الفوز الحق جنَّات خلد في رحاب الله

الفوز الحق جنَّات خلد في رحاب الله

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

الفوز الحق جنَّات خلد في رحاب الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:


الخسران المبين

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج/11).

يتحدّث الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن مسألة الخسران، فالإنسان في الدّنيا قد يخسر الكثير من ماله وجهده وعمله، كأن تصيبه الخسارة في تجارته وأوضاعه، أو يخسر حياته عندما يأتيه الأجل. ولكن المهمّ في كلّ ذلك، أن لا يخسر الآخرة، لأن خسران لا يعتبر خسراناً لمن يربح رضوان الله ومحبته ورحمته ولطفه، ولكنّ المشكلة أنّ هناك من يطلب الدّنيا بمعصية الله، ما يؤدّي به إلى غضب الله عليه وطرده من رحمته، وبذلك يخسر الدّنيا والآخرة.

فالربح والخسارة لا بدّ من أن يكونا موضع اهتمام الإنسان في مسألة الآخرة، لأنها تمثّل المصير النهائي. ولذلك فإنّنا نقرأ في القرآن الكريم حديث المؤمنين مع قارون، في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْـ لا يأخذك البطر بثروتك ـ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ ـ الذين يستغرقون في فرح الدنيا بما يكسبونه من مال، ولا ينفتحون على الفرح فيما يحصلون عليه من عمل، حيث يجب التخطيط للحصول على النتائج الكبرى في الدار الآخرة ـ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص/76-77) خذ نصيبك من الدنيا فيما يتعلّق بحاجاتك الجسدية والاجتماعية، ولكن ينبغي أن يبقى هدفك الدار الآخرة.

وفي الآية الّتي ذكرناها في بداية الخطبة، يحدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذين يعبدونه من دون وعي ولا عمق، حيث إنّهم يعبدون الله ما دامت الحياة سهلةً ومستقرةً في أوضاعهم، وما دامت الأمور تجري على حسب أهوائهم ورغباتهم، ولكن إذا أصابهم البلاء وحلَّت بهم الفتنة، بما يختبر الله سبحانه وتعالى به عباده ليرى هل يصبرون ويستقيمون أو يسقطون، فقدوا توازنهم وصبرهم، وقد يخرجون عن خطِّ الاستقامة، كما نرى ذلك في كثير من الناس الذين إذا أصابتهم مصيبة، سواء في أجسادهم أو في أهلهم أو في أموالهم، فإنّهم يعترضون على الله، وقد يصل بهم الاعتراض إلى الكفر به سبحانه، ما يؤدي إلى غضبه وسخطه عليهم، فيخسرون بذلك أنفسهم.

فتنة البلاء

وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن أنّ البلاء لا يمثّل العقوبة دائماً، بل قد يكون اختباراً، بحيث لا يكفي إلى الإنسان أن يقول: أنا مؤمن، أو أن يصلِّي ويصوم ويحجّ ويعتمر، بل لا بد من أن يكون صادقاً مع الله وصابراً على بلائه وشاكراً لنعمائه، يقول تعالى:{أَلَم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ـ لا يختبرون ـ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ}(العنكبوت/1-3)، لأنّ صدق إيمان الإنسان يعرف من خلال مواقفه، فإذا استقام في موقفه واستمرَّ التزامه بإيمانه، فإنه بذلك يثبت صدق هذا الإيمان، أمّا إذا أُصيب بالاهتزاز والزلزال عند البلاء، فإن ذلك يدّل على كذبه في إيمانه أو على عدم ثبات هذا الإيمان.

هكذا جاء في الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ـ على الحافة ـفَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ـ إذا كان مرتاحاً ومستقراً بقي على إيمانه ـوَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌـ إذا أصابه البلاء الذي يختبر الله به الإنسان ـ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ـ ترك الإيمان ـ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ}(الحج/11).

وهناك آية قرآنية ثانية تقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ـ أشد الناس خسارةً ـالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ـ ساروا في الطريق المنحرف، وهم يعتقدون أنّهم مؤمنون ومتّقون، ولكنّهم في الواقع يعملون مع الظالمين والفاسقين والمستكبرين، ويخدمون الظالمين في مصالحهم الطائفية والمذهبية، ويثيرون الفتن بين النّاس، وفي الوقت نفسه يصلّون ويصومون ـ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الكهف/103-104).

التزام الاستقامة

ولهذا، على الإنسان أن يراقب نفسه، هل يسير على الطَّريق المستقيم أو على طريق آخر، وعليه أن لا يستجيب لهوى نفسه وأطماعه، ولا يكفي أن يسير خلف شخصية دينية أو سياسية أو اجتماعية ليفترض أنّه على الطّريق المستقيم، لأنّه ليس هناك قيادة معصومة، فالمعصومون هم الأنبياء والأئمة فقط. وعليه أن يراقب هذه الشخصية، فإذا وجد فيها الاستقامة والرّشد، أكمل الطّريق معها، أمّا إذا انحرفت، فعليه أن يتركها أو ينبّهها ويرشدها، لأن أصل الالتزام هو الالتزام بالمبدأ وبالرسالة وبطاعة الله لا بالأشخاص.

فكلّ إنسان مسؤول عن نفسه يوم القيامة، ولن يكون أحدٌ مسؤولاً عنه، وهذا ما يؤكده سبحانه في الكثير من الآيات: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا}(مريم/95)،{يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(عبس/34-37)، {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(الأنعام/94) فكما جئت إلى الدنيا وحدك، فسوف تحشر يوم القيامة وحدك وتحاسب وحدك.

ومن الأحاديث المروية عن الإمام علي(ع) الذي كان مع الحق وكان الحق معه، قوله(ع): "احذر أن يراك الله عند معصيتهـ فالله يراقبك في كلِّ حياتك ـ ويفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين"، ويقول(ع): "اتقوا معاصي الله في الخلوات، فإنّ الشاهد هو الحاكم".

موانع الفوز بالرضوان

ويقول(ع) أيضاً: "معاشر الناس، اتّقوا الله، فكم من مؤمّل ما لا يبلغه ـ لديكم آمال كثيرة، ولكن لن تتحقّق كلّها ـوبانٍ ما لا يسكنه ـ فكم من أناس بنوا بيوتاً، ولكن لم يسكنوها، بل سكنوا القبور ـ وجامع ما سوف يتركه ـ يجمع المال، ولكنّه يتركه للورثة ـ ولعلّه من باطلٍ جمعه، ومن حقّ منعه ـ جمعه بالظلم ـ أصابه حراماً، واحتمل به آثاماًـ عند الله ـ فباء بوزره وقدِم على ربّه ـ عند الحساب ـ آسفاً لاهفاً قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين".

ومما قاله(ع) لقاضيه شُريح ـ وكان قد اشترى بيتاً ـ: «فانظر يا شريح، لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدْتَ الثمن من غير حلالك ـ من مال حرام ـ فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة».ويقول(ع): «أخسر الناس من قدر على أن يقول الحقّ ولم يقل».

وفي نهاية المطاف، يقول(ع): «إنّ أخسر الناس صفقةً، وأخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه ـ أفنى بدنه ـفي طلب ماله، ولم تساعده المقادير على إرادته ـ لم يوفِّق ـ فخرج من الدنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بتبعته» للحساب أمام الله.

لذلك أيُّها الأحبة، يريد الله سبحانه منا أن نكون الرابحين في خطِّ طاعته وخطِّ رضاه، بأن نعيش لنربح أنفسنا ولا نخسرها، فما قيمة أن يربح الإنسان الدنيا كلّها ويخسر نفسه ويخسر الآخرة؟ وما قيمة أن يربح تأييد الناس له ويخسر محبة الله؟ لذلك علينا أن نسعى لنكون من الرابحين ولا نكون من الخاسرين، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}(المطَّففين/26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالصبر والحكمة، وبالسير على الخط المستقيم الذي يريد الله لكل المؤمنين أن يسيروا عليه، حتى يصلوا إلى مواقع رضاه والقرب منه في أمورهم العامة والخاصة. فماذا هناك؟ 

عباد الله... اتقوا الله، واعملوا على أن تربحوا أنفسكم عند الله سبحانه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:88-89)... فماذا هناك؟

إسرائيل: مشروع تهويد فلسطين

ينام العالم العربي والإسلامي على هدير الجرّافات والدبّابات الإسرائيليّة التي تصنع واقعاً استيطانيّاً جديداً في فلسطين، وتعزّز مشروعاً تهويديّاً مستمرّاً؛ ويستفيق على ضجيج التمديد لقوانين الطوارئ؛ لترسم آليّات العدوّ واستعداداته الفارق بين كيانٍ يعمل على التعبئة والاستعداد للحرب، وأنظمةٍ تعمل على تكبيل شعوبها بهواجس السجون وكوابيس أجهزة الاستخبارات.

وهكذا يتفاخر رئيس وزراء العدوّ، وهو يعلن عن بناء مستوطنات جديدة في القدس المحتلّة، ويصرخ بوجه تلك الأنظمة الخائرة التي لا تحدّثك إلاّ عن مشروع إيران النووي السلمي، وهو يقول لها إنّ القدس ستبقى مقرّ الشعب اليهوديّ وعاصمته إلى الأبد، من دون أن تنطلق كلمة رسميّة عربيّة تتمرّد على ذلك، ومن دون أن تحرّك السلطة الفلسطينية ساكناً؛ اللَّهمَّ إلاّ كلمات الاستنكار والاحتجاج التي اعتاد عليها اليهود في كلّ حروبهم المرسومة ومفاوضات تقطيع الوقت مع الواقع الرسمي العربي.

أمّا واشنطن التي تستقبل أولمرت في هذه الأيّام، فهي لا تستخدم إلا كلمات الخداع تحت عنوان التحذير من بناء مستوطنات جديدة، في الوقت الذي تدعم كلّ هذا الزّحف الاستيطاني على أنقاض الفلسطينيّين والعرب، ويتسابق مرشّحو رئاستها إلى إعلان الولاء المطلق لإسرائيل.

والسؤال الكبير هو للأمم المتّحدة، التي يكتفي أمينها العام بالحديث عن مخالفة هذه المستوطنات للقانون الدولي، من دون أن يرفع تقريراً إلى مجلس الأمن يطالبه فيه بإدانة إسرائيل؛ لأنّ أمريكا المسيطرة على المجلس والمنظّمة الدولية بشكل عام لا تسمح له بذلك.

وهكذا يتابع الزعماء العرب كلّ ذلك، ويشهدون توالي المجازر والاعتداءات الإسرائيلية والحصار التجويعي للفلسطينيّين في غزّة، من دون أن يثير ذلك اهتمامهم، وكأنّ فلسطين باتت حالةً قديمةً لا علاقة لها بواقعهم وحاضرهم ومستقبلهم، أو أنّها تحوّلت إلى كابوس يؤرّق الأحلام الاستسلاميّة التي يسرح فيها الكثيرون.

العالم العربي: استجابة مطلقة للمشروع الأمريكي

إنّ حال الانهزام العربي أمام العدوّ يمثُّل جزءاً من رزمة السياط التي يُراد للشعب الفلسطيني أن يُجلد بها، وإنّ هذا التمكين الميداني لكيان العدوّ عبر الدعم الأمريكي والصَّمت العربي، هو جزء من الخطّة المرسومة لإنهاء ما يُسمّى بمشروع الدولة الفلسطينيّة القابلة للحياة، فضلاً عن مسألة حقّ العودة وقرارات الأمم المتّحدة وما يسمّى بخارطة الطريق، لينتظر العرب رئيساًَ أمريكيّاً جديداً يحدّثهم عن حُلم دولةٍ فلسطينيّة قد تبصر النور في أواخر عهده. وهكذا قصّة العرب الذين أدمنوا إدخال أيديهم في الجحور الأمريكية ـ الإسرائيلية، وفي كلّ مرّة يُلدغون، حتّى لم يعد ثمّة إحساس بالألم، على طريقة قول المتنبّي:

من يهن يسهل الهوان عليه                                         ما لجرح بميّت إيلام

أمّا الجامعة العربيّة، فقد أصبحت في واقعٍ يُثير الشفقة والسخط في آنٍ، وهي التي لم تستطع أن تحلّ المشاكل العربيّة التي أصبحت من أشدّ الأمور تأثيراً على الواقع السياسي العربي، حتّى تحوّلت الخلافات بين الدول العربيّة إلى ما يُشبه العداوة؛ حتّى إنّ إعلام كلّ دولةٍ يتحدّث عن الدولة الأخرى بأكثر مما يُتحدّث به عن الكيانات والدول التي تتحدّى العالم، كإسرائيل وأمريكا؛ الأمر الذي يجعل وجود الجامعة العربيّة وجوداً لا يحقّق النتائج الكُبرى للعالم العربي. ومن المؤسف المفجع، أنّ هذه الخطوط المعقّدة تتحرّك استجابةً للعلاقة السلبية بين أمريكا وهذه الدولة العربية أو تلك، وربّما امتدّت المسألة إلى حركات المقاومة التي تعمل على تحرير الأرض والإنسان، فوقفت بعض الدول العربية منها موقف المواجهة؛ لأنّ أمريكا الملتزمة بأمن إسرائيل المطلق تقف الموقف نفسه، وقد تمتدّ القضيّة إلى المقاومة العراقيّة ضدّ الاحتلال التي يرفضها بعض العرب، لأنّهم لا يرون لها شرعيّةً أمام الاحتلال الأمريكي.

وإنّنا إذ نطلّ على واقعنا، نجد أنّ إحدى مشاكلنا الأساسيّة تكمن في حال الإدمان على السُّلطة، التي تحوّلت معها مواقع الرئاسة ـ بفعل الديمقراطيّة الشكليّة ـ إلى مواقع للمُلك العضود الذي لا يعرف تداولاً عبر الإرادة الشعبية، بل تتحرّك في فلك التوريث بشكلٍ وبآخر، وقد أحيطت هذه المواقع بهالة من القداسة المصطنعة، بحيث لا يُسمح معها لأيّ جهة شعبيّة بانتقادها أو بمعارضتها أو بتسجيل بعض النقاط السلبيّة على سياستها. والأدهى من ذلك، أنّ كثيراً من هذه المواقع عملت على تصغير الأوطان التي تشرف عليها، لتكون بحجم الأشخاص والعائلة، وأصبح معها عنوان الوطن عنوان الشخص وعنوان العائلة، بدلاً من أن يعملوا على تكبير مسؤوليّاتهم بحجم أوطانهم. وهذا المنهج هو الذي أدّى إلى سيطرة الدول الكبرى على مقدّرات شعوبنا وأوطاننا، ولا سيّما في المسألة الاقتصاديّة، لأنّها باتت ترتبط بمصالح الأشخاص لا بمصالح الشعوب.

لبنان: الطَّائفية والمذهبية تغيّب المواطنية

أمّا في لبنان، فلا يزال الجدل السياسي الدائر في مسألة توزيع الحصص الوزاريّة على الطوائف والزعامات الطائفيّة والشخصيّات الطامحة إلى الاستفادة من الوزارات في الانتخابات المقبلة، ما يوحي بأنّ تشكيل الحكومات اللبنانيّة لا ينطلق من دراسة الكفاءات والخبرات، بل من الاعتبارات الطائفيّة والمذهبيّة التي تكبّر حجم الأشخاص عند طوائفهم أو مذهبيّاتهم، في ما يحصلون عليه من أعداد وأصوات في الانتخابات، بعيداً عمّا هي مصلحة الوطن في اقتصاده وسياسته وأمنه وثقافته، ولا سيّما في كارثة المديونيّة التي تأكل كلّ اقتصاد البلد وإنتاجه.

إنّ المشكلة في لبنان، هي أنّ السياسيّين يحاولون تصغير حجمه ليصبح بحجم الأشخاص، ولا يحاولون تكبير موقعه بإنتاج العناصر التي تعيده إلى موقعه الكبير عندما كان يتحرّك لحلّ المشكلة العربيّة وخدمة الثقافة الإبداعيّة.

وربّما كان من المصيبة، أن كلّ زعيم من هؤلاء يختصر طائفته في شخصه، فأصبحت الطائفيّة تمثّل امتيازاً لزعماء الطوائف، ولا تمثّل خدمةً لشعب هذه الطائفة أو تلك، ولذلك تكبر ثروات هؤلاء على حساب طوائفهم، بينما يزداد الشعب الفقير المحروم فقراً وحرماناً وهتافاً وتصفيقاً لمن هم سرّ المشكلة، ولم يكونوا ـ في يومٍ ـ سرّ الحلّ، لتبقى الطائفيّة مشكلة الإنسان في هذا الوطن الصغير.

وفي جانبٍ آخر، التقينا قبل أيّام بمؤتمر دولي ضمّ أكثر من مائة دولة، تداعت إلى تحريم استخدام القنابل العنقوديّة، ولكنّ أمريكا تحفّظت مع حليفتها اليهوديّة، في تحريم هذه القنابل، لتبعث برسالة إلى العالم كلّه، مفادها أنّها مع الكيان الغاصب لا تعيران أيّ اهتمام للإنسان، فكيف إذا كان عربيّاً ومسلماً. وبالمناسبة، فإنّنا نُريد للشعب اللبناني كلّه، الذي لا يزال يكتوي بنار هذه القنابل العنقوديّة الأمريكية الصنع، أن يفهم ما معنى أمريكا في إدارتها الحاقدة، التي دعمت ولا تزال تدعم كيان العدوّ ليقتل ويدمّر كما في حرب تمّوز وقبلها، وهي التي تتحدّث كذباً وزوراً ـ في هذه الأيّام ـ عن السعي لدعم الجيش اللبناني، لأنّها لا تقبل أن يتحرّك أيّ سلاح في مواجهة العدوان الإسرائيلي، كما أنّها عادت لتعبث بالوضع السياسي الداخلي، في محاولة جديدة للدخول على خط تأليف الحكومة وتوزير من تريد توزيره، وكأنّ البلد مقاطعة من مقاطعاتها، أو قطعة أرض تابعة لإحدى سفاراتها.

الإمام الخميني: قائد ثورة المستضعفين ضد المستكبرين

وأخيراً، التقينا قبل أيّام بالذكرى السنوية التاسعة عشرة لرحيل الإمام الخميني، الذي أراد لحركته ونهضته التي انطلقت قيمها الرسالية الإسلاميّة من إيران، لتلتقي بالروافد الإسلاميّة من هنا وهناك، أن تكون الحضن الدافئ للمستضعفين وكلّ طلاّب الحرّية في العالم.

لقد أعاد الإمام الخميني في ثورته الحركة إلى الواقع الإسلامي، وإلى مواقع الدولة، وأنزل الشعارات القرآنيّة والإسلاميّة إلى مفردات السياسة، الّتي تؤكد أن الصراع هو بين المستكبرين والمستضعفين، وبين الشياطين الصغار والكبار، وبين حركة الإيمان وحركة الكفر، وأنّ الأمّة مهما تنوّعت مذاهبها، هي أمّة واحدة، في أهدافها وخطوطها وقيمها الرساليّة، وأنّ اغتصاب الأرض واحتلال البلدان لا يُمكن أن يُشرّع بتقادم الزمن. ولذلك، فإنّ رسالة الذكرى هي في الوقوف إلى جانب المستضعفين ضدّ المستكبرين في أيّ مكان، وإلى جانب الفلسطينيّين والعراقيّين والأفغانيّين ضدّ الاحتلال، ومع تحرير الأمّة من واقع القهر والفساد والانحراف والهيمنة والاحتلال.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 2 جمادى الثانية 1429 هـ  الموافق: 06/06/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

الفوز الحق جنَّات خلد في رحاب الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:


الخسران المبين

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج/11).

