في مولد نبي الرحمة محمد(ص): نتأسى بالرسول الداعية أخلاقاً وجهاداً

في مولد نبي الرحمة محمد(ص): نتأسى بالرسول الداعية أخلاقاً وجهاداً
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه: 

في مولد نبي الرحمة محمد(ص):
 نتأسى بالرسول الداعية أخلاقاً وجهاداً

الرسول(ص): الإسلام المتحرك
يقول الله سبحانه وتعالى في خطابه لرسول الله(ص): {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً* وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً* ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً} [الأحزاب:45-48].
عندما نعيش ذكرى رسول الله(ص) في يوم مولده، فإننا نعيش ذكرى ولادة الإسلام في شخصيته المقدسة، لأن النبي كان إسلاماً يتجسد، وإسلاماً يتحرك، وكان يقرأ القرآن على الناس، فيرى الناس القرآن في سيرته وفي خلقه، حتى إنّ إحدى زوجاته، عندما قيل لها: صفي لنا أخلاق رسول الله، قالت: أوجز أو أطنب؟ قالوا: أوجزي، قالت: "كان خلقه القرآن".

وكان(ص) يتحرّك بكل صدرٍ رحبٍ، يسمع المشركين يسبونه ويشتمونه، فيقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". أمهلهم يا رب حتى تنفتح قلوبهم على الحق، وحتى يحصلوا على الوعي للإيمان كله، فلا تعذبهم. وأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله:{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال:33] لأنك تمثل الرحمة:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107]، فوجودك رحمة في رسالتك، وفي حركتك في المجتمع، ومع أصحابك، ورحمة مع أهل بيتك، ومع الناس جميعاً:{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران:159].
وكأنّ الله أراد من خلال هذا الخطاب أن يقول للمؤمنين: ليكن رسول الله أسوةً لكم وقدوة، بأن يكون كل واحد منكم صاحب قلب ينبض بالمحبة ويخفق بالخير؛ في بيته، وفي مجتمعه، ومع الناس، وبأن يكون كل واحد منكم ليّن اللسان كما كان رسول الله، لا يتكلم إلا بكلمات المحبة التي تجمع ولا تفرِّق، والتي تقرِّب ولا تبعِّد. فيلكن رسول الله القدوة لكم في أخلاقه، فقد كان في الدرجة العليا من الأخلاق، حتى خاطبه الله بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]، وعندما يخاطب الله عبداً من عباده بأنه يملك الخلق العظيم، فمعنى ذلك أنّ هذه المسألة تمتد إلى كل جوانب حياته وسلوكه، وكأن الله يريد أن يقول للناس كافة، إنّ رسولكم ذو خلق عظيم، فليكن كل واحد منكم ذا خلق عظيم.

الشاهد على الأمّة
ولقد كان رسول الله(ص) الشاهد على أمته، يراقب كل تصوراتها وحركاتها ومشاريعها وبرامجها؛ كان يحمل الأمة في عقله، وفي قلبه، وفي كل برامجه ومشاريعه، حتى يأخذ بها إلى الصراط المستقيم.

{إنا أرسلناك شاهداً ـ تشهد لهم أو عليهم يوم القيامة ـ ومبشراً ـ تبشر المتقين بالجنة ـونذيراً ـ تنذر العاصين والمنحرفين بالنار ـ وداعياً إلى الله بإذنه ـ لترتفع بالناس إلى مواقع القرب من الله، حتى يعيش الله في عقولهم وقلوبهم إلهاً واحداً أحداً صمداً فرداً، وداعياً إلى المحبة والرحمة والتواصي بالصبر والمرحمة والتواصي بكل خير ـ وسراجاً منيراً} فأنت النور الذي ينير للناس عقولهم وقلوبهم وحياتهم، لأنّ دور النبي هو أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، حتى يعيش الناس في نور الحق ونور القرب من الله.

{وبشّر المؤمنين ـ الذين يتبعونه ويطيعونه ويسيرون في خطه المستقيم ويؤمنون بالله سبحانه، ويوحّدونه ولا يشركون به غيره ـ بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً ـ فالله سوف يعطيهم كل الفضل في الدنيا، من ألطافه ورحمته ورزقه ونعمه، وسيعطيهم في الآخرة رضوانه وجنته ـ ولاتطع الكافرين والمنافقين ـ فستلتقي بالكافرين الذين يكفرون بالله، وبالمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، وسيعملون على أذيّتك والإساءة إليك وإثارة الحروب ضدّك وضدّ رسالتك، فلا تتوقف، ولا تتراجع، ولا تسقط ـ ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً}.

خصائص الرسول الإنسانية
وهكذا، قدّم الله رسوله(ص) في معنى إنسانيته في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم ـ هو ليس من الملائكة ولا من الجن، بل هو بشر كبقية البشر، ولكنه بشر اختصّه الله برسالته واصطفاه بوحيه ـ عزيز عليه ما عنتّم ـ والعنت هو المشقة والتعب. فالنبي(ص)، ومن خلال دوره في القيادة الروحية والشرعية والعسكرية، يلتفت إلى الأمة كلها، وعندما يرى الذين يعيشون الجهد والتعب والمشقة في شؤونهم العامة والخاصة، يعزّ عليه ذلك، ويتألم، ويدعو الله أن يفرّج عنهم ـ حريص عليكم ـ يحرص عليكم مخافة أن تسقطوا، أو أن تضعفوا، ويحرص على أن تسيروا في الخط الذي يصلح أموركم ويبعدكم عما يفسدها ـ بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة:128]، يرأف بهم ويرحمهم في سلوكه معهم، حتى إنّه(ص) كان يعيش مع المسلمين كواحد منهم: "كان فينا كأحدنا"، وكان لا يميّز نفسه بلباس أو بمكان يتخذه له، بل إنه كان إذا قصده أحد يسأل: أيكم محمد؟ لذلك وضعوا حجراً ليجلس عليه، حتى إذا جاءه الناس عرفوه، وعرفوا أنه هو النبي الذي يقصدونه.

وجاء في سيرته، أنّ امرأة رأته، فارتعدت من هيبته، فقال لها: "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد". وكان(ص) إذا صافح رجلاً، لا يسحب يده حتى يسحب ذلك الرجل يده، كي لا يسيء إليه.

وهكذا عاش النبي محمد(ص) في قومه، وتحمّل الأذى في جنب الله، حتى قال: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، وكان كلّ همّه أن يرتفع بالمسلمين ليكونوا الأمة الحضارية في ما تأخذ به من شؤون العقل والقلب، ومن شؤون الاستقامة في الحياة.

ونحن عندما نثير ذكرى رسول الله(ص)، فإننا لا نقتصر في ذلك على ذكرى مولده، بل إننا نثير ذكراه في صلاتنا، وفي كل مواقعنا، وفي كل يومٍ من أيامنا، ولا ننتظر في ذلك مناسبةً خاصة، فهو أبونا في الرسالة وفي الروح، وإن لم يكن أبانا في النّسب. وقد روي عنه(ص) أنه قال لعلي(ع): "أنا وأنت أبوا هذه الأمة".

ولذلك أراد رسول الله في يوم الغدير أن يقول للناس: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، لأنني أنا وعلي نمثل نفساً واحدة، وخطاً واحداً، وكياناً واحداً، ورسالةً واحدةً.

مسؤولية العقل والعلم
لذلك أيها الأحبة، في ذكرى مولد رسول الله(ص)، علينا أن ننطلق كمجتمع مسلم في التخطيط لكل أمورنا، سواء كانت أموراً اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، فالله سبحانه، لم يتحدث عن شيء في القرآن كما تحدّث عن العقل والفكر، وقد جعل العقل حجة على عباده، والله يريدنا أن نكون العقلانيين؛ أن لا نتحرك في أي أمر من أمورنا من خلال العاطفة، وأن لا نتحرك حتى في التزامنا بالقيادات، أية قيادة كانت، بالانفعال والعاطفة والحماس، بل أن ندرس القيادة فيما تفكر فيه، وفيما تخطط له، وفيما تتحرك به؛ أن نكون الأمة العاقلة، لا العاطفية، ولا الانفعالية، ولا الأمة التي تهتف عندما يهتف الهاتفون، أو تصفق عندما يصفق المصفقون، أن لا تهتف إلا بعد أن تعرف على أي أساس تهتف، وأن لا تصفق إلا بعد أن تعرف على أي أساس تصفّق. أن ينطلق عقلك ليحدد لك دوماً خط السير.

لقد أراد الله للأمة أن تكون أمّة العقل وأمة العلم {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9]، {وقل ربِّ زدني علماً} [طه:114]، وأرادها أن تكون الأمة التي تقود العالم بالعلم، وتتدخل في قرارات العالم بالعلم. نعم، لقد أراد الله أن تكون لنا قوة السلاح، ولكن قوة العلم هي القوة التي تجعل الأمة في موقع قيادة العالم. وهكذا يريدنا الله أن نكون الأمة التي تأخذ بالقيم الروحية والأخلاقية، وأن نكون الأمة العزيزة الكريمة:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8].أيها الأحبة، إن ذكرى رسول الله مسؤولية علينا أن نتحملها، وإن الإسلام مسؤولية علينا أن نتحرك بها، إن المواليد ليست مجرد أهازيج أو ملهاة، إن المولد هو نأتي برسول الله إلينا، أن يعيش فينا عقلاً وقلباً وحياةً، لأن رسول الله وإن غاب عنّا، فإن رسالته باقية، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران:144].
في مولد رسول الله(ص)، علينا أن نعيش فرح الحضارة، وفرح العلم، وفرح العقل، وفرح الاستقامة، لنكون كما أرادنا الله{خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران:110].



الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا هناك: الذكرى الخامسة للكذبة الأمريكية
تلتقي المنطقة والعالم في هذه الأيام بالذكرى الخامسة لاحتلال العراق من قِبَل الإدارة الأمريكية، هذا الاحتلال الذي انطلق من كذبة كبرى حول وجود أسلحة الدمار في ذلك البلد، وهو أمر استطاعت أمريكا أن تثيره إعلامياً وسياسياً وأمنياً، حتى على مستوى تخويف الرأي العام الأمريكي ممّا يمثله هذا السلاح من خطر كبير عليهم وعلى العالم، كما تحالفت في ذلك مع بريطانيا الدولة التابعة لها سياسياً، بشخص رئيس وزرائها، الذي شارك الرئيس الأمريكي في صناعة الكذب على شعبه والشعوب الأخرى.

وقد تحول هذا الاحتلال المشترك من قِبَل بريطانيا وأمريكا إلى كارثةٍ هائلة على الشعب العراقي، وإلى مشكلة كبرى للدول المجاورة للعراق وللمنطقة كلها، وذلك تحت تأثير شعار الرئيس الأمريكي في التخطيط للانتصار، وتحقيق الاستراتيجية الأمريكية التي تتحرك خطوطها في إيجاد قاعدة سياسية كبرى لتنفيذ مشاريع الإدارة الأمريكية بذريعة مواجهة الإرهاب، وتبرير الحروب ضد الإسلام والمسلمين لمصلحة التحالف الأمريكي الإسرائيلي من المحافظين الجدد والفريق اليهودي الأمريكي، بحيث تحول الرئيس الأمريكي إلى لعبة عسكرية في أيدي هؤلاء الذين وجهوه إلى إثارة الفوضى الخلاقة ـ حسب تعبيره ـ في المنطقة، بالمستوى الذي يجعلها تعيش حالةً كارثيةً من الاهتزاز الأمني والسياسي، وبما يعطل طاقاتها الإنتاجية ويُربك سياساتها الداخلية والخارجية، ويضعف أوضاعها الاقتصادية، بفعل الأهداف الاستكبارية في تحويل المنطقة إلى موقع اقتصادي سياسي أمني لأمريكا وإسرائيل، ليبقى العالم العربي والإسلامي ساحةً للإرهاب وللفوضى بفعل خلفيات حاقدة على الإسلام والمسلمين تحملها المسيحية المتصهينة واليهودية الحاقدة التي يخضع لها الرئيس الأمريكي في ذهنيته الساذجة، وفي شيطنته الغبية المعقدة.

وقد أعلنت منظمة العفو الدولية في لندن، أن العراق بعد خمس سنوات من الاحتلال، هو من البلدان الأكثر خطراً في العالم، حيث يقتل فيه المئات، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر والنقص في الخدمات، وتصاعد الاعتداءات ذات الطابع المذهبي، وصولاً إلى عمليات النزوح التي بلغت أربعة ملايين مع ارتفاع كبير في معدلات البطالة، ما يدل على أن الاحتلال كان سبباً في تدمير كل الأوضاع المدنية والاقتصادية والعسكرية في العراق. ومع كل ذلك، فإن الإدارة الأمريكية لا تزال تخطط لتأسيس قواعد عسكرية كبرى في العراق للإبقاء على احتلالها، وهو ما عبّر عنه نائب الرئيس الأمريكي "تشيني" في زيارته الأخيرة.

وهكذا نلاحظ أنّ أمريكا تريد التفاوض مع الحكومة العراقية تحت عنوان المسألة الأمنية، لضمان استمرار وجودها الاحتلالي، ولحماية مشاريعها ومصالحها من خلال استخدام العراق كجسر تعبر عليه للضغط على الدول المجاورة.

إن على الشعب العراقي الذي كانت الحرية جزءاً من تاريخه وشخصيته الإسلامية والوطنية، أن يتحرك من أجل إلحاق الهزيمة بالاحتلال، من خلال مقاومة شريفة رشيدة ضد الوجود الأميركي والبريطاني، للوصول إلى الوطن الحرّ المستقل الذي يحكم نفسه بنفسه، ويحلّ مشاكله بطريقته الخاصة.

إسرائيل: محرقة الشعب الفلسطيني والمنطقة
أما في المشهد الإسرائيلي، فتستعد الدولة العبرية للاحتفال بمرور ستين عاماً على تأسيسها واغتصابها لفلسطين، في مهرجان تجتمع فيه دول العالم التي لا تزال الأكثرية فيها تؤيد الدولة اليهودية، وترى في حركة المقاومة إرهاباً، وهذا ما دفع المستشارة الألمانية، ميركل، لزيارة هذه الدولة الغاصبة، التي كانت ولا تزال تبتز ألمانيا، بحجة تاريخها الهتلري النازي، الذي أدخل اليهود في محرقة، حاولت الصهيونية أن تعمل على تضخيم أعدادها بشكل خيالي، مع إهمال الشعوب الأخرى التي أدخلها النازي في محرقته. وقد وصل الضغط اليهودي الصهيوني المدعوم أمريكياً إلى مستوى محاكمة كل من يشكك في أرقام هذه المحرقة، كما حصل مع المفكر الفرنسي، روجيه غارودي، وغيره.

وقد وقفت هذه المسؤولة الألمانية بخشوع أمام النصب التذكاري للمحرقة، لتتحدث عن عملية غسل العار، ولتؤكد تصميمها على بناء مستقبل إسرائيل، ولكنها لم تتحدث عن المحرقة الصهيونية التي احترق بها الشعب الفلسطيني في مدى ستين سنة، إضافة إلى الشعب اللبناني، والمحارق الأخرى التي قامت بها إسرائيل ضد العرب والمسلمين، لأنّ هذا الغرب لا يملك أي إحساس إنساني بما يحدث للشعوب العربية والإسلامية، بسبب حقده التاريخي، والتزامه بالأمن الإسرائيلي، وإعطائه الشرعية لهذا الاحتلال الذي يعمل على تعطيل أية محاولة لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

إن مشكلة الإدارات الغربية تكمن في أنها أسقطت كل منظومة القيم لحساب سياستها النفعية وأطماعها السياسية، ثم عملت على إخضاع الشعوب لمنطق القوة على حساب منطق الحق، وخصوصاً أنها وجدت أنظمةً عربيةً لا تفكر إلا في مصالحها الرسمية، ولا تكترث لما يصيب الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم.

أما اللقاءات بين العدوّ والسلطة الفلسطينية، فهي تثير المزيد من سخرية العدو لواقع أسقط من يده سلاح المقاومة، ولم يجد قوةً يستند إليها في عملية التفاوض، فبقي ضعيفاً ومتساقطاً أمام شروط العدو المعقدة.

القمة العربية: إثارة تعقيدات وخلافات
أما في الواقع العربي على مستوى قضية القمة المقبلة، فهناك جدل تاريخي يسيطر على ذهنية الأنظمة في اجتماعاتها الرسمية، في إثارة التعقيدات الثنائية أو الثلاثية في داخلها، بحيث يصادرون القضايا المصيرية في خلافاتهم، ليهربوا إلى الأساليب الإنشائية في قراراتهم التي لا تمثل أية نتيجة... وقد بدأت السجالات حول حضور القمة المقبلة في دمشق، في مقاطعة البعض لها، أو خفض مستوى التمثيل فيها، أو فرض الشروط غير الواقعية على المشاركة، إضافة إلى التعليمات الأمريكية الصريحة بالمقاطعة العربية لحضورها، عقاباً لدمشق التي يلتقي الكثير من قادة الأنظمة مع أمريكا في مواجهتها. وقد امتد هذا الجدل إلى لبنان، لترتفع الأصوات من فريق معين بالامتناع عن حضورها، بالرغم من أنها قمة عربية وليست سورية، وربما تبحث فيها القضايا المهمة، كالأزمة اللبنانية والفلسطينية...

إننا نلاحظ أولاً، أن هذه القمة كغيرها من القمم العربية، لا تستطيع تحقيق أي هدف عربي في حلّ أي مشكلة عربية أمام الوضع المنهار في الجامعة العربية. وثانياً، إن بحث القضية الفلسطينية قد يُحرج بعض الدول التي تقف موقفاً سلبياً من المجازر التي قامت بها إسرائيل في غزة والضفة، بينما عملت على استنكار عملية المقاومة في القدس، هذا إضافة إلى الحصار المفروض على غزة الذي يقفون منه موقف المتفرِّج ولا يقدّمون للشعب الفلسطيني أية مساعدة فاعلة، وذلك نتيجة الخلافات العربية التي سلكت طرقاً شخصية وعرة لا علاقة لها بالعروبة أو بالمبادرة العربية في مفرداتها وأساليبها الواقعية، ما يجعل من الحضور العربي أو اللبناني مسألةً غير فاعلة، بحيث يكون الحضور وعدمه على حدٍّ سواء، بل ربما يكون العدم أفضل، لأن الحضور قد يؤدي إلى بعض التعقيدات الجديدة في الواقع العربي.

لبنان: هل تبدع العبقرية اللبنانية حلاً؟
ويبقى اللبنانيون في حيرة قاتلة، لأن الوسط السياسي الداخلي في خلفياته الخارجية لا يزال يشغلهم بالتجاذبات الشخصية والمذهبية والطائفية، ويثير في وجدانهم الوطني الكثير من اللاأخلاقية في القرار الحزبي والكلام السلبي والاتهام التخويني، ما يجعل من لبنان المثقف المنفتح على القيم الكبرى في ثقافته الواسعة، وطناً تتحرك بعض رموزه القيادية بعقليةٍ جاهلية وذهنية بدوية لا تملك شيئاً من قِيَم البداوة.

إننا نريد لبنان السيد الحرّ في واقعية الحركة والممارسة والانفتاح، ولا نريد لبنان العبد الذي ينتظر تلقي التعليمات من القوى التي تفكر في مصالح أوطانها دون أن يكون له شيء من ذلك. ولعل النكتة الساذجة، أن البعض يتحدث عن المجتمع الدولي كما لو كان عنواناً مقدساً، ونحن نعرف أن هذا المجتمع يخضع للضغط الأمريكي الذي يمتنع عن التنديد بمجرزتي قانا ومجازر غزة والعراق وأفغانستان والصومال والسودان وأفريقيا، إلا بالطريقة التي تخدم مصالح الاستكبار.

والسؤال: أين هي العبقرية اللبنانية التي منحت العالم الكثير من الإبداعات؟ وهل ستواصل الغرق في الوحول الطائفية السوداء؟

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه: 

في مولد نبي الرحمة محمد(ص):
 نتأسى بالرسول الداعية أخلاقاً وجهاداً

الرسول(ص): الإسلام المتحرك
يقول الله سبحانه وتعالى في خطابه لرسول الله(ص): {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً* وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً* ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً} [الأحزاب:45-48].
عندما نعيش ذكرى رسول الله(ص) في يوم مولده، فإننا نعيش ذكرى ولادة الإسلام في شخصيته المقدسة، لأن النبي كان إسلاماً يتجسد، وإسلاماً يتحرك، وكان يقرأ القرآن على الناس، فيرى الناس القرآن في سيرته وفي خلقه، حتى إنّ إحدى زوجاته، عندما قيل لها: صفي لنا أخلاق رسول الله، قالت: أوجز أو أطنب؟ قالوا: أوجزي، قالت: "كان خلقه القرآن".

وكان(ص) يتحرّك بكل صدرٍ رحبٍ، يسمع المشركين يسبونه ويشتمونه، فيقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". أمهلهم يا رب حتى تنفتح قلوبهم على الحق، وحتى يحصلوا على الوعي للإيمان كله، فلا تعذبهم. وأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله:{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال:33] لأنك تمثل الرحمة:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107]، فوجودك رحمة في رسالتك، وفي حركتك في المجتمع، ومع أصحابك، ورحمة مع أهل بيتك، ومع الناس جميعاً:{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران:159].
وكأنّ الله أراد من خلال هذا الخطاب أن يقول للمؤمنين: ليكن رسول الله أسوةً لكم وقدوة، بأن يكون كل واحد منكم صاحب قلب ينبض بالمحبة ويخفق بالخير؛ في بيته، وفي مجتمعه، ومع الناس، وبأن يكون كل واحد منكم ليّن اللسان كما كان رسول الله، لا يتكلم إلا بكلمات المحبة التي تجمع ولا تفرِّق، والتي تقرِّب ولا تبعِّد. فيلكن رسول الله القدوة لكم في أخلاقه، فقد كان في الدرجة العليا من الأخلاق، حتى خاطبه الله بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]، وعندما يخاطب الله عبداً من عباده بأنه يملك الخلق العظيم، فمعنى ذلك أنّ هذه المسألة تمتد إلى كل جوانب حياته وسلوكه، وكأن الله يريد أن يقول للناس كافة، إنّ رسولكم ذو خلق عظيم، فليكن كل واحد منكم ذا خلق عظيم.

الشاهد على الأمّة
ولقد كان رسول الله(ص) الشاهد على أمته، يراقب كل تصوراتها وحركاتها ومشاريعها وبرامجها؛ كان يحمل الأمة في عقله، وفي قلبه، وفي كل برامجه ومشاريعه، حتى يأخذ بها إلى الصراط المستقيم.

{إنا أرسلناك شاهداً ـ تشهد لهم أو عليهم يوم القيامة ـ ومبشراً ـ تبشر المتقين بالجنة ـونذيراً ـ تنذر العاصين والمنحرفين بالنار ـ وداعياً إلى الله بإذنه ـ لترتفع بالناس إلى مواقع القرب من الله، حتى يعيش الله في عقولهم وقلوبهم إلهاً واحداً أحداً صمداً فرداً، وداعياً إلى المحبة والرحمة والتواصي بالصبر والمرحمة والتواصي بكل خير ـ وسراجاً منيراً} فأنت النور الذي ينير للناس عقولهم وقلوبهم وحياتهم، لأنّ دور النبي هو أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، حتى يعيش الناس في نور الحق ونور القرب من الله.

{وبشّر المؤمنين ـ الذين يتبعونه ويطيعونه ويسيرون في خطه المستقيم ويؤمنون بالله سبحانه، ويوحّدونه ولا يشركون به غيره ـ بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً ـ فالله سوف يعطيهم كل الفضل في الدنيا، من ألطافه ورحمته ورزقه ونعمه، وسيعطيهم في الآخرة رضوانه وجنته ـ ولاتطع الكافرين والمنافقين ـ فستلتقي بالكافرين الذين يكفرون بالله، وبالمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، وسيعملون على أذيّتك والإساءة إليك وإثارة الحروب ضدّك وضدّ رسالتك، فلا تتوقف، ولا تتراجع، ولا تسقط ـ ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً}.

خصائص الرسول الإنسانية
وهكذا، قدّم الله رسوله(ص) في معنى إنسانيته في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم ـ هو ليس من الملائكة ولا من الجن، بل هو بشر كبقية البشر، ولكنه بشر اختصّه الله برسالته واصطفاه بوحيه ـ عزيز عليه ما عنتّم ـ والعنت هو المشقة والتعب. فالنبي(ص)، ومن خلال دوره في القيادة الروحية والشرعية والعسكرية، يلتفت إلى الأمة كلها، وعندما يرى الذين يعيشون الجهد والتعب والمشقة في شؤونهم العامة والخاصة، يعزّ عليه ذلك، ويتألم، ويدعو الله أن يفرّج عنهم ـ حريص عليكم ـ يحرص عليكم مخافة أن تسقطوا، أو أن تضعفوا، ويحرص على أن تسيروا في الخط الذي يصلح أموركم ويبعدكم عما يفسدها ـ بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة:128]، يرأف بهم ويرحمهم في سلوكه معهم، حتى إنّه(ص) كان يعيش مع المسلمين كواحد منهم: "كان فينا كأحدنا"، وكان لا يميّز نفسه بلباس أو بمكان يتخذه له، بل إنه كان إذا قصده أحد يسأل: أيكم محمد؟ لذلك وضعوا حجراً ليجلس عليه، حتى إذا جاءه الناس عرفوه، وعرفوا أنه هو النبي الذي يقصدونه.

وجاء في سيرته، أنّ امرأة رأته، فارتعدت من هيبته، فقال لها: "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد". وكان(ص) إذا صافح رجلاً، لا يسحب يده حتى يسحب ذلك الرجل يده، كي لا يسيء إليه.

وهكذا عاش النبي محمد(ص) في قومه، وتحمّل الأذى في جنب الله، حتى قال: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، وكان كلّ همّه أن يرتفع بالمسلمين ليكونوا الأمة الحضارية في ما تأخذ به من شؤون العقل والقلب، ومن شؤون الاستقامة في الحياة.

ونحن عندما نثير ذكرى رسول الله(ص)، فإننا لا نقتصر في ذلك على ذكرى مولده، بل إننا نثير ذكراه في صلاتنا، وفي كل مواقعنا، وفي كل يومٍ من أيامنا، ولا ننتظر في ذلك مناسبةً خاصة، فهو أبونا في الرسالة وفي الروح، وإن لم يكن أبانا في النّسب. وقد روي عنه(ص) أنه قال لعلي(ع): "أنا وأنت أبوا هذه الأمة".

ولذلك أراد رسول الله في يوم الغدير أن يقول للناس: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، لأنني أنا وعلي نمثل نفساً واحدة، وخطاً واحداً، وكياناً واحداً، ورسالةً واحدةً.

مسؤولية العقل والعلم
لذلك أيها الأحبة، في ذكرى مولد رسول الله(ص)، علينا أن ننطلق كمجتمع مسلم في التخطيط لكل أمورنا، سواء كانت أموراً اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، فالله سبحانه، لم يتحدث عن شيء في القرآن كما تحدّث عن العقل والفكر، وقد جعل العقل حجة على عباده، والله يريدنا أن نكون العقلانيين؛ أن لا نتحرك في أي أمر من أمورنا من خلال العاطفة، وأن لا نتحرك حتى في التزامنا بالقيادات، أية قيادة كانت، بالانفعال والعاطفة والحماس، بل أن ندرس القيادة فيما تفكر فيه، وفيما تخطط له، وفيما تتحرك به؛ أن نكون الأمة العاقلة، لا العاطفية، ولا الانفعالية، ولا الأمة التي تهتف عندما يهتف الهاتفون، أو تصفق عندما يصفق المصفقون، أن لا تهتف إلا بعد أن تعرف على أي أساس تهتف، وأن لا تصفق إلا بعد أن تعرف على أي أساس تصفّق. أن ينطلق عقلك ليحدد لك دوماً خط السير.

لقد أراد الله للأمة أن تكون أمّة العقل وأمة العلم {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9]، {وقل ربِّ زدني علماً} [طه:114]، وأرادها أن تكون الأمة التي تقود العالم بالعلم، وتتدخل في قرارات العالم بالعلم. نعم، لقد أراد الله أن تكون لنا قوة السلاح، ولكن قوة العلم هي القوة التي تجعل الأمة في موقع قيادة العالم. وهكذا يريدنا الله أن نكون الأمة التي تأخذ بالقيم الروحية والأخلاقية، وأن نكون الأمة العزيزة الكريمة:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8].أيها الأحبة، إن ذكرى رسول الله مسؤولية علينا أن نتحملها، وإن الإسلام مسؤولية علينا أن نتحرك بها، إن المواليد ليست مجرد أهازيج أو ملهاة، إن المولد هو نأتي برسول الله إلينا، أن يعيش فينا عقلاً وقلباً وحياةً، لأن رسول الله وإن غاب عنّا، فإن رسالته باقية، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران:144].
في مولد رسول الله(ص)، علينا أن نعيش فرح الحضارة، وفرح العلم، وفرح العقل، وفرح الاستقامة، لنكون كما أرادنا الله{خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران:110].



الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا هناك: الذكرى الخامسة للكذبة الأمريكية
تلتقي المنطقة والعالم في هذه الأيام بالذكرى الخامسة لاحتلال العراق من قِبَل الإدارة الأمريكية، هذا الاحتلال الذي انطلق من كذبة كبرى حول وجود أسلحة الدمار في ذلك البلد، وهو أمر استطاعت أمريكا أن تثيره إعلامياً وسياسياً وأمنياً، حتى على مستوى تخويف الرأي العام الأمريكي ممّا يمثله هذا السلاح من خطر كبير عليهم وعلى العالم، كما تحالفت في ذلك مع بريطانيا الدولة التابعة لها سياسياً، بشخص رئيس وزرائها، الذي شارك الرئيس الأمريكي في صناعة الكذب على شعبه والشعوب الأخرى.

وقد تحول هذا الاحتلال المشترك من قِبَل بريطانيا وأمريكا إلى كارثةٍ هائلة على الشعب العراقي، وإلى مشكلة كبرى للدول المجاورة للعراق وللمنطقة كلها، وذلك تحت تأثير شعار الرئيس الأمريكي في التخطيط للانتصار، وتحقيق الاستراتيجية الأمريكية التي تتحرك خطوطها في إيجاد قاعدة سياسية كبرى لتنفيذ مشاريع الإدارة الأمريكية بذريعة مواجهة الإرهاب، وتبرير الحروب ضد الإسلام والمسلمين لمصلحة التحالف الأمريكي الإسرائيلي من المحافظين الجدد والفريق اليهودي الأمريكي، بحيث تحول الرئيس الأمريكي إلى لعبة عسكرية في أيدي هؤلاء الذين وجهوه إلى إثارة الفوضى الخلاقة ـ حسب تعبيره ـ في المنطقة، بالمستوى الذي يجعلها تعيش حالةً كارثيةً من الاهتزاز الأمني والسياسي، وبما يعطل طاقاتها الإنتاجية ويُربك سياساتها الداخلية والخارجية، ويضعف أوضاعها الاقتصادية، بفعل الأهداف الاستكبارية في تحويل المنطقة إلى موقع اقتصادي سياسي أمني لأمريكا وإسرائيل، ليبقى العالم العربي والإسلامي ساحةً للإرهاب وللفوضى بفعل خلفيات حاقدة على الإسلام والمسلمين تحملها المسيحية المتصهينة واليهودية الحاقدة التي يخضع لها الرئيس الأمريكي في ذهنيته الساذجة، وفي شيطنته الغبية المعقدة.

وقد أعلنت منظمة العفو الدولية في لندن، أن العراق بعد خمس سنوات من الاحتلال، هو من البلدان الأكثر خطراً في العالم، حيث يقتل فيه المئات، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر والنقص في الخدمات، وتصاعد الاعتداءات ذات الطابع المذهبي، وصولاً إلى عمليات النزوح التي بلغت أربعة ملايين مع ارتفاع كبير في معدلات البطالة، ما يدل على أن الاحتلال كان سبباً في تدمير كل الأوضاع المدنية والاقتصادية والعسكرية في العراق. ومع كل ذلك، فإن الإدارة الأمريكية لا تزال تخطط لتأسيس قواعد عسكرية كبرى في العراق للإبقاء على احتلالها، وهو ما عبّر عنه نائب الرئيس الأمريكي "تشيني" في زيارته الأخيرة.

وهكذا نلاحظ أنّ أمريكا تريد التفاوض مع الحكومة العراقية تحت عنوان المسألة الأمنية، لضمان استمرار وجودها الاحتلالي، ولحماية مشاريعها ومصالحها من خلال استخدام العراق كجسر تعبر عليه للضغط على الدول المجاورة.

إن على الشعب العراقي الذي كانت الحرية جزءاً من تاريخه وشخصيته الإسلامية والوطنية، أن يتحرك من أجل إلحاق الهزيمة بالاحتلال، من خلال مقاومة شريفة رشيدة ضد الوجود الأميركي والبريطاني، للوصول إلى الوطن الحرّ المستقل الذي يحكم نفسه بنفسه، ويحلّ مشاكله بطريقته الخاصة.

إسرائيل: محرقة الشعب الفلسطيني والمنطقة
أما في المشهد الإسرائيلي، فتستعد الدولة العبرية للاحتفال بمرور ستين عاماً على تأسيسها واغتصابها لفلسطين، في مهرجان تجتمع فيه دول العالم التي لا تزال الأكثرية فيها تؤيد الدولة اليهودية، وترى في حركة المقاومة إرهاباً، وهذا ما دفع المستشارة الألمانية، ميركل، لزيارة هذه الدولة الغاصبة، التي كانت ولا تزال تبتز ألمانيا، بحجة تاريخها الهتلري النازي، الذي أدخل اليهود في محرقة، حاولت الصهيونية أن تعمل على تضخيم أعدادها بشكل خيالي، مع إهمال الشعوب الأخرى التي أدخلها النازي في محرقته. وقد وصل الضغط اليهودي الصهيوني المدعوم أمريكياً إلى مستوى محاكمة كل من يشكك في أرقام هذه المحرقة، كما حصل مع المفكر الفرنسي، روجيه غارودي، وغيره.

وقد وقفت هذه المسؤولة الألمانية بخشوع أمام النصب التذكاري للمحرقة، لتتحدث عن عملية غسل العار، ولتؤكد تصميمها على بناء مستقبل إسرائيل، ولكنها لم تتحدث عن المحرقة الصهيونية التي احترق بها الشعب الفلسطيني في مدى ستين سنة، إضافة إلى الشعب اللبناني، والمحارق الأخرى التي قامت بها إسرائيل ضد العرب والمسلمين، لأنّ هذا الغرب لا يملك أي إحساس إنساني بما يحدث للشعوب العربية والإسلامية، بسبب حقده التاريخي، والتزامه بالأمن الإسرائيلي، وإعطائه الشرعية لهذا الاحتلال الذي يعمل على تعطيل أية محاولة لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

إن مشكلة الإدارات الغربية تكمن في أنها أسقطت كل منظومة القيم لحساب سياستها النفعية وأطماعها السياسية، ثم عملت على إخضاع الشعوب لمنطق القوة على حساب منطق الحق، وخصوصاً أنها وجدت أنظمةً عربيةً لا تفكر إلا في مصالحها الرسمية، ولا تكترث لما يصيب الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم.

أما اللقاءات بين العدوّ والسلطة الفلسطينية، فهي تثير المزيد من سخرية العدو لواقع أسقط من يده سلاح المقاومة، ولم يجد قوةً يستند إليها في عملية التفاوض، فبقي ضعيفاً ومتساقطاً أمام شروط العدو المعقدة.

القمة العربية: إثارة تعقيدات وخلافات
أما في الواقع العربي على مستوى قضية القمة المقبلة، فهناك جدل تاريخي يسيطر على ذهنية الأنظمة في اجتماعاتها الرسمية، في إثارة التعقيدات الثنائية أو الثلاثية في داخلها، بحيث يصادرون القضايا المصيرية في خلافاتهم، ليهربوا إلى الأساليب الإنشائية في قراراتهم التي لا تمثل أية نتيجة... وقد بدأت السجالات حول حضور القمة المقبلة في دمشق، في مقاطعة البعض لها، أو خفض مستوى التمثيل فيها، أو فرض الشروط غير الواقعية على المشاركة، إضافة إلى التعليمات الأمريكية الصريحة بالمقاطعة العربية لحضورها، عقاباً لدمشق التي يلتقي الكثير من قادة الأنظمة مع أمريكا في مواجهتها. وقد امتد هذا الجدل إلى لبنان، لترتفع الأصوات من فريق معين بالامتناع عن حضورها، بالرغم من أنها قمة عربية وليست سورية، وربما تبحث فيها القضايا المهمة، كالأزمة اللبنانية والفلسطينية...

إننا نلاحظ أولاً، أن هذه القمة كغيرها من القمم العربية، لا تستطيع تحقيق أي هدف عربي في حلّ أي مشكلة عربية أمام الوضع المنهار في الجامعة العربية. وثانياً، إن بحث القضية الفلسطينية قد يُحرج بعض الدول التي تقف موقفاً سلبياً من المجازر التي قامت بها إسرائيل في غزة والضفة، بينما عملت على استنكار عملية المقاومة في القدس، هذا إضافة إلى الحصار المفروض على غزة الذي يقفون منه موقف المتفرِّج ولا يقدّمون للشعب الفلسطيني أية مساعدة فاعلة، وذلك نتيجة الخلافات العربية التي سلكت طرقاً شخصية وعرة لا علاقة لها بالعروبة أو بالمبادرة العربية في مفرداتها وأساليبها الواقعية، ما يجعل من الحضور العربي أو اللبناني مسألةً غير فاعلة، بحيث يكون الحضور وعدمه على حدٍّ سواء، بل ربما يكون العدم أفضل، لأن الحضور قد يؤدي إلى بعض التعقيدات الجديدة في الواقع العربي.

لبنان: هل تبدع العبقرية اللبنانية حلاً؟
ويبقى اللبنانيون في حيرة قاتلة، لأن الوسط السياسي الداخلي في خلفياته الخارجية لا يزال يشغلهم بالتجاذبات الشخصية والمذهبية والطائفية، ويثير في وجدانهم الوطني الكثير من اللاأخلاقية في القرار الحزبي والكلام السلبي والاتهام التخويني، ما يجعل من لبنان المثقف المنفتح على القيم الكبرى في ثقافته الواسعة، وطناً تتحرك بعض رموزه القيادية بعقليةٍ جاهلية وذهنية بدوية لا تملك شيئاً من قِيَم البداوة.

إننا نريد لبنان السيد الحرّ في واقعية الحركة والممارسة والانفتاح، ولا نريد لبنان العبد الذي ينتظر تلقي التعليمات من القوى التي تفكر في مصالح أوطانها دون أن يكون له شيء من ذلك. ولعل النكتة الساذجة، أن البعض يتحدث عن المجتمع الدولي كما لو كان عنواناً مقدساً، ونحن نعرف أن هذا المجتمع يخضع للضغط الأمريكي الذي يمتنع عن التنديد بمجرزتي قانا ومجازر غزة والعراق وأفغانستان والصومال والسودان وأفريقيا، إلا بالطريقة التي تخدم مصالح الاستكبار.

والسؤال: أين هي العبقرية اللبنانية التي منحت العالم الكثير من الإبداعات؟ وهل ستواصل الغرق في الوحول الطائفية السوداء؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية