محاسبة النفس: سبيل النجاة في الدنيا والآخرة

محاسبة النفس: سبيل النجاة في الدنيا والآخرة

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

محاسبة النفس: سبيل النجاة في الدنيا والآخرة

مسؤولية الأفعال

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير} [البقرة:284].

إنّ كل ما ينطلق به الإنسان من أعمال في حياته العامة والخاصة، سوف يواجه حساب دوافعه، سواء كانت هذه الدوافع واضحةً بارزةً أو خفيّةً، وسوف يسأله سبحانه عن كل ما فعله في الحياة الدنيا، لأن الإنسان مسؤول عن أفعاله أمام الله الذي يراقبه في كل شيء، والذي يعلم السرّ وأخفى، ويسمع وساوس الصدور، ويبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.

وعلى ضوء هذا، لا بد للإنسان الذي يؤمن بأنه سيفد إلى الله، إن عاجلاً أو آجلاً، من أن يدرس نفسه وتاريخه منذ أن كلّفه الله تعالى القيام بالمسؤولية؛ هل قام بفرائض الله وأطاعه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه؟ ثم يسأل نفسه في كل يوم عن مصادر ماله، وعن طريقته في التعامل مع الناس المسؤول عنهم، سواء كانوا عائلته أو غير عائلته، ممّن يتحمل مسؤوليتهم في العمل أو في غيره؛ هل كان دقيقاً في عمله، بحيث استطاع أن يتحمّل مسؤوليته في حساباته مع الناس الذين تعاقد معهم تجاه وضع هنا ووضع هناك؟

معرفة النفس

وعلى الإنسان أن يعرف نفسه، فنحن نزعم أننا نعرف الناس أكثر مما نعرف أنفسنا. لنفترض أن شخصاً سأل شخصاً آخر عن صديق له، ما هي أفكاره، وأوضاعه، وعلاقاته، وصفاته، وحسناته، وسيئاته، فإنه يجيب عن ذلك بشكلٍ تفصيلي، لأنّه يمضي أكثر وقته معه، فهو يتابع حركته خطوة خطوة، ولكن لو سأله عن نفسه: ما هو تفكيرك؟ ما هو تصوّرك للعقيدة بالله؟ ما هو تصورك لحقيقة الرسالة في الرسول؟ وسأله عن خلفيات أعماله وعن حسناته وسيئاته، ما هي أخطاؤه في كلماته ومواقفه وسلوكه وعلاقته، وعن طريقته في التعامل مع عياله ومع جيرانه ومع موظفيه وعمّاله، وعن موقفه السياسي، فهل يستطيع أن يجيب فوراً، أو أنّه يطلب وقتاً للتفكير؟ لماذا؟ لأنه يعرف من الناس ما لا يعرفه من نفسه، ولأنه يحاسب الناس في أوضاعهم أكثر مما يحاسب نفسه، فإذا كان الإنسان يجهل نفسه في الدنيا، فكيف يمكن أن يعرفها في الآخرة، عندما يقف بين يدي الله وينطلق النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون} [الصافات:24]؟!

الأعمال في الميزان

لذلك، نجد أن الآيات الكريمة تؤكد أنّ الإنسان سوف يخضع لحساب الله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ـ من خيرٍ أو شر ـ يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء}. وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد} ماذا قدّمت للآخرة؟ ما هو رصيدها عند الله من الأعمال والأقوال؟ فليست المسألة كم هو رصيدك في البنك، ولكن كم هو رصيدك عند الله، وكم هو رصيدك من المال الحلال والطاعة لله تعالى، وكيف حرّكت هذا المال في سبيل أن يقرّبك إلى الله. والمشكلة أنّ بعض الناس عندما تطلب منه أن يشارك في عمل الخير، تراه يشعر بالخسارة، ولكن الله يؤكد أنّ الإنسان وكيل على المال الذي بين يديه، ولا بد من أن يصرفه بحسب تعليمات الموكّل.

{واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله ـ كبعض الناس عندما تذكّره بالله يقول لك: دع الله جانباً، بينما يجعل الزعيم أو الوجيه وصاحب المال في الواجهة ـ فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ـ أمّا إذا كنتم تريدون الجنة، فالجنة لها ثمن ـ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} [الحشر:18-20].

حساب النفس وتقويمها

ويقول رسول الله(ص): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوهاـ ليس بالميزان الذي يحسب وزن جسدك بالكيلو غرامات، بل بالميزان الذي يحسب مقدار طاعتك لله ومحبّتك له ـ قبل أن توزنوا ـ يوم القيامة حيث الميزان دقيق ـ وتجهّزوا للعرض الأكبر".

ويقول(ص) أيضاً: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكهـ فكما هو الإنسان دقيق في محاسبة شريكه، بحيث لا يغفل معه عن أي شيء مهما كان صغيراً، فإنّ عليه أن يحاسب نفسه بشكلٍ أشدّ ـ فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلٍّ أم من حرام؟".ويقول الإمام عليّ(ع): "حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليهاـ هل أدّيت الفرائض فيما أوجبه الله عليك من العبادات، وحدده لك من المسؤوليات؟ ـ والأخذ من فنائها لبقائها ـ خذ مما تحت يديك في الدنيا لتستفيد منه في دار البقاء في الآخرة ـ وتزوّدوا وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا".

ويقول(ع): "حاسب نفسك لنفسك ـ لا تنشغل عن حسابها بمحاسبة الآخرين ـفإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك". ويقول(ع):"ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يُحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها، في ليلها ونهارها".

ويقول الإمام الكاظم(ع): "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه، وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله وتاب إليه".

هذه هي المسألة؛ أن يعيش الإنسان في حساب دائم مع نفسه، ليقوّمها ويصحِّح أخطاءها، وخصوصاً إذا كان مسؤولاً في موقع القيادة التي تمسّ حياة الناس، سواء على المستوى الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وعلى الإنسان أن يدرس نقاط ضعفه كما يدرس نقاط قوته، حتى يقف بين يدي الله غداً، على الحال التي وصف بها إبراهيم(ع) نفسه في دعائه: {ولا تخزني يوم يبعثون* يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:87-89].

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله... فماذا هناك؟

الإدارة الأمريكية الإسرائيلية رمز الوحشية

تتحدث منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية عن الإدارة الأمريكية باعتبارها السجّان الأول في العالم، فهي التي تنظر إلى العالم كله كمنطقة نفوذ لها، فلا تتورّع عن اختطاف المعارضين لسياستها لزجّهم في السجون التي أنشأتها في قواعدها العسكرية في العالم، كما تسجن معارضيها في سفنها العائمة في البحار والمحيطات...

ومع ذلك، فإن وزيرة الخارجية الأميركية تتحدث عن أن قلب أمريكا ينفطر لأسر بضعة جنود إسرائيليين، من دون أن يتحرك فيها أي نبض أمام أحد عشر ألف أسير فلسطيني في سجون إسرائيل، يتعرضون لأبشع عمليات التعذيب الوحشي والنفسي والجسدي، ربما لأن السجّان الإسرائيلي لا يختلف كثيراً عن السجّان الأمريكي، الذي قتل مئات المعتقلين خنقاً في أفغانستان، واستخدم أكثر الأساليب وحشيةً ضد المعتقلين في "غوانتانامو" و"أبوغريب" وغيرهما...

وأمريكا المتوحشة في عمليات القتل لا تختلف عن ربيبتها إسرائيل، فهي تفعل في هذه الأيام في الريف الأفغاني من إبادة لعائلات آمنة بأكملها، تماماً كما تفعله إسرائيل في غزة، فلا يختلف مشهد الطفلة الناجية من عائلة أفغانية قتلت القوات الأمريكية أهلها وأخوتها في محافظة "بكتيا" الأفغانية، عن الطفلة الفلسطينية التي قتلت إسرائيل كل أفراد عائلتها على شاطىء غزة.

إن أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية وجهان لعملة واحدة، فها هي الطائرات الأمريكية تغير على الجيش الباكستاني لإبلاغه رسالةً جديدةً مفادها أن عليه ألا يتجاوز الدور الذي رسمته الإدارة الأمريكية فيما يسمى بـ"الحرب على الإرهاب"، تماماً كما تغير طائرات العدو على أحياء غزة الآمنة، في الوقت الذي يتصاعد الحديث عما يسمى مساعي التهدئة التي تقوم بها السلطات المصرية، ومحاولات التبرير الأمريكية هناك كمحاولات التبرير الإسرائيلية هنا، وكلها تنطلق تحت عناوين الدفاع عن النفس.

متى يتحرّك العرب لإنقاذ فلسطين؟

ولا ندري ـ بعد ذلك كله ـ كيف يتحدث المتحدثون عن سلام يمكن أن يقدمه القتلة للضحايا في طول المنطقة العربية والإسلامية وعرضها؟ وكيف يستمع العرب والفلسطينيون إلى نصائح الموفدين الغربيين، وآخرهم رئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، موفد اللجنة الدولية الرباعية لخارطة الطريق؟

إننا ندعو العرب، ولاسيما المسؤولين منهم، إلى أن لا يستجيبوا للضغوط الأمريكية في التطبيع مع العدو... وندعو مصر على وجه التحديد، إلى أن ترتفع إلى مستوى المسؤولية العربية والإسلامية، فلا تترك الشعب الفلسطيني وحيداً بفعل الحصار وعمليات القتل وكل محاولات تركيع الفلسطينيين وإخضاعهم.

ولسنا ندري ما الذي ينبغي أن يحصل للفلسطينيّين حتّى يشعر المسؤولون العرب بالحاجة إلى عقد اجتماع على مستوى القمّة العربيّة، والعمل للضغط على إسرائيل بشتّى الوسائل، وهي كثيرة، ولاسيّما لدى الدول المعترفة بالعدوّ أو المرتبطة به اقتصاديّاً، ليثبتوا للعالم أنهم أمة تحترم نفسها وتتحمّل مسؤولية شعوبها ليحترمهم التاريخ.

العالم الإسلامي: حمى الحروب الاستكبارية

وأمّا سائر العالم الإسلامي، فنجد أنّ الحرب الاستكباريّة المتنقّلة تعصف به من بلدٍ إلى بلد.

ففي العراق يسقط المدنيون الأبرياء بفعل التكفيريّين الوحوش من جهة، وبفعل عشوائيّة جنود الاحتلال من جهة أخرى، ويُراد من خلال ذلك أن لا يستقر العراق، كمبرّر لبقاء طويل للمحتلّ بحجّة حفظ الأمن، ويتحرّك الاحتلال ليفرض على الحكومة العراقيّة اتّفاقيّة أمنيّة تُبقي الاحتلال طويلاً، ليعبث بأمن هذا البلد ومستقبله، إضافةً إلى تمكينه من الانطلاق منه لتهديد المنطقة والعبث بأوضاعها، مما لا يقبل به أيّ شعب حرّ مستقل، مهما قُدّم من تبريرات؛ وقد جرّب الشعب العراقي مثل هذه الاتفاقية عند الاحتلال البريطاني، والتي استخدمها لفرض سيطرته على سيادة العراق السياسية ومقدّراته الاقتصادية.

وفي أفغانستان، لا يزال حلف الناتو ـ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ـ يمارس عملية القتل والاجتياح والاعتقال، في معركة ينطلق فيها الأفغانيون لمواجهته بالوسائل العادية التي يملكونها دفاعاً عن حريتهم الوطنية والإسلامية.

وتمتد المسألة إلى السودان الذي ينتقل من مشكلة أمنية إلى مشكلة أمنية أخرى، لأنه لم يخضع لأمريكا في تغيير نظامه، وفي رهن ثرواته لشركاتها، وفي خضوعه للصلح مع إسرائيل. وهكذا نصل إلى الصومال الذي يعيش الحرب الداخلية التي تستعين فيها حكومته بقوة أجنبية، فيعيش هذا الشعب القتل اليومي الجماعي الوحشي الذي يدمّر هذا البلد بثرواته ومقدّراته.

فإذا انتقلنا إلى الجزائر، وجدنا كيف تجدّدت المجازر التي يقوم بها المتطرفون في قتل الناس من دون تمييز، إضافةً إلى الفتنة التي تثيرها حركة تنصير المسلمين وإخراجهم من دينهم، في عمليّة استغلال لأوضاعهم السيّئة في فقرهم وحرمانهم وفي جميع أوضاعهم الاجتماعية الصعبة.

إنّ على المسلمين، وأمام هذه الصورة القاتمة، أن يكون لهم الوعي الإسلامي الذي يتحوّلون به إلى أمة موحّدة تدافع عن وجودها وثرواتها ومقدّراتها ومواقعها الاستراتيجية، لتأخذ مكانها الطبيعي في العالم.

لبنان: الطائفية تأكل التوافقية، فهل يرحم الشعب نفسه؟

أما في لبنان، فلا يزال السياسيون مشغولين بالحصص الوزارية التي يأمل الكثيرون منهم أن تمنحهم مواقع متقدّمة على مستوى المعركة الانتخابية القادمة، أو على مستوى الامتداد في زعاماتهم الطائفية والمذهبية، بينما تُحرَّك في هذا الوقت المشاكل الأمنيّة التي قد يراد من خلالها خلط الأوراق لتحقيق بعض المكاسب السياسية، مع ازدياد منسوب الخطاب المذهبي الذي لا يعرف مثيروه ماذا يفعلون، وبأيّ نارٍ يعبثون. ويتفاقم الوضع عندما تضعف ثقة الناس بالقوى الأمنيّة؛ لأنّها لا تقمع المجرمين انتظاراً للأمن الوفاقي، وهذا يدلّ على مدى الانحدار الذي يُمكن أن يوصل إليه النظام الطائفيّ في لبنان، هذا النظام الذي لا يستطيع أن يبني دولةً، ولاسيّما مع طبقة سياسيّة لا همّ لكثير منها إلا المصالح الذاتيّة، ولا عين لها إلا على المناصب الفارغة من أيّ مضمون مؤسّسي. وبات على الشعب أن يخدم أولئك بدلاً من أن يكونوا خُدّامه، ممّن لا يزيدونه إلا فقراً ودَيْناً وارتهاناً لكلّ اللاعبين الكبار..

أما من أحد يَرحمُ هذا الشعب؟!

والسؤال: هل يَرحمُ الشعب نفسه، فيرفض كلّ هذا الواقع، ويُدرك أكثر موقعه من عمليّة التغيير، وهو الشعبُ القويّ الذي باستطاعته أن يصنع المعجزات، ويعمل الكثيرون على تقزيمه، وإفقاده الثقة بنفسه؟!

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 9 جمادى الثانية 1429 هـ  الموافق: 13/06/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

محاسبة النفس: سبيل النجاة في الدنيا والآخرة

مسؤولية الأفعال

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير} [البقرة:284].

إنّ كل ما ينطلق به الإنسان من أعمال في حياته العامة والخاصة، سوف يواجه حساب دوافعه، سواء كانت هذه الدوافع واضحةً بارزةً أو خفيّةً، وسوف يسأله سبحانه عن كل ما فعله في الحياة الدنيا، لأن الإنسان مسؤول عن أفعاله أمام الله الذي يراقبه في كل شيء، والذي يعلم السرّ وأخفى، ويسمع وساوس الصدور، ويبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.

وعلى ضوء هذا، لا بد للإنسان الذي يؤمن بأنه سيفد إلى الله، إن عاجلاً أو آجلاً، من أن يدرس نفسه وتاريخه منذ أن كلّفه الله تعالى القيام بالمسؤولية؛ هل قام بفرائض الله وأطاعه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه؟ ثم يسأل نفسه في كل يوم عن مصادر ماله، وعن طريقته في التعامل مع الناس المسؤول عنهم، سواء كانوا عائلته أو غير عائلته، ممّن يتحمل مسؤوليتهم في العمل أو في غيره؛ هل كان دقيقاً في عمله، بحيث استطاع أن يتحمّل مسؤوليته في حساباته مع الناس الذين تعاقد معهم تجاه وضع هنا ووضع هناك؟

معرفة النفس

وعلى الإنسان أن يعرف نفسه، فنحن نزعم أننا نعرف الناس أكثر مما نعرف أنفسنا. لنفترض أن شخصاً سأل شخصاً آخر عن صديق له، ما هي أفكاره، وأوضاعه، وعلاقاته، وصفاته، وحسناته، وسيئاته، فإنه يجيب عن ذلك بشكلٍ تفصيلي، لأنّه يمضي أكثر وقته معه، فهو يتابع حركته خطوة خطوة، ولكن لو سأله عن نفسه: ما هو تفكيرك؟ ما هو تصوّرك للعقيدة بالله؟ ما هو تصورك لحقيقة الرسالة في الرسول؟ وسأله عن خلفيات أعماله وعن حسناته وسيئاته، ما هي أخطاؤه في كلماته ومواقفه وسلوكه وعلاقته، وعن طريقته في التعامل مع عياله ومع جيرانه ومع موظفيه وعمّاله، وعن موقفه السياسي، فهل يستطيع أن يجيب فوراً، أو أنّه يطلب وقتاً للتفكير؟ لماذا؟ لأنه يعرف من الناس ما لا يعرفه من نفسه، ولأنه يحاسب الناس في أوضاعهم أكثر مما يحاسب نفسه، فإذا كان الإنسان يجهل نفسه في الدنيا، فكيف يمكن أن يعرفها في الآخرة، عندما يقف بين يدي الله وينطلق النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون} [الصافات:24]؟!

الأعمال في الميزان

لذلك، نجد أن الآيات الكريمة تؤكد أنّ الإنسان سوف يخضع لحساب الله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ـ من خيرٍ أو شر ـ يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء}. وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد} ماذا قدّمت للآخرة؟ ما هو رصيدها عند الله من الأعمال والأقوال؟ فليست المسألة كم هو رصيدك في البنك، ولكن كم هو رصيدك عند الله، وكم هو رصيدك من المال الحلال والطاعة لله تعالى، وكيف حرّكت هذا المال في سبيل أن يقرّبك إلى الله. والمشكلة أنّ بعض الناس عندما تطلب منه أن يشارك في عمل الخير، تراه يشعر بالخسارة، ولكن الله يؤكد أنّ الإنسان وكيل على المال الذي بين يديه، ولا بد من أن يصرفه بحسب تعليمات الموكّل.

{واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله ـ كبعض الناس عندما تذكّره بالله يقول لك: دع الله جانباً، بينما يجعل الزعيم أو الوجيه وصاحب المال في الواجهة ـ فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ـ أمّا إذا كنتم تريدون الجنة، فالجنة لها ثمن ـ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} [الحشر:18-20].

حساب النفس وتقويمها

ويقول رسول الله(ص): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوهاـ ليس بالميزان الذي يحسب وزن جسدك بالكيلو غرامات، بل بالميزان الذي يحسب مقدار طاعتك لله ومحبّتك له ـ قبل أن توزنوا ـ يوم القيامة حيث الميزان دقيق ـ وتجهّزوا للعرض الأكبر".

ويقول(ص) أيضاً: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكهـ فكما هو الإنسان دقيق في محاسبة شريكه، بحيث لا يغفل معه عن أي شيء مهما كان صغيراً، فإنّ عليه أن يحاسب نفسه بشكلٍ أشدّ ـ فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلٍّ أم من حرام؟".ويقول الإمام عليّ(ع): "حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليهاـ هل أدّيت الفرائض فيما أوجبه الله عليك من العبادات، وحدده لك من المسؤوليات؟ ـ والأخذ من فنائها لبقائها ـ خذ مما تحت يديك في الدنيا لتستفيد منه في دار البقاء في الآخرة ـ وتزوّدوا وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا".

ويقول(ع): "حاسب نفسك لنفسك ـ لا تنشغل عن حسابها بمحاسبة الآخرين ـفإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك". ويقول(ع):"ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يُحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها، في ليلها ونهارها".

ويقول الإمام الكاظم(ع): "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه، وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله وتاب إليه".

هذه هي المسألة؛ أن يعيش الإنسان في حساب دائم مع نفسه، ليقوّمها ويصحِّح أخطاءها، وخصوصاً إذا كان مسؤولاً في موقع القيادة التي تمسّ حياة الناس، سواء على المستوى الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وعلى الإنسان أن يدرس نقاط ضعفه كما يدرس نقاط قوته، حتى يقف بين يدي الله غداً، على الحال التي وصف بها إبراهيم(ع) نفسه في دعائه: {ولا تخزني يوم يبعثون* يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:87-89].

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله... فماذا هناك؟

الإدارة الأمريكية الإسرائيلية رمز الوحشية

تتحدث منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية عن الإدارة الأمريكية باعتبارها السجّان الأول في العالم، فهي التي تنظر إلى العالم كله كمنطقة نفوذ لها، فلا تتورّع عن اختطاف المعارضين لسياستها لزجّهم في السجون التي أنشأتها في قواعدها العسكرية في العالم، كما تسجن معارضيها في سفنها العائمة في البحار والمحيطات...

ومع ذلك، فإن وزيرة الخارجية الأميركية تتحدث عن أن قلب أمريكا ينفطر لأسر بضعة جنود إسرائيليين، من دون أن يتحرك فيها أي نبض أمام أحد عشر ألف أسير فلسطيني في سجون إسرائيل، يتعرضون لأبشع عمليات التعذيب الوحشي والنفسي والجسدي، ربما لأن السجّان الإسرائيلي لا يختلف كثيراً عن السجّان الأمريكي، الذي قتل مئات المعتقلين خنقاً في أفغانستان، واستخدم أكثر الأساليب وحشيةً ضد المعتقلين في "غوانتانامو" و"أبوغريب" وغيرهما...

وأمريكا المتوحشة في عمليات القتل لا تختلف عن ربيبتها إسرائيل، فهي تفعل في هذه الأيام في الريف الأفغاني من إبادة لعائلات آمنة بأكملها، تماماً كما تفعله إسرائيل في غزة، فلا يختلف مشهد الطفلة الناجية من عائلة أفغانية قتلت القوات الأمريكية أهلها وأخوتها في محافظة "بكتيا" الأفغانية، عن الطفلة الفلسطينية التي قتلت إسرائيل كل أفراد عائلتها على شاطىء غزة.

إن أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية وجهان لعملة واحدة، فها هي الطائرات الأمريكية تغير على الجيش الباكستاني لإبلاغه رسالةً جديدةً مفادها أن عليه ألا يتجاوز الدور الذي رسمته الإدارة الأمريكية فيما يسمى بـ"الحرب على الإرهاب"، تماماً كما تغير طائرات العدو على أحياء غزة الآمنة، في الوقت الذي يتصاعد الحديث عما يسمى مساعي التهدئة التي تقوم بها السلطات المصرية، ومحاولات التبرير الأمريكية هناك كمحاولات التبرير الإسرائيلية هنا، وكلها تنطلق تحت عناوين الدفاع عن النفس.

متى يتحرّك العرب لإنقاذ فلسطين؟

ولا ندري ـ بعد ذلك كله ـ كيف يتحدث المتحدثون عن سلام يمكن أن يقدمه القتلة للضحايا في طول المنطقة العربية والإسلامية وعرضها؟ وكيف يستمع العرب والفلسطينيون إلى نصائح الموفدين الغربيين، وآخرهم رئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، موفد اللجنة الدولية الرباعية لخارطة الطريق؟

إننا ندعو العرب، ولاسيما المسؤولين منهم، إلى أن لا يستجيبوا للضغوط الأمريكية في التطبيع مع العدو... وندعو مصر على وجه التحديد، إلى أن ترتفع إلى مستوى المسؤولية العربية والإسلامية، فلا تترك الشعب الفلسطيني وحيداً بفعل الحصار وعمليات القتل وكل محاولات تركيع الفلسطينيين وإخضاعهم.

ولسنا ندري ما الذي ينبغي أن يحصل للفلسطينيّين حتّى يشعر المسؤولون العرب بالحاجة إلى عقد اجتماع على مستوى القمّة العربيّة، والعمل للضغط على إسرائيل بشتّى الوسائل، وهي كثيرة، ولاسيّما لدى الدول المعترفة بالعدوّ أو المرتبطة به اقتصاديّاً، ليثبتوا للعالم أنهم أمة تحترم نفسها وتتحمّل مسؤولية شعوبها ليحترمهم التاريخ.

العالم الإسلامي: حمى الحروب الاستكبارية

وأمّا سائر العالم الإسلامي، فنجد أنّ الحرب الاستكباريّة المتنقّلة تعصف به من بلدٍ إلى بلد.

ففي العراق يسقط المدنيون الأبرياء بفعل التكفيريّين الوحوش من جهة، وبفعل عشوائيّة جنود الاحتلال من جهة أخرى، ويُراد من خلال ذلك أن لا يستقر العراق، كمبرّر لبقاء طويل للمحتلّ بحجّة حفظ الأمن، ويتحرّك الاحتلال ليفرض على الحكومة العراقيّة اتّفاقيّة أمنيّة تُبقي الاحتلال طويلاً، ليعبث بأمن هذا البلد ومستقبله، إضافةً إلى تمكينه من الانطلاق منه لتهديد المنطقة والعبث بأوضاعها، مما لا يقبل به أيّ شعب حرّ مستقل، مهما قُدّم من تبريرات؛ وقد جرّب الشعب العراقي مثل هذه الاتفاقية عند الاحتلال البريطاني، والتي استخدمها لفرض سيطرته على سيادة العراق السياسية ومقدّراته الاقتصادية.

وفي أفغانستان، لا يزال حلف الناتو ـ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ـ يمارس عملية القتل والاجتياح والاعتقال، في معركة ينطلق فيها الأفغانيون لمواجهته بالوسائل العادية التي يملكونها دفاعاً عن حريتهم الوطنية والإسلامية.

وتمتد المسألة إلى السودان الذي ينتقل من مشكلة أمنية إلى مشكلة أمنية أخرى، لأنه لم يخضع لأمريكا في تغيير نظامه، وفي رهن ثرواته لشركاتها، وفي خضوعه للصلح مع إسرائيل. وهكذا نصل إلى الصومال الذي يعيش الحرب الداخلية التي تستعين فيها حكومته بقوة أجنبية، فيعيش هذا الشعب القتل اليومي الجماعي الوحشي الذي يدمّر هذا البلد بثرواته ومقدّراته.

فإذا انتقلنا إلى الجزائر، وجدنا كيف تجدّدت المجازر التي يقوم بها المتطرفون في قتل الناس من دون تمييز، إضافةً إلى الفتنة التي تثيرها حركة تنصير المسلمين وإخراجهم من دينهم، في عمليّة استغلال لأوضاعهم السيّئة في فقرهم وحرمانهم وفي جميع أوضاعهم الاجتماعية الصعبة.

إنّ على المسلمين، وأمام هذه الصورة القاتمة، أن يكون لهم الوعي الإسلامي الذي يتحوّلون به إلى أمة موحّدة تدافع عن وجودها وثرواتها ومقدّراتها ومواقعها الاستراتيجية، لتأخذ مكانها الطبيعي في العالم.

لبنان: الطائفية تأكل التوافقية، فهل يرحم الشعب نفسه؟

أما في لبنان، فلا يزال السياسيون مشغولين بالحصص الوزارية التي يأمل الكثيرون منهم أن تمنحهم مواقع متقدّمة على مستوى المعركة الانتخابية القادمة، أو على مستوى الامتداد في زعاماتهم الطائفية والمذهبية، بينما تُحرَّك في هذا الوقت المشاكل الأمنيّة التي قد يراد من خلالها خلط الأوراق لتحقيق بعض المكاسب السياسية، مع ازدياد منسوب الخطاب المذهبي الذي لا يعرف مثيروه ماذا يفعلون، وبأيّ نارٍ يعبثون. ويتفاقم الوضع عندما تضعف ثقة الناس بالقوى الأمنيّة؛ لأنّها لا تقمع المجرمين انتظاراً للأمن الوفاقي، وهذا يدلّ على مدى الانحدار الذي يُمكن أن يوصل إليه النظام الطائفيّ في لبنان، هذا النظام الذي لا يستطيع أن يبني دولةً، ولاسيّما مع طبقة سياسيّة لا همّ لكثير منها إلا المصالح الذاتيّة، ولا عين لها إلا على المناصب الفارغة من أيّ مضمون مؤسّسي. وبات على الشعب أن يخدم أولئك بدلاً من أن يكونوا خُدّامه، ممّن لا يزيدونه إلا فقراً ودَيْناً وارتهاناً لكلّ اللاعبين الكبار..

أما من أحد يَرحمُ هذا الشعب؟!

والسؤال: هل يَرحمُ الشعب نفسه، فيرفض كلّ هذا الواقع، ويُدرك أكثر موقعه من عمليّة التغيير، وهو الشعبُ القويّ الذي باستطاعته أن يصنع المعجزات، ويعمل الكثيرون على تقزيمه، وإفقاده الثقة بنفسه؟!

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 9 جمادى الثانية 1429 هـ  الموافق: 13/06/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية