استحضار عظمة الله ورحمته ينير الطريق

استحضار عظمة الله ورحمته ينير الطريق

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

استحضار عظمة الله ورحمته ينير الطريق

نهي النّفس عن الهوى

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}(النَّازعات/37-41)، ويقول تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الزُّمر/9).

يؤكّد القرآن الكريم والسّـنّة النبويّة الشريفة، أنّ على الإنسان أن يستحضر دائماً عظمة ربه في نفسه، بحيث يستشعر الخشية منه كأيّ عظيم يتصوّره مرتبطاً بوجوده وحياته ومصيره، بحيث يخافه ويخشاه إذا عصاه أو انحرف عن الطريق الّذي رسمه له، وقد ورد في القرآن الكريم: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(الزُّمر/67)، فالله هو خالق السماوات والأرض، وخالق الكون كلّه، وهو القاهر فوق عباده والقادر على كل شيء.

لذلك، لا بدّ للإنسان من أن يتفكّر في مقام ربه؛ مقامه في الألوهية والربوبية، ومقامه في الطاعة والعبادة، وقد تحدّث القرآن الكريم عن ذلك كلّه، واختصر مسألة المصير بين الجنة والنار بهذه الآيات: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى} والمقصود بمن طغى، هو من تجاوز كلَّ الحدود التي لا بد من أن يقف عندها، في التزامه بالإيمان بالله وتوحيده والخضوع له في الطاعة والعبادة وامتثال أوامره ونواهيه، ومن تجاوز هذه الحدود واستغرق في الدنيا، فلم يفكر في الآخرة، وإنّما كان كلّ تفكيره منصبّاً على مقدار ما يربحه في هذه الدنيا من المال، حلالاً كان أو حراماً، وما يحصل عليه من قوّة وسلطة تضخّم شخصيته، وترتفع به على الناس في عملية تكبّر وتجبّر، بحيث كانت الدنيا هي التي يتبنّاها ويخضع لها ويخلد إليها، أمّا الآخرة، فهو غافل عنها لا يفكر فيها ولا في الاستعداد لها، بل يتبع كل أهوائه وشهواته... إنّ من يكون هكذا، فإنّ من الطبيعي أن يقوده ذلك إلى جهنَّم.

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ـ الّذي عاش في الحياة وهو يتصوّر مقام الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الرحمن الرحيم وربّ العالمين، الشديد العقاب، فاستغرق في معرفة الله، وتحرّك في حياته وهو خائف من عقاب ربه ومقامه، وعندما تتحرّك أهواؤه لتفرض عليه الانحراف عن الخط المستقيم، فإنّه يجاهد نفسه وينهاها عن إطاعة أهوائه المحرّمة، فلا يجعل هواه بمنـزلة الإله الذي يعبده ـوَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى ـ أطاع الله وأخذ بمواقع رضاه وتحرّك في خطِّ شريعته في امتثال أوامره ونواهيه ـفَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}.

المؤمن العابد

ويحدّثنا الله تعالى عن بعض المؤمنين المتعبدين بقوله سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا ـ الّذي يصلي في الليل والناس نائمون، وينفتح على الله والناس غافلون، فيسجد لله إحساساً بعظمته، ويقوم بين يديه إعلاناً للالتزام بربوبيته ـ يَحْذَرُ الآَخِرَةَ ـ يفكّر في الآخرة وكيف سيقبل عليها، ويستعدُّ لها ليحصل على مواقع القرب من الله ـ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الزُّمر/9)، من الطبيعي أن يكون العالم أفضل من الجاهل.

ويقول الله تعالى لكلّ الدّعاة الّذين أرادهم أن يتابعوا الرّسالة في جميع العصور: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ ـ يخافون الله تعالى، ويشعرون بأنّ الرسالة وتبليغها هي مسؤوليتهم، فلا يختارون الحياديّة أمام الذين يتحركون على خلاف الرسالة التي أوحى بها الله إلى رسوله(ص)، ولا يعيشون جوّ اللامبالاة، بل ينطلقون في مواجهة المنكر والانحراف الديني والسياسي والاجتماعي والعقيدي والعبادي ـ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}(الأحزاب/39). ويقول تعالى في آية أخرى:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}(المائدة/54)، فلا يخافون من أن يتهمهم أو يضللهم أحد.

العمل للآخرة

ويقول رسول الله(ص)، وهو يشير إلى هذا الجوّ الإيماني في مخافة الله تعالى: «إن المؤمن يعمل بين مخافتين؛ بين أجل قد مضىـ وهو العمر الذي قضاه في الدنيا ـ لا يدري ما الله صانع فيهـ هل يجازيه خيراً عليه أو شراً ـوبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه. فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ـ إنّ الله تعالى خلق في الإنسان طاقات وعليه أن يفجِّرها ويحرِّكها لمصلحة نفسه عند لقاء ربه ـ ومن دنياه لآخرته ـ لأنّ الدنيا مزرعة الآخرة ـ وفي الشيبة قبل الكِبر ـ أن يأخذ من قوَّته قبل أن يصل إلى مستوى من العمر بحيث لا تعود عنده قوة أو طاقة للقيام بأيِّ شيء ـ وفي الحياة قبل الممات. فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلاّ الجنة أو النار». فكما تختار في الدنيا الدار التي تريد أن تسكنها، فتتجنب المواقع الخطرة وغير الآمنة، فإنّ عليك أن تعمل لتختار الدار الّتي تجعلك قريباً إلى الله وإلى مواقع رضوانه.

نور الخوف ونور الرّجاء

ويقول الإمام الصادق (ع): «كان أبي يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا، ولو وُزن هذا لم يزد على هذا». لذلك لا بدَّ للإنسان من أن يعيش حالاً من التوازن في هذا الأمر، فلا يخاف الله إلى حدّ اليأس، ولا يأمنه ويرجوه إلى حدّ التجرؤ عليه.

ويقول(ع) في تفسير قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(الرَّحمن/46)، قال(ع):«من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ـ لأنه شعر برقابة الله عليه ـ فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى». ومن وصايا لقمان لابنه: «خف الله عزّ وجلّ خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك».لذلك، علينا أن نعرف مقام ربِّنا ونخافه، ليمنعنا ذلك عن معصيته، وأن نرجو رحمته ليمنعنا ذلك عن اليأس من رحمته، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}(المطفّفين/26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله تعالى، وخافوا من عقابه، وارجوا رحمته وثوابه. فماذا هناك؟       

الإدارة الأمريكية: سياسة اللاتوازن واستجماع الأوراق

تدخل الإدارة الأميركية في مرحلة اللاتوازن في الأشهر الستة المتبقية من عمرها، وهي تشعر بأن الزمن يلاحقها، في مطاردة للفشل الذي حصدته وتحصده، من أفغانستان، إلى العراق، إلى فلسطين، وصولاً إلى لبنان الذي أحرجها وأسقط إمكانية استيلادها لشرق أوسط جديد على الطريقة الإسرائيلية في مخاض الحرب على لبنان، والتي أعادت إحياء حركة المقاومة والممانعة في الجسم العربي والإسلامي بطريقة تفاعلية حيّة.

ومع ذلك، فإنّ إدارة الرئيس بوش تحاول جاهدةً في هذه الأيام أن تستجمع ما يُمكنها من الأوراق لحسابها وحساب إسرائيل قبل أن تحزم حقائبها وترحل، فهي من جهة تحاول الضَّغط على العراقيين لإجبارهم على التوقيع على معاهدة مذلة تعطي الاحتلال بقواعده الجديدة شرعيةً أسقطها الشعب العراقي بدماء أطفاله وشبابه ونسائه وشيوخه وبمقاومته السياسية والجهادية معاً، ومن جهة ثانية، تعمل على تحضير الأجواء لتهدئة ملغومة في فلسطين المحتلة، يزحف خلالها الاستيطان اليهودي إلى القدس بكاملها، ليحاول تأكيد مقولة العاصمة الأبدية للكيان اليهودي، في خطة تستهدف إسقاط أية إمكانية لقيام كيان فلسطيني ناهض ومستقل وقابل للحياة.

وضمن هذا السياق، بدأ العدوّ بناء أربعين ألف وحدة استيطانية في القدس المحتلّة، ومصادرة المزيد من أراضي الفلسطينيين، وشراء بعض أملاك الكنيسة، ومتابعة الحفر تحت المسجد الأقصى بما يهدِّد بنيانه وأساساته، في ظلِّ تغطية أميركية لخَّصها موقف وزيرة الخارجية الأميركية القائل بأنّ استمرار الاستيطان لا يعطّل عملية التفاوض، لأن المطلوب من الفلسطينيين ـ أميركياً ـ أن يتفاوضوا مع الصهاينة على سراب وليس على وطن!

وهكذا يستكمل العدوّ استراتيجيته في مصادرة الأراضي واللعب على الوقت الضائع، معتمداً على دعم أميركا المطلق بحزبيها الديمقراطي والجمهوري اللذين يخضعان للشركات الاحتكارية وللناخب اليهودي؛ حتى إن المرشحين للرئاسة يتسابقون إلى تقديم أوراق اعتمادهم لإسرائيل بما لا يبقى أي شيء لفلسطين في الحسابات السياسية الواقعية، من دون أن يُحسب للعرب حسابٌ في الموازين السياسية الراهنة. وأمّا الجامعة العربية، فلا يملك أمينها العام إلا الحديث بأسلوب احتجاجي على سياسة الاستيطان التي تبقى هي الأمر الواقع وسط كل هذا السراب العربي، وفي ظل ركام الأوهام التي تُثير الحديث عن الشرعية الدولية من دون طائل.

الاتحاد الأوروبي: شراكةٌ ودعمٌ مطلق لليهود

ومن جانب آخر، فإنّ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أصدروا بياناً حول استعداد الاتحاد لإقامة شراكة مع إسرائيل، من دون تحديد مهلة زمنية لذلك، خشية إثارة غضب بعض الدول العربية، ومن دون أن يفرض على إسرائيل أية شروط يجب أن تلتزم بها. وقد نجد في هذه العلاقة الجديدة، أنّها تقترب من علاقة أمريكا بالدولة اليهودية، بينما لم يصدر من هذا الاتحاد أيّ بيان لإقامة شراكة وثيقة مع أية دولة عربية، في الوقت الذي يعرف الجميع أنَّ مصالحه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الدول؛ لأنّهم تعوّدوا على استضعاف العرب والخضوع لإسرائيل. ولذلك رأينا أنهم أهملوا مسألة خارطة الطريق وحصار غزة ومجازر إسرائيل واحتلالها لفلسطين؛ لأنّ الإدارات الأوروبية السياسية لا تحترم الإنسان العربي، بل الإنسان اليهودي. وفي السياق نفسه، لم نسمع من أيّ دولة أوروبية اعتراضاً على السلاح النووي الإسرائيلي الذي يهدّد المنطقة بكاملها، ولكنهم يتابعون الهجوم على إيران في مشروعها النووي السلمي الذي لا يملكون دليلاً على تحوّله إلى مشروع عسكري؛ لأنّهم يتابعون الضغط من ناحية سياسية، لا من ناحية الواقع الذي يتحرّك به المشروع.

إنّ أمريكا والدول الأوروبية لا تلتزم المعايير الأخلاقية في القيم الإنسانية، بل تلتزم مصالحها المادية الاستراتيجية. وقد لفت نظرنا تصريح البابا لبوش بأنه يشكره لدعمه التزام القيم الأخلاقية، وهو الذي ملأ الدنيا حرباً، والعالم قتلاً، والثروات نهباً، ولم يمرّ على أمريكا رئيس مماثل في إسقاطه لكلّ القيم الإنسانية، فكيف يفسّر بابا روما كلامه؟! هذا ما لا نفهمه.

لبنان: إثارات أمنية وعصبية خطيرة

أمّا لبنان، فإنّ الجميع مشغولون بتأليف الحكومة في حقائبها السيادية والخدماتية، كما لو كانت المسألة أن كل وزير يملك إدارة الوزارة لمصالحه بعيداً عن مجلس الوزراء والنواب والجمهورية؛ ويستغرق الشعب في كلمات السياسيّين من دون أن يكون له صوتٌ قويّ أمام ما يُصيبه من أزماتٍ في الماء والكهرباء والهاتف وغير ذلك، ممّا يُراد إدخاله في بازار التجاذبات السياسيّة للمسؤولين عن كلّ شيء إلاّ عن الشعب.

ويتساءل البعض: هل إنّ الذين تحدَّثوا عن اتّفاق اللبنانيّين بما يُشبه العقدة، عندما ثار الحديث عن اتفاق الدوحة أنه هدنة أو ما أشبه ذلك، يحاولون التحضير للانتخابات النيابية المقبلة لتعبئة أكبر قدر ممكن من الحالات الغرائزية المختلفة التي تنادي بالدفاع عن الطائفة أو المذهب أو الحزب أو الزعيم؟ هل إنّ هؤلاء يقفون وراء عملية الإثارة للأوضاع السلبية الأمنية الخطيرة، وخصوصاً أنَّ الكثيرين باتوا لا يدقّقون في المعطيات والإشاعات، بل يطلقون الأحكام بشكل انفعاليّ ليزيدوا النار اشتعالاً في هذا الموقع أو ذاك؟

وعلى كلّ حال، فإنّه لا بدّ لكلّ القوى السياسيّة والأمنيّة والدينية، أن تتحمّل مسؤوليّاتها تجاه الاختراقات الأمنية التي تتحوّل إلى خطرٍ على الناس الفقراء من خلال طموحاتٍ سياسية أو ذهنيّات تكفيرية أو عصبيّات إلغائية؛ وذلك قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع. مع الإشارة إلى أنّ هذه الاختراقات تصيب أكثر ما تصيب ـ في تداعياتها ـ الفقراء والمستضعفين، في الوقت الذي يستثمرها أصحاب العصبيّات والزعامات لحسابهم، في معارك سياسيّة أو انتخابيّة أو عصبيّة لا يجني منها الناس سوى مزيدٍ من الفقر والضعف؛ ما يدلّ على مستوى السذاجة السياسيّة التي أصبحت ميزةً إضافيّةً من ميزات هذا الشعب في هذا البلد العجيب الغريب.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 16 جمادى الثانية 1429 هـ  الموافق: 20/06/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

استحضار عظمة الله ورحمته ينير الطريق

نهي النّفس عن الهوى

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}(النَّازعات/37-41)، ويقول تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الزُّمر/9).

يؤكّد القرآن الكريم والسّـنّة النبويّة الشريفة، أنّ على الإنسان أن يستحضر دائماً عظمة ربه في نفسه، بحيث يستشعر الخشية منه كأيّ عظيم يتصوّره مرتبطاً بوجوده وحياته ومصيره، بحيث يخافه ويخشاه إذا عصاه أو انحرف عن الطريق الّذي رسمه له، وقد ورد في القرآن الكريم: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(الزُّمر/67)، فالله هو خالق السماوات والأرض، وخالق الكون كلّه، وهو القاهر فوق عباده والقادر على كل شيء.

لذلك، لا بدّ للإنسان من أن يتفكّر في مقام ربه؛ مقامه في الألوهية والربوبية، ومقامه في الطاعة والعبادة، وقد تحدّث القرآن الكريم عن ذلك كلّه، واختصر مسألة المصير بين الجنة والنار بهذه الآيات: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى} والمقصود بمن طغى، هو من تجاوز كلَّ الحدود التي لا بد من أن يقف عندها، في التزامه بالإيمان بالله وتوحيده والخضوع له في الطاعة والعبادة وامتثال أوامره ونواهيه، ومن تجاوز هذه الحدود واستغرق في الدنيا، فلم يفكر في الآخرة، وإنّما كان كلّ تفكيره منصبّاً على مقدار ما يربحه في هذه الدنيا من المال، حلالاً كان أو حراماً، وما يحصل عليه من قوّة وسلطة تضخّم شخصيته، وترتفع به على الناس في عملية تكبّر وتجبّر، بحيث كانت الدنيا هي التي يتبنّاها ويخضع لها ويخلد إليها، أمّا الآخرة، فهو غافل عنها لا يفكر فيها ولا في الاستعداد لها، بل يتبع كل أهوائه وشهواته... إنّ من يكون هكذا، فإنّ من الطبيعي أن يقوده ذلك إلى جهنَّم.

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ـ الّذي عاش في الحياة وهو يتصوّر مقام الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الرحمن الرحيم وربّ العالمين، الشديد العقاب، فاستغرق في معرفة الله، وتحرّك في حياته وهو خائف من عقاب ربه ومقامه، وعندما تتحرّك أهواؤه لتفرض عليه الانحراف عن الخط المستقيم، فإنّه يجاهد نفسه وينهاها عن إطاعة أهوائه المحرّمة، فلا يجعل هواه بمنـزلة الإله الذي يعبده ـوَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى ـ أطاع الله وأخذ بمواقع رضاه وتحرّك في خطِّ شريعته في امتثال أوامره ونواهيه ـفَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}.

المؤمن العابد

ويحدّثنا الله تعالى عن بعض المؤمنين المتعبدين بقوله سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا ـ الّذي يصلي في الليل والناس نائمون، وينفتح على الله والناس غافلون، فيسجد لله إحساساً بعظمته، ويقوم بين يديه إعلاناً للالتزام بربوبيته ـ يَحْذَرُ الآَخِرَةَ ـ يفكّر في الآخرة وكيف سيقبل عليها، ويستعدُّ لها ليحصل على مواقع القرب من الله ـ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الزُّمر/9)، من الطبيعي أن يكون العالم أفضل من الجاهل.

ويقول الله تعالى لكلّ الدّعاة الّذين أرادهم أن يتابعوا الرّسالة في جميع العصور: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ ـ يخافون الله تعالى، ويشعرون بأنّ الرسالة وتبليغها هي مسؤوليتهم، فلا يختارون الحياديّة أمام الذين يتحركون على خلاف الرسالة التي أوحى بها الله إلى رسوله(ص)، ولا يعيشون جوّ اللامبالاة، بل ينطلقون في مواجهة المنكر والانحراف الديني والسياسي والاجتماعي والعقيدي والعبادي ـ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}(الأحزاب/39). ويقول تعالى في آية أخرى:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}(المائدة/54)، فلا يخافون من أن يتهمهم أو يضللهم أحد.

العمل للآخرة

ويقول رسول الله(ص)، وهو يشير إلى هذا الجوّ الإيماني في مخافة الله تعالى: «إن المؤمن يعمل بين مخافتين؛ بين أجل قد مضىـ وهو العمر الذي قضاه في الدنيا ـ لا يدري ما الله صانع فيهـ هل يجازيه خيراً عليه أو شراً ـوبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه. فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ـ إنّ الله تعالى خلق في الإنسان طاقات وعليه أن يفجِّرها ويحرِّكها لمصلحة نفسه عند لقاء ربه ـ ومن دنياه لآخرته ـ لأنّ الدنيا مزرعة الآخرة ـ وفي الشيبة قبل الكِبر ـ أن يأخذ من قوَّته قبل أن يصل إلى مستوى من العمر بحيث لا تعود عنده قوة أو طاقة للقيام بأيِّ شيء ـ وفي الحياة قبل الممات. فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلاّ الجنة أو النار». فكما تختار في الدنيا الدار التي تريد أن تسكنها، فتتجنب المواقع الخطرة وغير الآمنة، فإنّ عليك أن تعمل لتختار الدار الّتي تجعلك قريباً إلى الله وإلى مواقع رضوانه.

نور الخوف ونور الرّجاء

ويقول الإمام الصادق (ع): «كان أبي يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا، ولو وُزن هذا لم يزد على هذا». لذلك لا بدَّ للإنسان من أن يعيش حالاً من التوازن في هذا الأمر، فلا يخاف الله إلى حدّ اليأس، ولا يأمنه ويرجوه إلى حدّ التجرؤ عليه.

ويقول(ع) في تفسير قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(الرَّحمن/46)، قال(ع):«من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ـ لأنه شعر برقابة الله عليه ـ فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى». ومن وصايا لقمان لابنه: «خف الله عزّ وجلّ خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك».لذلك، علينا أن نعرف مقام ربِّنا ونخافه، ليمنعنا ذلك عن معصيته، وأن نرجو رحمته ليمنعنا ذلك عن اليأس من رحمته، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}(المطفّفين/26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله تعالى، وخافوا من عقابه، وارجوا رحمته وثوابه. فماذا هناك؟       

الإدارة الأمريكية: سياسة اللاتوازن واستجماع الأوراق

تدخل الإدارة الأميركية في مرحلة اللاتوازن في الأشهر الستة المتبقية من عمرها، وهي تشعر بأن الزمن يلاحقها، في مطاردة للفشل الذي حصدته وتحصده، من أفغانستان، إلى العراق، إلى فلسطين، وصولاً إلى لبنان الذي أحرجها وأسقط إمكانية استيلادها لشرق أوسط جديد على الطريقة الإسرائيلية في مخاض الحرب على لبنان، والتي أعادت إحياء حركة المقاومة والممانعة في الجسم العربي والإسلامي بطريقة تفاعلية حيّة.

ومع ذلك، فإنّ إدارة الرئيس بوش تحاول جاهدةً في هذه الأيام أن تستجمع ما يُمكنها من الأوراق لحسابها وحساب إسرائيل قبل أن تحزم حقائبها وترحل، فهي من جهة تحاول الضَّغط على العراقيين لإجبارهم على التوقيع على معاهدة مذلة تعطي الاحتلال بقواعده الجديدة شرعيةً أسقطها الشعب العراقي بدماء أطفاله وشبابه ونسائه وشيوخه وبمقاومته السياسية والجهادية معاً، ومن جهة ثانية، تعمل على تحضير الأجواء لتهدئة ملغومة في فلسطين المحتلة، يزحف خلالها الاستيطان اليهودي إلى القدس بكاملها، ليحاول تأكيد مقولة العاصمة الأبدية للكيان اليهودي، في خطة تستهدف إسقاط أية إمكانية لقيام كيان فلسطيني ناهض ومستقل وقابل للحياة.

وضمن هذا السياق، بدأ العدوّ بناء أربعين ألف وحدة استيطانية في القدس المحتلّة، ومصادرة المزيد من أراضي الفلسطينيين، وشراء بعض أملاك الكنيسة، ومتابعة الحفر تحت المسجد الأقصى بما يهدِّد بنيانه وأساساته، في ظلِّ تغطية أميركية لخَّصها موقف وزيرة الخارجية الأميركية القائل بأنّ استمرار الاستيطان لا يعطّل عملية التفاوض، لأن المطلوب من الفلسطينيين ـ أميركياً ـ أن يتفاوضوا مع الصهاينة على سراب وليس على وطن!

وهكذا يستكمل العدوّ استراتيجيته في مصادرة الأراضي واللعب على الوقت الضائع، معتمداً على دعم أميركا المطلق بحزبيها الديمقراطي والجمهوري اللذين يخضعان للشركات الاحتكارية وللناخب اليهودي؛ حتى إن المرشحين للرئاسة يتسابقون إلى تقديم أوراق اعتمادهم لإسرائيل بما لا يبقى أي شيء لفلسطين في الحسابات السياسية الواقعية، من دون أن يُحسب للعرب حسابٌ في الموازين السياسية الراهنة. وأمّا الجامعة العربية، فلا يملك أمينها العام إلا الحديث بأسلوب احتجاجي على سياسة الاستيطان التي تبقى هي الأمر الواقع وسط كل هذا السراب العربي، وفي ظل ركام الأوهام التي تُثير الحديث عن الشرعية الدولية من دون طائل.

الاتحاد الأوروبي: شراكةٌ ودعمٌ مطلق لليهود

ومن جانب آخر، فإنّ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أصدروا بياناً حول استعداد الاتحاد لإقامة شراكة مع إسرائيل، من دون تحديد مهلة زمنية لذلك، خشية إثارة غضب بعض الدول العربية، ومن دون أن يفرض على إسرائيل أية شروط يجب أن تلتزم بها. وقد نجد في هذه العلاقة الجديدة، أنّها تقترب من علاقة أمريكا بالدولة اليهودية، بينما لم يصدر من هذا الاتحاد أيّ بيان لإقامة شراكة وثيقة مع أية دولة عربية، في الوقت الذي يعرف الجميع أنَّ مصالحه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الدول؛ لأنّهم تعوّدوا على استضعاف العرب والخضوع لإسرائيل. ولذلك رأينا أنهم أهملوا مسألة خارطة الطريق وحصار غزة ومجازر إسرائيل واحتلالها لفلسطين؛ لأنّ الإدارات الأوروبية السياسية لا تحترم الإنسان العربي، بل الإنسان اليهودي. وفي السياق نفسه، لم نسمع من أيّ دولة أوروبية اعتراضاً على السلاح النووي الإسرائيلي الذي يهدّد المنطقة بكاملها، ولكنهم يتابعون الهجوم على إيران في مشروعها النووي السلمي الذي لا يملكون دليلاً على تحوّله إلى مشروع عسكري؛ لأنّهم يتابعون الضغط من ناحية سياسية، لا من ناحية الواقع الذي يتحرّك به المشروع.

إنّ أمريكا والدول الأوروبية لا تلتزم المعايير الأخلاقية في القيم الإنسانية، بل تلتزم مصالحها المادية الاستراتيجية. وقد لفت نظرنا تصريح البابا لبوش بأنه يشكره لدعمه التزام القيم الأخلاقية، وهو الذي ملأ الدنيا حرباً، والعالم قتلاً، والثروات نهباً، ولم يمرّ على أمريكا رئيس مماثل في إسقاطه لكلّ القيم الإنسانية، فكيف يفسّر بابا روما كلامه؟! هذا ما لا نفهمه.

لبنان: إثارات أمنية وعصبية خطيرة

أمّا لبنان، فإنّ الجميع مشغولون بتأليف الحكومة في حقائبها السيادية والخدماتية، كما لو كانت المسألة أن كل وزير يملك إدارة الوزارة لمصالحه بعيداً عن مجلس الوزراء والنواب والجمهورية؛ ويستغرق الشعب في كلمات السياسيّين من دون أن يكون له صوتٌ قويّ أمام ما يُصيبه من أزماتٍ في الماء والكهرباء والهاتف وغير ذلك، ممّا يُراد إدخاله في بازار التجاذبات السياسيّة للمسؤولين عن كلّ شيء إلاّ عن الشعب.

ويتساءل البعض: هل إنّ الذين تحدَّثوا عن اتّفاق اللبنانيّين بما يُشبه العقدة، عندما ثار الحديث عن اتفاق الدوحة أنه هدنة أو ما أشبه ذلك، يحاولون التحضير للانتخابات النيابية المقبلة لتعبئة أكبر قدر ممكن من الحالات الغرائزية المختلفة التي تنادي بالدفاع عن الطائفة أو المذهب أو الحزب أو الزعيم؟ هل إنّ هؤلاء يقفون وراء عملية الإثارة للأوضاع السلبية الأمنية الخطيرة، وخصوصاً أنَّ الكثيرين باتوا لا يدقّقون في المعطيات والإشاعات، بل يطلقون الأحكام بشكل انفعاليّ ليزيدوا النار اشتعالاً في هذا الموقع أو ذاك؟

وعلى كلّ حال، فإنّه لا بدّ لكلّ القوى السياسيّة والأمنيّة والدينية، أن تتحمّل مسؤوليّاتها تجاه الاختراقات الأمنية التي تتحوّل إلى خطرٍ على الناس الفقراء من خلال طموحاتٍ سياسية أو ذهنيّات تكفيرية أو عصبيّات إلغائية؛ وذلك قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع. مع الإشارة إلى أنّ هذه الاختراقات تصيب أكثر ما تصيب ـ في تداعياتها ـ الفقراء والمستضعفين، في الوقت الذي يستثمرها أصحاب العصبيّات والزعامات لحسابهم، في معارك سياسيّة أو انتخابيّة أو عصبيّة لا يجني منها الناس سوى مزيدٍ من الفقر والضعف؛ ما يدلّ على مستوى السذاجة السياسيّة التي أصبحت ميزةً إضافيّةً من ميزات هذا الشعب في هذا البلد العجيب الغريب.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 16 جمادى الثانية 1429 هـ  الموافق: 20/06/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية