اتقوا الله لتنالوا رضوانه واجتنبوا الطاغوت تُعصموا من النار

10 جمادى الأولى 1429 هـ
اتقوا الله لتنالوا رضوانه واجتنبوا الطاغوت تُعصموا من النار
 
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين،
ومما جاء في خطبته:

التقوى في العبادة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد في سورةالزمر: {قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربّكم لِلَذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10].

في القرآن الكريم، هناك عدد من القضايا أراد الله لعباده أن يتعرّفوا بها، من خلال إيحائه إلى النبي(ص) بأن يحدثهم عنها، وهذا ما نلاحظه في أكثر الآيات التي بدأها الله تعالى في خطابه للنبي(ص) بقوله: "قل"، ما يوحي بأن المسألة في موقع الأهمية التي يريد الله تعالى للناس أن يأخذوا بها.

وفي هذه الآية الكريمة، يريد الله تعالى للنبي(ص) أن يخاطب المؤمنين الذين هم عباد الله، ممّن عاشوا معنى العبودية لله وارتضاهم الله برحمته ومغفرته، أن يخاطبهم بالقول: {قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربكمـ والتقوى هي الخط المستقيم الذي أراد الله لعباده أن يسيروا عليه، لأنه لا يكفي أن يؤمن الإنسان بالله وفي المقابل يأخذ حريته، في السير بهوى نفسه، بل عليه أن يتقي الله، بأن يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه. فلا بد من أن يتحرك الإيمان في خط التقوى ـ لِلَذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ـ فالله لا يضيّع عمل عامل، ذكراً كان أو أنثى، وقد وعدهم الله بأن يعطيهم الحسنات في مقابل ما يحسنون به في هذه الدنيا ـ وأرض الله واسعة ـ فإذا ضاقت بكم الأرض التي تعيشون عليها، ولم تستطيعوا أن تطيعوا الله فيها، أو أن تحصلوا على ما يحقق لكم الخير ويضمن لكم العدل، فلا تحصروا أنفسكم في أرض واحدة، ولكن انطلقوا في أرض الله الواسعة، لأن الأرض كلها لله، فإذا ضاقت بك أرض فانتقل إلى أرضٍ أخرى.

وهذا ما خاطب الله تعالى به المستضعفين الذين وقعوا تحت ضغط المستكبرين، فضللوهم وقادوهم إلى الكفر، قال تعالى: {إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} [النساء:97]. وقد ورد عن الإمام علي(ع) في ذلك قوله: "ليس بلد خيراً لك من بلد، خير البلاد ما حملك". صحيح، أنه لا بد للإنسان من أن يدافع عن بلده وأرضه التي يسكنها وعن عزته، ولكن إذا ضاقت به السبل وحاصره الظلم، فعليه أن لا يخضع له، بل أن يهاجر ليؤسس موقعاً للقوة والعدل ـ إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}.

الإخلاص لله في العمل

ثم يخاطب الله تعالى نبيّه(ص) بأن يقدّم حسابه الشخصي للناس، لأنّ دور النبي(ص) لا يقتصر على تبليغ الرسالة للناس، بل هو أول شخصاً يتحمّل مسؤولية الرسالة في شريعتها ومناهجها: {قل إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ـ لقد أمرني الله بأن أعبده بإخلاص ـ وأُمرت لأن أكون أول المسلمين ـ فأنا لست من القيادات التي تدعو الناس إلى الالتزام بخط دون أن يلتزموا هم به ـ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ـ إنه كلام النبي المعصوم، الذي أراد أن يؤكد فكرة، وهي أنّه لا قرابة بين الله وبين أحد من الناس، حتى لو كان من أحبّ الخلق إليه، إلا من خلال العمل الصالح والطاعة. الأنبياء والأولياء إنما تقرّبوا إلى الله وارتفعوا إلى الدرجة الرفيعة عنده، من خلال إخلاصهم واستجابتهم لما أمرهم به، ومن خلال دعوتهم الناس إلى دينه ـ قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه - أنا أدعوكم إلى عبادة الله، فإذا لم تستجيبوا، فستتحمّلون مسؤولية عدم عبادتكم له ـ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ـ لأن الله تعالى يريد لنا أن نربح رضاه ومغفرته ومحبته، وأن نربّي كل أهلنا على عبادته وطاعته. وهذا ما ينبغي أن نلتفت إليه، لأنّنا نجد أنّ العقلية التي تغلب على تفكير بعض الآباء والأمهات، هي كيف يمكن لهم أن يحققوا لأولادهم ما يؤمّن لهم الموقع العملي والعلمي في الدنيا، من دون أن يلتفتوا إلى مستقبلهم الأخروي الذي ينتظرهم. فالخسارة الحقيقية، ليست في خسارة المال أو الموقع، بل هي في عدم الحصول على رضوان الله يوم القيامة ـ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوّف الله به عباده يا عباد فاتقون}.

في اجتناب الطاغوت رضوان الله

ثم يعطينا الله تعالى الخط التربوي والعبادي والاجتماعي الذي يريد للناس أن ينتهجوه ـ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوهاـ والطاغوت هو كل شخص أو جماعة أو حزب أو شريعة أو قانون يتحرك بعيداً عن الله، فالحكّام الذين لا يعملون بشريعة الله، والأحزاب التي لا تؤمن بالله ولا برسوله ولا برسالته، هم الطاغوت بعينه، وكل اتّباع للطاغوت هو عبادة له، لأن العبادة لا تنحصر بالركوع والسجود ـ وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد* الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} [الزمر:10-18].

فعبادة الله واجتناب الطاغوت، هي منطلق دعوة كل رسول، وفي هذا يقول تعالى في سورةالنحل: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين} [النحل:36]. ولذلك علينا أن نخطّط للسير بعيداً عن كل الطواغيت، سواء كانوا في الخط الديني أو السياسي أو الاجتماعي، لأنّ هناك خطّين: خطاً إيجابياً عنوانه عبادة الله، وخطاً سلبياً عنوانه عبادة الطاغوت، وعلينا أن نسير في الخط الإيجابي، وأن نربّي أولادنا وأهلينا على ذلك، لنقف غداً بين يدي الله تعالى ونحصل على رضاه، ولا شيء إلا رضاه.
الخطبة الثانية

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكل مسؤولية. فماذا هناك؟

الإدارة الأمريكية: نشر الفوضى وتعطيل السلام

تواجه المنطقة العربية والإسلامية حالاً خطيرة من الفوضى السياسية والإعلامية والأمنية، من خلال أكثر من موقع دوليّ تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية في إدارتها الحالية التي تزحف إلى بلدان المنطقة لتربك أوضاعها، كوسيلة للسيطرة عليها، ولإثارة الفتن في داخل شعوبها، مستغلة التعقيدات الدينية والعِرقية والحساسيات الإقليمية، وموظِّفةً القائمين على شؤون الأنظمة الحاكمة في المنطقة الخاضعين لها، والمستسلمين لمصالحها الاستراتيجية، في عناوين ضبابية ملتبسة تصنع الإثارة، وتحرّك الفتنة، وتصادر حرية الشعوب تحت شعارات إصلاحية، وتقوم بالعنف الدامي الذي يقتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ باسم قصف المواقع المعادية، غير عابئة بالمصائب التي تلحق بالآمنين الذين إذا ثاروا على هذه المجازر، اعتذرت لهم بأن المسألة كانت خطأً غير مقصود.

ومن المؤسف أن الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمته فرنسا وبريطانيا، يتحرك جنباً إلى جنب في السير مع الخطط الأمريكية الاستكبارية التي لا تحترم العروبة ولا الإسلام، في عملية ضغط على شعوب المنطقة، وخداعٍ للقائمين على شؤون العالمين العربي والإسلامي، مستغلة حاجة الكثيرين منهم إلى دعم مواقعهم الرسمية لتقوية مواردها الاقتصادية، في بيعهم الكثير من الأسلحة التي لا تحتاج إليها هذه المواقع العربية إلا لتحريكها في الحروب الداخلية بين دولها، أو لتوظيفها لمصلحة حروب أمريكا في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، لتستفيد منها القواعد الأمريكية في البلاد العربية، ومن دون مقابل، لحسابها لا لحساب مصالح الشعوب العربية والإسلامية، لأن هذه الشعوب ليست واردةً في حساب الإدارة الأمريكية، ولاسيما برئاسة رئيسها الحالي "بوش" الذي "لا يملك إلا استراتيجيةً واحدةً هي إسرائيل"، على حدّ قول بعض المسؤولين الأمريكيين.

وفي هذا السياق، فقد تحدثت بعض الصحف الغربية، أن برنامج الجولة الحالية للرئيس بوش في الشرق الأوسط، "سيكون حافلاً بتقديم الولاء لإسرائيل، من دون أن يعير بالاً لدعم حلفائه، وإطفاء لهيب الصراع الذي تذكّيه تل أبيب وواشنطن"، وقد أدّى ذلك إلى أن "تترنّح الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط".

لقد جاء الرئيس بوش إلى المنطقة من أجل أن يجرّ أكثر من دولة عربية إلى التطبيع مع إسرائيل، وأن يؤكد يهوديّة هذه الدولة الغاصبة، غير عابئ بما قد يؤدي إليه ذلك من مشاكل للعرب المقيمين في الكيان الصهيوني، وهو يلتقي بالمسؤولين العرب لا ليحقق الشروط الواقعية للدولة الفلسطينية، بل ليجمع هؤلاء حول إسرائيل في ذكرى اغتصابها الستيني لفلسطين. وقد حاول "بوش" أن يهرب إلى الأمام ليتحدث عن إيران أنها تمثل التهديد الأكبر للسلام في الشرق الأوسط، وذلك بسبب برنامجها النووي السلمي ودعمها لحزب الله في لبنان.

إننا لسنا في موقع الدفاع عن هذين الموقعين، ولكننا نؤكد أن الإدارة الأمريكية هي أكبر مهدّدٍ للسلام بشكل وحشي فعلي، وهذا ما أثبتته الوقائع السياسية والأمنية، سواء من خلال احتلالها للعراق وأفغانستان، أو تدخّلها الاستغلالي في السودان والصومال، أو تحريكها الفوضى في لبنان وسوريا، ناهيك عن جريمتها الكبرى في تشجيعها إسرائيل على القيام بالمجازر الوحشية بالطائرات العسكرية الأمريكية المتطورة ضد المدنيين والمدافعين عن بلدهم في فلسطين، ودعم حليفتها اليهودية في فرض الحصار اللاإنساني على الشعب الفلسطيني.

ثم، إذا كان الرئيس بوش يتحدث عن دعم إيران للمقاومة في فلسطين ولبنان، فلماذا لا يتحدث عن دعمه المطلق للدولة اليهودية أمنياً واقتصادياً وسياسياً؟ وإذا كان الملف النووي الإيراني السلمي يشكّل خطراً على السلام، فماذا يقول عن الترسانة النووية الإسرائيلية التي تلوّح بها في تهديدها لإيران والمنطقة، التي تلتقي مع خطة الفوضى الأمريكية في العالم؟ إننا نقول له: مَن كان بيته من زجاج فلا يرمِ الناس بالحجارة، وعليه أن يعلم أن الكراهية لإدارته سوف تمتد في كل مواقع العالم العربي والإسلامي، وسوف تكون الكلمة الحاسمة للشعوب التي لا تجد في هذا الرئيس إلا صورة الوحش الذي يفترس العالم كله.

في ستينية الاغتصاب: تأييد غربي ومباركة بابوية

وفي هذا الجو، تحتفل إسرائيل بالذكرى الستينية لاغتصابها فلسطين، معتمدةً على التأييد الغربي الذي زرعها في قلب العالم العربي، من أجل خلق المشاكل المتنوعة في داخله، من دون أن يتحرك وجدان هذا الغرب بأية نبضةٍ إنسانيةٍ ضد كل ما تقوم به إسرائيل في مواجهة الشعب الفلسطيني من اغتيالات واجتياحات وحصارات، لأنه لا يؤمن بإنسانية هذا الشعب، بل يؤمن بإنسانية الشعب اليهودي.

وليس بعيداً من ذلك، فقد قرأنا تصريح البابا الذي شكر الله "لامتلاك اليهود أرض أجدادهم"، وعبّر عن امتنانه وأمنياته الصادقة لمناسبة الذكرى الستين لإقامة دولة إسرائيل. ونحن في الوقت الذي نأسف لهذا التصريح الذي لا ينسجم مع القيم الروحية الإنسانية التي تمثلها المسيحية الأصيلة، نسأل حضرة البابا: أين هي القيمة الإنسانية الحضارية في طرد اليهود لشعب بأكمله، وإيقاع المجازر الوحشية بحقه منذ بداية تأسيس هذا الكيان وإلى الآن؟ وهل إن وجود اليهود في فلسطين قبل آلاف السنين يجعل هذه الأرض ملكاً لهم من الناحية الدينية؟ وهل إن المسيحية تؤمن بهذه الشرعية القائمة على الظلم والاغتصاب التي ترفضها كل الأسس العلمية التاريخية الحضارية؟! ولا ندري لماذا لا يتحدث البابا بصراحة عن مجازر اليهود وحصارهم التجويعي والخدماتي للشعب الفلسطيني، أو عن حق العودة للاجئين المشرّدين في أنحاء الأرض، ألا يستحق ذلك كلمةً منه؟ وهل يكفي أن يتحدث عن تخفيف آلام هذا الشعب أو عن السلام من دون أية تفاصيل، أو من دون أن يقول لليهود الغاصبين: أخرجوا من أرض فلسطين؟

إننا نسأل حضرة البابا: لو كان السيد المسيح حاضراً الآن، فهل يرضى باغتصاب فلسطين من قِبَل اليهود وطرد أهلها منها؟ وهل يبعث بتبريكاته للصهاينة في الذكرى الستين لاغتصابها؟ لقد طرد السيد المسيح اللصوص من ساحة الهيكل، فهل كان ليتقبّل لصوص الأوطان في فلسطين؟

إن ألمانيا التي يتحدَّر منها حضرة البابا، هي التي اضطهدت اليهود الذين أكرمهم العرب والمسلمون واحتضنوهم في بلادهم طوال قرون، ولذلك فقد كان من الأولى أن تمنحهم ألمانيا، أو الغرب بشكلٍ عام، موقعاً في أيّ أرض غربية ليكفّر عن خطيئته، لا أن يساعدهم في طرد شعب بأكمله من أرضه.

لبنان: ساحة الاهتزازات والتسويات

أما لبنان، فقد كنّا ـ ولا نزال ـ نقول ولا نزال: إنه بلد التسويات التوافقية وليس بلد الغلبة السياسية، وهذا هو الذي يمثل حاجة الجميع للخروج من المأزق، كما أن الحاجة تستدعي العمل السريع لقيام حكومة وحدة وطنية تخطط لمصلحة الشعب اللبناني في قضاياه المصيرية، وأوضاعه الحيوية، وتنوعاته الطائفية والمذهبية، لا لحساب الارتباطات الخارجية التي تبيع المسؤولين كلاماً غزلياً ولا تقدّم لهم حلاً واقعياً، والتي حتى عندما تتحدث عن الدعم العسكري، ولاسيما للقوى الأمنية، فإننا نلاحظ أنها لا تمنح هذا الجيش القوة التي يستطيع معها الدفاع عن لبنان أمام أيّ عدوان إسرائيلي، لأنها ترى ـ وخصوصاً أمريكا ـ أنه لا يجوز لأية دولة في المنطقة أن تكون في موقع القوة أمام إسرائيل، لأن المطلوب عندهم أن تبقى هي الأقوى.

وإنّنا ندعو الجميع، ولاسيّما المسؤولين السياسيّين والدينيّين، إلى الإقلاع عن الحديث عن الفتنة المذهبيّة كأمر واقع؛ لأنّه لا وجود للفتنة إلا في عقول الكثيرين ممّن أدمنوا الخطاب الطائفي والمذهبي. أمّا الشعب، فقد دلّت كلّ التجارب على أنّه يعيش الوحدة الإسلاميّة والوطنيّة بعفويّتها الصادقة البعيدة عن تعقيدات السياسة والسياسيّين، وحتّى بعيداً عن بعض المواقع الدينية وخطابها المتشنّج.

وأخيراً، إننا في الوقت الذي نرحب بكل خطوة توافقية من شأنها أن تعيد الفرقاء اللبنانيين إلى طاولة الحوار والتفاهم، بالرغم من التحفّظات الخفيّة التي أطلقتها الإدارة الأمريكية، نؤكِّد أن المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق المتحاورين، هي أن يرتفعوا عن حساباتهم الطائفيّة، ومشاريعهم الشخصانيّة، وعصبيّاتهم المذهبيّة والحزبيّة، وارتباطاتهم الخارجيّة، إلى مستوى لبنان الشعب والوطن الذي يُمكن أن يتشارك الجميع في بنائه وحمايته وتطويره إلى المستوى الذي يعود فيه نموذجاً للمواطنة التي لا تشعر معها كلّ فئة بالغلبة على الفئات الأخرى؛ ليشكّل الخلاف جزءاً من حال التوازن السياسي الذي يغتني به الوطن بتنوّعاته الطائفيّة والمذهبيّة والحزبيّة.

وإننا نسأل الله أن يكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وأن يوفق الجميع للانفتاح على خط التقوى الأخلاقية والسياسية، ليتعاونوا على البرّ والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، لأن العيش المشترك، والسلم الأهلي، والوحدة الإسلامية والوطنية، أمانة الله في رقاب الجميع، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27].




 
 
 
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين،
ومما جاء في خطبته:

التقوى في العبادة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد في سورةالزمر: {قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربّكم لِلَذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10].

في القرآن الكريم، هناك عدد من القضايا أراد الله لعباده أن يتعرّفوا بها، من خلال إيحائه إلى النبي(ص) بأن يحدثهم عنها، وهذا ما نلاحظه في أكثر الآيات التي بدأها الله تعالى في خطابه للنبي(ص) بقوله: "قل"، ما يوحي بأن المسألة في موقع الأهمية التي يريد الله تعالى للناس أن يأخذوا بها.

وفي هذه الآية الكريمة، يريد الله تعالى للنبي(ص) أن يخاطب المؤمنين الذين هم عباد الله، ممّن عاشوا معنى العبودية لله وارتضاهم الله برحمته ومغفرته، أن يخاطبهم بالقول: {قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربكمـ والتقوى هي الخط المستقيم الذي أراد الله لعباده أن يسيروا عليه، لأنه لا يكفي أن يؤمن الإنسان بالله وفي المقابل يأخذ حريته، في السير بهوى نفسه، بل عليه أن يتقي الله، بأن يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه. فلا بد من أن يتحرك الإيمان في خط التقوى ـ لِلَذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ـ فالله لا يضيّع عمل عامل، ذكراً كان أو أنثى، وقد وعدهم الله بأن يعطيهم الحسنات في مقابل ما يحسنون به في هذه الدنيا ـ وأرض الله واسعة ـ فإذا ضاقت بكم الأرض التي تعيشون عليها، ولم تستطيعوا أن تطيعوا الله فيها، أو أن تحصلوا على ما يحقق لكم الخير ويضمن لكم العدل، فلا تحصروا أنفسكم في أرض واحدة، ولكن انطلقوا في أرض الله الواسعة، لأن الأرض كلها لله، فإذا ضاقت بك أرض فانتقل إلى أرضٍ أخرى.

وهذا ما خاطب الله تعالى به المستضعفين الذين وقعوا تحت ضغط المستكبرين، فضللوهم وقادوهم إلى الكفر، قال تعالى: {إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} [النساء:97]. وقد ورد عن الإمام علي(ع) في ذلك قوله: "ليس بلد خيراً لك من بلد، خير البلاد ما حملك". صحيح، أنه لا بد للإنسان من أن يدافع عن بلده وأرضه التي يسكنها وعن عزته، ولكن إذا ضاقت به السبل وحاصره الظلم، فعليه أن لا يخضع له، بل أن يهاجر ليؤسس موقعاً للقوة والعدل ـ إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}.

الإخلاص لله في العمل

ثم يخاطب الله تعالى نبيّه(ص) بأن يقدّم حسابه الشخصي للناس، لأنّ دور النبي(ص) لا يقتصر على تبليغ الرسالة للناس، بل هو أول شخصاً يتحمّل مسؤولية الرسالة في شريعتها ومناهجها: {قل إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ـ لقد أمرني الله بأن أعبده بإخلاص ـ وأُمرت لأن أكون أول المسلمين ـ فأنا لست من القيادات التي تدعو الناس إلى الالتزام بخط دون أن يلتزموا هم به ـ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ـ إنه كلام النبي المعصوم، الذي أراد أن يؤكد فكرة، وهي أنّه لا قرابة بين الله وبين أحد من الناس، حتى لو كان من أحبّ الخلق إليه، إلا من خلال العمل الصالح والطاعة. الأنبياء والأولياء إنما تقرّبوا إلى الله وارتفعوا إلى الدرجة الرفيعة عنده، من خلال إخلاصهم واستجابتهم لما أمرهم به، ومن خلال دعوتهم الناس إلى دينه ـ قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه - أنا أدعوكم إلى عبادة الله، فإذا لم تستجيبوا، فستتحمّلون مسؤولية عدم عبادتكم له ـ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ـ لأن الله تعالى يريد لنا أن نربح رضاه ومغفرته ومحبته، وأن نربّي كل أهلنا على عبادته وطاعته. وهذا ما ينبغي أن نلتفت إليه، لأنّنا نجد أنّ العقلية التي تغلب على تفكير بعض الآباء والأمهات، هي كيف يمكن لهم أن يحققوا لأولادهم ما يؤمّن لهم الموقع العملي والعلمي في الدنيا، من دون أن يلتفتوا إلى مستقبلهم الأخروي الذي ينتظرهم. فالخسارة الحقيقية، ليست في خسارة المال أو الموقع، بل هي في عدم الحصول على رضوان الله يوم القيامة ـ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوّف الله به عباده يا عباد فاتقون}.

في اجتناب الطاغوت رضوان الله

ثم يعطينا الله تعالى الخط التربوي والعبادي والاجتماعي الذي يريد للناس أن ينتهجوه ـ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوهاـ والطاغوت هو كل شخص أو جماعة أو حزب أو شريعة أو قانون يتحرك بعيداً عن الله، فالحكّام الذين لا يعملون بشريعة الله، والأحزاب التي لا تؤمن بالله ولا برسوله ولا برسالته، هم الطاغوت بعينه، وكل اتّباع للطاغوت هو عبادة له، لأن العبادة لا تنحصر بالركوع والسجود ـ وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد* الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} [الزمر:10-18].

فعبادة الله واجتناب الطاغوت، هي منطلق دعوة كل رسول، وفي هذا يقول تعالى في سورةالنحل: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين} [النحل:36]. ولذلك علينا أن نخطّط للسير بعيداً عن كل الطواغيت، سواء كانوا في الخط الديني أو السياسي أو الاجتماعي، لأنّ هناك خطّين: خطاً إيجابياً عنوانه عبادة الله، وخطاً سلبياً عنوانه عبادة الطاغوت، وعلينا أن نسير في الخط الإيجابي، وأن نربّي أولادنا وأهلينا على ذلك، لنقف غداً بين يدي الله تعالى ونحصل على رضاه، ولا شيء إلا رضاه.
الخطبة الثانية

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكل مسؤولية. فماذا هناك؟

الإدارة الأمريكية: نشر الفوضى وتعطيل السلام

تواجه المنطقة العربية والإسلامية حالاً خطيرة من الفوضى السياسية والإعلامية والأمنية، من خلال أكثر من موقع دوليّ تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية في إدارتها الحالية التي تزحف إلى بلدان المنطقة لتربك أوضاعها، كوسيلة للسيطرة عليها، ولإثارة الفتن في داخل شعوبها، مستغلة التعقيدات الدينية والعِرقية والحساسيات الإقليمية، وموظِّفةً القائمين على شؤون الأنظمة الحاكمة في المنطقة الخاضعين لها، والمستسلمين لمصالحها الاستراتيجية، في عناوين ضبابية ملتبسة تصنع الإثارة، وتحرّك الفتنة، وتصادر حرية الشعوب تحت شعارات إصلاحية، وتقوم بالعنف الدامي الذي يقتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ باسم قصف المواقع المعادية، غير عابئة بالمصائب التي تلحق بالآمنين الذين إذا ثاروا على هذه المجازر، اعتذرت لهم بأن المسألة كانت خطأً غير مقصود.

ومن المؤسف أن الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمته فرنسا وبريطانيا، يتحرك جنباً إلى جنب في السير مع الخطط الأمريكية الاستكبارية التي لا تحترم العروبة ولا الإسلام، في عملية ضغط على شعوب المنطقة، وخداعٍ للقائمين على شؤون العالمين العربي والإسلامي، مستغلة حاجة الكثيرين منهم إلى دعم مواقعهم الرسمية لتقوية مواردها الاقتصادية، في بيعهم الكثير من الأسلحة التي لا تحتاج إليها هذه المواقع العربية إلا لتحريكها في الحروب الداخلية بين دولها، أو لتوظيفها لمصلحة حروب أمريكا في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، لتستفيد منها القواعد الأمريكية في البلاد العربية، ومن دون مقابل، لحسابها لا لحساب مصالح الشعوب العربية والإسلامية، لأن هذه الشعوب ليست واردةً في حساب الإدارة الأمريكية، ولاسيما برئاسة رئيسها الحالي "بوش" الذي "لا يملك إلا استراتيجيةً واحدةً هي إسرائيل"، على حدّ قول بعض المسؤولين الأمريكيين.

وفي هذا السياق، فقد تحدثت بعض الصحف الغربية، أن برنامج الجولة الحالية للرئيس بوش في الشرق الأوسط، "سيكون حافلاً بتقديم الولاء لإسرائيل، من دون أن يعير بالاً لدعم حلفائه، وإطفاء لهيب الصراع الذي تذكّيه تل أبيب وواشنطن"، وقد أدّى ذلك إلى أن "تترنّح الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط".

لقد جاء الرئيس بوش إلى المنطقة من أجل أن يجرّ أكثر من دولة عربية إلى التطبيع مع إسرائيل، وأن يؤكد يهوديّة هذه الدولة الغاصبة، غير عابئ بما قد يؤدي إليه ذلك من مشاكل للعرب المقيمين في الكيان الصهيوني، وهو يلتقي بالمسؤولين العرب لا ليحقق الشروط الواقعية للدولة الفلسطينية، بل ليجمع هؤلاء حول إسرائيل في ذكرى اغتصابها الستيني لفلسطين. وقد حاول "بوش" أن يهرب إلى الأمام ليتحدث عن إيران أنها تمثل التهديد الأكبر للسلام في الشرق الأوسط، وذلك بسبب برنامجها النووي السلمي ودعمها لحزب الله في لبنان.

إننا لسنا في موقع الدفاع عن هذين الموقعين، ولكننا نؤكد أن الإدارة الأمريكية هي أكبر مهدّدٍ للسلام بشكل وحشي فعلي، وهذا ما أثبتته الوقائع السياسية والأمنية، سواء من خلال احتلالها للعراق وأفغانستان، أو تدخّلها الاستغلالي في السودان والصومال، أو تحريكها الفوضى في لبنان وسوريا، ناهيك عن جريمتها الكبرى في تشجيعها إسرائيل على القيام بالمجازر الوحشية بالطائرات العسكرية الأمريكية المتطورة ضد المدنيين والمدافعين عن بلدهم في فلسطين، ودعم حليفتها اليهودية في فرض الحصار اللاإنساني على الشعب الفلسطيني.

ثم، إذا كان الرئيس بوش يتحدث عن دعم إيران للمقاومة في فلسطين ولبنان، فلماذا لا يتحدث عن دعمه المطلق للدولة اليهودية أمنياً واقتصادياً وسياسياً؟ وإذا كان الملف النووي الإيراني السلمي يشكّل خطراً على السلام، فماذا يقول عن الترسانة النووية الإسرائيلية التي تلوّح بها في تهديدها لإيران والمنطقة، التي تلتقي مع خطة الفوضى الأمريكية في العالم؟ إننا نقول له: مَن كان بيته من زجاج فلا يرمِ الناس بالحجارة، وعليه أن يعلم أن الكراهية لإدارته سوف تمتد في كل مواقع العالم العربي والإسلامي، وسوف تكون الكلمة الحاسمة للشعوب التي لا تجد في هذا الرئيس إلا صورة الوحش الذي يفترس العالم كله.

في ستينية الاغتصاب: تأييد غربي ومباركة بابوية

وفي هذا الجو، تحتفل إسرائيل بالذكرى الستينية لاغتصابها فلسطين، معتمدةً على التأييد الغربي الذي زرعها في قلب العالم العربي، من أجل خلق المشاكل المتنوعة في داخله، من دون أن يتحرك وجدان هذا الغرب بأية نبضةٍ إنسانيةٍ ضد كل ما تقوم به إسرائيل في مواجهة الشعب الفلسطيني من اغتيالات واجتياحات وحصارات، لأنه لا يؤمن بإنسانية هذا الشعب، بل يؤمن بإنسانية الشعب اليهودي.

وليس بعيداً من ذلك، فقد قرأنا تصريح البابا الذي شكر الله "لامتلاك اليهود أرض أجدادهم"، وعبّر عن امتنانه وأمنياته الصادقة لمناسبة الذكرى الستين لإقامة دولة إسرائيل. ونحن في الوقت الذي نأسف لهذا التصريح الذي لا ينسجم مع القيم الروحية الإنسانية التي تمثلها المسيحية الأصيلة، نسأل حضرة البابا: أين هي القيمة الإنسانية الحضارية في طرد اليهود لشعب بأكمله، وإيقاع المجازر الوحشية بحقه منذ بداية تأسيس هذا الكيان وإلى الآن؟ وهل إن وجود اليهود في فلسطين قبل آلاف السنين يجعل هذه الأرض ملكاً لهم من الناحية الدينية؟ وهل إن المسيحية تؤمن بهذه الشرعية القائمة على الظلم والاغتصاب التي ترفضها كل الأسس العلمية التاريخية الحضارية؟! ولا ندري لماذا لا يتحدث البابا بصراحة عن مجازر اليهود وحصارهم التجويعي والخدماتي للشعب الفلسطيني، أو عن حق العودة للاجئين المشرّدين في أنحاء الأرض، ألا يستحق ذلك كلمةً منه؟ وهل يكفي أن يتحدث عن تخفيف آلام هذا الشعب أو عن السلام من دون أية تفاصيل، أو من دون أن يقول لليهود الغاصبين: أخرجوا من أرض فلسطين؟

إننا نسأل حضرة البابا: لو كان السيد المسيح حاضراً الآن، فهل يرضى باغتصاب فلسطين من قِبَل اليهود وطرد أهلها منها؟ وهل يبعث بتبريكاته للصهاينة في الذكرى الستين لاغتصابها؟ لقد طرد السيد المسيح اللصوص من ساحة الهيكل، فهل كان ليتقبّل لصوص الأوطان في فلسطين؟

إن ألمانيا التي يتحدَّر منها حضرة البابا، هي التي اضطهدت اليهود الذين أكرمهم العرب والمسلمون واحتضنوهم في بلادهم طوال قرون، ولذلك فقد كان من الأولى أن تمنحهم ألمانيا، أو الغرب بشكلٍ عام، موقعاً في أيّ أرض غربية ليكفّر عن خطيئته، لا أن يساعدهم في طرد شعب بأكمله من أرضه.

لبنان: ساحة الاهتزازات والتسويات

أما لبنان، فقد كنّا ـ ولا نزال ـ نقول ولا نزال: إنه بلد التسويات التوافقية وليس بلد الغلبة السياسية، وهذا هو الذي يمثل حاجة الجميع للخروج من المأزق، كما أن الحاجة تستدعي العمل السريع لقيام حكومة وحدة وطنية تخطط لمصلحة الشعب اللبناني في قضاياه المصيرية، وأوضاعه الحيوية، وتنوعاته الطائفية والمذهبية، لا لحساب الارتباطات الخارجية التي تبيع المسؤولين كلاماً غزلياً ولا تقدّم لهم حلاً واقعياً، والتي حتى عندما تتحدث عن الدعم العسكري، ولاسيما للقوى الأمنية، فإننا نلاحظ أنها لا تمنح هذا الجيش القوة التي يستطيع معها الدفاع عن لبنان أمام أيّ عدوان إسرائيلي، لأنها ترى ـ وخصوصاً أمريكا ـ أنه لا يجوز لأية دولة في المنطقة أن تكون في موقع القوة أمام إسرائيل، لأن المطلوب عندهم أن تبقى هي الأقوى.

وإنّنا ندعو الجميع، ولاسيّما المسؤولين السياسيّين والدينيّين، إلى الإقلاع عن الحديث عن الفتنة المذهبيّة كأمر واقع؛ لأنّه لا وجود للفتنة إلا في عقول الكثيرين ممّن أدمنوا الخطاب الطائفي والمذهبي. أمّا الشعب، فقد دلّت كلّ التجارب على أنّه يعيش الوحدة الإسلاميّة والوطنيّة بعفويّتها الصادقة البعيدة عن تعقيدات السياسة والسياسيّين، وحتّى بعيداً عن بعض المواقع الدينية وخطابها المتشنّج.

وأخيراً، إننا في الوقت الذي نرحب بكل خطوة توافقية من شأنها أن تعيد الفرقاء اللبنانيين إلى طاولة الحوار والتفاهم، بالرغم من التحفّظات الخفيّة التي أطلقتها الإدارة الأمريكية، نؤكِّد أن المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق المتحاورين، هي أن يرتفعوا عن حساباتهم الطائفيّة، ومشاريعهم الشخصانيّة، وعصبيّاتهم المذهبيّة والحزبيّة، وارتباطاتهم الخارجيّة، إلى مستوى لبنان الشعب والوطن الذي يُمكن أن يتشارك الجميع في بنائه وحمايته وتطويره إلى المستوى الذي يعود فيه نموذجاً للمواطنة التي لا تشعر معها كلّ فئة بالغلبة على الفئات الأخرى؛ ليشكّل الخلاف جزءاً من حال التوازن السياسي الذي يغتني به الوطن بتنوّعاته الطائفيّة والمذهبيّة والحزبيّة.

وإننا نسأل الله أن يكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وأن يوفق الجميع للانفتاح على خط التقوى الأخلاقية والسياسية، ليتعاونوا على البرّ والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، لأن العيش المشترك، والسلم الأهلي، والوحدة الإسلامية والوطنية، أمانة الله في رقاب الجميع، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27].




 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية