باق في مدى الأزمنةالإمام عليّ(ع) رمز الطّهارة والعلم والتّقى

باق في مدى الأزمنةالإمام عليّ(ع)  رمز الطّهارة والعلم والتّقى

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

باق في مدى الأزمنة الإمام عليّ(ع)

رمز الطّهارة والعلم والتّقى

عليٌّ وليد بيت الله وشهيده

وُلد في بيت الله في الكعبة المشرَّفة، ولم يولد فيها أحد قبله ولا بعده... واستُشهد في بيت الله، وهو الّذي كان يرى الحياة كلّها بيتاً لله ينطلق فيه كلّ الناس الذين خلقهم الله ليوحّدوه في العبادة وفي الألوهية والطاعة...

كان(ع) مع الله في كل ما فكّر فيه وتحدّث به إلى الناس، وفي كل جهاده ومسؤوليّاته، وكان يقول للناس كلّهم، وهو خليفة المسلمين: «ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم»، إنّ رسالتي هي أن أفتح عقول النَّاس على الله في حركة التوحيد التي جاء بها الإسلام، ليسقط منها كلّ شرك في العبادة والطاعة، ولتكون التَّقوى هي الأساس في حركة الإنسان بين يدي الله.

لقد باع(ع) نفسه لله، ولم يكن لنفسه من نفسه شيء، ويروي المفسّرون أن الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207)، نزلت فيه، وقد كان(ع) في كل حياته، يعيش مع الله عيش العاشق الّذي لا يصبر على فراق من يعشق، ونحن نقرأ في دعائه الذي علّمه لكميل: «فهبني يا إلهي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك ـ فأنت الحبيب الذي لا يصبر المحبّ على مفارقته ـ وهبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك». كان قلبه يمتلئ بمحبة الله تعالى، وبمحبة رسول الله، وهذا ما قاله رسول الله(ص) عنه في معركة الخندق: «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله»، وكانت محبته لله قد شغلت عقله وقلبه وحركته، لذلك عندما فتح باب خيبر الذي لا يحرّكه إلاّ سبعون شخصاً، قال(ع): «والله ما فتحت باب خيبر بقوة جسدية، بل بقوة ربَّانية»، فمحبته لله وإخلاصه له وجهاده في سبيله، هو الذي جعل يدي عليّ(ع) تنطلقان من أجل الدفاع والجهاد في سبيل الله.

من صفات عليّ(ع)

ويروى عن أحد أصحابه، وهو ضرار بن غمرة، أنّه دخل على معاوية بعد استشهاد الإمام عليّ(ع)، فقال له: صف لي عليّاً، فقال: اعفني، قال: لتصفنّه، قال: "أما إذا كان لا بدّ من وصفه، فإنّه كان والله بعيد المدى ـ لم يكن يعيش في المواقع الضيّقة القصيرة ـ شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه ـ يمتلئ بالعلم، بحيث عندما يتحدث ينطلق العلم كما لو كان نبعاً يتفجّر من كل كيانه ـ وتنطق الحكمة من نواحيه ـ كان حكيماً في كل موقف من مواقفه، وفي كل موقع من مواقعه، يضع الأشياء في مواضعها، وينطلق من عمق الأسرار التي تنفتح على الحقيقة ـ يستوحش من الدنيا وزهرتها ـ لا يشعر بالأنس في الدنيا ـ ويأنس بالليل ووحشته ـ إذا جاء الليل كان يأنس به، لأنّ المؤمنين في الليل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}(السجدة:16)، فكان يعيش في الليل هذا الجو الذي يرتفع به إلى الله، فيناجيه ويخاطبه ويفتح له عقله وقلبه ـ وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة ـ يفكِّر طويلاً في كلِّ ما يرتفع به إلى الله وينفع الناس ـ يقلّب كفّه ويخاطب نفسه ـ لأنه كان يدرس نفسه ويحاسبها، وكان يريد أن يوحي إلى كلِّ من حوله بأنّ على الإنسان أن يفهم نفسه ـ يعجبه من اللباس ما خَشِن، ومن الطعام ما جشب ـ الطعام القاسي ـ وكان فينا كأحدنا ـ وهذا من مظاهر تواضعه للناس، حيث كان يعيش معهم كواحد منهم، في كلِّ ما يتحرّك به، حتى يشعر الذين يجالسونه أنه لا فرق بينهم وبينه، لأنّه لم يكن يميّز نفسه عن أحد، كما كان رسول الله(ص)، حتى إنّه كان إذا وصل القادم يسأل: أيّكم محمَّد؟ ـ يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ـ كان يشعر بأنّ العلم مسؤولية، وأنّ على العالِم أن يجيب النَّاس عن كل ما يعرفه ويملكه من العلم، لأن الله تعالى أراد للناس أن يسألوا، وللعلماء أن يعلّموا ـ ويأتينا إذا دعوناه، وينبّئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا وقُربِه منا، لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم. يعظّم أهل الدين ـ لأنّ الله أراد لنبيّه ولأوليائه أن يعظّموا المؤمنين: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(الكهف:28) ـ ويقرّب المساكين. لا يطمع القويّ في باطلهـ لا يخضع لأهل الباطل مهما كانوا أقوياء ومن ذوي المواقع المتقدّمة في المجتمع، بل يعاملهم بما تفرضه العدالة ـ ولا ييأس الضعيف من عدله، وأَشهَد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: «يا ربنا يا ربنا» ـ وهو يتضرّع إليه ـ «يا دنيا غرّي غيري، ألي تعرّضت أم إليّ تشوَّفتِ، هيهات هيهات، قد بنتك ثلاثاً ـ طلَّقتك ثلاثاً ـ لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آهٍ من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق»... فبكى معاوية، ووكفت دموعه على لحيته، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال: "رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها... ثم خرج".

عليّ(ع) نفس رسول الله(ص) الأخلاقيّة والرّساليّة

ويحدّثنا عليّ(ع) عن معلّمه ومربّيه، فقد أخذه رسول الله(ص) وهو في بداية طفولته، لأنّ عمه أبا طالب كان كثير العيال، وكان واقعه الاقتصادي قاسياً، وقد حدّثنا عليّ(ع) عن تلك المرحلة فقال: «وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنـزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويُمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل، ولقد قَرَن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم مَلَك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه ـ والفصيل هو ولد الناقة ـ يرفع لي في كلِّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجتمع في بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ـ فقد كان عليّ(ع) إلى جانبه(ص) في الصّلاة، وخديجة وراءهما ـ أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة».

ونتيجة ذلك، قال له رسول الله(ص): «أنت أخي في الدنيا والآخرة»، وأيضاً قال(ص): «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، وعندما تركه في المدينة ولم يأخذه معه إلى معركة تبوك، وقد شهد معارك رسول الله كلّها، قال(ص) له: «أما ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

ولأنّه كان(ع) يحمل مسؤولية تثقيف الناس، كان يقول لهم: «سلوني، فوالله لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلاّ حدّثتكم عنها متى نزلت، بليل أو نهار، أو في مقام أو في سفر، أم في سهل أم في جبل...». وعندما سئلت عائشة عن عليّ(ع)، قالت: "ما رأيت رجلاً أحبّ إلى رسول الله منه، ولا امرأةً أحبّ إلى رسول الله من امرأته".

وقال(ص) في يوم الغدير، وقد جمع الناس عند مفترق الطريق بعد رجوعه من حجة الوداع: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»، قالوا: بلى، قال: "اللهم اشهد"، ثم قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار»... وقالت أم سلمة: سمعت رسول الله(ص) يقول: «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».

ومن وصاياه ما روي عنه (ع) أنّه قال: «أوصيكم بخمس، لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً: لا يرجونّ أحدكم إلاّ ربه، ولا يخافنّ إلاّ ذنبه، ولا يستحينّ أحد منكم إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحينّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه، وعليكم بالصبر، فإنّ الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه».

وقال عليّ(ع) وقد سُئل عن الخير: «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، وأن يَعظُم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلاّ لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات». وقال(ع): «يا أيُّها الناس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وطوبى لمن لزم بيته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل والناس منه في راحة».

رائد الوحدة الإسلامية

هذا بعضٌ من عليّ(ع) الذي أعطى الإسلام من كلِّ شجاعته وصلابته وجهاده عندما كان مع رسول الله(ص)، وقد قال عنه(ص) عندما برز ليقاتل عمرو بن عبد ودٍّ: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»، وبعد رسول الله(ص) عندما أُبعد عن حقه، ورأى أنّ مسؤوليته أن يحفظ الإسلام والمسلمين، تعاون مع الذين تقدّموه وأخذ بالوحدة الإسلامية، وكان(ع) يقول: «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتّى زاح الباطل وزهق».

وكان يرى نفسه مسؤولاً عن الإسلام خارج الخلافة، كما هو مسؤول عنه داخلها، وكان يقول: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصةً»، وكان ينهى المسلمين عن السبّ والشتم تجاه كلّ الّذين يختلفون معهم، وكان يقول لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».

لقد كان عليّ(ع) رائد الوحدة الإسلامية من النَّاحية الفكرية والعلمية، وفي ذكرى مولده، علينا أن نعمل من أجل الوحدة الإسلامية التي يلتقي فيها المسلمون على الثوابت الإسلامية في العقيدة، وأن يرجعوا إلى الله ورسوله فيما يختلفون فيه.

إن عليّاً(ع) كان مع الحق كلّه، وكان الحق مع عليّ، وعلينا أن نكون مع الحق في ذلك كلّه.

وفي هذه المناسبة، نقف مع ذلك الشاعر المسيحي الذي قال:

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّيو            اخشعي إنني ذكرت عليّا

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكلّ مسؤولية أمام التحديات التي توجّه إلى العالم الإسلامي، فماذا هناك؟

المقاومة في لبنان: النموذج الحضاري في الصراع

تتأرجح صورة العالم العربي والإسلامي بين مقاومة فرضت نفسها وصنعت إرادة التغيير، وبين مذعورة، مهزومة، صامتة، تنظر إلى الجلاّد الذي ينهالُ عليها ضرباً، فلا تطالب بأكثر من تقليص ضربات السياط.

في الحالة الأولى، يطل لبنان بشعبه الأبي ومقاومته الشريفة المعطاء، التي تمثل خلاصةً نوعيةً مصّفاةً لمقاومات الشعوب العربية والإسلامية ضد المحتل والظالم والغاصب، فيقدِّم (لبنان) نموذجاً حضارياً في العمل الجهادي والسياسي تأبى الأنظمة أن تحتذيه، لا بل هي عملت ولا تزال تعمل على إجهاضه ومنع شعوبها من أن تتأثر به.

لقد استطاعت المقاومة في عملية التبادل هذه، لا أن تؤكد مصداقيتها وأحقية حركتها فحسب، بل أن تجعل العدوَّ الإسرائيلي يتراجع عن لاءاته، ويكشف عن حقيقة أوضاعه، هي أقرب ما تكون إلى صورة الأنظمة العربية التي تنازلت عن لاءاتها وحوّلتها إلى "نعم" خاضعة ومتهالكة.

في هذه الأيام، يقف العالم، ولا سيما العالم العربي والإسلامي، أمام المقاومة التي أجهزت على القوّة الإسرائيلية الموصوفة سابقاً بأنّها لا تقهر، وأجبرتها على كسر قرارها في الامتناع عن إطلاق الأسرى الذين قاتلوا جنودها بكلِّ شجاعة وصلابة وبسالة.

وفي مقابل ذلك، ينطلق السؤال: ما الذي أنجزه المعتدلون العرب المتحالفون مع أمريكا والمتصالحون مع إسرائيل؟ لقد هادنوا العدو، واستجابوا لرغباته، وتعلَّقوا بخريطة الطريق التي أعطت الأولوية لنـزع سلاح المقاومة، وهرولوا إلى "أنابوليس" لكي يؤكّدوا مرجعية الخطة الأمريكية ويسلّموا بالإشراف الأميركي على تنفيذها، فيما تراجع العدو عن كل ما التزم به، فواصل زحفه الاستيطاني واستيلاءه على الأراضي الفلسطينية، واجتياحاته ومجازره واعتقالاته، وتمسّكه بيهودية الدولة كمقدّمةٍ لطرد عرب الـ 48 من ديارهم، ولم يطلق سراح الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين، ولم يقدّم للسلطة الفلسطينية ورقةً واحدةً قابلة للاستثمار.

إنَّ هذا الإنجاز النوعيّ الكبير للمقاومة الإسلامية في لبنان، يمثّل رسالةً أخرى من رسائل الإلهام للشباب العربي، ليكون حاضراً في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، وليقف إلى جانب المقاومة وقضايا الأمة في مواجهة إسرائيل ومن يسير في خطها.

وليس بعيداً من ذلك، لقد بدأنا نسمع كلاماً خافتاً في مكان، ومعلناً في مكان آخر، عن أنَّ المقاومة قامت بما هو مطلوبٌ منها، وبقي على الدولة أن تعمل على تنفيذ القرارات الدولية، ونحن لا ندري لماذا يستعجل هؤلاء الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها إسرائيل، ولا ندري هل إنّ القرارات الدولية أصبحت إنجيلاً أو قرآناً عند هؤلاء غير قابلة للمناقشة وإثارة الجدل حولها، أو في كونها انطلقت من خلفيات تتصل بمصلحة إسرائيل أولاً وآخراً، ومن خلال سيطرة أمريكا على مجلس الأمن؟!

إنّنا نقول لهؤلاء: رويداً، فإنَّ ما يصوغه اللّبنانيون من خلال حوارهم ووحدتهم هو أهم وأقدس وأطهر من كل هذه القرارات التي كانت السبب الأساس فيما أصاب البلد من تشتّت وتمزق وضياع.

وإنّ على هؤلاء أن يتعلَّموا من إسرائيل أنّها لا تحترم أي قرار صادر عن مجلس الأمن إذا لم يتوافق مع مصالحها.

الإدارة الأمريكية: تعديات قانونية وانتهاكات حقوقية

وفي الجانب الآخر، تبرز سابقة في العلاقات الدولية والقانون الدولي، وخطوة تعتبر من أخطر التعديات الخارجية على السودان واستقلاله وسيادته واستقراره، تتمثّل في طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية توجيه أوَّل مذكّرة توقيف دولية ضد رئيس دولة عربية، وهو الرئيس السوداني عمر حسن البشير، في ظلِّ موقفٍ عربيّ ضعيف يُغري الآخرين بتوسيع نطاق الهجمة على الأمّة واستفراد مواقعها الواحد تِلْوَ الآخر، وفي ظلِّ دعوةٍ من الجامعة العربية إلى اجتماع عاجل، ولكن بعد أسبوع تقريباً من توجيه الاتهام، وهو الأمر الذي لا يعطي الانطباع عن كيفية التعاطي العربي مع الأمور المستعجلة فحسب، بل يشير أيضاً إلى أن الموقف سيكون هزلياً متراخياً كما جرت العادة.

إنّنا ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى أن تقول كلمتها بصوت عالٍ في مواجهة هذا الاستفزاز وهذا التطاول اللذين يراد من خلالهما تمزيق بلادنا أكثر مما هي ممزقة، وتفتيتها أكثر مما هي مفتَّتة، وإثارة الفوضى فيها لتسهيل اختراقها أمنياً واستخبارياً واقتصادياً وسياسياً، وخصوصاً السودان الذي عملت أمريكا على إثارة الاهتزاز فيه بما يُمِّهد للسيطرة على ثرواته، وينشر حال الفوضى واللاستقرار من حوله.

إنّنا نتساءل: أين هي محكمة الجنايات الدولية أمام الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني قتلاً وتجويعاً وحصاراً؟ وأين دورها حيال جرائم الرئيس الأميركي وقواته المحتلة في العراق وأفغانستان، أو أن عنوان العدل لا يمكن تحريكه إلاّ في مواجهة العرب والمسلمين، لتكون المحاكم الدولية غطاءً لمشاريع أميركية وغربية وحتى إسرائيلية؟

وفي مسألة أخرى، نتوقف عند المؤتمر الذي عُقد في باريس تحت عنوان "الاتحاد من أجل المتوسط"، والذي حاول في بيانه أن يؤكّد شرعية الكيان الصهيوني، باعتبار إسرائيل دولة ـ أمّة، ليوحي بوجود شعب يهودي يُقيم في أرضه، مع أن العالم كلّه يعرف كيف جاءت العصابات الصهيونية مدعومةً من الغرب لتطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتقيم كياناً جمعت فيه يهود العالم الذين يواصلون مجازرهم ضد الفلسطينيين ويتوإلى زحفهم الاستيطاني، ولا يصدر من الغرب أو دول الاتحاد الأوروبي إلاّ كلمات خجولة توحي بالموافقة الضمنية على هذا الاقتطاع التدريجي لأراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، أكثر ممّا توحي بالرفض والاستنكار.

إنّنا نسجّل على هذا المؤتمر تجاهله للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وتجاوزه حتى للقرارات الدولية القاضية بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، مع علمنا بأن صورة الوضع العربي تغري القائمين على مؤتمرات كهذه، بالإمعان في تجاهل القضايا والحقوق العربية، وخصوصاً في ظل سعي هذه الدولة العربية أو تلك لقطع الطريق على دولة عربية أخرى ومنعها من تجاوز حدود الحصار الدولي لها.

لبنان، لبناء وطن حرّ مستقلّ

وبالعودة إلى لبنان، فإننا نريد للحكومة الجديدة التي اتفق السياسيون عليها، أن لا يرى أعضاؤها مواقعهم شرفاً يتميّزون به، بل مسؤولية يتحمّلونها... وإذا كانوا يتحدثون عن حكومة وحدة وطنية، فإنّ عليهم أن يلتزموا الوحدة الوطنية اللبنانية، بحيث تسقط كلُّ الطموحات الذاتية والطائفية أمام الطموح الكبير لبناء وطن جديد حرّ مستقل يلتقي مواطنوه على ما يرفع مستوى وطنهم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، من أجل أن يأخذ موقعه الحضاري المميّز في عنفوانه السياسي، وفي مقاومته الشجاعة، وفي إنسانية إنسانه الذي هو أكبر من الزاحفين على بطونهم طلباً لمال هنا أو وزارة ونيابة هناك.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 15 رجب 1429 هـ  الموافق: 18/07/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

باق في مدى الأزمنة الإمام عليّ(ع)

رمز الطّهارة والعلم والتّقى

عليٌّ وليد بيت الله وشهيده

وُلد في بيت الله في الكعبة المشرَّفة، ولم يولد فيها أحد قبله ولا بعده... واستُشهد في بيت الله، وهو الّذي كان يرى الحياة كلّها بيتاً لله ينطلق فيه كلّ الناس الذين خلقهم الله ليوحّدوه في العبادة وفي الألوهية والطاعة...

كان(ع) مع الله في كل ما فكّر فيه وتحدّث به إلى الناس، وفي كل جهاده ومسؤوليّاته، وكان يقول للناس كلّهم، وهو خليفة المسلمين: «ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم»، إنّ رسالتي هي أن أفتح عقول النَّاس على الله في حركة التوحيد التي جاء بها الإسلام، ليسقط منها كلّ شرك في العبادة والطاعة، ولتكون التَّقوى هي الأساس في حركة الإنسان بين يدي الله.

لقد باع(ع) نفسه لله، ولم يكن لنفسه من نفسه شيء، ويروي المفسّرون أن الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207)، نزلت فيه، وقد كان(ع) في كل حياته، يعيش مع الله عيش العاشق الّذي لا يصبر على فراق من يعشق، ونحن نقرأ في دعائه الذي علّمه لكميل: «فهبني يا إلهي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك ـ فأنت الحبيب الذي لا يصبر المحبّ على مفارقته ـ وهبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك». كان قلبه يمتلئ بمحبة الله تعالى، وبمحبة رسول الله، وهذا ما قاله رسول الله(ص) عنه في معركة الخندق: «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله»، وكانت محبته لله قد شغلت عقله وقلبه وحركته، لذلك عندما فتح باب خيبر الذي لا يحرّكه إلاّ سبعون شخصاً، قال(ع): «والله ما فتحت باب خيبر بقوة جسدية، بل بقوة ربَّانية»، فمحبته لله وإخلاصه له وجهاده في سبيله، هو الذي جعل يدي عليّ(ع) تنطلقان من أجل الدفاع والجهاد في سبيل الله.

من صفات عليّ(ع)

ويروى عن أحد أصحابه، وهو ضرار بن غمرة، أنّه دخل على معاوية بعد استشهاد الإمام عليّ(ع)، فقال له: صف لي عليّاً، فقال: اعفني، قال: لتصفنّه، قال: "أما إذا كان لا بدّ من وصفه، فإنّه كان والله بعيد المدى ـ لم يكن يعيش في المواقع الضيّقة القصيرة ـ شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه ـ يمتلئ بالعلم، بحيث عندما يتحدث ينطلق العلم كما لو كان نبعاً يتفجّر من كل كيانه ـ وتنطق الحكمة من نواحيه ـ كان حكيماً في كل موقف من مواقفه، وفي كل موقع من مواقعه، يضع الأشياء في مواضعها، وينطلق من عمق الأسرار التي تنفتح على الحقيقة ـ يستوحش من الدنيا وزهرتها ـ لا يشعر بالأنس في الدنيا ـ ويأنس بالليل ووحشته ـ إذا جاء الليل كان يأنس به، لأنّ المؤمنين في الليل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}(السجدة:16)، فكان يعيش في الليل هذا الجو الذي يرتفع به إلى الله، فيناجيه ويخاطبه ويفتح له عقله وقلبه ـ وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة ـ يفكِّر طويلاً في كلِّ ما يرتفع به إلى الله وينفع الناس ـ يقلّب كفّه ويخاطب نفسه ـ لأنه كان يدرس نفسه ويحاسبها، وكان يريد أن يوحي إلى كلِّ من حوله بأنّ على الإنسان أن يفهم نفسه ـ يعجبه من اللباس ما خَشِن، ومن الطعام ما جشب ـ الطعام القاسي ـ وكان فينا كأحدنا ـ وهذا من مظاهر تواضعه للناس، حيث كان يعيش معهم كواحد منهم، في كلِّ ما يتحرّك به، حتى يشعر الذين يجالسونه أنه لا فرق بينهم وبينه، لأنّه لم يكن يميّز نفسه عن أحد، كما كان رسول الله(ص)، حتى إنّه كان إذا وصل القادم يسأل: أيّكم محمَّد؟ ـ يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ـ كان يشعر بأنّ العلم مسؤولية، وأنّ على العالِم أن يجيب النَّاس عن كل ما يعرفه ويملكه من العلم، لأن الله تعالى أراد للناس أن يسألوا، وللعلماء أن يعلّموا ـ ويأتينا إذا دعوناه، وينبّئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا وقُربِه منا، لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم. يعظّم أهل الدين ـ لأنّ الله أراد لنبيّه ولأوليائه أن يعظّموا المؤمنين: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(الكهف:28) ـ ويقرّب المساكين. لا يطمع القويّ في باطلهـ لا يخضع لأهل الباطل مهما كانوا أقوياء ومن ذوي المواقع المتقدّمة في المجتمع، بل يعاملهم بما تفرضه العدالة ـ ولا ييأس الضعيف من عدله، وأَشهَد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: «يا ربنا يا ربنا» ـ وهو يتضرّع إليه ـ «يا دنيا غرّي غيري، ألي تعرّضت أم إليّ تشوَّفتِ، هيهات هيهات، قد بنتك ثلاثاً ـ طلَّقتك ثلاثاً ـ لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آهٍ من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق»... فبكى معاوية، ووكفت دموعه على لحيته، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال: "رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها... ثم خرج".

عليّ(ع) نفس رسول الله(ص) الأخلاقيّة والرّساليّة

ويحدّثنا عليّ(ع) عن معلّمه ومربّيه، فقد أخذه رسول الله(ص) وهو في بداية طفولته، لأنّ عمه أبا طالب كان كثير العيال، وكان واقعه الاقتصادي قاسياً، وقد حدّثنا عليّ(ع) عن تلك المرحلة فقال: «وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنـزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويُمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل، ولقد قَرَن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم مَلَك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه ـ والفصيل هو ولد الناقة ـ يرفع لي في كلِّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجتمع في بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ـ فقد كان عليّ(ع) إلى جانبه(ص) في الصّلاة، وخديجة وراءهما ـ أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة».

ونتيجة ذلك، قال له رسول الله(ص): «أنت أخي في الدنيا والآخرة»، وأيضاً قال(ص): «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، وعندما تركه في المدينة ولم يأخذه معه إلى معركة تبوك، وقد شهد معارك رسول الله كلّها، قال(ص) له: «أما ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

ولأنّه كان(ع) يحمل مسؤولية تثقيف الناس، كان يقول لهم: «سلوني، فوالله لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلاّ حدّثتكم عنها متى نزلت، بليل أو نهار، أو في مقام أو في سفر، أم في سهل أم في جبل...». وعندما سئلت عائشة عن عليّ(ع)، قالت: "ما رأيت رجلاً أحبّ إلى رسول الله منه، ولا امرأةً أحبّ إلى رسول الله من امرأته".

وقال(ص) في يوم الغدير، وقد جمع الناس عند مفترق الطريق بعد رجوعه من حجة الوداع: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»، قالوا: بلى، قال: "اللهم اشهد"، ثم قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار»... وقالت أم سلمة: سمعت رسول الله(ص) يقول: «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».

ومن وصاياه ما روي عنه (ع) أنّه قال: «أوصيكم بخمس، لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً: لا يرجونّ أحدكم إلاّ ربه، ولا يخافنّ إلاّ ذنبه، ولا يستحينّ أحد منكم إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحينّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه، وعليكم بالصبر، فإنّ الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه».

وقال عليّ(ع) وقد سُئل عن الخير: «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، وأن يَعظُم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلاّ لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات». وقال(ع): «يا أيُّها الناس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وطوبى لمن لزم بيته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل والناس منه في راحة».

رائد الوحدة الإسلامية

هذا بعضٌ من عليّ(ع) الذي أعطى الإسلام من كلِّ شجاعته وصلابته وجهاده عندما كان مع رسول الله(ص)، وقد قال عنه(ص) عندما برز ليقاتل عمرو بن عبد ودٍّ: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»، وبعد رسول الله(ص) عندما أُبعد عن حقه، ورأى أنّ مسؤوليته أن يحفظ الإسلام والمسلمين، تعاون مع الذين تقدّموه وأخذ بالوحدة الإسلامية، وكان(ع) يقول: «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتّى زاح الباطل وزهق».

وكان يرى نفسه مسؤولاً عن الإسلام خارج الخلافة، كما هو مسؤول عنه داخلها، وكان يقول: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصةً»، وكان ينهى المسلمين عن السبّ والشتم تجاه كلّ الّذين يختلفون معهم، وكان يقول لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».

لقد كان عليّ(ع) رائد الوحدة الإسلامية من النَّاحية الفكرية والعلمية، وفي ذكرى مولده، علينا أن نعمل من أجل الوحدة الإسلامية التي يلتقي فيها المسلمون على الثوابت الإسلامية في العقيدة، وأن يرجعوا إلى الله ورسوله فيما يختلفون فيه.

إن عليّاً(ع) كان مع الحق كلّه، وكان الحق مع عليّ، وعلينا أن نكون مع الحق في ذلك كلّه.

وفي هذه المناسبة، نقف مع ذلك الشاعر المسيحي الذي قال:

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّيو            اخشعي إنني ذكرت عليّا

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكلّ مسؤولية أمام التحديات التي توجّه إلى العالم الإسلامي، فماذا هناك؟

المقاومة في لبنان: النموذج الحضاري في الصراع

تتأرجح صورة العالم العربي والإسلامي بين مقاومة فرضت نفسها وصنعت إرادة التغيير، وبين مذعورة، مهزومة، صامتة، تنظر إلى الجلاّد الذي ينهالُ عليها ضرباً، فلا تطالب بأكثر من تقليص ضربات السياط.

في الحالة الأولى، يطل لبنان بشعبه الأبي ومقاومته الشريفة المعطاء، التي تمثل خلاصةً نوعيةً مصّفاةً لمقاومات الشعوب العربية والإسلامية ضد المحتل والظالم والغاصب، فيقدِّم (لبنان) نموذجاً حضارياً في العمل الجهادي والسياسي تأبى الأنظمة أن تحتذيه، لا بل هي عملت ولا تزال تعمل على إجهاضه ومنع شعوبها من أن تتأثر به.

لقد استطاعت المقاومة في عملية التبادل هذه، لا أن تؤكد مصداقيتها وأحقية حركتها فحسب، بل أن تجعل العدوَّ الإسرائيلي يتراجع عن لاءاته، ويكشف عن حقيقة أوضاعه، هي أقرب ما تكون إلى صورة الأنظمة العربية التي تنازلت عن لاءاتها وحوّلتها إلى "نعم" خاضعة ومتهالكة.

في هذه الأيام، يقف العالم، ولا سيما العالم العربي والإسلامي، أمام المقاومة التي أجهزت على القوّة الإسرائيلية الموصوفة سابقاً بأنّها لا تقهر، وأجبرتها على كسر قرارها في الامتناع عن إطلاق الأسرى الذين قاتلوا جنودها بكلِّ شجاعة وصلابة وبسالة.

وفي مقابل ذلك، ينطلق السؤال: ما الذي أنجزه المعتدلون العرب المتحالفون مع أمريكا والمتصالحون مع إسرائيل؟ لقد هادنوا العدو، واستجابوا لرغباته، وتعلَّقوا بخريطة الطريق التي أعطت الأولوية لنـزع سلاح المقاومة، وهرولوا إلى "أنابوليس" لكي يؤكّدوا مرجعية الخطة الأمريكية ويسلّموا بالإشراف الأميركي على تنفيذها، فيما تراجع العدو عن كل ما التزم به، فواصل زحفه الاستيطاني واستيلاءه على الأراضي الفلسطينية، واجتياحاته ومجازره واعتقالاته، وتمسّكه بيهودية الدولة كمقدّمةٍ لطرد عرب الـ 48 من ديارهم، ولم يطلق سراح الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين، ولم يقدّم للسلطة الفلسطينية ورقةً واحدةً قابلة للاستثمار.

إنَّ هذا الإنجاز النوعيّ الكبير للمقاومة الإسلامية في لبنان، يمثّل رسالةً أخرى من رسائل الإلهام للشباب العربي، ليكون حاضراً في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، وليقف إلى جانب المقاومة وقضايا الأمة في مواجهة إسرائيل ومن يسير في خطها.

وليس بعيداً من ذلك، لقد بدأنا نسمع كلاماً خافتاً في مكان، ومعلناً في مكان آخر، عن أنَّ المقاومة قامت بما هو مطلوبٌ منها، وبقي على الدولة أن تعمل على تنفيذ القرارات الدولية، ونحن لا ندري لماذا يستعجل هؤلاء الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها إسرائيل، ولا ندري هل إنّ القرارات الدولية أصبحت إنجيلاً أو قرآناً عند هؤلاء غير قابلة للمناقشة وإثارة الجدل حولها، أو في كونها انطلقت من خلفيات تتصل بمصلحة إسرائيل أولاً وآخراً، ومن خلال سيطرة أمريكا على مجلس الأمن؟!

إنّنا نقول لهؤلاء: رويداً، فإنَّ ما يصوغه اللّبنانيون من خلال حوارهم ووحدتهم هو أهم وأقدس وأطهر من كل هذه القرارات التي كانت السبب الأساس فيما أصاب البلد من تشتّت وتمزق وضياع.

وإنّ على هؤلاء أن يتعلَّموا من إسرائيل أنّها لا تحترم أي قرار صادر عن مجلس الأمن إذا لم يتوافق مع مصالحها.

الإدارة الأمريكية: تعديات قانونية وانتهاكات حقوقية

وفي الجانب الآخر، تبرز سابقة في العلاقات الدولية والقانون الدولي، وخطوة تعتبر من أخطر التعديات الخارجية على السودان واستقلاله وسيادته واستقراره، تتمثّل في طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية توجيه أوَّل مذكّرة توقيف دولية ضد رئيس دولة عربية، وهو الرئيس السوداني عمر حسن البشير، في ظلِّ موقفٍ عربيّ ضعيف يُغري الآخرين بتوسيع نطاق الهجمة على الأمّة واستفراد مواقعها الواحد تِلْوَ الآخر، وفي ظلِّ دعوةٍ من الجامعة العربية إلى اجتماع عاجل، ولكن بعد أسبوع تقريباً من توجيه الاتهام، وهو الأمر الذي لا يعطي الانطباع عن كيفية التعاطي العربي مع الأمور المستعجلة فحسب، بل يشير أيضاً إلى أن الموقف سيكون هزلياً متراخياً كما جرت العادة.

إنّنا ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى أن تقول كلمتها بصوت عالٍ في مواجهة هذا الاستفزاز وهذا التطاول اللذين يراد من خلالهما تمزيق بلادنا أكثر مما هي ممزقة، وتفتيتها أكثر مما هي مفتَّتة، وإثارة الفوضى فيها لتسهيل اختراقها أمنياً واستخبارياً واقتصادياً وسياسياً، وخصوصاً السودان الذي عملت أمريكا على إثارة الاهتزاز فيه بما يُمِّهد للسيطرة على ثرواته، وينشر حال الفوضى واللاستقرار من حوله.

إنّنا نتساءل: أين هي محكمة الجنايات الدولية أمام الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني قتلاً وتجويعاً وحصاراً؟ وأين دورها حيال جرائم الرئيس الأميركي وقواته المحتلة في العراق وأفغانستان، أو أن عنوان العدل لا يمكن تحريكه إلاّ في مواجهة العرب والمسلمين، لتكون المحاكم الدولية غطاءً لمشاريع أميركية وغربية وحتى إسرائيلية؟

وفي مسألة أخرى، نتوقف عند المؤتمر الذي عُقد في باريس تحت عنوان "الاتحاد من أجل المتوسط"، والذي حاول في بيانه أن يؤكّد شرعية الكيان الصهيوني، باعتبار إسرائيل دولة ـ أمّة، ليوحي بوجود شعب يهودي يُقيم في أرضه، مع أن العالم كلّه يعرف كيف جاءت العصابات الصهيونية مدعومةً من الغرب لتطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتقيم كياناً جمعت فيه يهود العالم الذين يواصلون مجازرهم ضد الفلسطينيين ويتوإلى زحفهم الاستيطاني، ولا يصدر من الغرب أو دول الاتحاد الأوروبي إلاّ كلمات خجولة توحي بالموافقة الضمنية على هذا الاقتطاع التدريجي لأراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، أكثر ممّا توحي بالرفض والاستنكار.

إنّنا نسجّل على هذا المؤتمر تجاهله للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وتجاوزه حتى للقرارات الدولية القاضية بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، مع علمنا بأن صورة الوضع العربي تغري القائمين على مؤتمرات كهذه، بالإمعان في تجاهل القضايا والحقوق العربية، وخصوصاً في ظل سعي هذه الدولة العربية أو تلك لقطع الطريق على دولة عربية أخرى ومنعها من تجاوز حدود الحصار الدولي لها.

لبنان، لبناء وطن حرّ مستقلّ

وبالعودة إلى لبنان، فإننا نريد للحكومة الجديدة التي اتفق السياسيون عليها، أن لا يرى أعضاؤها مواقعهم شرفاً يتميّزون به، بل مسؤولية يتحمّلونها... وإذا كانوا يتحدثون عن حكومة وحدة وطنية، فإنّ عليهم أن يلتزموا الوحدة الوطنية اللبنانية، بحيث تسقط كلُّ الطموحات الذاتية والطائفية أمام الطموح الكبير لبناء وطن جديد حرّ مستقل يلتقي مواطنوه على ما يرفع مستوى وطنهم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، من أجل أن يأخذ موقعه الحضاري المميّز في عنفوانه السياسي، وفي مقاومته الشجاعة، وفي إنسانية إنسانه الذي هو أكبر من الزاحفين على بطونهم طلباً لمال هنا أو وزارة ونيابة هناك.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 15 رجب 1429 هـ  الموافق: 18/07/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية