بسم الله الرحمن الرحيم
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
في النّصيحة سلامة الدين
والغشّ ممحقة الإيمان
الخير مسؤولية إسلامية
في المنهج التربوي الأخلاقي الإسلامي، تأكيد على أهمية بناء الشخصية الإيمانية للإنسان المسلم، بحيث يكون الإنسان الّذي يتحرّك في المجتمع لتنتج حركته الخير للجميع، فينفتح على مصالح الناس، ويقدّم لهم كل ما يرفع من مستواهم، بحيث تذوب شخصيته، من خلال ما يملكه من عقلٍ وخبرةٍ ومشاعر وإحساس، في شخصية الناس كلّهم، فلا يقدّم إلاّ ما يجلب الراحة والسكينة والطمأنينة لهم، انطلاقاً من الحديث النبوي الشريف: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها». ومن هنا، رفض الإسلام الأنانية الّتي تجعل الإنسان يختصر العالم في نفسه، فلا يفكر إلاّ فيها، ولا ينفتح على مجتمعه وأمَّته.
فمن هذا المنهج التّربوي الإسلاميّ، هناك كلمتان تشكّلان ركيزة في تعاطي الإنسان مع الآخرين؛ واحدة إيجابية يريد الله للناس أن يلتزموها ويأخذوا بها، وهي النصيحة، وأخرى سلبية يريد الله للناس أن يرفضوها ويبتعدوا عنها، وهي الغش. فالله تعالى أرسل الأنبياء إلى الناس كافةً من أجل أن ينفتحوا عليهم بالنصيحة، وذلك بما يملأ عقولهم بتوحيد الله، وحياتهم بطاعته وعبادته، وبما يجعلهم يتحرّكون من أجل إقامة العدل بين الناس، وإسقاط الظلم من حياتهم.
النَّصيحة: منهج الرسالات
وهذا ما تكرَّر في أكثر من آية، على لسان أكثر من نبي من الأنبياء، فهناك من الأنبياء من خاطب قومه بقوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(الأعراف/62)، لأقدّم لكم، من خلال هذا العلم الذي أعطاني الله إياه، ما يرفع مستواكم.
وفي آيةٍ أخرى، يتحدّث أحد الأنبياء إلى قومه فيقول: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}(الأعراف/68)، أمينٌ على كلّ ما يفتح عقولكم على الحق، وقلوبكم على الخير والمحبة، وحياتكم على الاستقامة والعدل.
وهناك بعض الأنبياء كان يقول لقومه الذين بلّغهم رسالات الله فأنكروها، وهدّدوه ووقفوا ضدّه {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ـ والله لا يغوي الإنسان بشكل مباشر، ولكنّه يهمل العبد الّذي لا ينفتح عليه، ويسلب عنه رعايته ـ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(هود/34).
كما أنّ النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) يتحدّثون عن هذه المسألة بمختلف الأساليب، ومما يروى عن رسول الله(ص) أنّه قال: «من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم ـ كالبعض الذي يفكر في أن يكون هو في خير دائماً، ولا مشكلة في أن يكون المسلمون في شرّ، فإذا حدثت بين المسلمين مشاكل وفتن وحروب، فإنّه لا يعتبر نفسه غير معنيّ بما يجري. ولكنّ المسلم الحقيقيّ لا بدَّ من أن يشعر بهذا الارتباط العضويّ بينه وبين المسلمين ليتفاعل مع كلَّ التطورات والتحدّيات التي توجّه إليهم ـ ومن لم يصبح ويمس ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم»، أن يكون الناصح لله بأن يوحّده ويعبده، والنّاصح لرسول الله بأن يلتزم بسيرته وسنّته، والنّاصح لكتاب الله بأن يقرأه ويتدبّره ويعمل بمنهجه، والنّاصح للأئمة بإطاعتهم، لأنّ الإمام هو الذي يلي أمور المسلمين، وينصح للأمّة كلّها بما يجلب لها العزّة والكرامة، ويُحقّق لها الوحدة، ويمنع عنها ظلم الظالمين، فمن لم يفعل ذلك، فإنّه ليس من المسلمين في شيء.
الدّين النَّصيحة
وقد اختصر رسول الله(ص) الدِّين بكلمة، فقال: «الدِّين النصيحة ـ قلنا: لمن؟ قال: ـ لله ولرسوله ولكتابه ولأئمّة المسلمين وعامَّتهم». وعنه(ص): «إنَّ أعظم النَّاس منـزلةً عند الله يوم القيامةـ أمشاهم في أرضه بالنَّصيحة لخلقه»، والرّسول(ص) لم يحصر النَّصيحة بالمسلمين، بل اعتبر أنَّ على الإنسان أن يقدّم النَّصيحة لكلِّ العالم، ولا سيما المستضعفين منهم، مسلمين وغير مسلمين، فيتعهّد بالنصيحة لهم بما يرفع مستواهم ويقوّي مواقعهم.
وعنه(ص): «من يضمن لي خمساً أضمن له الجنة: النَّصيحة لله عزّ وجلّ، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله ـ وذلك بأن نحافظ على سلامة الدين في أنفسنا وعوائلنا لتكون عوائل مسلمة، وفي مجتمعنا ليكون مجتمعاً مسلماًَ، وفي كل موقع في العالم، لأنّ الله أراد لنبيّه ولكلِّ السَّائرين في خطِّ الدعوة، أن يعملوا ليكونوا الدُّعاة إلى الإسلام ـ والنَّصيحة لجماعة المسلمين»، بحيث لا يتكلّم أو يتحرّك إلاّ بما يحقّق لهم القوّة والخير والعزّة والوحدة لواقعهم، ويرفض أيّ علاقةٍ بالآخرين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين.
وفي هذا المجال، ورد عن الإمام الصَّادق(ع) قوله: «يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب»، وفي حديث آخر عنه(ع): «عليكم بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»، وأيضاً جاء عن الإمام الباقر(ع) قوله: «إتبع من يُبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاشّ».
وفي هذا المجال أيضاً، هناك النَّصيحة في الاستشارة التي يطلبها الأخ من أخيه في أموره العامة والخاصة، فإذا لم يعطه الرأي الصحيح، واستغلّ استشارته له، فأشار عليه بما ليس في مصلحته، فهناك نتائج سلبية تترتّب على هذا الفعل، يصفها الإمام الصادق(ع) بقوله: «من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه الله عزّ وجلّ رأيه».
وهناك أيضاً النَّصيحة في السَّعي في حاجة الآخر، كأن يوكل أحد شخصاً آخر لشراءٍ أو بيعٍ أو غير ذلك، فيستغلُّ هذا الشخص ثقة الآخر به، ولا يقدّم تقديم ما فيه مصلحة له. وفي هذا يروى عن النبيّ(ص) قوله: «من سعى في حاجة أخيه ولم ينصحه، فقد خان الله ورسوله».
وهناك نصيحة الإنسان لنفسه، فقد ورد عن الإمام عليّ(ع) قوله: «إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، وإن أغشّهم لنفسه أعصاهم لربه». وورد عنه(ع): «إن أعظم الخيانة خيانة الأمةـ كأن يكون جاسوساً لأعدائها مـمَّن يتحرّكون بما يضرُّ بمصالح الأمة ويسقطها ـ وأفظع الغشّ غشّ الأئمة»، وهم الّذين يلون أمور المسلمين.
الغشُّ وآثاره السلبية
وأمّا الكلمة السلبية فهي الغشّ، والغشّ على أقسام: فهناك الغشُّ في المعاملة، وهناك الغش في السياسة، والغشّ في الحرب وفي السلم. ويقول الرسول(ص): «ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره». وعنه(ص): «من غشّ مسلماً في شراء أو بيع فليس منّا، ويُحشر يوم القيامة مع اليهود لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين». وعنه(ص): «من غشّ اخاه المسلم نزع الله عنه بركة رزقه، وأفسد عليه معيشته، ووكله إلى نفسه». وعنه(ص): «المسلم أخو المسلم، ولا يحلّ لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيبٌ إلاّ بيّنه له». وجاء في السّيرة النبويّة، أنّ رسول الله(ص) مرّ ذات يوم في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: «ما أرى طعامك إلا طيّباً»، وسأله عن سعره، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن يدسّ يديه في الطعام، ففعل، فأخرج طعاماً رديّاً، فقال لصاحبه: «ما أراك إلاّ وقد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين». وأيضاً سأل رسول الله(ص) رجلاً يبيع طعاماً، وقد خلط الجيِّد بالقبيح: «ما حملك على ما صنعت؟»، فقال: أردت أن يُنفق، فقال(ص): «ميّز كلَّ واحد منهما على حدة، ليس في ديننا غشّ، من غشّ المسلمين فليس منهم». فالرِّزق بيد الله، وعلى الإنسان المؤمن إذا أراد أن يرزقه الله، أن يطلبه من حلال.
لذلك على الإنسان المسلم المؤمن أن يرتفع إلى المستوى الأخلاقي الذي يقرّبه إلى الله وإلى الناس، وأن يكون ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولدينه ولإمامه ولعامة المسلمين، وأن لا يغشّ المسلمين، لأنّه من غشَّ المسلمين ليس منهم.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتّقوا الله، وواجهوا الموقف كلّه بالنَّصيحة للمسلمين جميعاً، والرفض لكلّ مستكبرٍ وظالم، ولكلّ من يريد السّوء بالإسلام والمسلمين، ولكلِّ من يريد إثارة الفتن بين المسلمين لإسقاط وحدتهم، فماذا هناك؟
الإدارة الأمريكية: فشل سياسة الخداع
في المشهد الأمريكي، شكّلت زيارة الرئيس بوش إلى المنطقة في نتائجها صدمةً عنيفةً لحلفائه من العرب، على خلفية الخطاب الذي ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي، والذي كشف انحياز الموقف الأمريكي الكامل لإسرائيل فيما يتعلّق بقضايا التسوية، وبالأخص قضية القدس واللاجئين، وأظهر خداعه في حديثه الدائم عن الدولة الفلسطينية التي أراد أن يخدّر بها الشعب الفلسطيني، ليظهر بعد ذلك أنّها مجرد حلم.
وإذا كان "بوش" قد وَعَد بمعالجة هذه الانطباعات السلبية، في كلمته التي ألقاها في شرم الشيخ، فإنه لم يقدّم رؤيةً أمريكيةً واضحةً ومحدّدةً لهذه للدولة التي يتحدّث عنها، ما جعل بعض حلفائه يتساءلون عن ماهية الدولة الفلسطينية الموعودة، وعلى أيّ حدود تقام. إضافة إلى ذلك، فإنه لم يعبّر عن دعمه الواضح للحق الفلسطيني، مكتفياً بتوجيه مواعظه لما يسمّى بـ"دول الاعتدال العربي" بضرورة إدخال إصلاحات سياسية وديمقراطية على أنظمتها في العالم العربي، ما جعل بعض وزراء "الاعتدال" يعلّق على مواعظه بأنه "تناسى أكثر من أربعة ملايين فلسطيني يعيشون في سجن كبير بسبب الاحتلال الإسرائيلي".
لقد فشلت الإدارة الأمريكية ـ بشخص رئيسها ـ في الحصول على دعم حلفائها في العالم العربي، الّذين يهمس بعضهم بالاعتراض على سياستها، ويجاهر بعض آخر بذلك، تحت ضغط شعوبهم الذين فقدوا الثقة بهم، وتحت تأثير المجازر اليهودية التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، واجتياحاتها للمدن والمخيّمات الفلسطينية، وتجريف مزارعها بكلِّ حقدٍ ووحشيةٍ وانتقام، وحصارها التجويعي واللاإنساني للمدنيين في غزَّة، من دون أن تساهم الدولة العربية المجاورة بفتح حدودها للتَّخفيف من هذا الحصار، مهدِّدةً الفلسطينيين باستعمال القوة و"تكسير الأرجل" إذا حاولوا التحرّك لكسر هذا الحصار وفتح الحدود بفعل الجوع والحرمان وفقدان الخدمات الحيوية الإنسانية. ومن الملفت أنَّنا رأينا الكثيرين من الإعلاميين والسياسيين ينتقدون الاستقبالات الحميمة من قِبَل رؤساء الأنظمة للرئيس بوش ولمندوبيه الذين يرسلهم إلى المنطقة لتسويق سياسته ضدّ إيران، بزعم مواجهة مشروعها النووي السلمي الذي تتّهمها بأنه مشروع عسكري من دون دليل، وذلك للضغط عليها لتقديم التنازلات للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
إننا نعتقد أنَّ هذا الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، الذي عبّر عنه الرئيس الأمريكي في خطابه في الكنيست، يمثّل تحذيراً للفلسطينيين بأنَّ عليهم أن ينتظروا ستين سنةً إسرائيلية جديدة، على طريقة السنين الماضية بكلِّ تداعياتها وضغوطها وسيطرتها الاحتلالية ومجازرها الوحشية، لأنّ الاستراتيجية اليهودية لا تريد أن تكون للفلسطينيين دولةٌ قابلةٌ للحياة، مستقلةٌ في أمنها وقرارها الاقتصادي والسياسي، بل أن يبقى الفلسطينيون على هامش الكيان الصهيوني مجرد عمّال زهيدي الأجر لبناء الاقتصاد الإسرائيلي، وليبقى اليهود في المواقع المتقدّمة في تقوية اقتصادهم الإنتاجي، وتنمية ثرواتهم وصناعاتهم التي يتحوّلون من خلالها إلى دولة مصدّرة للسلاح ولمصادر القوّة للدول الأخرى.
إسرائيل: استراتيجيَّة تهويد فلسطين
إنَّ إسرائيل تحاولُ الاستفادة من الوقت الضَّائع في سبيل إتمام استراتيجيتها في تهويد القدس، وبناء مستوطنات جديدة، وتوسعة المستوطنات القديمة، إضافةً إلى اللقاءات العقيمة مع السلطة الفلسطينية، والتي لم تتقدّم خطوةً واحدةً في تحقيق النتائج الحاسمة فيما يسمّى في الحل النهائي، من خلال الشروط التعجيزية التي تتحدَّث عن إنهاء عمليات المقاومة، وإسقاط الانتفاضة بالقوة، بفعل الضغوط التي تمارسها السلطة الفلسطينية ضدّ المجاهدين، في تشجيعٍ أمريكي من جهة، أو تحريك للجنة الرباعية من جهة ثانية، ولا سيما مع الإشراف لرئيس وزراء بريطانيا السابق المسؤول عن حرب العراق واحتلاله، ما يساهم في استكمال سيطرة الكيان اليهودي على فلسطين، امتداداً للخطة البريطانية في بداية تأسيس هذا الكيان من خلال وعد بلفور المشؤوم.
وفي هذا السياق، فقد يكون خطاب الرئيس بوش المؤيّد بشكل مطلق لإسرائيل التي تحوّلت إلى ولاية أمريكية هي الأهمّ من بين الولايات، ربما يكون وسيلةً سياسيةً لدعم المرشَّح الجمهوري من قِبَل اليهود الأمريكيين وحلفائهم من المحافظين الجدد، لأنَّ لليهود دورهم الفاعل المؤثّر، ولا سيما في المساعدات المالية في انتخاب الرئيس ومجلسي النواب والشيوخ. وهذا ما لا بدَّ من أن يفهمه العرب والمسلمون الذين يغرقون في أحلام التغيير من خلال الرئيس الأمريكي القادم، لأن الأحزاب الأمريكية قد تختلف في سياستها الداخلية، أو في بعض سياستها الخارجية، ولكنها لن تختلف في التأييد المطلق لإسرائيل، الأمر الذي يفرض علينا أن نخطِّط لسياسة حرّة مستقلّة توظّف ثرواتها واستراتيجيتها لتقوية مواقعها وتأكيد مواقفها، لتكون في الموقع المتقدّم في حركتها السياسية والاقتصادية في العالم.
لبنان: إنجازا التحرير والتسوية
وفي لبنان، فقد كنَّا نقول للّبنانيين إنَّ ما يحول دون التوصُّل إلى تسوية هو غياب الإرادة والقرار، وليس نقص المبادرات والمخارج، إضافةً إلى فقدان الثقة بين الذين يديرون المسألة السياسية. أمّا وقد ألهم الله تعالى المسؤولين للوصول إلى تسوية تنطلق من قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، التي أثبتت مجدداً أنّ لبنان محكوم للتسويات التوافقية، فإنّنا نبارك للبنانيين هذا الاتفاق الذي نتمنَّى أن يؤسِّس لمشروعٍ حواري دائم تُطرح فيه كافة القضايا الخلافية، لأنَّ اللبنانيين الحائرين المحرومين قد أُرهقوا من التفتيش في هذا البحر الدولي والإقليمي والطائفي والمذهبي المتلاطم الأمواج، عن سفينة تنقلهم إلى شاطئ الأمان.
وإنَّنا ـ في هذه المناسبة ـ ندعو إلى الحذر الشديد من لعبة الأمم التي تقودها الإدارة الأمريكية، التي لا تزال تخطِّط في سياستها المتجبّرة المستكبرة لإرباك المنطقة، والتركيز على لبنان كساحةٍ تدير من خلالها صراعاتها مع أكثر من دولة من دولها، ولا سيما أمام الدعوة التي أطلقها الرئيس بوش لليهود بأن يتابعوا حركتهم في بناء دولتهم التي قامت على أنقاض حقوق الشعب الفلسطيني، والتي تعمل على إبادة هذا الشعب من جهة، وإرباك المنطقة في قضاياها السياسية والأمنية من جهة ثانية.
كما ندعو المسؤولين العرب الذين أداروا هذه التسوية إلى أن يُخلصوا لهذه التجربة، ولا يخضعوا لما قد يُدبَّر في الكواليس الدولية التي يرتبط بها بعضهم ارتباطاً عضوياً، خصوصاً بعدما قرأنا بأن الكونغرس قرر محاكمة دول "أوبك"، ولا سيما الدول العربية والإسلامية، على ارتفاع أسعار البترول التي نعرف أن أمريكا مسؤولة عنها جملةً وتفصيلاً.
أيُّها المسؤولون: إنَّ عيون المحرومين والجائعين والمتعَبين شاخصة إليكم، وعليكم أن ترتفعوا إلى مستوى المسؤولية التي تجعلكم تخططون للخروج من دائرة الغرق في الوحول السياسية والطائفية والمذهبية والشخصانية، إلى الآفاق الواسعة التي يتنفّس فيها اللبنانيون الصعداء، في خطة واقعية تعمل على حلّ مشكلتهم الاقتصادية أمام غول الغلاء الذي يأكل من لحمهم الحيّ، وتحررهم من سجون الأزمات السياسية التي يختنقون فيها، من خلال آلية تضمن عدم العودة إلى الحرب، والاتفاق على إنقاذ البلد الذي لن يستطيع أحد أن يستأثر به، وبذلك فقط سينصفكم التاريخ وتترحَّم عليكم الأجيال.
وأخيراً، إننا في عيد المقاومة والتحرير الذي تشكّلت من خلاله عناصر جديدة في حركة المقاومة التي استطاعت أن تحمي لبنان وتهزم إسرائيل في كلِّ عدوانها المتمادي عليه، نؤكِّد أهمية حفظ المقاومة وحمايتها في أية حركة سياسية أو حوارية على مستوى المستقبل، لأنَّ هذه المقاومة أثبتت بتضحيات مجاهديها ودماء شهدائها، أنها عنصر القوة الحقيقي للبنان، إلى جانب العناصر الأخرى، ولا سيما الوحدة الداخلية التي نريد لأيّ اتفاق أن يكون ناظراً في وجوب الحفاظ عليهما؛ المقاومة والوحدة الإسلامية والوطنية، كدعامتين أساسيتين لبناء لبنان قويٍّ حرّ مستقلّ. |