ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
من أخلاق الإسلام وتشريع الرسول(ص):
التكافل والتراحم بين الأخوان
رسول التبليغ والتشريع
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، في حديثه عن رسوله الكريم:{وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]، ويقول سبحانه:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب:21].
لعل ما تتميّز به شخصية رسول الله(ص)، أنه كان الرسول في تبليغ الوحي، والرسول في كلماته وسنته، وقد كان كلّ عمل يقوم به يمثِّل شريعةً والتزاماً، وكان الإسلام يعيش عمق شخصيته وفي كل امتداداتها، حتى أصبح تجسيداً حيّاً للإسلام، بحيث كان الناس يسمعون الآية منه، ويرونها متجسدةً في شخصيته، فلم يكن هناك فاصل بين شخصيّته ورسالته.
ولهذا، فإن الالتزام برسول الله(ص)، والشهادة برسالته في كل صلاة (أشهد أن محمداً رسول الله)، توحي إلى المسلمين بأنّ عليهم أن يعيشوا رسول الله(ص) في عقولهم وقلوبهم وكل حياتهم، وأن يقتدوا به في كل كلامه وأفعاله وعلاقاته، ومواجهته للتحدّيات في الحرب والسلم.
وقد كان أهل البيت(ع) يمثلون الصورة المشرقة للخط الذي انطلق به رسول الله(ص)، فكان علي(ع) نفس رسول الله(ص)، ولم تكن الولاية التي أرادها الله ورسوله لعلي(ع) منطلقةً من عاطفة القرابة أو المصاهرة، بل كان رسول الله(ص) يرى في علي(ع) تجسيداً له، والإنسان الذي يمثل عقله وقلبه وسيرته.
ونقرأ في كلمات رسول الله (ص) عن علي(ع)، قوله: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار"، وقوله أيضاً: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، كما روي عن علي(ع) أنه قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب"، حيث لم يكن من بين الصحابة من يملك هذه السعة في العلم إلا علي(ع).
وانطلق أبناء علي(ع) الحسن والحسين(ع) والأئمة(ع) من بعدهما في رسالتهم في المجتمع الإسلامي من خلال ما انطلق به رسول الله(ص)، وكانوا يحدّثون عنه، فكانوا يقولون: "حديثنا حديث رسول الله(ص)".
وممّا نقرأه في هذا الموقف، ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع) التي أخذوها عن رسول الله(ص)، يحدّدون فيها علاقة الإنسان المسلم بأخيه المسلم، وبالتالي كيف يكون المجتمع المسلم في تكافله وعلاقاته ومعاملاته...
حقّ المسلم على أخيه المسلم
فعن الإمام الصادق(ع): "إن أشد ما افترض الله على خلقه ثلاثاً ـ ثلاث خصال صعبة لا يمكن للإنسان أن يلتزمها إلا بمجاهدة النفس والتربية الواعية ـ إنصاف الناس من نفسه، حتى لا يرضى لأخيه من نفسه إلا ما يرضى لنفسه منه ـ فلا يتحرّك مع أخيه إلا بما يرضى به لنفسه ـ ومؤاساة الأخ في المال ـ فإذا كان الله قد وسّع عليه، وكان أخوه في حاجة إلى الإعانة، فعليه مساعدته ـ وذكر الله على كل حال، ليس سبحان الله والحمد لله ـ أن يذكر الله عندما تدعوه نفسه إلى الحرام، فهناك بعض الناس ممن يجد الربح في البيع الحرام، كبيع الخمر أو اللحم المجلّد غير المذكّى. وأنا كنت سابقاً قد أفتيت، وليبلّغ الشاهد الغائب، أنه لا يجوز الشراء من أي قصّاب، يبيع اللحم المجلد المستورد غير المذكّى إلى جانب اللحم المذكّى، فشراء اللحم منه محرّم حتى الحلال منه، وكذلك لا بد من مقاطعة مطاعم المسلمين التي تبيع الخمر والحرام، وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ولكن عند ما حرّم الله عليه فيدعه"، لأنّ ذكر الله يؤدّي إلى خوف الإنسان من الحرام فيتركه.
ويقول الإمام جعفر الصادق(ع) في حديث آخر: "إن من حق المؤمن على المؤمن المودّة له في صدره ـ أن يحبّه ويتفاعل معه شعورياً ـ والمواساة له في ماله، والخلف له في أهله ـ فعندما يسافر المؤمن ويترك أهله، فإنّ من حقّه على المؤمنين أن يقوموا بتدبير شؤون أهله في غيبته ـ والنصرة له على من ظلمه. وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه ـ فإذا كان هناك توزيع لمال أو غنيمة على الناس، ولم يكن موجوداً، فعليه أن يحفظ له حقّه ونصيبه في ذلك ـ وإذا مات، الزيارة إلى قبره، وأن لا يظلمه، وأن لا يغشّه ـ في مال أو رأي أو في أي شيء من المعاملات ـ وأن لا يخونه وأن لا يخذله ـ إذا كان بحاجة إلى رعاية ـ وأن لا يكذّبه، وأن لا يقول له أفّـ فلا يوجّه إليه أي كلمة تؤذيه أو تسيء إليه ـ فإذا قال له أف فليس بينهما ولاية، وإذا قال له أنت عدوّي فقد كفر أحدهما ـ فالله يقول: {إنما المؤمنون أخوة} [الحجرات:10]، وأنت تخالف قول الله ـ وإذا اتهّمهـ دون حقّ ـ انماث (ذاب) الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء".
التكافل بين الأخوان
وعن محمد بن عجلان، قال: "كنت عند أبي عبد الله جعفر الصادق(ع)، فدخل رجل فسلّم، فسأله الإمام(ع): كيف خلّفت من إخوانك؟، فأحسن وزكّى وأطرى ـ أي أنه تكلم عنهم بالحسن ومدحهم ـ فقال(ع): كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال: قليلة، قال(ع): وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ ـ حضورهم عندهم للاستطلاع على أحوالهم ومدّ يد المساعدة إليهم وحضور مجالسهم ـ قال: قليلة. قال(ع): فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ـ هل يساعد الأغنياء الفقراء؟ ـ فقال: إنك لتذكر أخلاقاً قلّ ما هي فيمن عندنا. فقال(ع): فكيف تزعم أن هؤلاء شيعة؟!".
وعن أبي إسماعيل قال: "قلت لأبي جعفر محمد الباقر(ع): جعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير، فقال(ع): فهل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ويتواسون؟ فقلت: لا، فقال(ع): ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا".
وعن الصادق(ع): "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله تعالى {رحماء بينهم}، متراحمين، مغتمّين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله (ص)".
ويقول الإمام الصادق(ع) لأصحابه: "اتقوا الله ـ وكلامه موجّه إلينا أيضاً ـ وكونوا إخوة بررة متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه".
وفي ختام الحديث، يقول الصادق(ع): "إن من أحبِّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ إدخال السرور على المؤمن؛ إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه".
أيها الأحبّة... هذه هي أخلاق الإسلام، وأخلاق النبي(ص) وأهل بيته(ع)، وعلينا أن نقتدي بهم، حتى نلقى الله ونحن في خط رحمته ومحبته، وفي خط التقوى في كل مواقعنا الاجتماعية.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
خطوط السياسة الأمريكية في المنطقة
تتحرّك السياسة الأمريكية حيال القضيّة الفلسطينيّة والمنطقة في ثلاثة خطوط:
الخطّ الأوّل: التبنّي المطلق للكيان الغاصب إسرائيل، في كلّ حركتها العدوانيّة ضدّ الشعب الفلسطيني، في استراتيجيّة الحصار السياسي والاقتصادي والأمني، وفي الاجتياح والاغتيال والمجازر والاعتقال. ولذلك تأتي مواقف وزيرة الخارجيّة الأمريكية واضحة في عدم نيّتها ممارسة ضغوط بشأن المفاوضات، وفي استمرار سياسة تقطيع الوقت، مع بعض الحِقَن المخدّرة للفلسطينيّين، كرفع بضع عشرات من السواتر الترابيّة، وليس الحواجز العسكريّة، وتخفيض نقاط المراقبة من أجل تخفيف وقت الانتظار على المعابر، في الوقت الذي يستمرّ المخطّط الاستيطاني الصهيوني في زحفه التهويدي في القدس والضفّة، لإخراج مسألة الدولة الفلسطينية من أية قابلية فعلية للحياة، لتبقى مجرد مشروع ضبابي خادع.
والخطّ الثاني: يتمثّل بالاستمرار في الضغط لمنع أيّ وحدة فلسطينيّة، عبر التهديدات المتنوّعة في حال التوصّل إلى نتيجة إيجابيّة، ولذلك فشلت المبادرة اليمنيّة في تحقيق وفاق سياسي بين فتح وحماس.
وأمّا الخطّ الثالث، فيتمثّل بضرب أيّ موقع للتلاقي العربي والإسلامي على أساس اتّخاذ قرارات تصبّ في مصالح الشعوب العربيّة والإسلاميّة، وهذا ما لمحناه في زيارة نائب الرئيس الأمريكي، تشيني، واستكملته وزيرة الخارجية الأمريكية في زيارتها إلى بعض البلدان العربيّة المسمّاة دول الاعتدال، ولا سيّما فيما يتّصل بمستوى الحضور العربي في القمّة العربيّة التي تأتي في أخطر المنعطفات التاريخية التي تمرّ بها منطقتنا وأكثرها حساسيّة.
وفي هذا السياق، لا تزال الدول العربيّة في حال جمود سياسي أمام الحصار السياسي والاقتصادي للشعب الفلسطيني، حيث لم تجرؤ أية دولة عربية على معاقبة إسرائيل في علاقاتها الاقتصادية معها، أو في التزاماتها السياسية تجاهها، أقلُّه، لتشعر تلك الدولة المغتصِبة بأن مواقفها الظالمة الغاصبة سوف تكلّفها بعض مصالحها مع الدول التي عقدت صلحاً رسمياً معها، أو التي أبرمت معها اتفاقات سرية في حركتها الاقتصادية، أو التي وصلت إلى درجة التطبيع السياسي معها، وهذا ما لاحظناه في ترديد القادة في الجامعة العربية كلمة "السلام"، أو "قرارات قمة بيروت"، أو في الوقوف الباهت مع الشعب الفلسطيني أمام المجازر الصهيونية الوحشية بحقه، والاستباحة العدوانية لمدنه في الضفة الغربية وغزة، إضافة إلى قضية القدس التي تتحرك الخطة الإسرائيلية في استكمال تهويدها، وطرد الكثيرين من مواطنيها، لتحقيق الهدف الصهيوني بأن تصبح عاصمةً للكيان الغاصب، وإسقاط الشعار الفلسطيني الذي تردده السلطة بأنها "العاصمة الأبدية لفلسطين".
العالم العربي: وهم التضامن
أما مسألة التضامن العربي التي كانت عنوان القمة العربية في دمشق، فإنّها تبقى شعاراً ما لم ترتكز على قاعدة قوميّة أو أخويّة، وما لم تتحرّك ضمن آليّات واضحة وثابتة لحماية الواقع العربيّ من التأثير السلبي للخصوصيات الإقليمية، أو للعناصر الشخصية، أو للخلفيات الدولية، ولاسيما الأمريكية.
إننا نتمنى أن ينجح مشروع التضامن العربي، ولكننا نتصور أن العالم العربي قد فَقَدَ وجوده القومي، وتحوّل إلى مِزَق متناثرة يلعب بها اللاعبون، ويعبث بها العابثون، وتموت فيها القرارات قبل أن تولد.
ويبقى العراق الجرح النازف الذي لا يزال يُعاني من مفاعيل الاحتلال الذي يغطّي حركة الفوضى الأمنيّة والسياسية والاقتصاديّة، ويحرّك ألاعيبه السياسية والأمنيّة، ومخابراته المركزيّة، وخططه التقسيميّة والتفتيتيّة، ولصوصيّته الاقتصاديّة، ولاسيّما تجاه النفط، انطلاقاً من استراتيجيته في السيطرة على بترول أيّ بلد من بلدان العالم الثالث، لأن ذلك هو الذي يمنحه قوة الضغط على أوروبا وروسيا والصين واليابان في مشاريعها السياسية والاقتصادية.
الغرب: حرب عنصرية ضد الإسلام
وفي هذا الجو، يواجه الإسلام في الغرب حرباً عنصرية، من خلال العمل على تشويه صورته، والإساءة إلى مقدّساته. ومن اللافت أن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الذين نددوا بالفيلم الذي أنتجه نائب يميني هولندي، لأنه يساوي الإسلام بالعنف، واعتبروا هذا الرأي مرفوضاً، أقرّوا بأن لمؤلفه الحق في إنتاجه انسجاماً مع مقولتهم بحرية التعبير، من دون أن يحاول هؤلاء وغيرهم في الغرب إصدار قرارٍ برفض معاداة الإسلام والأديان الأخرى، لأنهم لا يحترمون المسلمين، بل ولا المسيحيين في العالم، ولأن حرية التعبير عندهم باتت مسألة استنسابية تخضع للحسابات السياسية لا للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وإننا نعتقد أن على المسلمين هناك أن يرتفعوا إلى المستوى الأعلى في حماية الإسلام، وفي تعريف الآخرين بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية التي يمثلها في مفاهيمه التشريعية، وأن يخططوا للانفتاح على الأصول الحضارية الإسلامية في حركة الدعوة في العالم كله، ويفضحوا المخططات التي تستهدف المفاهيم الإسلامية بطريقة عدوانية.
لبنان: أزمة خانقة وقصور في المعالجات
أما في لبنان، فإنّ آذان السياسيّين قد أصابها الصَّمم عن أنّات الجائعين، وتنهّدات الكادحين الذين باتت رواتبهم المعيشيّة مجرّد أوراقٍ لا تسدّ حاجاتهم الأساسيّة في المأكل والملبس، فضلاً عن أعباء التعليم لأولادهم، وأصبح اللبنانيّون جائعين في بلد الخصب، وعطاشى في بلد المياه، وعراةً في بلد القزّ والحرير، ونخشى أن نقول أمييّن في بلد المطابع والعلم.
إنّنا نعرف أنّ المشكلة الاقتصادية معقّدة ومتداخلة، إلا أنّنا لا نزال نلمح قصوراً في علاجها، لا تقصيراً فحسب، لأنّ كثيراً من الطبقة السياسية التي ـ وللأسف ـ أدمنها الشعب اللبناني نفسُه، تُنتج الوجوه نفسها، والذهنيّات نفسها التي لم تؤمن بقوّة شعبها ولا بكوادره ولا بآماله وتطلّعاته، ولذلك لم تسمح للشعب بأن يُنتج طبقة سياسية ترتقي إلى طموحه وآماله، وتقفز فوق الأطماع الشخصيّة، والعصبيّات الطائفيّة، والأنانيّات الفئويّة، من أجل الوحدة والتكامل لخير الجميع، ومستقبلٍ أفضل للأجيال الآتية.
أيّها اللبنانيّون: إنّ قيمة لبنان بقيمة إنسانه، فلا تسمحوا لأحدٍ بأن يذبح قيمه على مذبح شيطنته، وإنّ لبنان غنيّ بتنوّعه، فلا تعطوا أصواتكم لكلّ الذين يخنقونه بعصبيّاتهم، وإنّ لبنان ثابتٌ بقوّته، فلا تعيروا وجهاً لكلّ الذين يُريدون أن يفرضوا عليه الضعف، وإنّ لبنان كان، ولا يزال، معطاءً في ثقافته وحرّيته، فلا تسمحوا للعابثين بأن يغلقوه عن قضايا أمّته... ويبقى لكم أن تقرّروا صورة بلدكم وموطن أبنائكم.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
من أخلاق الإسلام وتشريع الرسول(ص):
التكافل والتراحم بين الأخوان
رسول التبليغ والتشريع
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، في حديثه عن رسوله الكريم:{وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]، ويقول سبحانه:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب:21].
لعل ما تتميّز به شخصية رسول الله(ص)، أنه كان الرسول في تبليغ الوحي، والرسول في كلماته وسنته، وقد كان كلّ عمل يقوم به يمثِّل شريعةً والتزاماً، وكان الإسلام يعيش عمق شخصيته وفي كل امتداداتها، حتى أصبح تجسيداً حيّاً للإسلام، بحيث كان الناس يسمعون الآية منه، ويرونها متجسدةً في شخصيته، فلم يكن هناك فاصل بين شخصيّته ورسالته.
ولهذا، فإن الالتزام برسول الله(ص)، والشهادة برسالته في كل صلاة (أشهد أن محمداً رسول الله)، توحي إلى المسلمين بأنّ عليهم أن يعيشوا رسول الله(ص) في عقولهم وقلوبهم وكل حياتهم، وأن يقتدوا به في كل كلامه وأفعاله وعلاقاته، ومواجهته للتحدّيات في الحرب والسلم.
وقد كان أهل البيت(ع) يمثلون الصورة المشرقة للخط الذي انطلق به رسول الله(ص)، فكان علي(ع) نفس رسول الله(ص)، ولم تكن الولاية التي أرادها الله ورسوله لعلي(ع) منطلقةً من عاطفة القرابة أو المصاهرة، بل كان رسول الله(ص) يرى في علي(ع) تجسيداً له، والإنسان الذي يمثل عقله وقلبه وسيرته.
ونقرأ في كلمات رسول الله (ص) عن علي(ع)، قوله: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار"، وقوله أيضاً: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، كما روي عن علي(ع) أنه قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب"، حيث لم يكن من بين الصحابة من يملك هذه السعة في العلم إلا علي(ع).
وانطلق أبناء علي(ع) الحسن والحسين(ع) والأئمة(ع) من بعدهما في رسالتهم في المجتمع الإسلامي من خلال ما انطلق به رسول الله(ص)، وكانوا يحدّثون عنه، فكانوا يقولون: "حديثنا حديث رسول الله(ص)".
وممّا نقرأه في هذا الموقف، ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع) التي أخذوها عن رسول الله(ص)، يحدّدون فيها علاقة الإنسان المسلم بأخيه المسلم، وبالتالي كيف يكون المجتمع المسلم في تكافله وعلاقاته ومعاملاته...
حقّ المسلم على أخيه المسلم
فعن الإمام الصادق(ع): "إن أشد ما افترض الله على خلقه ثلاثاً ـ ثلاث خصال صعبة لا يمكن للإنسان أن يلتزمها إلا بمجاهدة النفس والتربية الواعية ـ إنصاف الناس من نفسه، حتى لا يرضى لأخيه من نفسه إلا ما يرضى لنفسه منه ـ فلا يتحرّك مع أخيه إلا بما يرضى به لنفسه ـ ومؤاساة الأخ في المال ـ فإذا كان الله قد وسّع عليه، وكان أخوه في حاجة إلى الإعانة، فعليه مساعدته ـ وذكر الله على كل حال، ليس سبحان الله والحمد لله ـ أن يذكر الله عندما تدعوه نفسه إلى الحرام، فهناك بعض الناس ممن يجد الربح في البيع الحرام، كبيع الخمر أو اللحم المجلّد غير المذكّى. وأنا كنت سابقاً قد أفتيت، وليبلّغ الشاهد الغائب، أنه لا يجوز الشراء من أي قصّاب، يبيع اللحم المجلد المستورد غير المذكّى إلى جانب اللحم المذكّى، فشراء اللحم منه محرّم حتى الحلال منه، وكذلك لا بد من مقاطعة مطاعم المسلمين التي تبيع الخمر والحرام، وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ولكن عند ما حرّم الله عليه فيدعه"، لأنّ ذكر الله يؤدّي إلى خوف الإنسان من الحرام فيتركه.
ويقول الإمام جعفر الصادق(ع) في حديث آخر: "إن من حق المؤمن على المؤمن المودّة له في صدره ـ أن يحبّه ويتفاعل معه شعورياً ـ والمواساة له في ماله، والخلف له في أهله ـ فعندما يسافر المؤمن ويترك أهله، فإنّ من حقّه على المؤمنين أن يقوموا بتدبير شؤون أهله في غيبته ـ والنصرة له على من ظلمه. وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه ـ فإذا كان هناك توزيع لمال أو غنيمة على الناس، ولم يكن موجوداً، فعليه أن يحفظ له حقّه ونصيبه في ذلك ـ وإذا مات، الزيارة إلى قبره، وأن لا يظلمه، وأن لا يغشّه ـ في مال أو رأي أو في أي شيء من المعاملات ـ وأن لا يخونه وأن لا يخذله ـ إذا كان بحاجة إلى رعاية ـ وأن لا يكذّبه، وأن لا يقول له أفّـ فلا يوجّه إليه أي كلمة تؤذيه أو تسيء إليه ـ فإذا قال له أف فليس بينهما ولاية، وإذا قال له أنت عدوّي فقد كفر أحدهما ـ فالله يقول: {إنما المؤمنون أخوة} [الحجرات:10]، وأنت تخالف قول الله ـ وإذا اتهّمهـ دون حقّ ـ انماث (ذاب) الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء".
التكافل بين الأخوان
وعن محمد بن عجلان، قال: "كنت عند أبي عبد الله جعفر الصادق(ع)، فدخل رجل فسلّم، فسأله الإمام(ع): كيف خلّفت من إخوانك؟، فأحسن وزكّى وأطرى ـ أي أنه تكلم عنهم بالحسن ومدحهم ـ فقال(ع): كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال: قليلة، قال(ع): وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ ـ حضورهم عندهم للاستطلاع على أحوالهم ومدّ يد المساعدة إليهم وحضور مجالسهم ـ قال: قليلة. قال(ع): فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ـ هل يساعد الأغنياء الفقراء؟ ـ فقال: إنك لتذكر أخلاقاً قلّ ما هي فيمن عندنا. فقال(ع): فكيف تزعم أن هؤلاء شيعة؟!".
وعن أبي إسماعيل قال: "قلت لأبي جعفر محمد الباقر(ع): جعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير، فقال(ع): فهل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ويتواسون؟ فقلت: لا، فقال(ع): ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا".
وعن الصادق(ع): "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله تعالى {رحماء بينهم}، متراحمين، مغتمّين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله (ص)".
ويقول الإمام الصادق(ع) لأصحابه: "اتقوا الله ـ وكلامه موجّه إلينا أيضاً ـ وكونوا إخوة بررة متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه".
وفي ختام الحديث، يقول الصادق(ع): "إن من أحبِّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ إدخال السرور على المؤمن؛ إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه".
أيها الأحبّة... هذه هي أخلاق الإسلام، وأخلاق النبي(ص) وأهل بيته(ع)، وعلينا أن نقتدي بهم، حتى نلقى الله ونحن في خط رحمته ومحبته، وفي خط التقوى في كل مواقعنا الاجتماعية.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
خطوط السياسة الأمريكية في المنطقة
تتحرّك السياسة الأمريكية حيال القضيّة الفلسطينيّة والمنطقة في ثلاثة خطوط:
الخطّ الأوّل: التبنّي المطلق للكيان الغاصب إسرائيل، في كلّ حركتها العدوانيّة ضدّ الشعب الفلسطيني، في استراتيجيّة الحصار السياسي والاقتصادي والأمني، وفي الاجتياح والاغتيال والمجازر والاعتقال. ولذلك تأتي مواقف وزيرة الخارجيّة الأمريكية واضحة في عدم نيّتها ممارسة ضغوط بشأن المفاوضات، وفي استمرار سياسة تقطيع الوقت، مع بعض الحِقَن المخدّرة للفلسطينيّين، كرفع بضع عشرات من السواتر الترابيّة، وليس الحواجز العسكريّة، وتخفيض نقاط المراقبة من أجل تخفيف وقت الانتظار على المعابر، في الوقت الذي يستمرّ المخطّط الاستيطاني الصهيوني في زحفه التهويدي في القدس والضفّة، لإخراج مسألة الدولة الفلسطينية من أية قابلية فعلية للحياة، لتبقى مجرد مشروع ضبابي خادع.
والخطّ الثاني: يتمثّل بالاستمرار في الضغط لمنع أيّ وحدة فلسطينيّة، عبر التهديدات المتنوّعة في حال التوصّل إلى نتيجة إيجابيّة، ولذلك فشلت المبادرة اليمنيّة في تحقيق وفاق سياسي بين فتح وحماس.
وأمّا الخطّ الثالث، فيتمثّل بضرب أيّ موقع للتلاقي العربي والإسلامي على أساس اتّخاذ قرارات تصبّ في مصالح الشعوب العربيّة والإسلاميّة، وهذا ما لمحناه في زيارة نائب الرئيس الأمريكي، تشيني، واستكملته وزيرة الخارجية الأمريكية في زيارتها إلى بعض البلدان العربيّة المسمّاة دول الاعتدال، ولا سيّما فيما يتّصل بمستوى الحضور العربي في القمّة العربيّة التي تأتي في أخطر المنعطفات التاريخية التي تمرّ بها منطقتنا وأكثرها حساسيّة.
وفي هذا السياق، لا تزال الدول العربيّة في حال جمود سياسي أمام الحصار السياسي والاقتصادي للشعب الفلسطيني، حيث لم تجرؤ أية دولة عربية على معاقبة إسرائيل في علاقاتها الاقتصادية معها، أو في التزاماتها السياسية تجاهها، أقلُّه، لتشعر تلك الدولة المغتصِبة بأن مواقفها الظالمة الغاصبة سوف تكلّفها بعض مصالحها مع الدول التي عقدت صلحاً رسمياً معها، أو التي أبرمت معها اتفاقات سرية في حركتها الاقتصادية، أو التي وصلت إلى درجة التطبيع السياسي معها، وهذا ما لاحظناه في ترديد القادة في الجامعة العربية كلمة "السلام"، أو "قرارات قمة بيروت"، أو في الوقوف الباهت مع الشعب الفلسطيني أمام المجازر الصهيونية الوحشية بحقه، والاستباحة العدوانية لمدنه في الضفة الغربية وغزة، إضافة إلى قضية القدس التي تتحرك الخطة الإسرائيلية في استكمال تهويدها، وطرد الكثيرين من مواطنيها، لتحقيق الهدف الصهيوني بأن تصبح عاصمةً للكيان الغاصب، وإسقاط الشعار الفلسطيني الذي تردده السلطة بأنها "العاصمة الأبدية لفلسطين".
العالم العربي: وهم التضامن
أما مسألة التضامن العربي التي كانت عنوان القمة العربية في دمشق، فإنّها تبقى شعاراً ما لم ترتكز على قاعدة قوميّة أو أخويّة، وما لم تتحرّك ضمن آليّات واضحة وثابتة لحماية الواقع العربيّ من التأثير السلبي للخصوصيات الإقليمية، أو للعناصر الشخصية، أو للخلفيات الدولية، ولاسيما الأمريكية.
إننا نتمنى أن ينجح مشروع التضامن العربي، ولكننا نتصور أن العالم العربي قد فَقَدَ وجوده القومي، وتحوّل إلى مِزَق متناثرة يلعب بها اللاعبون، ويعبث بها العابثون، وتموت فيها القرارات قبل أن تولد.
ويبقى العراق الجرح النازف الذي لا يزال يُعاني من مفاعيل الاحتلال الذي يغطّي حركة الفوضى الأمنيّة والسياسية والاقتصاديّة، ويحرّك ألاعيبه السياسية والأمنيّة، ومخابراته المركزيّة، وخططه التقسيميّة والتفتيتيّة، ولصوصيّته الاقتصاديّة، ولاسيّما تجاه النفط، انطلاقاً من استراتيجيته في السيطرة على بترول أيّ بلد من بلدان العالم الثالث، لأن ذلك هو الذي يمنحه قوة الضغط على أوروبا وروسيا والصين واليابان في مشاريعها السياسية والاقتصادية.
الغرب: حرب عنصرية ضد الإسلام
وفي هذا الجو، يواجه الإسلام في الغرب حرباً عنصرية، من خلال العمل على تشويه صورته، والإساءة إلى مقدّساته. ومن اللافت أن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الذين نددوا بالفيلم الذي أنتجه نائب يميني هولندي، لأنه يساوي الإسلام بالعنف، واعتبروا هذا الرأي مرفوضاً، أقرّوا بأن لمؤلفه الحق في إنتاجه انسجاماً مع مقولتهم بحرية التعبير، من دون أن يحاول هؤلاء وغيرهم في الغرب إصدار قرارٍ برفض معاداة الإسلام والأديان الأخرى، لأنهم لا يحترمون المسلمين، بل ولا المسيحيين في العالم، ولأن حرية التعبير عندهم باتت مسألة استنسابية تخضع للحسابات السياسية لا للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وإننا نعتقد أن على المسلمين هناك أن يرتفعوا إلى المستوى الأعلى في حماية الإسلام، وفي تعريف الآخرين بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية التي يمثلها في مفاهيمه التشريعية، وأن يخططوا للانفتاح على الأصول الحضارية الإسلامية في حركة الدعوة في العالم كله، ويفضحوا المخططات التي تستهدف المفاهيم الإسلامية بطريقة عدوانية.
لبنان: أزمة خانقة وقصور في المعالجات
أما في لبنان، فإنّ آذان السياسيّين قد أصابها الصَّمم عن أنّات الجائعين، وتنهّدات الكادحين الذين باتت رواتبهم المعيشيّة مجرّد أوراقٍ لا تسدّ حاجاتهم الأساسيّة في المأكل والملبس، فضلاً عن أعباء التعليم لأولادهم، وأصبح اللبنانيّون جائعين في بلد الخصب، وعطاشى في بلد المياه، وعراةً في بلد القزّ والحرير، ونخشى أن نقول أمييّن في بلد المطابع والعلم.
إنّنا نعرف أنّ المشكلة الاقتصادية معقّدة ومتداخلة، إلا أنّنا لا نزال نلمح قصوراً في علاجها، لا تقصيراً فحسب، لأنّ كثيراً من الطبقة السياسية التي ـ وللأسف ـ أدمنها الشعب اللبناني نفسُه، تُنتج الوجوه نفسها، والذهنيّات نفسها التي لم تؤمن بقوّة شعبها ولا بكوادره ولا بآماله وتطلّعاته، ولذلك لم تسمح للشعب بأن يُنتج طبقة سياسية ترتقي إلى طموحه وآماله، وتقفز فوق الأطماع الشخصيّة، والعصبيّات الطائفيّة، والأنانيّات الفئويّة، من أجل الوحدة والتكامل لخير الجميع، ومستقبلٍ أفضل للأجيال الآتية.
أيّها اللبنانيّون: إنّ قيمة لبنان بقيمة إنسانه، فلا تسمحوا لأحدٍ بأن يذبح قيمه على مذبح شيطنته، وإنّ لبنان غنيّ بتنوّعه، فلا تعطوا أصواتكم لكلّ الذين يخنقونه بعصبيّاتهم، وإنّ لبنان ثابتٌ بقوّته، فلا تعيروا وجهاً لكلّ الذين يُريدون أن يفرضوا عليه الضعف، وإنّ لبنان كان، ولا يزال، معطاءً في ثقافته وحرّيته، فلا تسمحوا للعابثين بأن يغلقوه عن قضايا أمّته... ويبقى لكم أن تقرّروا صورة بلدكم وموطن أبنائكم.