الامتداد الروحي للأئمة(ع) في قلوب الناس:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33). من أهل هذا البيت، الإمام العاشر من الأئمة الإثني عشر، وهو الإمام علي بن محمد الهادي(ع)، الذي مرّت ذكرى وفاته في الثالث من هذا الشهر، شهر رجب الحرام.
ونحن عندما نقف أمام أيّ إمام من هؤلاء الأئمة(ع)، نجد أنهم كانوا يتابعون حركة الرسالة، ليوضّحوا للناس كلَّ حقائقها، وليواجهوا التعقيدات التي يحاول البعض أن يصنعها، وكانوا يمثلون الروحانية الممتدة في حياة الناس، ما جعل الناس يلتفّون حولهم، ويخلصون لهم، ويثقون بهم، سواء كانوا ممن يلتزمون بإمامتهم أو ممّن لا يلتزمون بها.
ونحن نعرف أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا هدفاً لاضطهاد الخلفاء من بني العباس، لأنّهم كانوا يرون لهم هذا الامتداد الروحي في عقول الناس وقلوبهم، ولذلك كانوا يخافون من أن يزيل الناس ملكهم، ليكون الأئمة(ع) هم الشرعية التي يؤمن بها كل المسلمين. ونحن نقرأ في سيرة الإمام الهادي(ع)، أنّ المتوكِّل العباسي حاول أكثر من مرة الإساءة إليه، حتى إنه أرسل جماعةً من شرطته ليدخلوا عليه من السطح، لأنه كان يخاف أن يكون لدى الإمام(ع) أسلحة، ولكنهم وجدوه جالساً في محراب صلاته وهو يتلو القرآن، وحاول المتوكل أن يجلب الإمام الهادي(ع) إلى موقع الخلافة، حتى يكون تحت مراقبته ونظره، وقد نقل كتّاب سيرته، أنّ المدينة ضجّت ضجّةً واحدةً بمختلف طبقاتها، من العلماء وغيرهم، عندما أرسل المتوكِّل أشخاصاً يرافقون الإمام(ع) إلى موقع الخلافة، لأنّهم خافوا عليه من الاغتيال، ولكن الرسل الذين أرسلهم طمأنوهم في ذلك.
منهج الإمام الهادي(ع) في حركته مع النّاس:
ونحن في التزامنا بإمامة الأئمة من أهل البيت(ع)، وفي الإيمان بولايتهم، باعتبار أنهم أوصياء رسول الله(ص)، وأنهم الذين يملكون الشرعية الإسلامية الحقيقية، وأنهم أمناء الله في خلقه وحججه على عباده، لا بد لنا من أن ندرس بعض ما تركوه لنا من التراث. ففي بعض هذا التراث، أنّ الإمام الهادي(ع) كان لا يترك فرصةً ويعلّم الناس فيها، وينقل بعض أصحابه، وهو أبو دعامة، أنه دخل عليه وهو في مرضه الذي توفي فيه، فقال له: «ألا أحدّثك بحديث تسرّ به»؟ فقال: «بلى، ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله»، فقال(ع): «حدّثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني علي بن موسى، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب(ع) أنه كان إلى جنب رسول الله، فقال له رسول الله: «يا عليّ، اكتب، فقلت: ماذا أكتب؟ قال: اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة». وسرّ هذا الرجل بهذا الحديث من حيث سلسلة الرواة ومضمونه.
ونحن نستفيد من هذا الحديث، أن عليّاً(ع) عندما كان يجلس إلى رسول الله(ص)، كان النبي يلقي إليه من علمه علماً، وكان(ع) يكتب ذلك العلم. ويحدّثنا الأئمَّة(ع)، أنّ كثيراً مما يحدِّثون به كانوا يأخذونه من كتاب عليّ(ع). لأنه كان قد جمع في كتابه ما كان يسمعه من رسول الله(ص)، وينقل كتّاب سيرته، أنه بعد وفاة النبي اعتزل الناس مدة في بيته، لأنه كان يكتب تفسير القرآن حفاظاً على ما كان يعرفه من أسرار القرآن من خلال ما تعلّمه من رسول الله(ص)، وما استنتجه، وذلك ما عبّر عنه في حديثه: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب».
التفريق بين الإسلام والإيمان:
أمَّا هذا الحديث، فإنَّ النبي(ص) يفرّق فيه بين الإسلام والإيمان، فالإسلام يمثل الانتماء الرسمي، وذلك بأن تشهد الشهادتين، وتعتبر نفسك منتمياً إلى المجتمع الإسلامي، ولذلك قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات/14)، أما الإيمان، فهو ما استقرَّ في القلب، وما انطلقت به العقيدة التي تشتمل كلَّ ما يلتزم به الإنسان من عقائد، وما يتحرك به من مفاهيم في عمله، فلا يكفي أن تكون ملتزماً بالعقائد الإسلامية في عقلك وقلبك، بل لا بدَّ لك من أن يصدّق عملك إيمانك، بحيث يتجسّد الإيمان الذي تحمله في قلبك ويجري به لسانك في عملك، فتكون مسلماً بالعمل كما تكون مسلماً بالعقيدة.
مواقف حاسمة من الغلوّ:
ونتحدث عن حالة من حالات الغلوّ التي كانت سائدةً في عصر الإمام الهادي(ع) بين الشيعة، كما نجد هذه الحالة في عصرنا هذا بين بعض الشيعة الذي يلتزمون الغلوّ بالأئمة(ع)، إذ كان هناك شخص اسمه علي بن حسكة، وكان يحاول أن يتقرّب إلى الشيعة، فيحدّثهم وهو يعرف أنهم يحبون أهل البيت(ع) والإمام الهادي(ع)، فكان يقول لهم، إنّ الإمام الهادي هو الله، هو الأول والقديم، وكان يحدثهم أن الله أسقط عنهم الصلاة والصوم والزكاة والحج لمعرفتهم بالإمام وولايتهم له، وقد انطلت أفكار الغلوّ هذه على بعض الشيعة، فاتّبعه خلق كثير، وقد كتب بعض أصحاب الإمام الهادي إلى الإمام(ع) يحدّثه عن هذا الشخص واتجاهه، ويطلب منه جواباً ينجيهم من الهلكة، فكتب الإمام الهادي(ع): «كذب ابن حسكة، عليه لعنة الله، وبحسبك أني لا أعرفه في مواليّ، ما له لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمداً والأنبياء قبله إلا بالحنيفية والصلاة والزكاة والحج والولاية، وما دعا محمد إلا إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من ولده، عبيد الله لا نشرك به شيئاً، إن أطعناه رحمنا، وإن عصيناه عذّبنا، ما لنا على الله من حجة بل الحجة لله علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك، وأنتفي إلى الله من هذا القول، فاهجروهم لعنهم الله، وألجئوهم إلى ضيّق الطريق».
لقد وقف الإمام الهادي(ع) وقفة قوية حاسمةً ضد هذا الاتجاه الذي يستغلُّ محبة أهل البيت(ع)، بحيث يرفعهم إلى الدرجات التي تقترب بهم إلى الألوهية، وهم عباد الله الذين يطيعونه، وهو ما نذكره في التشهد: «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله». وعظمة الأئمة من أهل البيت(ع)، أنَّهم عبدوا الله كما يجب أن يُعبد، وأطاعوه كما يجب أن يُطاع. وعلينا أن نقف ضد هذا الانحراف الذي تحرك البعض به من خلال جهل بعض الناس وتخلّفهم وعدم وعيهم للعقيدة الحقيقية، فنحن نحب أهل البيت ونواليهم ونلتزم إمامتهم على أساس أنهم عباد الله المكرمون {لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(الأنبياء/27).
الأخذ بأسباب العقل:
وهناك نقطة ثالثة كان الإمام الهادي(ع) يؤكّدها، وهي ضرورة الأخذ بأسباب العقل. وممّا يروى في هذا المجال، أنّه كان هناك شخص مشهور بابن السكيت، وكان من علماء اللّغة العربية، يقول: «جلست إلى أبي الحسن علي بن محمد الهادي وقلت له: لماذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السّحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمداً ـ صلّى الله عليه وعلى جميع الأنبياء ـ بالكلام والخطب؟»، فقال(ع): «إن الله لما بعث موسى كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات ـ الأمراض المزمنة ـ واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم، وإنّ الله بعث محمداً في وقتٍ كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام والشعر، فأتاهم من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجَّة عليهم»، فقال ابن السكّيت: «تالله ما رأيت مثلك قطّ، فما الحجة على الخلق اليوم؟»، فقال(ع): «العقل، يُعرف به الصَّادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه»، فقال: «هذا والله الجواب».
إننا نقرأ من خلال هذه الكلمة النورانية من الإمام الهادي(ع)، أنّ علينا أن نأخذ بأسباب العقل، وأن نحرّك عقولنا في كلِّ أمورنا، سواء كانت ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية، لأنّ العقل هو الذي يخطط، وهو الذي يميّز بين الحسن والقبيح، وهذا ما جاءت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأحاديث الأئمّة(ع)، وقد كان الإمام الهادي يدعو إلى أن يأخذ الناس بأسباب العقل ولا يأخذوا بأسباب الهوى.
تصويب الاعتقادات:
وفي خاتمة المطاف، هناك تعبير موجودٌ عند الناس، وهو أن الناس إذا أصيبوا ببعض البلاء والمشاكل، أو واجهوا بعض التحديات، فإنّهم يلومون الزمن، ويعتبرون بعض الأيام أيام نحس وتشاؤم، حتى إن البعض لا يسافر في اليوم الفلاني، أو لا ينتقل إلى بيته في اليوم الفلاني وما إلى ذلك، بحيث يحمّلون الزمن مسؤولية الأوضاع السلبية التي تجعلنا نتجمّد في حركتنا في الحياة. وفي هذا المجال، ينقل أحد أصحاب الإمام الهادي قصة، فيقول: دخلت على علي بن محمد الهادي وقد نُكبت إصبعي وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة من الناس، فخرّقوا عليَّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرَّك من يوم فما أشأمك! فقال لي الإمام(ع): «يا حسن، هذا وأنت تغشانا ـ أنت من أصحابنا وشيعتنا ـ ترمي بذنبك من لا ذنب له»، فأثاب إليّ عقلي وتبيّنت خطئي، فقلت: يا مولاي أستغفر الله، فقال(ع): «يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها»، فقلت: أستغفر الله أبداً وهي توبتي يابن رسول الله، فقال(ع): «والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن أن الله هو المعاقب والمجازي بالأعمال عاجلاً وآجلاً»؟ قلت: بلى يا مولاي، فقال(ع): «لا تعد، ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله سبحانه وتعالى».
هذه هي دروس الإمام الهادي(ع)، وهي دروس الأئمة من أهل البيت(ع) الذين ينطلقون من خلال رسول الله(ص) والإسلام، وكما قال ذلك الشاعر:
ووال أناساً قولهم وحديثهم روى جدَّنا عن جبرائيل عن الباري
نسأل الله تعالى أن يرزقنا شفاعتهم ويثبّتنا على ولايتهم، والسلام على الإمام الهادي(ع) يوم وُلد ويوم توفي ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف كأمة واحدة تنفتح على كلِّ قضاياها ومشاكلها وما يوجّه إليها من التحدّيات، لتتعرَّف كل ما يتحرك به الآخرون ضدها. فماذا هناك؟
مؤتمر دولي حول فلسطين لتجسيد المصالح الإسرائيلية:
في المشهد العربي الأمريكي، أطلق الرئيس بوش الدعوة إلى مؤتمر دولي يضم الفلسطينيين والإسرائيليين وبعض دول الجوار برئاسة وزيرة خارجيته تحت عنوان: إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ولم يفت الرئيس الأمريكي أن يدعو الفلسطينيين إلى نبذ ما أسماه العنف والإرهاب ضد إسرائيل، وأن يحذِّر حماس من استغلال سيطرتها على غزَّة في مواجهة حكومة الطوارئ، وأن يدعو إسرائيل إلى عدم توسيع المستوطنات، وإلى نزع الحواجز غير المرخَّصة، إضافةً إلى دعوته الدول العربية المعتدلة إلى المساعدة في بناء الدولة الفلسطينية، طالباً منها المزيد من الجهود الدبلوماسية والاقتصادية والاقتداء بمصر والأردن في الاعتراف المطلق بوجود إسرائيل...
ونلاحظ في هذه الدعوة الأمريكية، أنها تنطلق من حاجة الإدارة الأمريكية بشخص رئيسها، إلى الحصول على تأييد عربي وإسلامي لهذه الطروحات، باعتبار أن القضية الفلسطينية هي القضية الرئيسة في الوجدان السياسي العام للعرب والمسلمين الذين يحمّلون أمريكا مسؤولية ما يجري في فلسطين، وذلك من خلال تأييدها المطلق لإسرائيل في كل احتلالها لأرض الفلسطينيين، والقيام بالمجازر الوحشية في الضفة الغربية وغزة ضد الشعب الفلسطيني، ولا سيما المدنيين، وتدمير البنية التحتية للبشر والحجر والشجر، الأمر الذي أسقط مصداقية الإدارة الأمريكية لدى شعوب المنطقة.
وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي يكرّر منذ سنوات الحديث عن دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، ولكنه كان يحمّل الفلسطينيين ـ منذ البداية ـ المسؤولية عن فشل إقامة هذه الدولة، من خلال اعتباره حركة المقاومة ضد الاحتلال حركة إرهابية، لأنّه يسعى إلى تحقيق الأمن المطلق لإسرائيل في احتلالها للأرض، وفي بنائها للمستوطنات والجدار العازل، ومنع عودة اللاجئين، وإثارة التحفظات حول خريطة الطريق بما يؤدي إلى إفراغها من محتواها الواقعي، وإعطاء الكيان الصهيوني صفة الدولة اليهودية بالرغم من العرب المتواجدين فيها، والذين هم أصحاب الأرض الحقيقيّون.
وقد صرّح أحد المسؤولين الصهاينة بأنَّ إسرائيل ليست مستعدة للمفاوضات حول الحدود واللاجئين والقدس، ما يطرح سؤالاً على المعترفين بالدولة العبرية حول حدود الدولة التي يعترفون بها، كما يطرح على المطالبين بالاعتراف بها، السؤال حول الصيغة القانونية التي يراد الاعتراف بها في دولة تمتد حدودها إلى أقصى الأراضي الفلسطينية.
إننا نتصوَّر أنَّ دعوة الرئيس بوش هي للاستهلاك السياسي ولخداع الأنظمة العربية ومتابعة العمل المضادّ لفصائل المقاومة، من دون أيِّ التزام إسرائيلي بالامتناع عن الاجتياح والاعتقال والاغتيال بالأسلحة الأمريكية المتطوّرة... إنها دعوة لحساب المصلحة الإسرائيلية في إيجاد الظروف الملائمة لتحقيق استراتيجيتها التي لن تتنازل عن أيِّ مشروع من مشاريعها، ولدفع الفلسطينيين والعرب إلى تقديم التنازلات من خلال السلطة والأنظمة العربية، مع بعض ما يحفظ ماء الوجه، وإيجاد حالٍ من التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، ولا سيما دول الخليج التي يراد لها أن تزور إسرائيل على طريقة السادات، لتكون النتيجة هي الدولة المسخ التي لا تمنح الشعب الفلسطيني معنى الدولة القابلة للحياة، وربما كانت أهداف هذا التجمع العربي برئاسة أمريكا، هي إنشاء جبهة عربية ضد إيران، ما قد يحرج الموقف العربي الرسمي.
إن الجميع يعرفون أن هذا الرئيس الخاضع لإسرائيل لن يحقِّق الدولة في عهده، بل سيترك ذلك لمن يأتي بعده، تماماً كما حدث ذلك للرؤساء الذين سبقوه ممن يخلصون لإسرائيل أكثر من إخلاصهم لمصالح أمريكا، ويقومون بخداع الأنظمة العربية التي يفتحون أمامها أبواب الآمال الكاذبة.
التطورات في فلسطين نذير خطر على القضية الفلسطينية:
وفي المشهد الفلسطيني ـ الإسرائيلي كان اللّقاء بين رئيس السلطة ورئيس الكيان الصهيوني الذي غلبت عليه صفة المجاملة الواقعية، فقد حرص رئيس وزراء العدو على الاستمرار في اجتياح المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية، واعتقال الفلسطينيين المطلوبين من إسرائيل أو اغتيالهم، وإبقاء الحواجز التي تعقّد حركة الفلسطينيين وتذلّهم وتمنعهم من تدبير أوضاعهم الاقتصادية، مع التحذير الشديد من أولمرت لعباس، من أنه إذا استأنف اتصالاته مع حركة حماس وأعاد التحالف الحكومي معها، فإن العملية السياسية الجارية الآن بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ستنهار.
وقد قالت إذاعة العدوّ إن أيّاً من المسائل الجوهرية، كالحدود والقدس واللاجئين، لم تطرح في الاجتماع، ولذلك فإن هذه القمة بين الذئب والضحية انتهت من دون نتائج فعلية، وهذا هو الذي يفسِّر موقف رئيس السلطة وأتباعه من رفض الحوار مع حركة حماس، لأنَّ هذا الترحيب الأمريكي والإسرائيلي والأوروبي والعربي بحكومة السلطة، كان ترحيباً بإخراج حماس من دائرة الضوء السياسي والتخطيط لإنهاء المقاومة ضد الاحتلال، كما حدث في توقيع كتائب شهداء الأقصى على رفض المواجهة مع العدوّ، والتمهيد لإنهاء المقاومة ضد الاحتلال.
إننا نرى في هذه التطورات في المسألة الفلسطينية، وفي الموقف الأمريكي والأوروبي والعربي، نذر خطر على مستقبل القضية، ولا سيما بعد اختيار رئيس الحكومة البريطاني السابق، بلير، رسولاً لإدارة الأمور في اللجنة الرباعية الدولية، لأن الجميع يخطّطون للخروج من المأزق الذي لا يزال يحيط بكلِّ الواقع الدولي والعربي في المنطقة كلها.
الواقع الإسلامي يخضع للابتزاز الأميركي:
ومن جانب آخر، فإن الواقع الإسلامي لا يزال يخضع للابتزاز من خلال المسؤولين الذين وظّفهم الاستكبار العالمي، وعلى رأسه أمريكا، لإسقاط كل حركة التحرر من الطغيان والاستبداد، تحت شعار الحرب ضد الإرهاب، الذي تحوّل إلى حرب أمريكية عالمية لمواجهة كل الذين يعارضون سياستها الاستكبارية التي تريد من خلالها أن تفرض إمبراطوريتها على العالم، ولا سيما على المستضعفين في العالم الثالث، بما في ذلك العالمين العربي والإسلامي. وهذا ما نواجهه في باكستان التي انطلق رئيسها للقيام بالمجزرة الرهيبة ضدَّ المدنيين من النّساء والأطفال والشيوخ في المسجد الأحمر، وهو ما صفَّق له الرئيس الأمريكي الّذي يؤيّد الرّئيس الباكستانيّ في تحويل الأوضاع في ذلك البلد المسلم إلى ما يشبه الفوضى الّتي بشَّر بها الرّئيس وش بعنوان الفوضى الخلاّقة، كما حدث ذلك من قبل في أفغانستان والعراق، وهما البلدان المسلمان اللَّذان تحوَّلت الأوضاع فيهما إلى مجازر وحشية متحرّكة يعاني منها المدنيون الأبرياء، في الوقت الذي تساقطت سياسة الإدارة الأمريكية والحلف الأطلسي تحت تأثير الفوضى الأمنية والسياسية والسقوط الاقتصادي للشعب كله، من خلال فقدان الخدمات الضرورية التي تمثل حياة الناس.
إننا نتابع حركة هذه الإدارة الشيطانية في تحويلها العالم الإسلامي إلى ساحة حرب من جهة، وفتنة من جهة ثانية، واضطراب في الأوضاع من جهة ثالثة، ونريد للعالم الإسلامي أن يقف بقوّة ضدّها، كما نريد لمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تجمع هذه الدول التي تنتمي إليها لمواجهة هذا القضم الأمريكي لمواقع المسلمين، والذي يهدد الواقع كلّه، ويدمر البلاد والعباد، لأنه لا بد من أن يرتفع الصوت عالياً في خط الرفض والمواجهة.
أما في لبنان، فقد عاد المؤتمرون في فرنسا بعدما التقوا في جلسة أوحت بجو من الهدنة، وكانت فرصةً لإيجاد مناخ من العواطف الساذجة، لينتظروا بعد عودتهم موعداً جديداً لمسؤول فرنسي لا ندري ماذا يملك من القدرة على حلّ المشكلة، وخصوصاً بعد التطورات السياسية الطارئة في موضوع النصاب وغيره...
إنَّ علينا أن نحدِّق ملياً في الموقف الأمريكي الذي بدأ يضع العراقيل أمام الحركة الفرنسية، لأنه لا يريد لأيِّ مسعى عربي أو غربي أن ينطلق بعيداً عن الحدود المرسومة أمريكياً، ولذلك فإن المسألة اللبنانية ستظل رهينة الأمريكيين الذين يعملون للالتفاف على مساعي الحلول من خلال السقف السياسي الذي يحدّدونه لهذا الفريق الدولي أو ذاك الفريق الإقليمي.
الأزمة اللبنانية: تعقيدات داخلية وخارجية:
إن مشكلة الأزمة اللبنانية هي أنّها ترتبط بأزمة المنطقة، ما يجعل الجهات الدولية والعربية المعنية بالعلاج، ترى أنّ المسألة بحاجة إلى مداخلات في أكثر من بلدٍ ممن تتّصل مصالحهم بحركة الواقع اللبناني في بعديه الداخلي والخارجي، ولا سيما أنَّ التعقيدات الأمنية والسياسية تتحرك في نسيجه الطائفي الذي ينطلق فيه القائمون على شؤون بعض الطوائف دينياً وسياسياً ليضعوا العصيّ في الدواليب حفاظاً على خصوصية طوائفهم في مواجهة الطوائف الأخرى، وذلك من خلال بعض الحساسيات الثقافية أو بعض الأوضاع الوظيفية، وخصوصاً بعد الذكرى السنوية للعدوان الصهيوني وانتصار المقاومة على جيشه في عملية استعادة للعنفوان العربي والإسلامي وصناعة جديدة للتاريخ، في الوقت الذي يتحدث بعض مسؤولي العدو عن التخطيط لحرب جديدة في المنطقة لاستعادة الهيبة لجيشه التي كان يتمتع بها سابقاً تحت مقولة الجيش الذي لا يقهر.
إننا إذ نثير هذه المسألة، قد لا نجد هناك فرصة واقعية لمثل هذه الحرب، سواء في لبنان أو في سوريا أو إيران، ولكننا لا بد من أن نأخذ بأسباب الحيطة والحذر، وأن نقف مع المقاومة التي تملك الكثير من الشجاعة والصلابة والخبرة والاستعداد لمواجهة التطورات في المنطقة كلها.