نسمع بين وقت وآخر، أن الخط السياسي الذي يحكم اللّبنانيين هو أن الأكثرية تحكم والأقلية تعارض، لأنّ دول العالم المتحضر تمارس هذه الطريقة في إدارة شؤون الحكم عندها. إنّنا لا ننكر ذلك في الواقع الدولي، ولكن لدينا ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: أن الأكثرية والأقلية قد تتفق فيما بينها على الدخول في حكومة ائتلافية إذا اقتضت مصلحة الوطن ذلك، من خلال برنامج سياسي واقتصادي وأمني لتحقيق المصلحة العليا. فهل يعارض أصحاب هذه المقولة اتفاق اللبنانيين على حكومة وحدة وطنية وائتلافية تلتقي فيها الأقلية والأكثرية في حكم البلد؟
الملاحظة الثانية: أن العالم المتحضِّر يأخذ بالمنهج الديمقراطي على أساس الأكثرية العددية في الانتخابات، من دون تفريق بين دين وآخر ومذهب وآخر، فليس هناك تمييز طائفي بين طائفة وأخرى من الناحية الديمقراطية، والسؤال: هل يوافق هؤلاء المتحدثون عن لبنان ـ اتباعاً لدول العالم ـ على الديمقراطية العددية بعيداً من الخطوط الطائفية، بحيث تكون الأكثرية من المواطنين هي التي تملك الحكم إذا فازت في الانتخابات، ليكون الأساس هو المواطنة لا الطائفية؟
إنَّهم يرفضون ذلك ويتحدثون عن خصوصية لبنان التعايش أو العيش المشترك، ما يفرض الديمقراطية التوافقية التي تمنح كل طائفة حقوقاً محددة في التمثيل، حتى لو كانت في مستوى الأقلية... إننا نؤكّد أن القول بالديمقراطية في الحكم لا بدَّ من أن يقوم على المواطنة، بحيث يشمل كل المواطنين، بعيداً عن امتيازات الطوائف، وهذا ما يفرض على الجميع القبول به أو الحوار حوله.
من جانب آخر، فإنَّ المشاكل الاقتصادية الخانقة لا تزال تفرض نفسها على المواطنين جميعاً، الذين يجدون أنهم لا يعيشون في ظل دولة عادلة ذات اهتمامات حقيقية بالجوع الذي يفتك بالفقراء، وبالحرمان الذي يعانونه في قضايا الخدمات الحياتية والاجتماعية والاقتصادية، وبالمديونية الساحقة التي تأكل إنتاج البلد، إضافة إلى عدم الاهتمام بتنمية الزراعة والصناعة في شكل مبرمج وتثبيت الأمن، هذا فضلاً عن التعقيدات التي يثيرها الكثير من المشرفين على إدارة الدولة ضد المقاومة التي استطاعت أن تحرر الأرض والإنسان. ويحدثونك عن الدولة التي لا بد من أن تكون وحدها القوة التي تدير البلد، ولكنهم لا يأخذون بأسباب القوة في تزويد الجيش بالأسلحة المتطورة والطائرات والصواريخ القادرة على ردع أيِّ عدوان إسرائيلي...
المقاومة: جدل بين المشروعية والتهميش
إنَّنا نلمح محاولات متجددة للنظر إلى المقاومة وكأنها كيان غير شرعي، وكأن المطلوب هو محاسبتها لانتصارها على العدو وتحرير أسراها وشهدائها، بينما لا نجد أحداً في كيان العدوّ يعترض على حكومته في مواجهتها للتحديات المحتملة في المستقبل... إن هذا الجدل في نوع البيان الوزاري حول تأكيد رعاية الدولة للمقاومة، قد يوحي بأن البعض يخاف من القوّة المقاومة للعدوان... لأن الاحتلال الإسرائيلي يملك المظلة الأمريكية والأوروبية التي تحاول منع لبنان من أن يدافع عن نفسه عسكرياً، وأن يطالب بتطبيق القرار 1701 في منع الاختراق الإسرائيلي الجوي والبحري، وربما البري في بعض الحالات، وبإصدار الأمم المتحدة القرار بوقف إطلاق النار.
ويبقى الغزل السياسي بالمجتمع الدولي وبالقرارات الدولية في الأمم المتحدة التي يركع السياسيون أمامها، وتبقى إسرائيل ترفض تنفيذها، لأن أمريكا لا تسمح لأي دولة بأن تطالبها بذلك تحت التهديد بالإدانة والملاحقة.
إن مسالة تحرير الوطن من الاحتلال المباشر وغير المباشر، والبقاء على أهبة الاستعداد لمواجهة أطماع العدو ومخططاته، هي من الأمور التي ينبغي أن تظل أولوية حاسمة، لا في البيان الوزاري لحكومة معينة فحسب، بل في البيانات الوزارية كلّها، وفي الخط البياني للسياسة اللبنانية، وبذلك ينتفي هذا الجدل المعيب حول المقاومة! ونحن لا ندري كيف يضع البعض المقاومة في مواجهة الدولة، وهي التي أعادت لبنان إلى خط الدولة ومسيرتها، بينما يرفض هؤلاء وضع الدولة في مواجهة الاحتلال وأخطاره، وخصوصاً في التهديدات المتصاعدة لقادة العدو ضد لبنان!
إن بلداً لا يصنع القوة الشعبية، أو يخاف من قوة شعبه، هو بلد سيظل يدور في فلك هذا المحور الدولي أو ذاك المحور الإقليمي، الذي يستغل أوضاعه بعيداً عن مصالحه الاستراتيجية، وهذا هو السرّ في الفوضى السياسية في لبنان الساحة والمزرعة، والّذي لا يسمح المجتمع الدولي له أن يكون دولةً كما هي الدولة... ويستمر الجدل العبثي، ويصفِّق المصفقون، ويهتف الهاتفون، ويسقط الفقراء المحرومون في جوعهم وحرمانهم، ويرقصون على وقع آلامهم "كالطير يرقص مذبوحاً من الألم"، ويضيعون في المتاهات التي لا يعرف اللبنانيون السبيل للخروج من دوائرها المميتة.