يتحدّث الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن مسألة الخسران، فالإنسان في الدّنيا قد يخسر الكثير من ماله وجهده وعمله، كأن تصيبه الخسارة في تجارته وأوضاعه، أو يخسر حياته عندما يأتيه الأجل. ولكن المهمّ في كلّ ذلك، أن لا يخسر الآخرة، لأن خسران لا يعتبر خسراناً لمن يربح رضوان الله ومحبته ورحمته ولطفه، ولكنّ المشكلة أنّ هناك من يطلب الدّنيا بمعصية الله، ما يؤدّي به إلى غضب الله عليه وطرده من رحمته، وبذلك يخسر الدّنيا والآخرة.

فالربح والخسارة لا بدّ من أن يكونا موضع اهتمام الإنسان في مسألة الآخرة، لأنها تمثّل المصير النهائي. ولذلك فإنّنا نقرأ في القرآن الكريم حديث المؤمنين مع قارون، في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْـ لا يأخذك البطر بثروتك ـ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ ـ الذين يستغرقون في فرح الدنيا بما يكسبونه من مال، ولا ينفتحون على الفرح فيما يحصلون عليه من عمل، حيث يجب التخطيط للحصول على النتائج الكبرى في الدار الآخرة ـ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص/76-77) خذ نصيبك من الدنيا فيما يتعلّق بحاجاتك الجسدية والاجتماعية، ولكن ينبغي أن يبقى هدفك الدار الآخرة.

وفي الآية الّتي ذكرناها في بداية الخطبة، يحدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذين يعبدونه من دون وعي ولا عمق، حيث إنّهم يعبدون الله ما دامت الحياة سهلةً ومستقرةً في أوضاعهم، وما دامت الأمور تجري على حسب أهوائهم ورغباتهم، ولكن إذا أصابهم البلاء وحلَّت بهم الفتنة، بما يختبر الله سبحانه وتعالى به عباده ليرى هل يصبرون ويستقيمون أو يسقطون، فقدوا توازنهم وصبرهم، وقد يخرجون عن خطِّ الاستقامة، كما نرى ذلك في كثير من الناس الذين إذا أصابتهم مصيبة، سواء في أجسادهم أو في أهلهم أو في أموالهم، فإنّهم يعترضون على الله، وقد يصل بهم الاعتراض إلى الكفر به سبحانه، ما يؤدي إلى غضبه وسخطه عليهم، فيخسرون بذلك أنفسهم.

فتنة البلاء

وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن أنّ البلاء لا يمثّل العقوبة دائماً، بل قد يكون اختباراً، بحيث لا يكفي إلى الإنسان أن يقول: أنا مؤمن، أو أن يصلِّي ويصوم ويحجّ ويعتمر، بل لا بد من أن يكون صادقاً مع الله وصابراً على بلائه وشاكراً لنعمائه، يقول تعالى:{أَلَم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ـ لا يختبرون ـ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ}(العنكبوت/1-3)، لأنّ صدق إيمان الإنسان يعرف من خلال مواقفه، فإذا استقام في موقفه واستمرَّ التزامه بإيمانه، فإنه بذلك يثبت صدق هذا الإيمان، أمّا إذا أُصيب بالاهتزاز والزلزال عند البلاء، فإن ذلك يدّل على كذبه في إيمانه أو على عدم ثبات هذا الإيمان.

هكذا جاء في الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ـ على الحافة ـفَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ـ إذا كان مرتاحاً ومستقراً بقي على إيمانه ـوَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌـ إذا أصابه البلاء الذي يختبر الله به الإنسان ـ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ـ ترك الإيمان ـ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ}(الحج/11).

وهناك آية قرآنية ثانية تقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ـ أشد الناس خسارةً ـالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ـ ساروا في الطريق المنحرف، وهم يعتقدون أنّهم مؤمنون ومتّقون، ولكنّهم في الواقع يعملون مع الظالمين والفاسقين والمستكبرين، ويخدمون الظالمين في مصالحهم الطائفية والمذهبية، ويثيرون الفتن بين النّاس، وفي الوقت نفسه يصلّون ويصومون ـ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الكهف/103-104).

التزام الاستقامة

ولهذا، على الإنسان أن يراقب نفسه، هل يسير على الطَّريق المستقيم أو على طريق آخر، وعليه أن لا يستجيب لهوى نفسه وأطماعه، ولا يكفي أن يسير خلف شخصية دينية أو سياسية أو اجتماعية ليفترض أنّه على الطّريق المستقيم، لأنّه ليس هناك قيادة معصومة، فالمعصومون هم الأنبياء والأئمة فقط. وعليه أن يراقب هذه الشخصية، فإذا وجد فيها الاستقامة والرّشد، أكمل الطّريق معها، أمّا إذا انحرفت، فعليه أن يتركها أو ينبّهها ويرشدها، لأن أصل الالتزام هو الالتزام بالمبدأ وبالرسالة وبطاعة الله لا بالأشخاص.

فكلّ إنسان مسؤول عن نفسه يوم القيامة، ولن يكون أحدٌ مسؤولاً عنه، وهذا ما يؤكده سبحانه في الكثير من الآيات: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا}(مريم/95)،{يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(عبس/34-37)، {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(الأنعام/94) فكما جئت إلى الدنيا وحدك، فسوف تحشر يوم القيامة وحدك وتحاسب وحدك.

ومن الأحاديث المروية عن الإمام علي(ع) الذي كان مع الحق وكان الحق معه، قوله(ع): "احذر أن يراك الله عند معصيتهـ فالله يراقبك في كلِّ حياتك ـ ويفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين"، ويقول(ع): "اتقوا معاصي الله في الخلوات، فإنّ الشاهد هو الحاكم".

موانع الفوز بالرضوان

ويقول(ع) أيضاً: "معاشر الناس، اتّقوا الله، فكم من مؤمّل ما لا يبلغه ـ لديكم آمال كثيرة، ولكن لن تتحقّق كلّها ـوبانٍ ما لا يسكنه ـ فكم من أناس بنوا بيوتاً، ولكن لم يسكنوها، بل سكنوا القبور ـ وجامع ما سوف يتركه ـ يجمع المال، ولكنّه يتركه للورثة ـ ولعلّه من باطلٍ جمعه، ومن حقّ منعه ـ جمعه بالظلم ـ أصابه حراماً، واحتمل به آثاماًـ عند الله ـ فباء بوزره وقدِم على ربّه ـ عند الحساب ـ آسفاً لاهفاً قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين".

ومما قاله(ع) لقاضيه شُريح ـ وكان قد اشترى بيتاً ـ: «فانظر يا شريح، لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدْتَ الثمن من غير حلالك ـ من مال حرام ـ فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة».ويقول(ع): «أخسر الناس من قدر على أن يقول الحقّ ولم يقل».

وفي نهاية المطاف، يقول(ع): «إنّ أخسر الناس صفقةً، وأخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه ـ أفنى بدنه ـفي طلب ماله، ولم تساعده المقادير على إرادته ـ لم يوفِّق ـ فخرج من الدنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بتبعته» للحساب أمام الله.

لذلك أيُّها الأحبة، يريد الله سبحانه منا أن نكون الرابحين في خطِّ طاعته وخطِّ رضاه، بأن نعيش لنربح أنفسنا ولا نخسرها، فما قيمة أن يربح الإنسان الدنيا كلّها ويخسر نفسه ويخسر الآخرة؟ وما قيمة أن يربح تأييد الناس له ويخسر محبة الله؟ لذلك علينا أن نسعى لنكون من الرابحين ولا نكون من الخاسرين، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}(المطَّففين/26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالصبر والحكمة، وبالسير على الخط المستقيم الذي يريد الله لكل المؤمنين أن يسيروا عليه، حتى يصلوا إلى مواقع رضاه والقرب منه في أمورهم العامة والخاصة. فماذا هناك؟ 

عباد الله... اتقوا الله، واعملوا على أن تربحوا أنفسكم عند الله سبحانه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:88-89)... فماذا هناك؟

إسرائيل: مشروع تهويد فلسطين

ينام العالم العربي والإسلامي على هدير الجرّافات والدبّابات الإسرائيليّة التي تصنع واقعاً استيطانيّاً جديداً في فلسطين، وتعزّز مشروعاً تهويديّاً مستمرّاً؛ ويستفيق على ضجيج التمديد لقوانين الطوارئ؛ لترسم آليّات العدوّ واستعداداته الفارق بين كيانٍ يعمل على التعبئة والاستعداد للحرب، وأنظمةٍ تعمل على تكبيل شعوبها بهواجس السجون وكوابيس أجهزة الاستخبارات.

وهكذا يتفاخر رئيس وزراء العدوّ، وهو يعلن عن بناء مستوطنات جديدة في القدس المحتلّة، ويصرخ بوجه تلك الأنظمة الخائرة التي لا تحدّثك إلاّ عن مشروع إيران النووي السلمي، وهو يقول لها إنّ القدس ستبقى مقرّ الشعب اليهوديّ وعاصمته إلى الأبد، من دون أن تنطلق كلمة رسميّة عربيّة تتمرّد على ذلك، ومن دون أن تحرّك السلطة الفلسطينية ساكناً؛ اللَّهمَّ إلاّ كلمات الاستنكار والاحتجاج التي اعتاد عليها اليهود في كلّ حروبهم المرسومة ومفاوضات تقطيع الوقت مع الواقع الرسمي العربي.

أمّا واشنطن التي تستقبل أولمرت في هذه الأيّام، فهي لا تستخدم إلا كلمات الخداع تحت عنوان التحذير من بناء مستوطنات جديدة، في الوقت الذي تدعم كلّ هذا الزّحف الاستيطاني على أنقاض الفلسطينيّين والعرب، ويتسابق مرشّحو رئاستها إلى إعلان الولاء المطلق لإسرائيل.

والسؤال الكبير هو للأمم المتّحدة، التي يكتفي أمينها العام بالحديث عن مخالفة هذه المستوطنات للقانون الدولي، من دون أن يرفع تقريراً إلى مجلس الأمن يطالبه فيه بإدانة إسرائيل؛ لأنّ أمريكا المسيطرة على المجلس والمنظّمة الدولية بشكل عام لا تسمح له بذلك.

وهكذا يتابع الزعماء العرب كلّ ذلك، ويشهدون توالي المجازر والاعتداءات الإسرائيلية والحصار التجويعي للفلسطينيّين في غزّة، من دون أن يثير ذلك اهتمامهم، وكأنّ فلسطين باتت حالةً قديمةً لا علاقة لها بواقعهم وحاضرهم ومستقبلهم، أو أنّها تحوّلت إلى كابوس يؤرّق الأحلام الاستسلاميّة التي يسرح فيها الكثيرون.

العالم العربي: استجابة مطلقة للمشروع الأمريكي

إنّ حال الانهزام العربي أمام العدوّ يمثُّل جزءاً من رزمة السياط التي يُراد للشعب الفلسطيني أن يُجلد بها، وإنّ هذا التمكين الميداني لكيان العدوّ عبر الدعم الأمريكي والصَّمت العربي، هو جزء من الخطّة المرسومة لإنهاء ما يُسمّى بمشروع الدولة الفلسطينيّة القابلة للحياة، فضلاً عن مسألة حقّ العودة وقرارات الأمم المتّحدة وما يسمّى بخارطة الطريق، لينتظر العرب رئيساًَ أمريكيّاً جديداً يحدّثهم عن حُلم دولةٍ فلسطينيّة قد تبصر النور في أواخر عهده. وهكذا قصّة العرب الذين أدمنوا إدخال أيديهم في الجحور الأمريكية ـ الإسرائيلية، وفي كلّ مرّة يُلدغون، حتّى لم يعد ثمّة إحساس بالألم، على طريقة قول المتنبّي:

من يهن يسهل الهوان عليه                                         ما لجرح بميّت إيلام

أمّا الجامعة العربيّة، فقد أصبحت في واقعٍ يُثير الشفقة والسخط في آنٍ، وهي التي لم تستطع أن تحلّ المشاكل العربيّة التي أصبحت من أشدّ الأمور تأثيراً على الواقع السياسي العربي، حتّى تحوّلت الخلافات بين الدول العربيّة إلى ما يُشبه العداوة؛ حتّى إنّ إعلام كلّ دولةٍ يتحدّث عن الدولة الأخرى بأكثر مما يُتحدّث به عن الكيانات والدول التي تتحدّى العالم، كإسرائيل وأمريكا؛ الأمر الذي يجعل وجود الجامعة العربيّة وجوداً لا يحقّق النتائج الكُبرى للعالم العربي. ومن المؤسف المفجع، أنّ هذه الخطوط المعقّدة تتحرّك استجابةً للعلاقة السلبية بين أمريكا وهذه الدولة العربية أو تلك، وربّما امتدّت المسألة إلى حركات المقاومة التي تعمل على تحرير الأرض والإنسان، فوقفت بعض الدول العربية منها موقف المواجهة؛ لأنّ أمريكا الملتزمة بأمن إسرائيل المطلق تقف الموقف نفسه، وقد تمتدّ القضيّة إلى المقاومة العراقيّة ضدّ الاحتلال التي يرفضها بعض العرب، لأنّهم لا يرون لها شرعيّةً أمام الاحتلال الأمريكي.

وإنّنا إذ نطلّ على واقعنا، نجد أنّ إحدى مشاكلنا الأساسيّة تكمن في حال الإدمان على السُّلطة، التي تحوّلت معها مواقع الرئاسة ـ بفعل الديمقراطيّة الشكليّة ـ إلى مواقع للمُلك العضود الذي لا يعرف تداولاً عبر الإرادة الشعبية، بل تتحرّك في فلك التوريث بشكلٍ وبآخر، وقد أحيطت هذه المواقع بهالة من القداسة المصطنعة، بحيث لا يُسمح معها لأيّ جهة شعبيّة بانتقادها أو بمعارضتها أو بتسجيل بعض النقاط السلبيّة على سياستها. والأدهى من ذلك، أنّ كثيراً من هذه المواقع عملت على تصغير الأوطان التي تشرف عليها، لتكون بحجم الأشخاص والعائلة، وأصبح معها عنوان الوطن عنوان الشخص وعنوان العائلة، بدلاً من أن يعملوا على تكبير مسؤوليّاتهم بحجم أوطانهم. وهذا المنهج هو الذي أدّى إلى سيطرة الدول الكبرى على مقدّرات شعوبنا وأوطاننا، ولا سيّما في المسألة الاقتصاديّة، لأنّها باتت ترتبط بمصالح الأشخاص لا بمصالح الشعوب.

لبنان: الطَّائفية والمذهبية تغيّب المواطنية

أمّا في لبنان، فلا يزال الجدل السياسي الدائر في مسألة توزيع الحصص الوزاريّة على الطوائف والزعامات الطائفيّة والشخصيّات الطامحة إلى الاستفادة من الوزارات في الانتخابات المقبلة، ما يوحي بأنّ تشكيل الحكومات اللبنانيّة لا ينطلق من دراسة الكفاءات والخبرات، بل من الاعتبارات الطائفيّة والمذهبيّة التي تكبّر حجم الأشخاص عند طوائفهم أو مذهبيّاتهم، في ما يحصلون عليه من أعداد وأصوات في الانتخابات، بعيداً عمّا هي مصلحة الوطن في اقتصاده وسياسته وأمنه وثقافته، ولا سيّما في كارثة المديونيّة التي تأكل كلّ اقتصاد البلد وإنتاجه.

إنّ المشكلة في لبنان، هي أنّ السياسيّين يحاولون تصغير حجمه ليصبح بحجم الأشخاص، ولا يحاولون تكبير موقعه بإنتاج العناصر التي تعيده إلى موقعه الكبير عندما كان يتحرّك لحلّ المشكلة العربيّة وخدمة الثقافة الإبداعيّة.

وربّما كان من المصيبة، أن كلّ زعيم من هؤلاء يختصر طائفته في شخصه، فأصبحت الطائفيّة تمثّل امتيازاً لزعماء الطوائف، ولا تمثّل خدمةً لشعب هذه الطائفة أو تلك، ولذلك تكبر ثروات هؤلاء على حساب طوائفهم، بينما يزداد الشعب الفقير المحروم فقراً وحرماناً وهتافاً وتصفيقاً لمن هم سرّ المشكلة، ولم يكونوا ـ في يومٍ ـ سرّ الحلّ، لتبقى الطائفيّة مشكلة الإنسان في هذا الوطن الصغير.

وفي جانبٍ آخر، التقينا قبل أيّام بمؤتمر دولي ضمّ أكثر من مائة دولة، تداعت إلى تحريم استخدام القنابل العنقوديّة، ولكنّ أمريكا تحفّظت مع حليفتها اليهوديّة، في تحريم هذه القنابل، لتبعث برسالة إلى العالم كلّه، مفادها أنّها مع الكيان الغاصب لا تعيران أيّ اهتمام للإنسان، فكيف إذا كان عربيّاً ومسلماً. وبالمناسبة، فإنّنا نُريد للشعب اللبناني كلّه، الذي لا يزال يكتوي بنار هذه القنابل العنقوديّة الأمريكية الصنع، أن يفهم ما معنى أمريكا في إدارتها الحاقدة، التي دعمت ولا تزال تدعم كيان العدوّ ليقتل ويدمّر كما في حرب تمّوز وقبلها، وهي التي تتحدّث كذباً وزوراً ـ في هذه الأيّام ـ عن السعي لدعم الجيش اللبناني، لأنّها لا تقبل أن يتحرّك أيّ سلاح في مواجهة العدوان الإسرائيلي، كما أنّها عادت لتعبث بالوضع السياسي الداخلي، في محاولة جديدة للدخول على خط تأليف الحكومة وتوزير من تريد توزيره، وكأنّ البلد مقاطعة من مقاطعاتها، أو قطعة أرض تابعة لإحدى سفاراتها.

الإمام الخميني: قائد ثورة المستضعفين ضد المستكبرين

وأخيراً، التقينا قبل أيّام بالذكرى السنوية التاسعة عشرة لرحيل الإمام الخميني، الذي أراد لحركته ونهضته التي انطلقت قيمها الرسالية الإسلاميّة من إيران، لتلتقي بالروافد الإسلاميّة من هنا وهناك، أن تكون الحضن الدافئ للمستضعفين وكلّ طلاّب الحرّية في العالم.

لقد أعاد الإمام الخميني في ثورته الحركة إلى الواقع الإسلامي، وإلى مواقع الدولة، وأنزل الشعارات القرآنيّة والإسلاميّة إلى مفردات السياسة، الّتي تؤكد أن الصراع هو بين المستكبرين والمستضعفين، وبين الشياطين الصغار والكبار، وبين حركة الإيمان وحركة الكفر، وأنّ الأمّة مهما تنوّعت مذاهبها، هي أمّة واحدة، في أهدافها وخطوطها وقيمها الرساليّة، وأنّ اغتصاب الأرض واحتلال البلدان لا يُمكن أن يُشرّع بتقادم الزمن. ولذلك، فإنّ رسالة الذكرى هي في الوقوف إلى جانب المستضعفين ضدّ المستكبرين في أيّ مكان، وإلى جانب الفلسطينيّين والعراقيّين والأفغانيّين ضدّ الاحتلال، ومع تحرير الأمّة من واقع القهر والفساد والانحراف والهيمنة والاحتلال.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 2 جمادى الثانية 1429 هـ  الموافق: 06/06/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية