"اللهم وصلِّ على وليّ أمرك القائم المؤمّل، والعدل المنتظر. احففه بملائكتك المقرّبين، وأيِّده بروح القدس يا رب العالمين. اللهم اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكِّن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً يعبدك لا يشرك بك شيئاً. اللهم أعزّه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً. اللهم أظهر به دينك وسنَّة نبيك، حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق. اللهم إنَّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة...".
سرّ الغيبة
ذلك هو حجة الله، قائم آل محمد، عجّل الله تعالى فرجه، وسهَّل مخرجه، وجعلنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين بين يديه، الذي نلتقي بذكرى ولادته في النصف من هذا الشهر، في الخامس عشر من شعبان.
ونحن إنّما نذكره، لأنه صاحب الزمان الذي بشّر به رسول الله(ص)، الذي قال في حديثه: "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". وقد جاء حديث الرسول(ص) عنه، ولذلك آمنّا به وصدَّقناه، وإن لم نره ونلتقِ به.
وفي هذا الجو، لا بدّ لنا من أن نؤكِّد حقيقةً لمن يتحدث عن هذه الغيبة الطويلة، وعن الفائدة التي يحصل عليها الناس من إمامةٍ غائبة، فالله سبحانه أراد أن يقيم الحجة على الناس، وذلك بأن يرسل رسله ويصطفي أولياءه من أجل هدايتهم إلى الحق، وتوجيههم إلى السير على الصراط المستقيم، فكيف يتحقَّق ذلك في ظلّ غياب الإمام؟
والجواب عن هذه المسألة، أن إمامة أهل البيت(ع) على نوعين: فهناك الإمامة التي ابتدأت من علي(ع) وامتدت بأولاده إلى زمن الإمام الحسن العسكري(ع)، والتي كان دورها الحضور مع الناس، وتصحيح مفاهيمهم، والإجابة عن أسئلتهم، وتأكيد القاعدة الإسلامية في عقولهم، ومنهج الصراط المستقيم في كل أوضاعهم، والتحرك في مواجهة الكفر والضلال والاستكبار، وهذا ما قام به الأئمة من أهل البيت(ع).
الإمامة والدور التثقيفي
وقد استطاع الأئمة(ع) أن يلبّوا حاجات الناس في أيِّ حكم شرعي، وفي أي مفهوم إسلامي، وأن لا يتركوا الناس في حاجة إلى أيّ شيء من ذلك، بل شرحوا لهم كل ما جهلوه وما أشكل عليهم فهمه في كل ما في الكتاب والسنّة، وركّزوا القواعد العامة التي تطل على كل المستجدات التي يمكن أن يأتي بها التطور، ليجتهد المجتهدون في تحديد الأحكام الشرعية على أساس القواعد الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنّة، والتي شرحها وبيّنها وأوضحها الأئمة من أهل البيت(ع)، حتى إذا جاءت الغيبة الصغرى التي كان الناس يتصلون فيها بالإمام الحجة(عج) من خلال سفرائه، كانت رسالته مع آخر سفير له: "وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله".
كأن الإمام يريد أن يقول للمسلمين جميعاً، ولاسيما من أتباع أهل البيت(ع)، إنّ الأئمة من أهل البيت قد حدّثوا الناس من خلال أحاديثهم في كل ما يحتاجونه، فلم تبقَ لكم أية حاجة إلى أن يظهر بينكم إمام تسألونه وتتحدثون معه، لأن الأئمة قد سدّوا كل الفراغ فيما يحتاجه الناس في الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا حدثت هناك أية حادثة في أي أمر من الأمور، وأردتم معرفتها، فارجعوا فيها إلى ما رواه الرواة الموثوقون من أحاديثنا، وانفتحوا على العلماء الذين يستنبطون الأحكام الشرعية من هذه الأحاديث، فإنهم يعرِّفونكم كل مسؤولياتكم وكل تكاليفكم.
وهكذا انتهى الدور التثقيفي للأئمة(ع) بعد أن بيّنوا كل شيء. ولذلك نرى الآن، أن المجتهدين الذين وصلوا إلى المراتب العليا في الاجتهاد، لا يجدون مشكلة في أي شيء جديد يبتلى به الناس مما يستحدثه التطور، بل إن المجتهدين يطلقون الفتوى في كل ما يسألهم الناس عنه، لأنهم يستهدون بذلك بما جاء في الكتاب والسنّة، وبما جاء عن الأئمة من أهل البيت(ع).
الإمامة والعدل
أما الدور الثاني للإمامة، فهو الدور العالمي الذي يراد من خلاله تغيير العالم، على أساس العنوان الكبير الذي انطلق الإسلام منه؛ فالإسلام انطلق على أساس أن يقوم الناس؛ كل الناس، بالقسط والعدل، بحيث يكون العالم عالم عدل، وهو ما يحتاج إلى الكثير من مراحل الزمن، ولذلك أعدّ الله الإمام الثاني عشر ليحقِّق الهدف الذي جاءت الرسالات من أجله، وهو إقامة العدل بين الناس، وهذا ما عبّر الله عنه في سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25)، والقسط هو العدل، أي حتى يأخذ كل الناس بالعدل، فلا يُرى هناك ظالم لا في داخل العائلة، ولا في داخل المجتمع، ولا في داخل المحاور المتنوّعة في العالم. ولذلك فإن الدور الذي أعدَّه الله للإمام، هو أن يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بحيث لا يبقى هناك مكان في الأرض يتحرك فيه الظلم والظالمون والاستكبار والمستكبرون.
وعلى ضوء هذا، أراد الله للناس أن يتثقفوا بثقافة العدل؛ العدل الذي انطلق من قاعدة الإسلام، وعندما يريد لهم أن يتثقفوا بثقافة العدل، فإن معنى ذلك أن يتثقّفوا بثقافة الإسلام، لأن رسالة الإسلام تقتضي أن يعطي الناس كلّ صاحب حقٍّ حقّه في كل الأمور؛ أن يعطوا ربّهم حقّه في التوحيد، وأن يعطو الرسول حقّه في الإطاعة والقدوة، وأن يعطوا بعضهم بعضاً حقوقهم في كل ما يتصل بحق كل إنسان على الآخر.
ولذلك، فإنَّ واجبنا في زمن الغيبة، هو أن نأخذ بأسباب العدل؛ فإذا كنا منتظرين له، فمعنى ذلك أن لا يظلم الإنسان عائلته، وأن لا يظلم الإنسان الناس الذين يتعامل معهم في بيع أو شراء أو في أيّ علاقة. وعلى هذا الأساس، فإنَّ الذين يخلصون للإمام(عج)، ويلتزمون إمامته، ليسوا الذين يقيمون المهرجانات في ولادته، وليس الذين يهتفون باسمه، وليس الذين يقولون عجِّل على ظهورك، بل الذين يلتزمون الإسلام في أنفسهم وعوائلهم وأسواقهم ومجتمعاتهم وسياستهم واقتصادهم... هذا هو معنى الاتّباع له، وهذا هو معنى الالتزام به، وهذا ما أراده الله لنا؛ أن نصنع في كل موقع موقعاً للعدل وموقعاً للإسلام، وأن نعمل على إقامة مجتمع إسلامي ودولة إسلامية في هذا البلد أو ذاك البلد، يكون مقدمة للدولة الإسلامية الكبرى، التي يعزّ الله بها الإسلام وأهله، ويذلّ بها النفاق وأهله... بحيث يكون كل واحد منا داعية إلى طاعة الله، وبحيث يصنع من نفسه مشروع قائد للإسلام كله وللناس كلهم.
ونحب هنا أن نشير إلى التباس، ربما يظهر من بعض ما قرأناه في دعاء الافتتاح: "أبدله من بعد خوفه أمناً... وأن لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق..."، وهو التباس يتصل بما قد يبدو من خوف الإمام من الظهور. ولكننا نعتقد أنّ عدم ظهور الإمام للناس ليس خوفاً، وقد ظهر الأئمة من أهل البيت(ع)، مع أنّ الضغوط كانت تحيط بهم من كل جانب، ولكن الإمام(ع) انطلق من خلال رعاية الله له، فكانت غيبته من غيب الله، كما سيكون ظهوره من غيب الله، ولذلك فهو لم يغب خوفاً من أن يُقتل أو يضطهد، لأن قوته من الله، ولأنه يظهر من أجل أن يواجه العالم كله بالعدل، وليخضع العالم كله للعدل، فكيف يمكن أن ننسب إليه الخوف؟!
وفي هذا المقام، لا بدّ من الإشارة إلى مسألة، وهي أنه عندما تحدث حرب بين إسرائيل والعرب، أو عندما تحدث بعض الحروب، كما في العراق وأفغانستان أو غيرهما، فإنّ كثيراً من الناس يبادرون إلى القول إنّ هذه من علامات الظهور، وهذا زمن الظهور. ليس هناك من يعرف وقت الظهور، فهذا أمر اختصَّ به الله وحده، وعلينا أن لا نشغل أنفسنا بمثل ذلك.
ونشير أيضاً إلى أنّ بعض الناس يعملون على استغلال جهل الناس وغفلتهم وسذاجتهم، فيخرجون ليدّعوا أنهم سفراء الإمام، وأنهم أصفياء الإمام... هؤلاء كذّابون، يريدون أن يستغلوا الناس وأن يتاجروا بذلك. لقد غاب الإمام(ع) ولم يلتقِ به أحد، لأنه غاب عن الناس كافة، وليس لأحد خصوصية في هذا المجال. ولذلك، فكلُّ من ادّعى الرؤيا، فليست الرّواية عنه صحيحة.
التزام مسؤولية الإسلام
إن مسؤوليتنا في زمن الغيبة، هي أن نبقى نتحمل مسؤولية الإسلام، ومسؤولية الخط الأصيل الذي سار عليه الأئمة من أهل البيت(ع)، التزاماً برسول الله(ص)، وهذا ما ينبغي لنا أن نعمل له؛ أن نكون قوةً للإسلام، وأن نكون قوةً للعدل، وأن نواجه الظلم كله والكفر كله، ونحن الذين نلتزم ولاية علي بن أبي طالب(ع) الذي كان يمثِّل الإيمان كله والإسلام كله، وهذا ما عبّر عنه رسول الله(ص) في وقعة الأحزاب، عندما برز علي إلى عمرو بن عبد ود، فقال(ص): "برز الإيمان كله إلى الشرك كله".
فإذا كنتم في خطّ الموالاة مع علي(ع) والأئمة من ولده، ولاسيما إمامنا المنتظر إمام الزمان، فعليكم أن تنطلقوا من خلال الإيمان كله، والإسلام كله، والاستقامة كلها، وأن ننطلق جميعاً من أجل أن نكون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
اللهمّ عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، واجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه. اللهمّ أرنا الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة، واجعلنا ممن يسير معه.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المرحلة التي يعيش فيها المسلمون في صراعهم مع العالم المستكبر بموقف موحّد، لأن الاستكبار كله والكفر كله يعمل على إسقاط الإسلام والمسلمين في كل أوضاعهم وقضاياهم، فماذا هناك؟
أمريكا: أوهام الإمبراطورية الكونية
في المشهد الأمريكي؛ يتحدّث بعض مسؤولي الإدارة عن ضرورة التحرّك السياسي والأمني والاقتصادي لإبقاء الولايات المتّحدة الأمريكيّة في موقع قيادة العالم، بدلاً من أن تكون دولةً محدودة السلطة العالميّة وراء البحار. ويؤكّد هذا البعض ـ في خطابه للكونغرس ـ أنّ الانسحاب العسكري من العراق يحرم أمريكا من ذلك الموقع القياديّ.
إنّنا نتساءل: من الذي أعطى الولايات المتحدة الأمريكية الحقّ في فرض قيادتها على العالم، والضغط على قضاياه، والسيطرة على مجلس الأمن، وتهديد إيران ـ من خلال التحالف مع بريطانيا وفرنسا من جديد ـ إذا بقيت مصرّة على مواصلة تخصيب اليورانيوم، حتّى لأهداف سلميّة؛ بهدف منع العالم العربي والإسلامي من امتلاك الخبرة العلميّة النووية التي تجعله في حال اكتفاء ذاتيّ؟
إنّ الولايات المتّحدة الأمريكية تعمل لتوظيف موازين القوى التي تتحرّك لمصلحتها؛ لتدعيم إمبراطوريّتها الكونيّة ودكتاتوريّتها السياسيّة والاقتصاديّة، تحت ذريعة نشر الديمقراطيّة.
إنّنا ندعو الشعوب كلّها، ولاسيّما الشعوب المستضعفة، إلى إدراك ذلك، لترتّب أوضاعها بما يحقّق لها القوّة والحرّية والكرامة، من خلال اكتشاف مواقع القوّة عندها، وتحريكها في اتّجاه الموقع القويّ الذي يكفل لها التوازن والاستقلال.
ومن جهة أخرى، يتحدّث بوش عن خيبة أمله من القيادة العراقيّة، في حركةٍ إعلاميّة، داخليّة وخارجيّة، تؤكّد أنّ السياسة الأمريكية قد فشلت في احتلالها للعراق، وأنّ وجودها أدّى إلى المزيد من الفوضى الأمنيّة، واستمرار المجازر الوحشيّة، وفقدان الخدمات الضروريّة للشعب العراقي، فضلاً عن الخسائر التي يتكبّدها الاحتلال في جنوده وقوّاته.
وإذا كان المسؤولون الأمريكيّون يتحدّثون عن فشل الحكومة العراقيّة في تحقيق أهدافها، فإنّ الجميع يعرفون، أنّ الاحتلال نفسه يمارس الضغط على أيّ حكومة في إطار احتلاله، ويقوم بأكثر من لعبة مزدوجة في الواقع العراقي الداخلي، ولاسيّما من خلال الإثارة الطائفيّة، لضرب أي محاولة ترمي إلى ضمان وحدة العراق وتحقيق الاستقرار له؛ لأنّ الاستقرار يعني انتفاء مبرّر بقاء قوات الاحتلال في العراق.
ومن جهة ثالثة، فإننا نلاحظ أنّ الولايات المتّحدة الأمريكية تعمل على تحريك الصراع المتنوّع في دول المنطقة، وهي إزاء السقوط المدوّي لمشروع الشرق الأوسط الجديد، تخلّت عمّا تسمّيه نشر الديمقراطيّة في العالم العربي، وأصبحت المسألة لديها هي كيف تقسّم هذا العالم إلى محور اعتدالٍ في مواجهة محور دول التطرّف؛ وهي تقصد من الاعتدال التحالف مع الكيان الإسرائيلي الغاصب، أو الانفتاح عليه، في مقابل الدول التي لا تزال ترفض ذلك الكيان؛ لتقترب هذه الدول «المعتدلة» من الدولة العبريّة، معلنةً استعدادها لحضور المؤتمر الذي دعا إليه بوش تحت عنوان السعي نحو السلام، ما قد يؤمّن للكيان العبري الغطاء الواسع في تكريس استراتيجيته في الاستيلاء على أرض فلسطين، وإبقاء مساحات محدودة فاقدة لشروط الحياة الطبيعيّة، مع غياب أيّ فرص واقعيّة لقيام الدولة الفلسطينيّة، في ظلّ التحالف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي.
فلسطين: محاولات تهويد القدس
وفي هذا الجوّ، نلتقي بحال الضعف العربي، ولاسيّما سلطة الرئيس الفلسطيني الذي لم يستطع أن يحصل على أمن الضفّة الغربيّة، سواء من جهة إيقاف الاجتياح والاعتقالات، أو إزالة حواجز الاحتلال... كما أنّ هذه السلطة قد تكون ضالعةً في التخطيط مع الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية، من أجل الضغط على الشعب الفلسطيني في غزّة اقتصاديّاً؛ وذلك تحت عنوان الضغط على حركة حماس، في ظلّ استمرار الطائرات الإسرائيليّة في استهداف المجاهدين تارةً، والمدنيّين أخرى، بحجّة الدفاع عن الشعب اليهوديّ، من دون أيّ حديثٍ عن مسألة الاحتلال للأرض التي تدفع المقاومة إلى الاستمرار في المواجهة؛ وذلك هو منطق الغرب في إعطاء العدوّ العذر في وحشيّته، إضافةً إلى الموقف الرسمي العربي الذي أدار ظهره للشعب الفلسطيني، فلم تحاول الدول العربيّة الدخول في توحيد هذا الشعب من جديد؛ لينطلق في حكومة وحدة وطنيّة؛ لأنّ أمريكا وإسرائيل ترفضان عودة حركة حماس إلى مواقعها الرسمية في الساحة السياسية.
إنّ مشكلة العالم العربي، بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة، هي أنّ هناك أكثر من موقع نفوذٍ عربيّ يضغط على الحكومة الفلسطينية حتّى تخضع للخطّة الإسرائيليّة ـ الأمريكيّة في تحجيم القضيّة الفلسطينيّة؛ وذلك بهدف تكريس منطق الهزيمة العربية والسقوط السياسي للقمم ومؤتمرات وزراء الخارجيّة العرب، التي تصدر مقرّراتها على طريقة المواضيع الإنشائيّة، وهذا ما يفرض على الشعوب العربيّة والإسلاميّة التنبّه إلى المستقبل الهزيل الذي يعمل عليه حكّامهم، والذي يُراد له أن يكون مستقبل الأمّة كلّها.
وفي هذا السياق، فإنّنا، في ظلّ وجود الخطر على المسجد الأقصى، من خلال الحفريّات التي لا يزال الكيان الإسرائيلي يُمارسها، نؤكّد في هذه المرحلة من تاريخنا، ضرورة استعادة ذكرى محاولة إحراق المسجد من قبل اليهود، للتدليل على الخطّة القديمة الجديدة في نطاق سعي هذا الكيان لإزالة كلّ المقدّسات الإسلاميّة، وتهويد القدس بالكامل.
لبنان: إسقاط النظام الطائفي بالمواطنة
أمّا لبنان، فإنّ المشكلة التي تكمن في نسيجه السياسي، أنّ الولايات المتّحدة الأمريكية لا تزال تضغط على قراراته الحاليّة والمستقبليّة؛ حتّى إنّها تتدخّل في تحديد شخصيّة الرئيس اللبناني؛ لتفرض على اللبنانيّين بعض الشروط السلبيّة في عمليّة اختياره، بما يتّفق مع مصالحها في الاستحقاق الرئاسي. ومن الطريف أنّ ثمّة من لا يزال يتحدّث عن الحرّية والاستقلال ورفض الوصاية...
كما أنّ الاجتماعات الطائفيّة الداخليّة قد تكون مجرّد تغطية للإيحاءات الدوليّة، في الوقت الذي يعرف الجميع، أنّ الخطّ الطائفي، لا الوطني، هو الذي يحكم الواقع السياسي، في استحقاقاته الكبيرة والصغيرة؛ والقضيّة التي تفرض نفسها هنا، أنّ الانتماء المسيحي الماروني للرئيس لا يعني ألاّ يكون للبنانيّين الآخرين دور في تحديد شخصيته، في الوقت الذي سوف يخضعون لقيادته.
إنّ المسؤول الأوّل في لبنان، كبقيّة المسؤولين في مواقع السلطة الاشتراعية أو التنفيذيّة، لا بدّ من أن يكون للوطن كلّه، بحيث يلتقي عليه المواطنون، لا طائفته الخاصّة فحسب؛ لأنّ مسألة الانتماء الطائفي لأيّ مسؤول، لا تعني أنّ طائفته هي التي تحكم الوطن؛ ليكون اختياره تابعاً لطائفته، لا للوطن.
إنّ سقوط الواقع السياسي والاقتصادي والأمني على مستوى الداخل، وعلى مستوى انفعال الداخل بالخارج، كان، ولا يزال، نتيجة النظام الطائفي المتخلّف؛ فلينطلق اللبنانيّون إلى نظام المواطنة؛ فهو الذي يؤنسن النظام، ويؤنسن السياسة كلّها.