بسم الله الرحمن الرحيم
خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
العقل والصّبر رافعتان للمؤمن إلى الجنّة
البصيرة المعرفية الإيمانية:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الرعد:19).
يميّز الله سبحانه الله وتعالى في هذه الآية الكريمة بين الأعمى والبصير، وليس المراد بالعمى والبصر هنا عمى العين وبصرها، بل عمى القلب والعقل وبصرهما، فقد جاء في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(يوسف:108)، لأنَّ البصر الداخلي يُعبَّر عنه بالبصيرة. والبصيرة تمثّل إدراك الإنسان للحقائق التي تنطوي عليها أسرار الأشياء وعمقها، فمن كان على بصيرة، أي كان عقله وقلبه مبصرين، فإنّه يعتقد بالوحدانيَّة، ويحصل على المعرفة بالله، وينفتح على ما أنزله الله تعالى على رسوله(ص) من كتاب، فيدرسه ويتدبّره ويدركه ويعرف أنّه الحق.
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ َمَنْ هُوَ أَعْمَى} والحقّ هو القرآن، الّذي عندما يقرأه الإنسان ويتدبَّره، يعرف أنّه يمثِّل الحقيقة الصَّافية، وأنه كلام الله الذي لا يمكن أن ينطلق من بشر، لأنَّ الإنسان عندما يحكِّم عقله، فلا بدّ من أن يرشده إلى الحقيقة. أمّا من ينكر توحيد الله وعظمته، وينكر أنَّ القرآن كتاب الله ووحيه الذي أنزله على رسوله ليُخرج النَّاس من الظّلمات إلى النّور، فإنّه ممن يحجب النور عن عقله، والبصيرة عن فكره، فلا يهتدي إلى نور الحق، وهذا ما يميّز المؤمنين الذين تعمّق الإيمان في قلوبهم، عن الكافرين الذين لم ينفتحوا على حقائق الإيمان وأسراره.
صفات العاقل:
ثم يختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله ـ إِِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} أي أولي العقول، لأن العقل يعبَّر عنه باللّبّ، فكما هو لبّ الفاكهة، فإنّ العقل يمثّل لبّ الإنسان وجوهره، والجسد بدون عقل ما هو إلاّ كتلةٌ من لحمٍ وعظمٍ ودم، أمّا العقل، فهو الذي يعطي الإنسان إنسانيته، وهو الّذي يمنحه العلم والمعرفة، والذي يضيء له الطريق ليميّز بين الطريق المستقيم والطريق المنحرف، وبين النور والظلام. لذلك فإنّ أولي العقول لا يمكن أن يغفلوا عن حقائق التوحيد والإيمان كلّه، وعن حقائق الوحي، بل يبقى هؤلاء في حال يقظةٍ ووعي، فلا يواجهون الأمور مواجهة اللاّمبالاة.
ثم يؤكِّد تعالى بعض صفات أولي العقول، فما هي صفة العاقل؟ {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ـ هناك عهدٌ بين الله وبين عباده، ولا بدَّ للعباد من أن يلتزموا به من خلال الإيمان بالله وتوحيده وطاعته وعبادته والسير على خطه المستقيم، وقد قال تعالى لبني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(البقرة:40)، فالله يفي بعهده لعباده، بأن يرزقهم ويلطف بهم ويرحمهم ويهديهم ويُرشدهم ويُخرجهم من الظلمات إلى النور، وأمّا من لا يفي بعهد الله، فهو ليس من أُولي العقول، لأنّه ينطلق في حياته من دون أيّ علاقة بالله.
ـ وَلَا يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ ـ فأولو العقول لا ينقضون الميثاق الذي أخذه الله عليهم بأن يطيعوه ويعبدوه ويوحّدوه ليمنحهم رضاه ورحمته ولطفه ويدخلهم جنّته ـ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ـ فقد أراد الله من عباده أن يصلوا أرحامهم، لتكون العلاقة فيما بينهم علاقة الصلة والمحبة والرحمة والمعاونة والمساعدة، وأراد أيضاً أن يصلوا المؤمنين ويساعدوهم، وأن ينطلق كل واحدٍ منهم ليشعر بآلام المسلمين الآخرين: «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».
الجنة بشارة الصَّبر:
ـ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ـ عندما يتحركون في الحياة، ويشعرون بعظمة الله، فإنّهم يخافون عقابه ويرجون ثوابه، ويتصوّرون موقفهم منه وموقعهم عنده ـ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ـ عندما يقفون بين يديه ويأتي النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون}، فهم في الدنيا لا يقومون بالأعمال السيئة التي تجعلهم يقفون طويلاً بين يدي الله ـ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْـ باعتبار أنَّ الله تعالى جعل الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس له، كذلك لا خير في إيمان لا صبر معه. وقد بشّر الله الصابرين بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ}(البقرة:155-157).
ـ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ـ التي هي معراج المؤمن إلى الله، وعمود الدين، إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن ردّت رُدّ ما سواها، كما أن من لا صلاه له لا إيمان له ولا إسلام له ـ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ـ لأنّ الله أراد للإنسان أن يعطي الآخرين ممّا رزقه، باعتبار أنّه وكيلٌ من الله على هذا الرّزق ـ وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ـ يواجهون السيئة بالحسنة وبالعفو عمّن أساء إليهم، ويحاولون عندما يواجهون بعض المشاكل مع الآخرين، أن يحلّوا المشكلة بالحكمة، لا أن يعقّدوها ـ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}(الّرعد:20-22).
فما هي جائزة هؤلاء وثوابهم عند الله؟ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْـ فإذا كان عندكم عائلة، فعليكم أن تعملوا على أن تكون أسرةً صالحة، لتتكامل هذه الأسرة معاً في الآخرة كما تتكامل في الدنيا ـ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ـ يجولون عليهم في زيارات ترحيبيَّة ـ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ـ فقد حصلتم على هذا الموقع لأنّكم صبرتم على طاعة الله، وابتعدتم عن معصيته، وصبرتم على البلاء ـفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(الرّعد:23-24).
هذا هو ثواب أولي الألباب وجزاؤهم في الآخرة. فما حال الآخرين؟
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ـ الذين يعطون الله الميثاق والعهد، ولكنّهم ينقضون الميثاق ولا يوفون بعهد الله ـوَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ـ يقطعون أرحامهم وإخوانهم المؤمنين ـ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ـ بحيث يحرّكون كلَّ نشاطهم وأموالهم وعلاقاتهم في إفساد حياة الناس ـأُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ـ الإبعاد عن رحمة الله ـوَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(الرعد:23-24).
هذا هو الخطّ الّذي أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يسيروا عليه، وهو الخطِّ الّذي يفصل بين من يؤمن بالله ويفي بعهده، وبين من ينحرف عن طريقه وينقض عهده من بعد ميثاقه.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكل المسؤولية أمام التحديات التي توجّه إلى العالم الإسلامي، فماذا هناك؟
دعم أمريكي مطلق لعمليات الاستيطان اليهودي
قتلت إسرائيل منذ مؤتمر أنابوليس إلى الآن ما يزيد على 500 فلسطيني، بينهم 170 طفلاً، وهي لا تزال تمارس عمليات القتل والاغتيال والاعتقال والحصار للفلسطينيين من دون أن يرفَّ لما يسمى "العالم الحر" جفن، أو أن يدرج هذه المجازر وعمليات القتل على لائحة الإرهاب الدولي، بينما نجد أن هذه الدولة أو تلك تنبري لتوزيع صفات الإرهاب والقتل على حركات الانتفاضة وعلى المقاومة في لبنان، في سياق خطة تهدف إلى رفع الضغط عن الاحتلال ودفعه للاستمرار في عدوانه دونما رقيب أو حسيب.
وفي المقابل، وعندما ينطلق أيّ رد فعل عفوي من شعوبنا المضطهدة، والتي يفتك بها الاحتلال قتلاً وتجويعاً واعتقالاً، كما جرى في القدس مؤخراً، تقوم الدنيا ولا تقعد، لأنّ الضحايا هنا هم من اليهود الذين ينبغي لأمم الأرض أن تتحسّس آلامهم وتراعي حالهم، وإن كان ذلك على حساب شعوب بعينها وأمم بما فيها.
وليس بعيداً من ذلك، فقد أحبطت الولايات المتحدة الأميركية صدور قرار عن مجلس الأمن مقدَّم من ليبيا باسم المجموعة العربية، يدعو العدو إلى وقف فوري وكامل لبناء المستوطنات وتوسيعها في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس، حيث اعتبر المندوب الأميركي أن القرار غير متوازن ومتحيّز لجانب على حساب الجانب الآخر، لأنه يريد من المجلس أن يندّد بالجانب الفلسطيني كما لو كان هو المسؤول عن الاستيطان وجرف المزارع وحصار المواطنين الفلسطينيين، وفي ذلك دليل جديد على ما يحظى به الاستيطان اليهودي من دعم أميركي، لأن الخطة الأميركية ترتكز على استكمال إسرائيل استراتيجيتها في الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، وإسقاط مقولة الدولة المستقلة من الوجدان الفلسطيني، وكذلك من الالتزامات العالمية، بما فيها التزامات اللجنة الرباعية الدولية التي لا تحرّك ساكناً لمنع مصادرة الأرض والإنسان.
أمّا الدول العربية التي تحتضنها الجامعة العربية، فهي ترضخ للتعليمات الأميركية التي تريد منها المشاركة في حصار الشعب الفلسطيني واضطهاده، والضغط عليه اقتصادياً، في الوقت الذي تنعم ببحبوحة اقتصادية نفطية، لأنه يراد للنفط أن يكون سلاحاً ضد القضايا العربية وليس لحسابها.
الإدارة الأمريكية: حرب تهويلية نفسية ضد إيران:
وإلى جانب ذلك، تتصاعد الهجمة الأميركيَّة ضدَّ إيران، تارةً من خلال رصد الكونغرس الأميركي لمئات الملايين من الدولارات بهدف زعزعة استقرارها الداخلي، حيث لا تتوانى الإدارة الأميركية عن دعم المنظمات التي صنَّفتها سابقاً إرهابية، كمنظمة (مجاهدي خلق)، في سبيل التأثير على الأوضاع الداخلية في إيران، إلى جانب عمليات التجسس عليها (على إيران) من الداخل والخارج... وطوراً من خلال التهديدات التي يطلقها هذا المسؤول الأميركي أو ذاك، وآخرها ما صرّح به رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية المشتركة، والذي أكَّد أن الخيار العسكري ضدّ إيران يظل مطروحاً... وكل ذلك يأتي في سياق حرب تهويلية نفسية على إيران بهدف الضغط عليها لجعلها ترضخ للشروط الأميركية، والتي انضم إلى تأييدها الاتحاد الأوروبي، لدفعها إلى الخروج من دائرة تطوير إمكاناتها الذاتية وطموحاتها العلمية، لتكون دولةً متهالكةً علمياً واقتصادياً وتكنولوجياً، وتعود إلى نادي دول العالم الثالث سالمةً قانعةً.
إنّنا في الوقت الّذي نعرف أهداف هذه الحرب النفسية الاستعراضية، نحذِّر الدول الأوروبية، وحتى بعض الدول العربية التي قد ترتاح للحملة على إيران، من إشعار أميركا وإسرائيل بأنّ ضرب إيران ليس محفوفاً بالأخطار الكبيرة عليهما، لأن ذلك يمثّل الخطر الأكبر على المنطقة وعلى الاقتصاد العالمي الذي يتحدث الكثيرون عن أنه قد يطلّ على مرحلة انهيار حقيقي. وعلى الجميع أيضاً أن يعرفوا أن الهجمة على إيران تمثل استهدافاً للعالم الإسلامي كلّه، ولحركات الممانعة والمقاومة فيه، ولذلك ينبغي على هؤلاء جميعاً أن يدركوا حجم المغامرة التي يحاولون الإيحاء بأن الطريق إليها سهل وميسَّر.
لبنان: سجلّ انتصارات جديد:
أما في لبنان، فإن الانتصار الجديد الذي استطاعت المقاومة أن تفرضه على العدو بالنـزول عند شروطها في مسألة التبادل، من خلال تخطيطها الدقيق وحركتها الواعية، والذي اعترف به العدوّ من خلال إقراره بالذل اللاحق به نتيجة ذلك... إن ذلك يُحتِّم على الجميع في لبنان أن يخرجوا من حساباتهم الذاتية الضيقة، ليتعاملوا مع هذه المقاومة التي تشرّف العرب والمسلمين كعنصر فرادة وتميّز في لبنان، وكمصدر حماية للواقع الداخلي من غدر العدو، لينطلق الحوار اللبناني القادم حول هذه المسألة من خلال التعامل مع هذه الحقائق بروحية وطنية عالية، وبمسؤولية سياسية كبيرة.
وإنّنا في الوقت الذي نهنئ الشعب اللبناني على هذا الإنجاز التاريخي الذي يضاف إلى إنجازات هذه المقاومة الشريفة المبدعة، نشعر بكثير من الارتياح حيال المواقف المتعدّدة المتنوّعة التي أكَّدت أهمية ما أنجزته المقاومة من خلال هذه الخطوة، ونريد لحال شبه الإجماع التي حصلت حولها، أن تؤسس لموقف وطني شامل يكون المدخل لحل الأمور العالقة داخلياً، وخصوصاً لجهة تأليف الحكومة، حيث ضاق الشعب اللبناني ذرعاً بما يجري من خلال تفاقم مشاكله الاقتصادية والسياسية والأمنية المتراكمة.
إنّنا نريد للجميع أن يخرجوا من اللّغة السياسية المتداولة في كل هذه الحساسيات الملتهبة، وفي كلِّ الإشكالات الشعبية والأوضاع المتنقلة بين منطقة وأخرى، فقد آن الأوان لنخرج من مذهبياتنا وطائفياتنا، وتعقيداتنا الحزبية والذاتية والمناطقية، إلى الفضاء اللبناني الرحب؛ فضاء العزّة والكرامة والحرية التي تصنعها المقاومة، وتصونها الوحدة الداخلية الشاملة. |