عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكل مسؤولية. فماذا هناك؟
الإدارة الأمريكية: نشر الفوضى وتعطيل السلام
تواجه المنطقة العربية والإسلامية حالاً خطيرة من الفوضى السياسية والإعلامية والأمنية، من خلال أكثر من موقع دوليّ تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية في إدارتها الحالية التي تزحف إلى بلدان المنطقة لتربك أوضاعها، كوسيلة للسيطرة عليها، ولإثارة الفتن في داخل شعوبها، مستغلة التعقيدات الدينية والعِرقية والحساسيات الإقليمية، وموظِّفةً القائمين على شؤون الأنظمة الحاكمة في المنطقة الخاضعين لها، والمستسلمين لمصالحها الاستراتيجية، في عناوين ضبابية ملتبسة تصنع الإثارة، وتحرّك الفتنة، وتصادر حرية الشعوب تحت شعارات إصلاحية، وتقوم بالعنف الدامي الذي يقتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ باسم قصف المواقع المعادية، غير عابئة بالمصائب التي تلحق بالآمنين الذين إذا ثاروا على هذه المجازر، اعتذرت لهم بأن المسألة كانت خطأً غير مقصود.
ومن المؤسف أن الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمته فرنسا وبريطانيا، يتحرك جنباً إلى جنب في السير مع الخطط الأمريكية الاستكبارية التي لا تحترم العروبة ولا الإسلام، في عملية ضغط على شعوب المنطقة، وخداعٍ للقائمين على شؤون العالمين العربي والإسلامي، مستغلة حاجة الكثيرين منهم إلى دعم مواقعهم الرسمية لتقوية مواردها الاقتصادية، في بيعهم الكثير من الأسلحة التي لا تحتاج إليها هذه المواقع العربية إلا لتحريكها في الحروب الداخلية بين دولها، أو لتوظيفها لمصلحة حروب أمريكا في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، لتستفيد منها القواعد الأمريكية في البلاد العربية، ومن دون مقابل، لحسابها لا لحساب مصالح الشعوب العربية والإسلامية، لأن هذه الشعوب ليست واردةً في حساب الإدارة الأمريكية، ولاسيما برئاسة رئيسها الحالي "بوش" الذي "لا يملك إلا استراتيجيةً واحدةً هي إسرائيل"، على حدّ قول بعض المسؤولين الأمريكيين.
وفي هذا السياق، فقد تحدثت بعض الصحف الغربية، أن برنامج الجولة الحالية للرئيس بوش في الشرق الأوسط، "سيكون حافلاً بتقديم الولاء لإسرائيل، من دون أن يعير بالاً لدعم حلفائه، وإطفاء لهيب الصراع الذي تذكّيه تل أبيب وواشنطن"، وقد أدّى ذلك إلى أن "تترنّح الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط".
لقد جاء الرئيس بوش إلى المنطقة من أجل أن يجرّ أكثر من دولة عربية إلى التطبيع مع إسرائيل، وأن يؤكد يهوديّة هذه الدولة الغاصبة، غير عابئ بما قد يؤدي إليه ذلك من مشاكل للعرب المقيمين في الكيان الصهيوني، وهو يلتقي بالمسؤولين العرب لا ليحقق الشروط الواقعية للدولة الفلسطينية، بل ليجمع هؤلاء حول إسرائيل في ذكرى اغتصابها الستيني لفلسطين. وقد حاول "بوش" أن يهرب إلى الأمام ليتحدث عن إيران أنها تمثل التهديد الأكبر للسلام في الشرق الأوسط، وذلك بسبب برنامجها النووي السلمي ودعمها لحزب الله في لبنان.
إننا لسنا في موقع الدفاع عن هذين الموقعين، ولكننا نؤكد أن الإدارة الأمريكية هي أكبر مهدّدٍ للسلام بشكل وحشي فعلي، وهذا ما أثبتته الوقائع السياسية والأمنية، سواء من خلال احتلالها للعراق وأفغانستان، أو تدخّلها الاستغلالي في السودان والصومال، أو تحريكها الفوضى في لبنان وسوريا، ناهيك عن جريمتها الكبرى في تشجيعها إسرائيل على القيام بالمجازر الوحشية بالطائرات العسكرية الأمريكية المتطورة ضد المدنيين والمدافعين عن بلدهم في فلسطين، ودعم حليفتها اليهودية في فرض الحصار اللاإنساني على الشعب الفلسطيني.
ثم، إذا كان الرئيس بوش يتحدث عن دعم إيران للمقاومة في فلسطين ولبنان، فلماذا لا يتحدث عن دعمه المطلق للدولة اليهودية أمنياً واقتصادياً وسياسياً؟ وإذا كان الملف النووي الإيراني السلمي يشكّل خطراً على السلام، فماذا يقول عن الترسانة النووية الإسرائيلية التي تلوّح بها في تهديدها لإيران والمنطقة، التي تلتقي مع خطة الفوضى الأمريكية في العالم؟ إننا نقول له: مَن كان بيته من زجاج فلا يرمِ الناس بالحجارة، وعليه أن يعلم أن الكراهية لإدارته سوف تمتد في كل مواقع العالم العربي والإسلامي، وسوف تكون الكلمة الحاسمة للشعوب التي لا تجد في هذا الرئيس إلا صورة الوحش الذي يفترس العالم كله.
في ستينية الاغتصاب: تأييد غربي ومباركة بابوية
وفي هذا الجو، تحتفل إسرائيل بالذكرى الستينية لاغتصابها فلسطين، معتمدةً على التأييد الغربي الذي زرعها في قلب العالم العربي، من أجل خلق المشاكل المتنوعة في داخله، من دون أن يتحرك وجدان هذا الغرب بأية نبضةٍ إنسانيةٍ ضد كل ما تقوم به إسرائيل في مواجهة الشعب الفلسطيني من اغتيالات واجتياحات وحصارات، لأنه لا يؤمن بإنسانية هذا الشعب، بل يؤمن بإنسانية الشعب اليهودي.
وليس بعيداً من ذلك، فقد قرأنا تصريح البابا الذي شكر الله "لامتلاك اليهود أرض أجدادهم"، وعبّر عن امتنانه وأمنياته الصادقة لمناسبة الذكرى الستين لإقامة دولة إسرائيل. ونحن في الوقت الذي نأسف لهذا التصريح الذي لا ينسجم مع القيم الروحية الإنسانية التي تمثلها المسيحية الأصيلة، نسأل حضرة البابا: أين هي القيمة الإنسانية الحضارية في طرد اليهود لشعب بأكمله، وإيقاع المجازر الوحشية بحقه منذ بداية تأسيس هذا الكيان وإلى الآن؟ وهل إن وجود اليهود في فلسطين قبل آلاف السنين يجعل هذه الأرض ملكاً لهم من الناحية الدينية؟ وهل إن المسيحية تؤمن بهذه الشرعية القائمة على الظلم والاغتصاب التي ترفضها كل الأسس العلمية التاريخية الحضارية؟! ولا ندري لماذا لا يتحدث البابا بصراحة عن مجازر اليهود وحصارهم التجويعي والخدماتي للشعب الفلسطيني، أو عن حق العودة للاجئين المشرّدين في أنحاء الأرض، ألا يستحق ذلك كلمةً منه؟ وهل يكفي أن يتحدث عن تخفيف آلام هذا الشعب أو عن السلام من دون أية تفاصيل، أو من دون أن يقول لليهود الغاصبين: أخرجوا من أرض فلسطين؟
إننا نسأل حضرة البابا: لو كان السيد المسيح حاضراً الآن، فهل يرضى باغتصاب فلسطين من قِبَل اليهود وطرد أهلها منها؟ وهل يبعث بتبريكاته للصهاينة في الذكرى الستين لاغتصابها؟ لقد طرد السيد المسيح اللصوص من ساحة الهيكل، فهل كان ليتقبّل لصوص الأوطان في فلسطين؟
إن ألمانيا التي يتحدَّر منها حضرة البابا، هي التي اضطهدت اليهود الذين أكرمهم العرب والمسلمون واحتضنوهم في بلادهم طوال قرون، ولذلك فقد كان من الأولى أن تمنحهم ألمانيا، أو الغرب بشكلٍ عام، موقعاً في أيّ أرض غربية ليكفّر عن خطيئته، لا أن يساعدهم في طرد شعب بأكمله من أرضه.
لبنان: ساحة الاهتزازات والتسويات
أما لبنان، فقد كنّا ـ ولا نزال ـ نقول ولا نزال: إنه بلد التسويات التوافقية وليس بلد الغلبة السياسية، وهذا هو الذي يمثل حاجة الجميع للخروج من المأزق، كما أن الحاجة تستدعي العمل السريع لقيام حكومة وحدة وطنية تخطط لمصلحة الشعب اللبناني في قضاياه المصيرية، وأوضاعه الحيوية، وتنوعاته الطائفية والمذهبية، لا لحساب الارتباطات الخارجية التي تبيع المسؤولين كلاماً غزلياً ولا تقدّم لهم حلاً واقعياً، والتي حتى عندما تتحدث عن الدعم العسكري، ولاسيما للقوى الأمنية، فإننا نلاحظ أنها لا تمنح هذا الجيش القوة التي يستطيع معها الدفاع عن لبنان أمام أيّ عدوان إسرائيلي، لأنها ترى ـ وخصوصاً أمريكا ـ أنه لا يجوز لأية دولة في المنطقة أن تكون في موقع القوة أمام إسرائيل، لأن المطلوب عندهم أن تبقى هي الأقوى.
وإنّنا ندعو الجميع، ولاسيّما المسؤولين السياسيّين والدينيّين، إلى الإقلاع عن الحديث عن الفتنة المذهبيّة كأمر واقع؛ لأنّه لا وجود للفتنة إلا في عقول الكثيرين ممّن أدمنوا الخطاب الطائفي والمذهبي. أمّا الشعب، فقد دلّت كلّ التجارب على أنّه يعيش الوحدة الإسلاميّة والوطنيّة بعفويّتها الصادقة البعيدة عن تعقيدات السياسة والسياسيّين، وحتّى بعيداً عن بعض المواقع الدينية وخطابها المتشنّج.
وأخيراً، إننا في الوقت الذي نرحب بكل خطوة توافقية من شأنها أن تعيد الفرقاء اللبنانيين إلى طاولة الحوار والتفاهم، بالرغم من التحفّظات الخفيّة التي أطلقتها الإدارة الأمريكية، نؤكِّد أن المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق المتحاورين، هي أن يرتفعوا عن حساباتهم الطائفيّة، ومشاريعهم الشخصانيّة، وعصبيّاتهم المذهبيّة والحزبيّة، وارتباطاتهم الخارجيّة، إلى مستوى لبنان الشعب والوطن الذي يُمكن أن يتشارك الجميع في بنائه وحمايته وتطويره إلى المستوى الذي يعود فيه نموذجاً للمواطنة التي لا تشعر معها كلّ فئة بالغلبة على الفئات الأخرى؛ ليشكّل الخلاف جزءاً من حال التوازن السياسي الذي يغتني به الوطن بتنوّعاته الطائفيّة والمذهبيّة والحزبيّة.
وإننا نسأل الله أن يكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وأن يوفق الجميع للانفتاح على خط التقوى الأخلاقية والسياسية، ليتعاونوا على البرّ والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، لأن العيش المشترك، والسلم الأهلي، والوحدة الإسلامية والوطنية، أمانة الله في رقاب الجميع، والله تعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27].