بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الكلمة الطيبة أبلغ لغةً في الخطاب الإنساني
الكلمة الطيّبة وأثرها
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً} [الإسراء:53].
يريد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، أن يبيّن المنهج الإسلامي في مسألة التخاطب بين الإنسان المسلم والإنسان الآخر، سواء كان قريباً في داخل العائلة، أو كان في المواقع التي تتصل بعلاقاته النسبية أو الاجتماعية، وذلك بأن يفتش عن الكلمة الأحسن التي تفتح عقل الآخر على الحق، وقلبه على المحبة، والعلاقة به على التواصل والتكامل والتحابب والوحدة، وحركته على التعاون مع الإنسان الآخر، لأن الكلمة عندما تنطلق من إنسان إلى آخر، فإنها تترك تأثيرها الإيجابي إذا كانت كلمة خير، أو السلبي إذا كانت كلمة شر، لأن الإنسان في مشاعره وأحاسيسه يتأثّر بالكلمات، ولاسيما في مخاطبة الإنسان الآخر له، أو في حواره معه.
لذلك، لا بد للإنسان من أن يفكر في تأثيرات الكلمة قبل أن يطلقها، وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع): "إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه"، قيل له: فسّر لنا ذلك يا أمير المؤمنين، فقال(ع): "لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شراً واراه"، فيكون العقل هو القائد، واللسان جندي في إطاعة القائد. أما المنافق، فإذا خطرت الكلمة في ذهنه، فإنه يطلقها كيفما كانت، فإذا تركت تأثيرها السلبي يرجع إلى العقل ليحلّ له مشكلة، فيكون اللسان عنده هو القائد، والعقل جنديٌ عند اللسان.
وقد أكد تعالى هذه المسألة بقوله: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ـ فكما أنّ الإنسان يختار كل ما يأكله أو يشربه بدقة وعناية، عليه أن يختار بالدقة نفسها كلماته التي يطلقها، لما لهذه الكلمات من تأثير على علاقته بعائلته وبالناس من حوله ـإن الشيطان ينـزغ بينهمـ فالشيطان يدخل في عبّ الكلمة، فإذا كانت تثير المشاكل، فإنه يدخل من خلالها ليعقّد العلاقات الإنسانية ـ إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً}، والعدوّ لا بد من أن نتعامل معه بحذر شديد، وأن نجهّز أنفسنا بكل وسائل الحماية والوقاية منه.
الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة
وفي آية أخرى، يبيّن لنا الله تعالى الأسلوب الأفضل للدعوة، فإذا أردت أن تقرِّب الآخر من الفكرة التي تؤمن بها ليقتنع بها ويلتزمها، فعليك أولاً أن تدرس عقليّته، لتعرف ما هي الكلمة المناسبة التي التي يمكن أن تستخدمها في مخاطبته: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمةـ والحكمة هي وضع الشيء في موضعه ـ والموعظة الحسنة ـ وهي الكلمة التي تحبِّب الآخر بالفكرة وتظهر له منافعها ـ وجادلهم بالتي هي أحسنـ جادل بالأسلوب الطيب، لأن مهمتك هي أن توجّههم وتعلّمهم وترفع مستواهم ـ إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [النحل:125].
وهذا ينسحب حتى على مسألة الحوار بين الأب وأولاده، أو بين الزوج وزوجته، فلا بدّ من أن يكون الحوار والجدال بالتي هي أحسن، فلا يتجبّر الأب في بيته ويمنع أن يناقشه أحد، بل عليه أن يفسح في المجال للحوار، ولاسيما إذا كانت زوجته مثقفة ومتعلّمة وكذلك أولاده.
ويقول تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئةـ والحسنة تتمثّل بالأسلوب الليّن والطيب، والسيئة تتمثّل بأسلوب العنف والقسوة، وهذان الأسلوبان لا يتساويان ـ ادفع بالتي هي أحسن ـ إذا حصلت مشكلة بينك وبين إنسان آخر، فكّر في الطريقة الأحسن لحلّ هذا الخلاف ـ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} [فصّلت:34]. والله سبحانه يؤكد ضرورة أن يربح الإنسان صداقة الآخر ليحوّله من عدوّ إلى صديق، ولكنّنا من خلال أسلوبنا في إدارة الخلافات، نحوّل أصدقاءنا إلى أعداء، مع أن الإسلام يعلّمنا كيف يمكن أن نكون أصدقاء العالم، حتى لو اختلفنا فيما بيننا على المستوى السياسي والديني والاجتماعي والثقافي، ما عدا الذي يفرض عليّ العنف، لأنّ من يوجّه إليَّ رصاصةً، لا يمكن أن أقابله بوردة. ونحن نقول دائماً لإخواننا وأخواتنا، إنكم تبحثون عن أصدقاء كثر، ولكن هناك صداقة لا بد من أن نبحث عنها ونوثّقها، وهي صداقتنا لله تعالى، فعلينا أن نصادق الله، فنجلس إليه ونحدثه عن آلامنا ومشاكلنا لكي يخفف عنّا.
الرِّفق النبوي واللين الرسالي
وفي هذا الجو، يحدّثنا الله تعالى عن أخلاق النبي(ص)، فيقول: {فبما رحمة من الله لنت لهم ـ فقد كنت، يا محمد، الليّن في مشاعرك وأحاسيسك مع الناس ـولو كنت فظاً ـ قاسي اللسان ـ غليظ القلب ـ لا تحمل المحبة والرحمة للناس ـ لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم ـ إذا أخطأوا معك ـوشاورهم في الأمرـ ليتعلّموا كيف تكون علاقتهم بالقادة ـ فإذا عزمت فتوكّل على الله إن الله يحبّ المتوكلين} [آل عمران:159].
وجاء في رواية أخرى، أن النبي(ص) كان جالساً ذات يوم مع زوجته عائشة، فمرّ عليهما يهودي، فقال للنبي(ص): "السام عليك"، أي الموت عليك، فأجابه النبي(ص): "وعليك"، فرأت عائشة أن هذا اليهودي يدعو على النبي(ص)، فانطلقت تتكلم معه بطريقة قاسية غليظة، فقال لها النبي(ص): "يا عائش، إن الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلا زانه، ولم يرفع عن شيء قطّ إلا شانه".
هذا هو خُلق الإسلام، وهذه هي أخلاق النبي(ص)، وهذا هو الخُلق الذي يرتفع به الإنسان ليكون إنساناً مع الآخرين، ولينفتح من موقع إنسانيته على إنسانيتهم، وهذا ما يقرِّب الناس بعضهم من بعض، ويجعل المجتمع مجتمعاً متواصلاً متراحماً متعاوناً على البرّ والتقوى.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، {وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2]، وانطلقوا في مواجهة التحديات التي توجّه إلى العالم الإسلامي من موقع الوحدة التي أراد الله تعالى للمسلمين أن يتواصوا بها. فماذا هناك؟
قمة اليابان، قمة الإفقار والتجويع
شهدت الأيام الماضية انعقاد قمتين عالميتين، حيث عقدت الأولى في اليابان وضمّت الدول الثماني الكبرى، والثانية في ماليزيا وضمّت الدول الإسلامية الثماني الكبرى... وقد حرصت القمة الأولى التي ضمّت الدول الكبار وأغنياء العالم، على أن تتهرّب من مسؤولياتها حيال الدمار الأمني والاقتصادي والغذائي والمناخي الذي تتسبب به دولها في العالم أجمع، وفي دول العالم الثالث والدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص.
وعلى الرغم من أن هذه الدول مسؤولة عن 62 في المئة من الانبعاثات السامة في العالم، فهي تجنّبت القيام بخطوة عملية لوقف هذا الاعتداء على البشرية وعلى الأرض، وعملت على ترحيل هذه المشكلة إلى العام 2050، كما حاولت إلقاء أزمة ارتفاع أسعار الغذاء والنفط على عاتق الدول الناشئة والفقيرة، لتتهرّب من القيام بأي دور حيال الأزمات التي تهدد عشرات الملايين من الفقراء والمستضعفين في العالم.
أما قمة الدول الإسلامية، فقد وضعت خطةً عشريةً للتعاون في مجالات الاستثمار والزراعة والطاقة والسياحة والنقل وغيرها... في محاولة للحدّ من هجوم الدول الكبيرة التي قد تحرص على بقاء شعوبنا كأسواق مستهلكة لها، وكأدوات لتأمين رفاهية شعوبها على حساب جوعنا ومرضنا وضعفنا.
إننا في الوقت الذي نلاحظ أنّ العالم قد دخل في مرحلة التسابق الحقيقي للسيطرة على الأسواق والثروات، نرى أن بلادنا لا تزال في مرحلة البحث عن الاستمرارية رغم ظاهرة تفاقم العولمة المتوحشة، ووسط الهجمات المتتالية على بلادنا أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
إننا إذ نرحّب بما خلصت إليه قمة الدول الإسلامية الثمانية، نريد لهذه الحركة أن تنطلق في شكل فاعل على مستوى العالم العربي والإسلامي لتضمّ كل دول هذا العالم، ولتحاول أن تخترق حواجز التجهيل والتجويع والاحتلال، في عالم تكاد ذئاب الاستكبار السياسي والأمني والاقتصادي تفترسه على جميع المستويات.
الإدارة الأمريكية:تصاعد الهجمة العدوانية على المنطقة
وليس بعيداً من ذلك كله، نلاحظ تصاعد الهجمة الأمريكية العدوانية على بلادنا، فمن الإغارات اليومية على المواقع المدنية ـ كما فعل الطيران الأمريكي في أفغانستان ـ حيث قُتل وجرح العشرات في حفل زفاف، إلى الدخول الأمريكي الخفي إلى العمق الباكستاني أمنياً وسياسياً وعسكرياً، وما يسببه ذلك من تفجيرات واعتداءات تضع باكستان على حافة الانهيار الأمني والسياسي.
أما في العراق، فقد بدأت الصورة تتّضح للعراقيين من خلال هذا الحرص الأمريكي على بقاء الاحتلال ورفض جدولة الانسحاب... وبدأ الشعب العراقي، بكل فئاته وطوائفه ومكوناته السياسية، يتحسس الخطر الأمريكي الكبير على مستقبل أجياله ووحدة بلاده، في ظلّ الضغط الذي يمارسه الاحتلال لتحقيق شروطه في السيطرة على ثروات العراق وعلى قراره السياسي.
إننا في الوقت الذي نرحّب بالمواقف العراقية الأخيرة الرافضة لشروط المحتل في عقد معاهدة معه، نشدد على تشجيع المحاولة الوطنية الأخيرة للحكومة العراقية في رفضها الضغوط الأمريكية والالتفاف عليها، ونريد لهذه المحاولة أن تتجذّر على مستوى الموقف السياسي الذي نشدّد على كل الأطراف العراقيين أن يتمسكوا به، ليتوحّد الجميع في مواجهة الاحتلال وفي السعي لإخراجه، وليكون ذلك هو الخط الذي يُعيد العراق بوحدته الداخلية إلى جادة الأمة في قضاياها المصيرية الكبرى.
وفي فلسطين المحتلة، نلاحظ تسارع خطى الاحتلال الذي بدأ حملةً شعواء ضد الجمعيات الخيرية والأهلية الفلسطينية في الضفة الغربية، ليستكمل حركته في محاصرة الشعب الفلسطيني غذائياً واجتماعياً، إلى جانب محاصرته أمنياً، في عملية مشابهة لما يجري في غزة من خلال الحصار الذي يتواصل بطريقة وبأخرى... وإلى جانب ذلك، يواصل الاحتلال بناءه للجدار العازل، غير مبالٍ بقرار محكمة العدل الدولية، ليعمل من خلال ذلك على تقطيع أوصال الضفة الغربية، ومنع قيام أية دولة فلسطينية قابلة للحياة في المستقبل، وليواصل ـ من خلال ذلك كله ـ اضطهاده للفلسطينيين وحصاره لهم، كما فعل في محاصرته لبلدة "يعلين" وحظر التجوال فيها، وإطلاق النار على أهلها، ومنع وصول المواد الغذائية والأدوية إليها، وكل ذلك جرى ويجري في ظلّ صمت عربي مطبق، وموافقة غربية، وتغطية مستمرة من الرباعية الدولية.
لبنان: الحاجة إلى خطة إنقاذية لبنانية وعربية
أما في لبنان، فثمة ملاحظات لا بد من رصدها:
أولاً: نلاحظ في معركة التوزير للأشخاص والحقائب، أن القائمين على شؤون الحكومة والضاغطين عليها، لا يفكرون في الكفاءات والخبرات والاختصاصات التي يتمتع بها المستوزرون في اختيارهم لهذه الوزارة أو تلك، بل يفكّرون في العلاقات الحزبية أو الانتماءات المذهبية والطائفية، أو الموظفين لدى هذا القيادي أو ذاك، بحيث لا يملك الوزير، نظراً إلى افتقاده الخبرة، القدرة على إدارة شؤون وزارته في إطار التخطيط لمصالح البلد العامة.
ثانياً: إن الوزراء الذين سوف يدخلون الحكومة لا يمثلون وحدة وطنية، لا من حيث الالتزام بالشؤون العامة للناس، ولا من حيث الإخلاص لقضايا المواطنين في تأكيد على حقوقهم الحيوية وقضاياهم المصيرية، لأن ما نسمعه من تصريحاتهم الاستهلاكية السياسية بعضهم ضدّ بعض، أو ما نراه من إخلاصهم للأوضاع الإقليمية أو الدولية التي يرتبط بها هذا الفريق أو ذاك، أو ما يتحدثون به عن ضغط على الحرية في البلد الذي يختلفون معه، وقبولهم بإسقاط حقوق الإنسان وإسقاط حريته في بلد آخر مما يتفقون معه رغبةً أو رهبة... إن هذا كله يمنع من تأسيس حكومة وحدة وطنية، لأن هذه النتائج تؤدي إلى تجميع التناقضات والحساسيات والمصالح الطائفية والمذهبية، وأخيراً الانتخابية، في مثل هكذا حكومة.
ثالثاً: إننا نتوجّه إلى بعض الدول الغنية في المنطقة التي تتحدث عن اهتمامها بمستقبل لبنان، وتدعوه إلى التوازن في نظامه على مستوى الحكم والحكومة، وتناشده أن يحل مشاكله بنفسه عبر التفاف مواطنيه حول الدولة القوية القادرة... إننا نتوجه إلى هؤلاء الذين تضخّمت ثرواتهم ومداخيلهم بتطور ارتفاع أسعار النفط، أن يساعدوا لبنان في إخراجه من العجز الاقتصادي في قضايا الماء والكهرباء، وفي ديونه المليارية التي تأكل فوائدها كل إنتاجه، وذلك بالعمل على تخفيفها إن لم يمكن العمل على إلغائها.
إن الإخلاص للبنان بحاجة إلى التخطيط لإنقاذه من العجز الاقتصادي، ومن الخلل الأمني، وتزويد الجيش بالأسلحة الثقيلة المتطورة القادرة على مواجهة العدوان الإسرائيلي في أية مرحلة من المراحل، فكيف يعالج العالم العربي الغني ذلك كله؟ إنه سؤال بحاجةٍ إلى جواب في الواقع التنفيذي لا في الواقع العاطفي. |