ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الإمام الصَّادق(ع) في ذكراه:
مدرسة تنفتح بنا على كلِّ العلوم والثقافات...
في مدرسة الإمام الصادق(ع):
يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
من أهل هذا البيت، الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي تصادف ذكرى ولادته في السابع عشر من شهر ربيع الأوَّل، وهو الإمام الذي ملأ الدنيا في مرحلته علماً وثقافةً، حتى إن المفكرين والباحثين والعلماء لا يزالون يقرأون تراثه ويستفيدون من علمه، بحيث إنّنا عندما نقرأ تراث الإمام جعفر الصادق(ع)، فإنّنا لا نجد أية قضية من قضايا الإسلام، سواء مما يتصل بالعقيدة أو بالشريعة أو بالفلسفة أو بالأخلاق، أو بالانفتاح على الله والآفاق الروحانية التي يخشع فيها الإنسان أمام ربه، إلاّ وللإمام الصادق(ع) فيها رأي وحكم.
فقد كان الإمام الصَّادق(ع) صاحب مدرسة واسعة تتَّسع لكلِّ الناس، فكان يأتي إليه الزنادقة الذين لا يؤمنون بالإسلام، وهو في المسجد الحرام، ليطرحوا عليه مسائلهم، فيرجعون وهم يعيشون السقوط الفكري، لأنّ الإمام(ع) كان يلقي عليهم الحجة تلو الحجة. ومما يذكر، أنّ أحد هؤلاء الزَّنادقة دعاه أحد أصحابه إلى أن يذهب ويلقي مسائله على الإمام الصادق(ع) في المسجد الحرام، فذهب إليه، ثم عاد يقول لأصحابه: «سألتكم أن تلتسموا إليّ خمرة، فألفيتموني على جمرة»، تحرقه وتحرق كل أفكاره.
ومما ينقل في سيرته، أنّ ممّن تلمّذ عليه، الإمام أبا حنيفة، إمام المذهب الحنفي، ويروى عنه أنه قال: "لولا السنتان ـ اللَّتان تلمَّذ بهما على الصادق(ع) ـ لهلك النعمان"، وهذا هو اسم أبي حنيفة. ويقول مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي: "ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً".
وأيضاً قال زيد بن علي بن الحسين(ع)، الذي يعتقد الزيديون بإمامته: "في كلّ زمان رجل منّا أهل البيت يحتجّ الله به على خلقه، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر، لا يضلُّ من اتَّبعه، ولا يهتدي من خالفه".
كما سُئل أبو حنيفة: "من هو أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمد. قالوا له: كيف ذلك؟ قال: لمّا أقدمه المنصور، بعث إليّ فقال: إنّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيّىء له من مسائلك الشداد. فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة، فأتيته، فدخلت عليه، وجعفر ـ الصّادق(ع) ـ جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر _ الصّادق(ع) ـ ما لم يدخلني للخليفة. فقال لي أبو جعفر: ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها بشيء. ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أنّ أعلم النّاس أعلمهم باختلاف الناس".
فقد كان النّاس يتوافدون على الإمام الصادق(ع) ليأخذوا من علمه. وقد ورد أن أباه محمد الباقر(ع) عندما دنت منه الوفاة، قال له: «يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً» فقال له(ع): «جعلت فداك، والله لأدعنّهم، والرّجل منهم يكون في المصر، فلا يسأل أحداً».
وصاياه لشيعته:
وعندما سأله أن أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي: لِمَ لا تخشاني كما يخشاني الناس؟ قال(ع) له:«ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له...ومن أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك»، فقال المنصور: "والله لقد ميّز عندي منازل النّاس، من يريد الدّنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدّنيا".
وكان(ع) يهتم بتوجيه شيعته إلى أن يمثّلوا الجماعة الإسلامية المنفتحة على المسلمين كافةً، فكان يقول لهم: «يا شيعة آل محمَّد، اعلموا أنه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومَنْ لم يُحسن صحبة من صحِبَه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه... يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله».
ومن توجيهاته(ع) إلى أحد شيعته، ونحن من شيعته: «الحسن من كل أحد حسَن ومنك أحسن، والقبيح من كلِّ أحد قبيح ومنك أقبح، لمكانك منّا».
وممّا كان يوجّه به شيعته أيضاً، فيما يتعلق بعلاقاتهم الاجتماعية بالمسلمين الآخرين، قوله(ع): «كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا»، بحيث تعيشون مع الناس بأخلاقكم وتقواكم ومسامحتكم، حتّى إذا رأوا منكم ذلك، قالوا هؤلاء هم الشيعة، أمّا إذا كنتم أصحاب مشاكل، فسيكون ذلك شيناً علينا.
وكان يقول(ع) للّذين يتعاطون مع الأمور بالسّبّ واللّعن: «ما أيسر ما رضي النّاس منكم، كفّوا ألسنتكم منهم». كما كان يدعوهم إلى التآخي في الله: «اتقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا وأحيوا أمرنا»،«اجعلوا أمركم لله، ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله»،«إياكم والخصومة، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق».
أسلوبه(ع) في الحوار:
وهناك مسألة كانت ولا تزال موجودةً في المجتمع الإسلامي، وهي مسألة الخلاف المذهبي بين السنّة والشيعة، المتمثل بوجود بعض الذهنيات الشيعية التي تكفّر السنَّة، لأنّهم لا يلتزمون بالإمامة، كما هو الحال عند بعض أهل السنَّة الذين يكفِّرون الشيعة ويعتبرونهم مشركين ومرتدّين، وهذه المسألة ليست حديثة العهد، بل كانت موجودة في زمن الإمام الصادق(ع)، ويؤكد ذلك الحوار الذي ينقله هاشم صاحب البريد، يقول فيه: "كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب مجتمعين، فقال لنا أبو الخطاب: ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر (أمر الإمامة)؟ فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر، فقال أبو الخطاب: ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجَّة فلم يعرف فهو كافر، فقال له محمد بن مسلم: سبحان الله، ما له إذا لم يعرف ويجحد يكفر؟! ليس بكافر إذا لم يجحد، قال: فلما حججت دخلت على أبي عبد الله(ع) فأخبرته بذلك، فقال: إنك قد حضرت وغابا، ولكن موعدكم الليلة، الجمرة الوسطى بمنى. فلما كانت الليلة، اجتمعنا عنده وأبو الخطاب ومحمد بن مسلم، فتناول وسادةً، فوضعها في صدره، ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهليكم؛ أليس يشهدون أن لا إله إلا الله؟ قلت: بلى، قال(ع): أليس يشهدون أن محمداً رسول الله(ص)؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما هو عندكم؟ قلت: من لم يعرف (أمر الإمامة) فهو كافر.
قال: سبحان الله، أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلِّون ويصومون ويحجون؟ أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(ص)؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما هو عندكم؟ قلت: من لم يعرف (الإمامة) فهو كافر.
قال: سبحان الله، أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلّقهم بأستار الكعبة؟ قلت: بلى، قال: أليس يشهدون أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله(ص) ويصلون ويصومون ويحجّون؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما تقولون فيهم؟ قلت: من لم يعرف فهو كافر.
قال: سبحان الله، هذا قول الخوارج. ثم قال: إن شئتم أخبرتكم، فقلت أنا: لا، فقال: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا. قال: فظننت أنه يديرنا على قول محمد بن مسلم".
وهذا يدل على أنّ مسألة التكفير بين المسلمين كانت موجودةً، وهو ما كان حذّر منه الرّسول(ص)، عندما قال: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض». والنبي(ص) إنّما كان يكتفي من الناس بمجرَّد تلفظهم بالشهادتين ليصبحوا مسلمين. ولذلك ورد عندنا في القرآن في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات:14)، أي أنّكم أسلمتم لله بالشهادتين ودخلتم بذلك في المجتمع الإسلامي.
التزام الإسلام
:
فقضية الإمامة هي من أصول المذهب وليست من أصول الدين، ولذلك نحن نتعامل مع السنَّة على أساس الإسلام، حتى إنَّ الإمام عليّاً(ع) كان يتعامل مع الخلفاء الذين غصبوه حقه كما يتعامل مع المسلمين جميعاً، وكذلك كان الصادق(ع) كبقية الأئمة(ع)، ضد ذهنية التكفير التي لا يزال البعض يتحرّك من خلالها.
لذلك أيّها الأحبة، إنّ التزامنا بالأئمة من أهل البيت(ع)، يفرض علينا الالتزام بكلِّ ما يصدر عنهم من فكر ووصايا ومواعظ في كلِّ مجالات الحياة، وقد أراد لنا الأئمة أن نلتزم بالقرآن، وأن يكون التزامنا بالأحاديث التي ثبت عدم مخالفتها للقرآن، لأنّ البعض يروي أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان؛ أحاديث فيها غلوّ وتخلّف. وقد أعطانا الأئمة(ع) الأساس الّذي نتعامل وفقه مع الأحاديث الواردة، فقد جاء عنهم(ع): «ما خالف كتاب الله فهو زخرف»، «ما خالف قول ربنا لم نقُله»،«إنّ على كل حقٍّ حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه".
ومما تحدّث به الإمام الصادق(ع) في بعض مواعظه: «خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين إليك».
أيُّها الأحبة، إنّ التزامنا بأهل البيت(ع) هو التزام بكلِّ الثقافة التي ثقّفونا بها، وبكل النصائح والوصايا التي خلَّفوها لنا، وهذا هو سرّ التزامنا بهم وبإمامتهم في كل الأمور. والسلام على سيدنا الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) يوم ولد، ويوم توفي، ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
تشيني: الناطق بالخداع الأمريكي:
في المشهد الإسرائيلي ـ الأمريكي، كانت زيارة نائب الرئيس الأمريكي، تشيني، تأكيداً للالتزام الأمريكي بالتأييد المطلق لإسرائيل، بحجة أنّها تواجه "تهديدات متواصلة من قِبَل إيران وحماس"، وأنّ هذه التهديدات تمثّل "تهديداً للولايات المتحدة نفسها، وللّجنة الرباعية الدولية"، مع تأكيدات جديدة بالتزام أميركي ثابت حيال أمن إسرائيل في مواجهة شعوب المنطقة وقوى التحرر والممانعة فيها، ومع إصرار على تشريع الاستيطان وقتل الفلسطينيين بالاغتيالات والاجتياحات التي تُستخدم فيها الطائرات الأمريكية.
وفي مقابل ذلك، لم تخرج زيارته للضفّة الغربيّة عن إطار المجاملات وتكرار الوعود الاستهلاكيّة بالدولة المستقلّة والسلام، وعدم الاحترام لكلّ كلمات رئيس السلطة عن جرائم الاحتلال وضرورة رفع الحصار القاتل عن الفلسطينيّين، بل كان "تشيني" يستمع بأذن صمّاء، ويتحدث بلغةٍ خادعة تختزن في داخلها المزيد من الكلمات التي لا تعني شيئاً، لأن الأمريكيين اعتادوا أن يبيعوا العرب كلاماً، ويمنحوا الإسرائيليين المواقف السياسة المؤيِّدة، والسلاح المتطوّر، والمشاركة العدوانية، على طريقتهم في توفير الغطاء والدعم العسكري لإسرائيل للتمادي في عدوانها، وفي منع أيّ قرار إدانة لإسرائيل في مجلس الأمن، كما شهدناه في كلّ تاريخ الصراع، وكما رأيناه في لبنان خلال حرب تمّوز، وفي فلسطين خلال العدوان الأخير.
ومن اللافت أن "تشيني" يتّهم سوريا وإيران بأنهما "تعطّلان التسوية في فلسطين"، من دون أن يجد لإسرائيل أيّ دور في ذلك، في الوقت الذي يعلم الجميع، أن هاتين الدولتين تقفان مع الشعب الفلسطيني بما يحفظ له حريّاته السياسيّة، وذلك في مواجهة الخطة الإسرائيلية التي تحاول أن تصادر أية فرصة للحل، من خلال مشاريعها الاستيطانية الكبرى.
إلى ذلك، فقد اعتبرت الإدارة الأمريكية مطالبة الشعب الفلسطيني بالحرية إرهاباً، واشترطت لأيّ تفاوض الامتناع عن المطالبة بإزالة الاحتلال، والكفّ عن الدعوة إلى تجميد العدوان المستمر على أرضه ومجتمعاته، إضافةً إلى تهويدها للقدس والعمل على كلّ ما يحقق الإستراتيجية الإسرائيلية في فلسطين.
فلسطين: عزل وتهويد:
إنّ المطلوب ـ أمريكياً ـ أن يبقى الشعب الفلسطيني وحده، من دون أن يجد مساعداً له في مواجهة إسرائيل في سيطرتها على فلسطين كلّها، بعد أن نجحت في عزل أكثر الدول العربية عن الوقوف بقوة معه، وبذلك تستطيع هذه الإدارة الأمريكية، أن تفرض على هذا الشعب الجريح والمجاهد الشروط الإسرائيلية التي يُراد للسلطة الفلسطينية أن تخضع لها من دون قيدٍ أو شرط، وخصوصاً أن الخطة الجديدة التي تعمل لها إسرائيل، هي التخطيط لمشروع استيطاني جديد في الضفة الغربية، إضافةً إلى المستوطنات الأخرى، مما لا تملك حكومة السلطة ولا اللجنة الرباعية أن تمنعه بفعل الضَّعف الساحق الذي تخضع له.
وإنّنا إذ نرحّب بأيّ جُهود تُبذل في سبيل توحيد الساحة الفلسطينيّة الداخليّة، بما يجعلها أكثر تماسكاً أمام الاحتلال ومخطّطاته، والتي كان آخرها إعلان صنعاء، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ الخطّة الإسرائيليّة ـ الأمريكية هي أن يبقى الانقسام الفلسطيني سيّد الموقف الداخلي، في ظلّ عملٍ أمريكي على منع أيّ موقفٍ عربيّ يقوّي المنعة الداخليّة للشعب الفلسطيني، ولا سيّما مع المواقف السلبيّة الإسرائيلية والأمريكية، وتبشيرها بعدم نجاح هذا الاتفاق بين فتح وحماس، وهذا ما يعزّزه بروز بعض التعقيدات في تفسير الإعلان.
وفي ضوء ذلك كلِّه، ينطلق السؤال: هل إن الفلسطينيين بحاجة إلى ستين سنة أخرى من الانتظار للحصول على حقوقهم التي تنتقل عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فلا يبقى من فلسطين لشعبها أيّ موقع إلاّ من قبيل فتات المائدة السياسية، في ظل عالم عربي أو إسلامي خائف من الضربة الأمريكية القاضية، إذا تحرّك في موقع قوة جديد يوحي بالتحدي والمواجهة والمقاومة والممانعة؟
العالم الإسلامي:غيبوبة عن الواقع:
ومن جانب آخر، فإن العالم الإسلامي الذي التقى بذكرى المولد النبوي الشريف، لا يزال مشغولاً بالخلافات التاريخية، والتعقيدات المذهبية، في غيبوبة مطبقة عن الواقع الذي يجتاحه الاحتلال الأمريكي للعراق، واحتلال الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا لأفغانستان، والعبث السياسي المتحرك في أكثر من حالة عنف في باكستان، والفوضى الأمنية والسياسية في السودان والصومال، ولا تزال المجازر تجتاح المدنيين الذين بلغوا ـ حسب بعض الإحصائيات في العراق ـ مليون ضحية غالبيتهم من المدنيين، كما أنّ التهجير القسري والاختياري الداخلي والخارجي وصل إلى ما يقارب الخمسة ملايين مهجَّر، في غياب أيّة إستراتيجية إسلامية لـ 57 دولة مسلمة، للأخذ بأسباب التخطيط للخروج من هذا النفق المظلم، أو الأخذ بأسباب القوة، والعمل على استخدام القدرات الاقتصادية ضدّ الذين يفرضون السيطرة الاستكبارية عليها، لأن المسألة هي أن القائمين على شؤون العالم الإسلامي لا يأخذون من الإسلام إلاّ اسمه، ولا ينفتحون من القرآن إلاّ على رسمه، فقد سيطرت عليهم أطماعهم، وأسقطتهم نقاط ضعفهم، وصادرت إحساسهم بالحرية وانفتاحهم على العنفوان وانطلاقهم في خط العزة.
ويبقى للواقع الإسلامي استراتيجية وحيدة وهي المقاومة، التي تلتزم الدفاع عن قضايا الحرية والكرامة والمواجهة للعدوان الاستكباري الذي يمثِّله التحالف الإسرائيلي ـ الأوروبي ـ الأمريكي، في صراعٍ قويّ مع كلِّ الدول المستكبرة، أو الدول الخاضعة للاستكبار من بعض الدول العربية والإسلامية التي تستنفر كل قوَّتها في إسقاط روحية المقاومة والممانعة لدى الشعوب المستضعفة.
إننا، في هذا الجو، ندعو العالم الإسلامي إلى أن يرتفع إلى مستوى الإسلام، ليكون مسلماً في حركته في العالم، وليكون في موقع صناعة القرار العالمي، لا في موقع الهامش من ذلك، وهذا ما ينبغي أن يمثله الاحتفال بالمولد، بأن يكون هناك انفتاح على صناعة تاريخ إسلامي جديد للحضارة في خطِّ العقل والعلم والقوة.
القمة العربية: غياب الذهنية المؤسسة:
ومن جانب آخر، فإنّ العالم العربي يستعدُّ للقمة العربية التي ستعقد في دمشق، بعد حسم الجدل السياسي حول مستوى التمثيل والمقاطعة لدى كثير من الأطراف، بما يُشير إلى أنّ الحركة العربيّة لم ترقَ بعدُ إلى ذهنيّة المؤسّسة، ونحن نلاحظ أن أكثر الدول العربية تختزن في داخل برنامجها السياسي إدخال القمة في متاهات الخلافات العربية وتعقيداتها، وفي التزاماتها الدولية في التعامل مع القضايا المصيرية التي يرفض الاستكبار الدولي معالجتها بالطريقة التي تخدم الشعوب العربية، ولهذا، فإنّ القيادات الكبيرة المهيمنة على شؤون العرب في دولهم، استجابت للنداء الأمريكي بالمقاطعة، من خلال عدم الحضور الفاعل، وتخفيض مستوى الوفود، والاكتفاء بالمشاركة من خلال ممثلين لا يملكون صلاحيات مناقشة أيّ قرار استراتيجي...
وربما نلاحظ أنَّ الطريقة العربية للقيادات الكبرى في سلوكها تجاه القمّة، سوف تقضي على مشروع القمة من الأساس، لأنّهم لا يملكون أمرهم في إصدار القرارات الحيوية الاستراتيجية التي تنقذ الواقع العربي من أزماته الكبيرة، ونخشى أن يكون القرار الاستراتيجي للقمة هو إصدار ورقة نعي لفلسطين ولبنان والعراق، لأنّ هناك حكماً أمريكياً بالموت لهذه القضايا المأساوية، ليكون الواقع هو البحث عن قبر كبير للعالم العربي في حياته السياسية، ليقيم الجميع حفلات التأبين الرثائي التي يستنـزل فيها الجميع الدموع على المجد الذي مات، وعلى القمة التي دفنها أصحابها في حفرة الذل القومي.
لبنان: ساحة تشبه الوطن!
أما لبنان الذي حُسِم موقفُه بمقاطعة القمّة، فإنه لن يجد أيّ حلّ لأزمته الداخلية، لأنها مرتبطة بأزمة المنطقة التي لا تملك القمة أيَّ تأثير في أوضاعها، وسيبقى هذا البلد الصغير يعيش في متاهات الجدل والسجالات والتحليلات والتجاذبات، ولن يخرج من دور الساحة التي تلتقي فيها المخابرات الدولية والإقليمية، والسياسات الاستكبارية، والصراعات الأمريكية في دائرة مصالحها الاستراتيجية مع أكثر من دولة في المنطقة، وسوف يبقى اللُّبنانيون مشدودين إلى وسائل الإعلام الصحافية والقنوات الإذاعية والفضائية، من أجل الحصول على ثقافة الحقد الطائفي، والتمزّق المذهبي، والتخوين السياسي، والصنمية الحزبية، والزعامة الذاتية، والشرعية الضائعة، والمستقبل المظلم، والدولة اللاّدولة... وهكذا تسيطر عليهم الغفلة عن قضايا المصير، ليلعب بها اللاعبون، ويغامر بوطنهم المغامرون، ولتتسع الثغرات التي ينفذ منها كل الذين يصادرون لبنان في متاهات الأوضاع الدولية والإقليمية وفي الوحول الداخلية. ولا يبقى من النشيد الوطني إلاّ اللحن والكلمات التي لا يجد فيها الناس أيّ معنى للوطن. والسؤال: هل هذا هو لبنان الذي نريده؟
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الإمام الصَّادق(ع) في ذكراه:
مدرسة تنفتح بنا على كلِّ العلوم والثقافات...
في مدرسة الإمام الصادق(ع):
يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
من أهل هذا البيت، الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي تصادف ذكرى ولادته في السابع عشر من شهر ربيع الأوَّل، وهو الإمام الذي ملأ الدنيا في مرحلته علماً وثقافةً، حتى إن المفكرين والباحثين والعلماء لا يزالون يقرأون تراثه ويستفيدون من علمه، بحيث إنّنا عندما نقرأ تراث الإمام جعفر الصادق(ع)، فإنّنا لا نجد أية قضية من قضايا الإسلام، سواء مما يتصل بالعقيدة أو بالشريعة أو بالفلسفة أو بالأخلاق، أو بالانفتاح على الله والآفاق الروحانية التي يخشع فيها الإنسان أمام ربه، إلاّ وللإمام الصادق(ع) فيها رأي وحكم.
فقد كان الإمام الصَّادق(ع) صاحب مدرسة واسعة تتَّسع لكلِّ الناس، فكان يأتي إليه الزنادقة الذين لا يؤمنون بالإسلام، وهو في المسجد الحرام، ليطرحوا عليه مسائلهم، فيرجعون وهم يعيشون السقوط الفكري، لأنّ الإمام(ع) كان يلقي عليهم الحجة تلو الحجة. ومما يذكر، أنّ أحد هؤلاء الزَّنادقة دعاه أحد أصحابه إلى أن يذهب ويلقي مسائله على الإمام الصادق(ع) في المسجد الحرام، فذهب إليه، ثم عاد يقول لأصحابه: «سألتكم أن تلتسموا إليّ خمرة، فألفيتموني على جمرة»، تحرقه وتحرق كل أفكاره.
ومما ينقل في سيرته، أنّ ممّن تلمّذ عليه، الإمام أبا حنيفة، إمام المذهب الحنفي، ويروى عنه أنه قال: "لولا السنتان ـ اللَّتان تلمَّذ بهما على الصادق(ع) ـ لهلك النعمان"، وهذا هو اسم أبي حنيفة. ويقول مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي: "ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً".
وأيضاً قال زيد بن علي بن الحسين(ع)، الذي يعتقد الزيديون بإمامته: "في كلّ زمان رجل منّا أهل البيت يحتجّ الله به على خلقه، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر، لا يضلُّ من اتَّبعه، ولا يهتدي من خالفه".
كما سُئل أبو حنيفة: "من هو أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمد. قالوا له: كيف ذلك؟ قال: لمّا أقدمه المنصور، بعث إليّ فقال: إنّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيّىء له من مسائلك الشداد. فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة، فأتيته، فدخلت عليه، وجعفر ـ الصّادق(ع) ـ جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر _ الصّادق(ع) ـ ما لم يدخلني للخليفة. فقال لي أبو جعفر: ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها بشيء. ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أنّ أعلم النّاس أعلمهم باختلاف الناس".
فقد كان النّاس يتوافدون على الإمام الصادق(ع) ليأخذوا من علمه. وقد ورد أن أباه محمد الباقر(ع) عندما دنت منه الوفاة، قال له: «يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً» فقال له(ع): «جعلت فداك، والله لأدعنّهم، والرّجل منهم يكون في المصر، فلا يسأل أحداً».
وصاياه لشيعته:
وعندما سأله أن أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي: لِمَ لا تخشاني كما يخشاني الناس؟ قال(ع) له:«ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له...ومن أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك»، فقال المنصور: "والله لقد ميّز عندي منازل النّاس، من يريد الدّنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدّنيا".
وكان(ع) يهتم بتوجيه شيعته إلى أن يمثّلوا الجماعة الإسلامية المنفتحة على المسلمين كافةً، فكان يقول لهم: «يا شيعة آل محمَّد، اعلموا أنه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومَنْ لم يُحسن صحبة من صحِبَه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه... يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله».
ومن توجيهاته(ع) إلى أحد شيعته، ونحن من شيعته: «الحسن من كل أحد حسَن ومنك أحسن، والقبيح من كلِّ أحد قبيح ومنك أقبح، لمكانك منّا».
وممّا كان يوجّه به شيعته أيضاً، فيما يتعلق بعلاقاتهم الاجتماعية بالمسلمين الآخرين، قوله(ع): «كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا»، بحيث تعيشون مع الناس بأخلاقكم وتقواكم ومسامحتكم، حتّى إذا رأوا منكم ذلك، قالوا هؤلاء هم الشيعة، أمّا إذا كنتم أصحاب مشاكل، فسيكون ذلك شيناً علينا.
وكان يقول(ع) للّذين يتعاطون مع الأمور بالسّبّ واللّعن: «ما أيسر ما رضي النّاس منكم، كفّوا ألسنتكم منهم». كما كان يدعوهم إلى التآخي في الله: «اتقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا وأحيوا أمرنا»،«اجعلوا أمركم لله، ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله»،«إياكم والخصومة، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق».
أسلوبه(ع) في الحوار:
وهناك مسألة كانت ولا تزال موجودةً في المجتمع الإسلامي، وهي مسألة الخلاف المذهبي بين السنّة والشيعة، المتمثل بوجود بعض الذهنيات الشيعية التي تكفّر السنَّة، لأنّهم لا يلتزمون بالإمامة، كما هو الحال عند بعض أهل السنَّة الذين يكفِّرون الشيعة ويعتبرونهم مشركين ومرتدّين، وهذه المسألة ليست حديثة العهد، بل كانت موجودة في زمن الإمام الصادق(ع)، ويؤكد ذلك الحوار الذي ينقله هاشم صاحب البريد، يقول فيه: "كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب مجتمعين، فقال لنا أبو الخطاب: ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر (أمر الإمامة)؟ فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر، فقال أبو الخطاب: ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجَّة فلم يعرف فهو كافر، فقال له محمد بن مسلم: سبحان الله، ما له إذا لم يعرف ويجحد يكفر؟! ليس بكافر إذا لم يجحد، قال: فلما حججت دخلت على أبي عبد الله(ع) فأخبرته بذلك، فقال: إنك قد حضرت وغابا، ولكن موعدكم الليلة، الجمرة الوسطى بمنى. فلما كانت الليلة، اجتمعنا عنده وأبو الخطاب ومحمد بن مسلم، فتناول وسادةً، فوضعها في صدره، ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهليكم؛ أليس يشهدون أن لا إله إلا الله؟ قلت: بلى، قال(ع): أليس يشهدون أن محمداً رسول الله(ص)؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما هو عندكم؟ قلت: من لم يعرف (أمر الإمامة) فهو كافر.
قال: سبحان الله، أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلِّون ويصومون ويحجون؟ أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(ص)؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما هو عندكم؟ قلت: من لم يعرف (الإمامة) فهو كافر.
قال: سبحان الله، أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلّقهم بأستار الكعبة؟ قلت: بلى، قال: أليس يشهدون أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله(ص) ويصلون ويصومون ويحجّون؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما تقولون فيهم؟ قلت: من لم يعرف فهو كافر.
قال: سبحان الله، هذا قول الخوارج. ثم قال: إن شئتم أخبرتكم، فقلت أنا: لا، فقال: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا. قال: فظننت أنه يديرنا على قول محمد بن مسلم".
وهذا يدل على أنّ مسألة التكفير بين المسلمين كانت موجودةً، وهو ما كان حذّر منه الرّسول(ص)، عندما قال: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض». والنبي(ص) إنّما كان يكتفي من الناس بمجرَّد تلفظهم بالشهادتين ليصبحوا مسلمين. ولذلك ورد عندنا في القرآن في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات:14)، أي أنّكم أسلمتم لله بالشهادتين ودخلتم بذلك في المجتمع الإسلامي.
التزام الإسلام
:
فقضية الإمامة هي من أصول المذهب وليست من أصول الدين، ولذلك نحن نتعامل مع السنَّة على أساس الإسلام، حتى إنَّ الإمام عليّاً(ع) كان يتعامل مع الخلفاء الذين غصبوه حقه كما يتعامل مع المسلمين جميعاً، وكذلك كان الصادق(ع) كبقية الأئمة(ع)، ضد ذهنية التكفير التي لا يزال البعض يتحرّك من خلالها.
لذلك أيّها الأحبة، إنّ التزامنا بالأئمة من أهل البيت(ع)، يفرض علينا الالتزام بكلِّ ما يصدر عنهم من فكر ووصايا ومواعظ في كلِّ مجالات الحياة، وقد أراد لنا الأئمة أن نلتزم بالقرآن، وأن يكون التزامنا بالأحاديث التي ثبت عدم مخالفتها للقرآن، لأنّ البعض يروي أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان؛ أحاديث فيها غلوّ وتخلّف. وقد أعطانا الأئمة(ع) الأساس الّذي نتعامل وفقه مع الأحاديث الواردة، فقد جاء عنهم(ع): «ما خالف كتاب الله فهو زخرف»، «ما خالف قول ربنا لم نقُله»،«إنّ على كل حقٍّ حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه".
ومما تحدّث به الإمام الصادق(ع) في بعض مواعظه: «خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين إليك».
أيُّها الأحبة، إنّ التزامنا بأهل البيت(ع) هو التزام بكلِّ الثقافة التي ثقّفونا بها، وبكل النصائح والوصايا التي خلَّفوها لنا، وهذا هو سرّ التزامنا بهم وبإمامتهم في كل الأمور. والسلام على سيدنا الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) يوم ولد، ويوم توفي، ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
تشيني: الناطق بالخداع الأمريكي:
في المشهد الإسرائيلي ـ الأمريكي، كانت زيارة نائب الرئيس الأمريكي، تشيني، تأكيداً للالتزام الأمريكي بالتأييد المطلق لإسرائيل، بحجة أنّها تواجه "تهديدات متواصلة من قِبَل إيران وحماس"، وأنّ هذه التهديدات تمثّل "تهديداً للولايات المتحدة نفسها، وللّجنة الرباعية الدولية"، مع تأكيدات جديدة بالتزام أميركي ثابت حيال أمن إسرائيل في مواجهة شعوب المنطقة وقوى التحرر والممانعة فيها، ومع إصرار على تشريع الاستيطان وقتل الفلسطينيين بالاغتيالات والاجتياحات التي تُستخدم فيها الطائرات الأمريكية.
وفي مقابل ذلك، لم تخرج زيارته للضفّة الغربيّة عن إطار المجاملات وتكرار الوعود الاستهلاكيّة بالدولة المستقلّة والسلام، وعدم الاحترام لكلّ كلمات رئيس السلطة عن جرائم الاحتلال وضرورة رفع الحصار القاتل عن الفلسطينيّين، بل كان "تشيني" يستمع بأذن صمّاء، ويتحدث بلغةٍ خادعة تختزن في داخلها المزيد من الكلمات التي لا تعني شيئاً، لأن الأمريكيين اعتادوا أن يبيعوا العرب كلاماً، ويمنحوا الإسرائيليين المواقف السياسة المؤيِّدة، والسلاح المتطوّر، والمشاركة العدوانية، على طريقتهم في توفير الغطاء والدعم العسكري لإسرائيل للتمادي في عدوانها، وفي منع أيّ قرار إدانة لإسرائيل في مجلس الأمن، كما شهدناه في كلّ تاريخ الصراع، وكما رأيناه في لبنان خلال حرب تمّوز، وفي فلسطين خلال العدوان الأخير.
ومن اللافت أن "تشيني" يتّهم سوريا وإيران بأنهما "تعطّلان التسوية في فلسطين"، من دون أن يجد لإسرائيل أيّ دور في ذلك، في الوقت الذي يعلم الجميع، أن هاتين الدولتين تقفان مع الشعب الفلسطيني بما يحفظ له حريّاته السياسيّة، وذلك في مواجهة الخطة الإسرائيلية التي تحاول أن تصادر أية فرصة للحل، من خلال مشاريعها الاستيطانية الكبرى.
إلى ذلك، فقد اعتبرت الإدارة الأمريكية مطالبة الشعب الفلسطيني بالحرية إرهاباً، واشترطت لأيّ تفاوض الامتناع عن المطالبة بإزالة الاحتلال، والكفّ عن الدعوة إلى تجميد العدوان المستمر على أرضه ومجتمعاته، إضافةً إلى تهويدها للقدس والعمل على كلّ ما يحقق الإستراتيجية الإسرائيلية في فلسطين.
فلسطين: عزل وتهويد:
إنّ المطلوب ـ أمريكياً ـ أن يبقى الشعب الفلسطيني وحده، من دون أن يجد مساعداً له في مواجهة إسرائيل في سيطرتها على فلسطين كلّها، بعد أن نجحت في عزل أكثر الدول العربية عن الوقوف بقوة معه، وبذلك تستطيع هذه الإدارة الأمريكية، أن تفرض على هذا الشعب الجريح والمجاهد الشروط الإسرائيلية التي يُراد للسلطة الفلسطينية أن تخضع لها من دون قيدٍ أو شرط، وخصوصاً أن الخطة الجديدة التي تعمل لها إسرائيل، هي التخطيط لمشروع استيطاني جديد في الضفة الغربية، إضافةً إلى المستوطنات الأخرى، مما لا تملك حكومة السلطة ولا اللجنة الرباعية أن تمنعه بفعل الضَّعف الساحق الذي تخضع له.
وإنّنا إذ نرحّب بأيّ جُهود تُبذل في سبيل توحيد الساحة الفلسطينيّة الداخليّة، بما يجعلها أكثر تماسكاً أمام الاحتلال ومخطّطاته، والتي كان آخرها إعلان صنعاء، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ الخطّة الإسرائيليّة ـ الأمريكية هي أن يبقى الانقسام الفلسطيني سيّد الموقف الداخلي، في ظلّ عملٍ أمريكي على منع أيّ موقفٍ عربيّ يقوّي المنعة الداخليّة للشعب الفلسطيني، ولا سيّما مع المواقف السلبيّة الإسرائيلية والأمريكية، وتبشيرها بعدم نجاح هذا الاتفاق بين فتح وحماس، وهذا ما يعزّزه بروز بعض التعقيدات في تفسير الإعلان.
وفي ضوء ذلك كلِّه، ينطلق السؤال: هل إن الفلسطينيين بحاجة إلى ستين سنة أخرى من الانتظار للحصول على حقوقهم التي تنتقل عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فلا يبقى من فلسطين لشعبها أيّ موقع إلاّ من قبيل فتات المائدة السياسية، في ظل عالم عربي أو إسلامي خائف من الضربة الأمريكية القاضية، إذا تحرّك في موقع قوة جديد يوحي بالتحدي والمواجهة والمقاومة والممانعة؟
العالم الإسلامي:غيبوبة عن الواقع:
ومن جانب آخر، فإن العالم الإسلامي الذي التقى بذكرى المولد النبوي الشريف، لا يزال مشغولاً بالخلافات التاريخية، والتعقيدات المذهبية، في غيبوبة مطبقة عن الواقع الذي يجتاحه الاحتلال الأمريكي للعراق، واحتلال الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا لأفغانستان، والعبث السياسي المتحرك في أكثر من حالة عنف في باكستان، والفوضى الأمنية والسياسية في السودان والصومال، ولا تزال المجازر تجتاح المدنيين الذين بلغوا ـ حسب بعض الإحصائيات في العراق ـ مليون ضحية غالبيتهم من المدنيين، كما أنّ التهجير القسري والاختياري الداخلي والخارجي وصل إلى ما يقارب الخمسة ملايين مهجَّر، في غياب أيّة إستراتيجية إسلامية لـ 57 دولة مسلمة، للأخذ بأسباب التخطيط للخروج من هذا النفق المظلم، أو الأخذ بأسباب القوة، والعمل على استخدام القدرات الاقتصادية ضدّ الذين يفرضون السيطرة الاستكبارية عليها، لأن المسألة هي أن القائمين على شؤون العالم الإسلامي لا يأخذون من الإسلام إلاّ اسمه، ولا ينفتحون من القرآن إلاّ على رسمه، فقد سيطرت عليهم أطماعهم، وأسقطتهم نقاط ضعفهم، وصادرت إحساسهم بالحرية وانفتاحهم على العنفوان وانطلاقهم في خط العزة.
ويبقى للواقع الإسلامي استراتيجية وحيدة وهي المقاومة، التي تلتزم الدفاع عن قضايا الحرية والكرامة والمواجهة للعدوان الاستكباري الذي يمثِّله التحالف الإسرائيلي ـ الأوروبي ـ الأمريكي، في صراعٍ قويّ مع كلِّ الدول المستكبرة، أو الدول الخاضعة للاستكبار من بعض الدول العربية والإسلامية التي تستنفر كل قوَّتها في إسقاط روحية المقاومة والممانعة لدى الشعوب المستضعفة.
إننا، في هذا الجو، ندعو العالم الإسلامي إلى أن يرتفع إلى مستوى الإسلام، ليكون مسلماً في حركته في العالم، وليكون في موقع صناعة القرار العالمي، لا في موقع الهامش من ذلك، وهذا ما ينبغي أن يمثله الاحتفال بالمولد، بأن يكون هناك انفتاح على صناعة تاريخ إسلامي جديد للحضارة في خطِّ العقل والعلم والقوة.
القمة العربية: غياب الذهنية المؤسسة:
ومن جانب آخر، فإنّ العالم العربي يستعدُّ للقمة العربية التي ستعقد في دمشق، بعد حسم الجدل السياسي حول مستوى التمثيل والمقاطعة لدى كثير من الأطراف، بما يُشير إلى أنّ الحركة العربيّة لم ترقَ بعدُ إلى ذهنيّة المؤسّسة، ونحن نلاحظ أن أكثر الدول العربية تختزن في داخل برنامجها السياسي إدخال القمة في متاهات الخلافات العربية وتعقيداتها، وفي التزاماتها الدولية في التعامل مع القضايا المصيرية التي يرفض الاستكبار الدولي معالجتها بالطريقة التي تخدم الشعوب العربية، ولهذا، فإنّ القيادات الكبيرة المهيمنة على شؤون العرب في دولهم، استجابت للنداء الأمريكي بالمقاطعة، من خلال عدم الحضور الفاعل، وتخفيض مستوى الوفود، والاكتفاء بالمشاركة من خلال ممثلين لا يملكون صلاحيات مناقشة أيّ قرار استراتيجي...
وربما نلاحظ أنَّ الطريقة العربية للقيادات الكبرى في سلوكها تجاه القمّة، سوف تقضي على مشروع القمة من الأساس، لأنّهم لا يملكون أمرهم في إصدار القرارات الحيوية الاستراتيجية التي تنقذ الواقع العربي من أزماته الكبيرة، ونخشى أن يكون القرار الاستراتيجي للقمة هو إصدار ورقة نعي لفلسطين ولبنان والعراق، لأنّ هناك حكماً أمريكياً بالموت لهذه القضايا المأساوية، ليكون الواقع هو البحث عن قبر كبير للعالم العربي في حياته السياسية، ليقيم الجميع حفلات التأبين الرثائي التي يستنـزل فيها الجميع الدموع على المجد الذي مات، وعلى القمة التي دفنها أصحابها في حفرة الذل القومي.
لبنان: ساحة تشبه الوطن!
أما لبنان الذي حُسِم موقفُه بمقاطعة القمّة، فإنه لن يجد أيّ حلّ لأزمته الداخلية، لأنها مرتبطة بأزمة المنطقة التي لا تملك القمة أيَّ تأثير في أوضاعها، وسيبقى هذا البلد الصغير يعيش في متاهات الجدل والسجالات والتحليلات والتجاذبات، ولن يخرج من دور الساحة التي تلتقي فيها المخابرات الدولية والإقليمية، والسياسات الاستكبارية، والصراعات الأمريكية في دائرة مصالحها الاستراتيجية مع أكثر من دولة في المنطقة، وسوف يبقى اللُّبنانيون مشدودين إلى وسائل الإعلام الصحافية والقنوات الإذاعية والفضائية، من أجل الحصول على ثقافة الحقد الطائفي، والتمزّق المذهبي، والتخوين السياسي، والصنمية الحزبية، والزعامة الذاتية، والشرعية الضائعة، والمستقبل المظلم، والدولة اللاّدولة... وهكذا تسيطر عليهم الغفلة عن قضايا المصير، ليلعب بها اللاعبون، ويغامر بوطنهم المغامرون، ولتتسع الثغرات التي ينفذ منها كل الذين يصادرون لبنان في متاهات الأوضاع الدولية والإقليمية وفي الوحول الداخلية. ولا يبقى من النشيد الوطني إلاّ اللحن والكلمات التي لا يجد فيها الناس أيّ معنى للوطن. والسؤال: هل هذا هو لبنان الذي نريده؟