الدعوة بالحكمة والموعظة والجدال بالّتي هي أحسن...

الدعوة بالحكمة والموعظة والجدال بالّتي هي أحسن...

المنهج الإسلامي في حلّ النـزاعات والخلافات:
الدعوة بالحكمة والموعظة والجدال بالّتي هي أحسن...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل/125)، ويقول تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت/34-35).

الدّعوة إلى الله بالحكمة: يبيِّن الله تعالى في هذه الآيات منهج الدعوة والجدال بين الناس فيما يختلفون فيه، وكيف يعالجون المشاكل التي قد تحدث بينهم، والنتائج التي ينبغي أن يستهدفوها من خلال أسلوبهم في مواجهة هذه المشاكل.

في المجال الأول، في قضية الدعوة، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، فعندما تريد أن تدعو إلى طريق الله لتدفع الناس إلى الإيمان به، والالتزام بالإسلام، والسير على خطِّه المستقيم، فإنّ عليك أن تكون حكيماً في الدعوة. والحكمة هي أن تضع الشيء في موضعه؛ أن تدرس عقليات الناس، لأن لكل إنسان ذهنيته فيما يمكن لك أن تخاطبه وتقنعه، فبعض الناس قد يحتاج إلى الطريقة العقلية العلمية لأنه صاحب علم وعقل، وبعضهم قد يملك إحساساً وشعوراً وعاطفةً، فعليك أن تخاطبه بالأسلوب العاطفي الذي يفتح شعوره ويحرك إحساسه.

دراسة الواقع قبل الدّعوة

لا بد لك من أن تدرس المناخ الذي تحرِّك فيه الدعوة، فربما يكون المناخ غير ملائم، لأنّه هناك عصبية في المجتمع لا يتحمّل معها أن تثير رأياً غير الرأي الذي يأخذ به، أو أن تدعو إلى دين غير الدين الذي يؤمن به، وهذا ما لاحظناه مثلاً فيما أثير أخيراً من قِبَل بعض العلماء المسلمين في بعض المؤتمرات، من التحدّث بشكل سلبي مثير، عن أن الشيعة يعملون بأساليبهم وضغوطهم على إدخال السنّة في التشيّع، وهو ما تحدَّث به بعض العلماء في مصر وقطر والسعودية وما إلى ذلك، والواقع أن القضية لا أساس لها.

نحن نقول إنّ من حقِّ كلِّ صاحب فكر أن يدعو الآخرين إلى فكره، ونحن لم نناقش في وقت من الأوقات أن بعض السنّة يحاولون دعوة الشيعة إلى التسنُّن، لكن هذا الأمر أُثير لكي يخلق حساسيةً حادّة ضد الشيعة في العالم الإسلاميّ السنيّ، وخصوصاً في ظلِّ الأجواء التي تُثار بينهما، سواء في العراق، أو فيما زحف إلينا في لبنان، فما يعملون له هو محاولة إيجاد عناصر من الإثارة.

وفي الواقع، ليس عندنا فريق يخطِّط لذلك، قد يحاول شيعي أن يقنع سنياً بالتشيّع، والعكس كذلك، ولكن يبقى ذلك على مستوى فردي، وقد أُثير في لبنان سابقاً وفي غيره، أن المسلمين يدعون إلى الإسلام في المناطق المسيحية، ويريدون أن يؤسلموا المسيحيين، وثارت الثائرة في هذا المجال، مع أنّنا نعرف أنّ التبشير المسيحي يشمل العالم، من دون أن يثير المسلمون أي حالة حادة في هذا المجال.

لذلك، لا بدَّ للداعية من أن يدرس المناخ الّذي يريد الدّعوة فيه، حتى لا يحاول الآخرون إثارة مشاكل تعطّل حركة الدعوة من الأساس، ولا بد أيضاً من أن يدرس الواقع الاجتماعي هنا وهناك: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ـ والموعظة تمثِّل الخطَّ في الأسلوب والمضمون الذي يدخل إلى القلب والإحساس، بحيث ينفتح القلب لها ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ أما إذا حصل جدال بين الناس، سواء كان الجدال دينياً أو سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً، فإن الله يريد لنا أن يكون جدالنا بأفضل الأساليب، فلا نلجأ إلى السباب واللعن والإثارة، وإنما نخاطب الآخر الذي ندخل معه في جدال ديني أو مذهبي أو سياسي بطريقة نوحي له بأننا نحترم فكره كما ندعوه إلى أن يحترم فكرنا، أما إذا تحرك الجدال بالأساليب السلبية، فإنه لن يؤدِّي إلى نتيجة ـ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل/125).

وقد ركّز الله تعالى على الجدال مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ فليكن الجدال علمياً حضارياً إنسانياً لا يشعر فيه الآخر أنك تحتقره، بل عليك أن تقابل الفكر بالفكر، والنظرية بالنظرية بطريقة علمية ـ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ـ لأن الظالمين لا يأخذون بأسباب الحوار، وإنما يفرضون قوّتهم عليك ـ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(العنكبوت/46). ركّزوا على نقاط اللّقاء، وابدأوا الحوار على هذا الأساس.

العنف يعقِّد الأمور:

أما على مستوى الخلاف بين المسلمين، كما يختلف السنّة والشيعة في بعض القضايا التاريخية أو الفقهية أو الاختلاف في النظرة إلى الخلافة، فإن الله تعالى يؤكِّد الرجوع إلى كتاب الله وسنّة نبيّه(ص): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ـ ارجعوا إلى كتاب الله، وهو الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ وَالرَّسُولِ}(النساء/59).

أما على مستوى حلّ المشاكل، فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ـ وهي الأسلوب السلمي ـ وَلا السَّيِّئَةُ ـ وهي الأسلوب العنيف ـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ إذا واجهتك مشكلة، فادرس ما هي أفضل السبل للوصول إلى نتيجة إيجابية مع الإنسان الذي تختلف معه ـ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ـ حاول أن تتبع الأسلوب الذي يحوّل أعداءك إلى أصدقاء، ولكن هذه المسألة تحتاج إلى وعي وصبر ـ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت/34-35). وقد ورد في حديث رسول الله(ص) في نبذ العنف في الكلام، أنّه قال لزوجته أم المؤمنين عائشة: «يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سَوء، إنَّ الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلا زانه، ولم يُرفَع عنه قطّ إلا شانه». وقد كانت أخلاق رسول الله(ص) تنطلق بهذا الخط، والله تعالى يحدّثنا عنه(ص) فيقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران/159).

هذا هو الأسلوب الإسلامي الذي لا بدّ من أن نأخذ به في كلّ ما نختلف فيه، ولا سيّما إذا كان الذي نختلف حوله رأياً سياسياً هنا، أو رأياً سياسيّاً هناك، مما يمكن أن يتحاور فيه الفريقان ليقنع كل واحد منهما الآخر في المعطيات التي يقدّمها إليه، لأن الرأي السياسي لا يمثل أي قداسة حتى يدخل الإنسان في مسألة القداسة التي قد يرى أن الآخر يحطمها ولا يحترمها؛ الرأي السياسي هو رأي شخصي، إما أن يصير إليه الإنسان باجتهاده الفكري، وإما أن يصير إليه من خلال تقليده لزعاماته هنا أو لحزبياته هناك.

لذا، لا بدّ لنا، في خلافاتنا الفكريّة، من اتّباع الأسلوب الأحسن، لأنّ العنف لن يحلّ مشاكلنا، وقد لاحظنا أنّ الأزمة الّتي يعيشها البلد، قد دفعت الكثيرين من هنا وهناك إلى استعمال كل أساليب العنف ضد الإنسان الآخر، ولكنّ هذا العنف، مهما بلغت شدته، لن يوصل أي طرف إلى القناعة برأي الطرف الآخر، فلو فرضنا أن التابعين لهذا الفريق السياسي استعملوا العنف وأطلقوا الرصاص واستعملوا العصيّ ضدّ الآخرين، فهل يستطيعون أن يقنعوا الطرف الآخر برأيهم؟ إنهم سيزيدونه تعصباً، وهكذا الطرف الآخر، فالعنف لا يحلّ مشكلة، ولا سيما إذا كان العنف في وطن واحد ودين واحد، فنحن مسلمون، ولا يجوز لمسلم أن يقتل مسلماً أو أن يجرحه أو أن يعتدي عليه في دمه وماله وعرضه، ولا يجوز لمسلم أن يلعن مسلماً أو أن يشتمه.

ولذلك فإننا نعتبر أن ما حدث بالأمس يدل على أن الذين قاموا بما قاموا به من العنف ضد الآخرين بمبادرة منهم، هم أناس لم يأخذوا بأسباب الإسلام، ولا يفهمون الإسلام، ولا يلتزمون بأخلاقيته ومناقبيته، حتى ولو صاموا وصلّوا، فقيمة الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والاعتداء على الآخر منكر.

لذلك نحن نقول للمسلمين جميعاً، ولا سيما أن هناك من خارج الواقع الإسلامي من يوسوس لهم ويثيرهم ويريد لهم أن يعيشوا في فتنة مذهبية لا تنطلق من خلال الحوار فيما تختلف فيه المذاهب، بل تنطلق من خلال العنف والعداوة والبغضاء، نقول لهم إنّ هذا ما لا يقبل به الإسلام، فإن رسول الله(ص) يقول: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

بعض العلماء يثيرون الغرائز:

إننا نريد لكلِّ القائمين على التوجيه الديني والسياسي والوطني أن يثقّفوا شعبهم تثقيفاً إسلامياً أخلاقياً وطنياً، لأن ما نشهده من ردات الفعل الانفعالية يدلّ على أن الكثيرين ـ حتى من علماء الدين ـ يحاولون إثارة غرائز الناس ولا يحاولون إثارة عقولهم، ويحاولون ربط الناس بالجانب الغوغائي ولا يحاولون ربطهم بالجانب العقلاني، وقد قيل إن «الطبخة إذا فسُدت نصلحها بالملح»، والعلماء هم ملح المجتمع، أما إذا أصبحوا تابعين للسياسيين والقوى الخارجية التي تكيد للإسلام والمسلمين، فمن الذي يُصلح المجتمع؟

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من خلال مصلحة الإسلام والمسلمين، ومن خلال الانفتاح على الوحدة الإسلامية والمحبَّة والمودَّة بين المؤمنين، وقد قال رسول الله(ص): «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسهر». لذلك، لا بد لنا من أن نهتم بأمور المسلمين، ونثقّف أنفسنا بكلِّ القضايا والمشاكل التي تواجههم في اقتصادهم وسياستهم وأمنهم وما إلى ذلك، فماذا هناك؟

الخطة الأمريكية في العراق فاشلة:

في خطابه أمام الكونغرس، طالب الرئيس بوش أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي بالموافقة على خطته الأمنية في العراق في إرسال ما يزيد عن العشرين ألف جندي إضافي لتحقيق انتصاره السياسي والعسكري هناك، أمام الفشل الذي وقع فيه، والهزيمة التي ألـمّت بجنوده، كما طالبهم بدعم حربه ضد ما يسميه الإرهاب على مستوى العالم، على أساس أن ذلك هو الذي يمنح أمريكا الأمن ويمنع عنها الخطر.

ونحن نرى أنّ خطته العراقية لن تحقق أيِّ نجاح مهما تضاعفت أعداد جنوده، لأن إدارته العسكرية والأمنية هي التي تسببت بمآسي العراقيين المستمرة، كما أن إدارته السياسية للواقع هناك، لم تكن بمستوى حلّ مشاكل العراقيين الذين أصبحوا ـ من خلال احتلاله ـ أقل أمناً وأكثر فقراً وأشدّ بؤساً، كما أنه لم يمنح حكومة هذا البلد أية قوة مالية أو عسكرية بالدرجة التي تمكّنها من مواجهة التحديات في الوضع الأمني، بحيث يصبح قادراً على صدّ الهجمات الانتحارية والتفجيرية على المدنيين، أو أن يحلّ المشاكل الحياتية في الخدمات العامة للمواطنين هناك، هذا إضافة إلى أن الشعب العراقي الذي عاش بعضه الخديعة السياسية في تبرير الاحتلال، اكتشف أن أمريكا لم تدخل العراق لتحرره من نظام الطاغية لسواد عيونه، بل إنها دخلت من خلال الخطة الاستراتيجية لحماية مصالحها على مستوى المنطقة، ليكون العراق جسراً تعبر من خلاله إلى أكثر من بلدٍ مجاور، وتحرِّكه للضغط على أوروبا واليابان والصين وغيرها من خلال سيطرتها على نفط المنطقة، ولذلك فقد بدأت المقاومة العراقية الوطنية ضد الاحتلال بعيداً عن القوى التكفيرية الحاقدة، وسوف تتعاظم كلّما تقدّمت الأوضاع السلبية هناك.

الحرب ضد الإرهاب: خطة استراتيجية في تدمير المنطقة:

أمّا الحرب ضد الإرهاب، فإن مشكلة الرئيس بوش وإدارته، أن مفهومه للإرهاب يمتد إلى الشعوب الباحثة عن حريتها وأرضها واستقلالها، كالشعب الفلسطيني الذي اعتبر بوش انتفاضته حركةً إرهابية لا بد للمجتمع الدولي من أن يحاصرها سياسياً واقتصادياً، وكالشعب اللبناني الذي يقاوم من أجل تحرير أرضه ومواجهة العدوان الإسرائيلي الذي فرض الدمار على لبنان على مدى ما يزيد عن ثلاثة عقود، ولا يزال يشكل الخطر الكبير على أمنه وسلامته وسياسته تحت تأثير التحالف مع أمريكا، التي تعتبر الدول التي تساند حرية هذين الشعبين كسوريا وإيران، دولاً داعمة للإرهاب، بحيث يفرض عليها الكثير من الحصار الاقتصادي والعقوبات المتنوّعة.

إن الملاحظ في سياسة الإدارة الأمريكية، أنَّ الحرب على الإرهاب تتحرك في المنطقة العربية والإسلامية انطلاقاً من الخطة الاستراتيجية لتدمير هاتين المنطقتين ومصادرة أوضاعهما، بالتدخل في شؤونهما الداخلية على مستوى الأمن والاقتصاد والسياسة، حتى إنها أخضعت أكثر هذه البلدان لخطوطها المتنوعة، بحيث لم يعد لكثير منها أية حرية في إصدار القرارات الحرة المستقلة في قضاياها الوطنية والقومية، الأمر الذي جعل الواقع العربي والإسلامي في حال شلل سياسي، بل بات القائمون على شؤونه ينتظرون التعليمات الصادرة من الإدارة الأمريكية، وهذا ما نلاحظه في الموقف من القضية الفلسطينية، بعدما منحت واشنطن إسرائيل كل القدرات في الضغط على الشعب الفلسطيني ومصادرة أراضيه بالمستوطنات والجدار العنصري الفاصل والسيطرة على القدس، بما يهدد المسجد الأقصى، والاستمرار في الاغتيالات والاعتقالات والحصار الاقتصادي والتدمير للبنية التحتية، وإرباك الواقع الداخلي الذي تتهدده الحرب الأهلية بين وقت وآخر...

ثم يتحرك مندوب من هنا ووزيرة من هناك وموفد دولي أوروبي أو أمريكي، ليتحدث عن خارطة الطريق وعن السلام من دون أية جدية سياسية، بل هو تضييع للوقت وتخدير للواقع، لأن الخطة الأمريكية الإسرائيلية ترمي إلى تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية في إدخال القضية الفلسطينية في المتاهات. ولذلك فإننا ندعو شعوبنا العربية والإسلامية، ولاسيما الشعب الفلسطيني واللبناني والعراقي والأفغاني، إلى أن يقف ضد السياسة الأمريكية في حركتها السياسية، وفي مصالحها الاستكبارية، وفي خططها الاستراتيجية، لأنهم لن يحصلوا على أي خيرٍ من ذلك كله.

إيران تريد الانفتاح على دول المنطقة:

ومن جانب آخر، فإن المسؤول الأمريكي قال ـ في تصريح له ـ إن إيران التي تسعى إلى فرض نفسها في الشرق الأوسط، يجب أن تفهم أن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة، كما هو الأمر بالنسبة إلى الدول العربية والأوروبية، وأنه لا حقّ لإيران في السيطرة على الشرق الأوسط ومياه الخليج، وهذا هو سبب إرسال الولايات المتحدة الأمريكية حاملتي الطائرات لمنع إيران من السيطرة على المنطقة.

إننا نقول لهذا المسؤول الأمريكي، إن إيران لا تريد ولا تملك القدرة على السيطرة على المنطقة ومياه الخليج، ولكنها تريد الانفتاح على دول المنطقة، ولاسيما دول الخليج، وإيجاد قاعدة للأمن المشترك، كما أنها لا تريد للاحتلال الأمريكي في العراق أن يترك تأثيره السلبي على أمنها وسياستها واقتصادها، وأن يصادر مشروعها النووي السلمي تحت تأثير كذبة أمريكية معتادة في اتهامها بمشروع السلاح النووي.

إننا لا نريد الدفاع عن إيران، بل إننا نتساءل: هل من حق أمريكا الحفاظ على مصالحها من دون أن يكون للمنطقة الحق في المحافظة على مصالحها؟ ومن الذي أعطى أمريكا الشرعية في السيطرة على العالم، ولاسيما منطقة الشرق الأوسط، لتفرض نفسها على هذه الدولة أو تلك، وتمارس العقوبات المختلفة عليها؟ إنها الشرّ كله والخراب كله والفوضى كلها... وعلى الشعوب أن تفهم ذلك كله، وخصوصاً الشعب الفلسطيني، الذي نريد منه الدخول في مصالحة سياسية، والشعب العراقي الذي يواجه كل المجازر الوحشية، ولاسيما مجزرة سوق الهرج التي اجتاحت أكثر العراقيين فقراً، بعد مجزرة الطلاب وأساتذة الجامعات في المستنصرية، ليتوحَّد في وطنيته وإسلامه بعيداً عن العصبيات الطائفية والمذهبية والذهنيات التكفيرية، من أجل بناء عراق المستقبل على قاعدة ثابتة.

لبنان: تدخل دولي وعربي فاضح:

أمَّا في لبنان، فإننا نلاحظ أن هناك تدخلاً مفضوحاً من القوى الدولية والعربية في شؤونه الداخلية، تحت عنوان تأييد حكومته، ما يوحي بأنها تحولت إلى فريق سياسي محلي داخلي، فنحن نلاحظ أن الخطاب السياسي لهذا الفريق، كما يبدو في مداخلاتهم كلِّها، لا يدرس المطالب الشعبية التي تتمثل في أوسع الجماهير، ولا يدرس حاجاتها، ولا يدقّق في طبيعة الميثاق اللبناني في بنوده الدستورية، ولا يحاول البحث عن آلية واقعية لحلِّ مشاكل هذا البلد.

إننا نخشى أن تتحرَّك التدخلات الخارجية لتزيد حالة الشعب اللبناني سوءاً على سوء، لأن كل دولة تبحث عن مصالحها لا عن المصالح الحقيقية للبنانيين، فالدول ليست جمعيات خيرية لمساعدة الشعوب، ولاسيما أمريكا التي تريد أن تجعل من لبنان ساحةً لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير في المنطقة، وذلك من خلال الضغط على أكثر من موقع سياسي داخلي أو خارجي، انطلاقاً مما تخطط له في مصالحها ضد فريق الحرية الذي يريد لبنان حراً قوياً عادلاً مستقلاً، ويريد لشعبه أن يحصل على نظام المواطنة التي يتساوى فيها اللبنانيون في الحقوق والواجبات، من خلال حكم يحترم شعبه، وينفتح على قضاياه المحقة، ويستمع إلى صرخاته وحاجاته، قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

التقاتل من أعظم المحرَّمات:

وأخيراً، إنني أقول للبنانيين جميعاً، إنّ الخروج من دائرة الخلاف السياسي إلى دائرة التقاتل الأمني، هو من أعظم المحرّمات، وإن الكلام الانفعالي الذي يمثّل مادةً للإثارة، ويتحوَّل إلى نارٍ تأكل الهشيم اللبناني، هو من أخطر الأمور، ولذلك نقول للسياسيين جميعاً: إمّا أن تتحدّثوا بكلمات الوحدة والدعوة إلى الحوار والوئام، وإما أن تكفّوا عن الكلام.

أيُّها الناس: إن لبنان الحرية والعزّة والكرامة، لبنان الذي هزم إسرائيل، بات على مفترق طرق خطير، فلا يتنصَّلنّ أحدٌ من مسؤولياته في الخطاب والفعل والحركة.

المنهج الإسلامي في حلّ النـزاعات والخلافات:
الدعوة بالحكمة والموعظة والجدال بالّتي هي أحسن...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل/125)، ويقول تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت/34-35).

الدّعوة إلى الله بالحكمة: يبيِّن الله تعالى في هذه الآيات منهج الدعوة والجدال بين الناس فيما يختلفون فيه، وكيف يعالجون المشاكل التي قد تحدث بينهم، والنتائج التي ينبغي أن يستهدفوها من خلال أسلوبهم في مواجهة هذه المشاكل.

في المجال الأول، في قضية الدعوة، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، فعندما تريد أن تدعو إلى طريق الله لتدفع الناس إلى الإيمان به، والالتزام بالإسلام، والسير على خطِّه المستقيم، فإنّ عليك أن تكون حكيماً في الدعوة. والحكمة هي أن تضع الشيء في موضعه؛ أن تدرس عقليات الناس، لأن لكل إنسان ذهنيته فيما يمكن لك أن تخاطبه وتقنعه، فبعض الناس قد يحتاج إلى الطريقة العقلية العلمية لأنه صاحب علم وعقل، وبعضهم قد يملك إحساساً وشعوراً وعاطفةً، فعليك أن تخاطبه بالأسلوب العاطفي الذي يفتح شعوره ويحرك إحساسه.

دراسة الواقع قبل الدّعوة

لا بد لك من أن تدرس المناخ الذي تحرِّك فيه الدعوة، فربما يكون المناخ غير ملائم، لأنّه هناك عصبية في المجتمع لا يتحمّل معها أن تثير رأياً غير الرأي الذي يأخذ به، أو أن تدعو إلى دين غير الدين الذي يؤمن به، وهذا ما لاحظناه مثلاً فيما أثير أخيراً من قِبَل بعض العلماء المسلمين في بعض المؤتمرات، من التحدّث بشكل سلبي مثير، عن أن الشيعة يعملون بأساليبهم وضغوطهم على إدخال السنّة في التشيّع، وهو ما تحدَّث به بعض العلماء في مصر وقطر والسعودية وما إلى ذلك، والواقع أن القضية لا أساس لها.

نحن نقول إنّ من حقِّ كلِّ صاحب فكر أن يدعو الآخرين إلى فكره، ونحن لم نناقش في وقت من الأوقات أن بعض السنّة يحاولون دعوة الشيعة إلى التسنُّن، لكن هذا الأمر أُثير لكي يخلق حساسيةً حادّة ضد الشيعة في العالم الإسلاميّ السنيّ، وخصوصاً في ظلِّ الأجواء التي تُثار بينهما، سواء في العراق، أو فيما زحف إلينا في لبنان، فما يعملون له هو محاولة إيجاد عناصر من الإثارة.

وفي الواقع، ليس عندنا فريق يخطِّط لذلك، قد يحاول شيعي أن يقنع سنياً بالتشيّع، والعكس كذلك، ولكن يبقى ذلك على مستوى فردي، وقد أُثير في لبنان سابقاً وفي غيره، أن المسلمين يدعون إلى الإسلام في المناطق المسيحية، ويريدون أن يؤسلموا المسيحيين، وثارت الثائرة في هذا المجال، مع أنّنا نعرف أنّ التبشير المسيحي يشمل العالم، من دون أن يثير المسلمون أي حالة حادة في هذا المجال.

لذلك، لا بدَّ للداعية من أن يدرس المناخ الّذي يريد الدّعوة فيه، حتى لا يحاول الآخرون إثارة مشاكل تعطّل حركة الدعوة من الأساس، ولا بد أيضاً من أن يدرس الواقع الاجتماعي هنا وهناك: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ـ والموعظة تمثِّل الخطَّ في الأسلوب والمضمون الذي يدخل إلى القلب والإحساس، بحيث ينفتح القلب لها ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ أما إذا حصل جدال بين الناس، سواء كان الجدال دينياً أو سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً، فإن الله يريد لنا أن يكون جدالنا بأفضل الأساليب، فلا نلجأ إلى السباب واللعن والإثارة، وإنما نخاطب الآخر الذي ندخل معه في جدال ديني أو مذهبي أو سياسي بطريقة نوحي له بأننا نحترم فكره كما ندعوه إلى أن يحترم فكرنا، أما إذا تحرك الجدال بالأساليب السلبية، فإنه لن يؤدِّي إلى نتيجة ـ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل/125).

وقد ركّز الله تعالى على الجدال مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ فليكن الجدال علمياً حضارياً إنسانياً لا يشعر فيه الآخر أنك تحتقره، بل عليك أن تقابل الفكر بالفكر، والنظرية بالنظرية بطريقة علمية ـ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ـ لأن الظالمين لا يأخذون بأسباب الحوار، وإنما يفرضون قوّتهم عليك ـ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(العنكبوت/46). ركّزوا على نقاط اللّقاء، وابدأوا الحوار على هذا الأساس.

العنف يعقِّد الأمور:

أما على مستوى الخلاف بين المسلمين، كما يختلف السنّة والشيعة في بعض القضايا التاريخية أو الفقهية أو الاختلاف في النظرة إلى الخلافة، فإن الله تعالى يؤكِّد الرجوع إلى كتاب الله وسنّة نبيّه(ص): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ـ ارجعوا إلى كتاب الله، وهو الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ وَالرَّسُولِ}(النساء/59).

أما على مستوى حلّ المشاكل، فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ـ وهي الأسلوب السلمي ـ وَلا السَّيِّئَةُ ـ وهي الأسلوب العنيف ـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ إذا واجهتك مشكلة، فادرس ما هي أفضل السبل للوصول إلى نتيجة إيجابية مع الإنسان الذي تختلف معه ـ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ـ حاول أن تتبع الأسلوب الذي يحوّل أعداءك إلى أصدقاء، ولكن هذه المسألة تحتاج إلى وعي وصبر ـ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت/34-35). وقد ورد في حديث رسول الله(ص) في نبذ العنف في الكلام، أنّه قال لزوجته أم المؤمنين عائشة: «يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سَوء، إنَّ الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلا زانه، ولم يُرفَع عنه قطّ إلا شانه». وقد كانت أخلاق رسول الله(ص) تنطلق بهذا الخط، والله تعالى يحدّثنا عنه(ص) فيقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران/159).

هذا هو الأسلوب الإسلامي الذي لا بدّ من أن نأخذ به في كلّ ما نختلف فيه، ولا سيّما إذا كان الذي نختلف حوله رأياً سياسياً هنا، أو رأياً سياسيّاً هناك، مما يمكن أن يتحاور فيه الفريقان ليقنع كل واحد منهما الآخر في المعطيات التي يقدّمها إليه، لأن الرأي السياسي لا يمثل أي قداسة حتى يدخل الإنسان في مسألة القداسة التي قد يرى أن الآخر يحطمها ولا يحترمها؛ الرأي السياسي هو رأي شخصي، إما أن يصير إليه الإنسان باجتهاده الفكري، وإما أن يصير إليه من خلال تقليده لزعاماته هنا أو لحزبياته هناك.

لذا، لا بدّ لنا، في خلافاتنا الفكريّة، من اتّباع الأسلوب الأحسن، لأنّ العنف لن يحلّ مشاكلنا، وقد لاحظنا أنّ الأزمة الّتي يعيشها البلد، قد دفعت الكثيرين من هنا وهناك إلى استعمال كل أساليب العنف ضد الإنسان الآخر، ولكنّ هذا العنف، مهما بلغت شدته، لن يوصل أي طرف إلى القناعة برأي الطرف الآخر، فلو فرضنا أن التابعين لهذا الفريق السياسي استعملوا العنف وأطلقوا الرصاص واستعملوا العصيّ ضدّ الآخرين، فهل يستطيعون أن يقنعوا الطرف الآخر برأيهم؟ إنهم سيزيدونه تعصباً، وهكذا الطرف الآخر، فالعنف لا يحلّ مشكلة، ولا سيما إذا كان العنف في وطن واحد ودين واحد، فنحن مسلمون، ولا يجوز لمسلم أن يقتل مسلماً أو أن يجرحه أو أن يعتدي عليه في دمه وماله وعرضه، ولا يجوز لمسلم أن يلعن مسلماً أو أن يشتمه.

ولذلك فإننا نعتبر أن ما حدث بالأمس يدل على أن الذين قاموا بما قاموا به من العنف ضد الآخرين بمبادرة منهم، هم أناس لم يأخذوا بأسباب الإسلام، ولا يفهمون الإسلام، ولا يلتزمون بأخلاقيته ومناقبيته، حتى ولو صاموا وصلّوا، فقيمة الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والاعتداء على الآخر منكر.

لذلك نحن نقول للمسلمين جميعاً، ولا سيما أن هناك من خارج الواقع الإسلامي من يوسوس لهم ويثيرهم ويريد لهم أن يعيشوا في فتنة مذهبية لا تنطلق من خلال الحوار فيما تختلف فيه المذاهب، بل تنطلق من خلال العنف والعداوة والبغضاء، نقول لهم إنّ هذا ما لا يقبل به الإسلام، فإن رسول الله(ص) يقول: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

بعض العلماء يثيرون الغرائز:

إننا نريد لكلِّ القائمين على التوجيه الديني والسياسي والوطني أن يثقّفوا شعبهم تثقيفاً إسلامياً أخلاقياً وطنياً، لأن ما نشهده من ردات الفعل الانفعالية يدلّ على أن الكثيرين ـ حتى من علماء الدين ـ يحاولون إثارة غرائز الناس ولا يحاولون إثارة عقولهم، ويحاولون ربط الناس بالجانب الغوغائي ولا يحاولون ربطهم بالجانب العقلاني، وقد قيل إن «الطبخة إذا فسُدت نصلحها بالملح»، والعلماء هم ملح المجتمع، أما إذا أصبحوا تابعين للسياسيين والقوى الخارجية التي تكيد للإسلام والمسلمين، فمن الذي يُصلح المجتمع؟

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من خلال مصلحة الإسلام والمسلمين، ومن خلال الانفتاح على الوحدة الإسلامية والمحبَّة والمودَّة بين المؤمنين، وقد قال رسول الله(ص): «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسهر». لذلك، لا بد لنا من أن نهتم بأمور المسلمين، ونثقّف أنفسنا بكلِّ القضايا والمشاكل التي تواجههم في اقتصادهم وسياستهم وأمنهم وما إلى ذلك، فماذا هناك؟

الخطة الأمريكية في العراق فاشلة:

في خطابه أمام الكونغرس، طالب الرئيس بوش أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي بالموافقة على خطته الأمنية في العراق في إرسال ما يزيد عن العشرين ألف جندي إضافي لتحقيق انتصاره السياسي والعسكري هناك، أمام الفشل الذي وقع فيه، والهزيمة التي ألـمّت بجنوده، كما طالبهم بدعم حربه ضد ما يسميه الإرهاب على مستوى العالم، على أساس أن ذلك هو الذي يمنح أمريكا الأمن ويمنع عنها الخطر.

ونحن نرى أنّ خطته العراقية لن تحقق أيِّ نجاح مهما تضاعفت أعداد جنوده، لأن إدارته العسكرية والأمنية هي التي تسببت بمآسي العراقيين المستمرة، كما أن إدارته السياسية للواقع هناك، لم تكن بمستوى حلّ مشاكل العراقيين الذين أصبحوا ـ من خلال احتلاله ـ أقل أمناً وأكثر فقراً وأشدّ بؤساً، كما أنه لم يمنح حكومة هذا البلد أية قوة مالية أو عسكرية بالدرجة التي تمكّنها من مواجهة التحديات في الوضع الأمني، بحيث يصبح قادراً على صدّ الهجمات الانتحارية والتفجيرية على المدنيين، أو أن يحلّ المشاكل الحياتية في الخدمات العامة للمواطنين هناك، هذا إضافة إلى أن الشعب العراقي الذي عاش بعضه الخديعة السياسية في تبرير الاحتلال، اكتشف أن أمريكا لم تدخل العراق لتحرره من نظام الطاغية لسواد عيونه، بل إنها دخلت من خلال الخطة الاستراتيجية لحماية مصالحها على مستوى المنطقة، ليكون العراق جسراً تعبر من خلاله إلى أكثر من بلدٍ مجاور، وتحرِّكه للضغط على أوروبا واليابان والصين وغيرها من خلال سيطرتها على نفط المنطقة، ولذلك فقد بدأت المقاومة العراقية الوطنية ضد الاحتلال بعيداً عن القوى التكفيرية الحاقدة، وسوف تتعاظم كلّما تقدّمت الأوضاع السلبية هناك.

الحرب ضد الإرهاب: خطة استراتيجية في تدمير المنطقة:

أمّا الحرب ضد الإرهاب، فإن مشكلة الرئيس بوش وإدارته، أن مفهومه للإرهاب يمتد إلى الشعوب الباحثة عن حريتها وأرضها واستقلالها، كالشعب الفلسطيني الذي اعتبر بوش انتفاضته حركةً إرهابية لا بد للمجتمع الدولي من أن يحاصرها سياسياً واقتصادياً، وكالشعب اللبناني الذي يقاوم من أجل تحرير أرضه ومواجهة العدوان الإسرائيلي الذي فرض الدمار على لبنان على مدى ما يزيد عن ثلاثة عقود، ولا يزال يشكل الخطر الكبير على أمنه وسلامته وسياسته تحت تأثير التحالف مع أمريكا، التي تعتبر الدول التي تساند حرية هذين الشعبين كسوريا وإيران، دولاً داعمة للإرهاب، بحيث يفرض عليها الكثير من الحصار الاقتصادي والعقوبات المتنوّعة.

إن الملاحظ في سياسة الإدارة الأمريكية، أنَّ الحرب على الإرهاب تتحرك في المنطقة العربية والإسلامية انطلاقاً من الخطة الاستراتيجية لتدمير هاتين المنطقتين ومصادرة أوضاعهما، بالتدخل في شؤونهما الداخلية على مستوى الأمن والاقتصاد والسياسة، حتى إنها أخضعت أكثر هذه البلدان لخطوطها المتنوعة، بحيث لم يعد لكثير منها أية حرية في إصدار القرارات الحرة المستقلة في قضاياها الوطنية والقومية، الأمر الذي جعل الواقع العربي والإسلامي في حال شلل سياسي، بل بات القائمون على شؤونه ينتظرون التعليمات الصادرة من الإدارة الأمريكية، وهذا ما نلاحظه في الموقف من القضية الفلسطينية، بعدما منحت واشنطن إسرائيل كل القدرات في الضغط على الشعب الفلسطيني ومصادرة أراضيه بالمستوطنات والجدار العنصري الفاصل والسيطرة على القدس، بما يهدد المسجد الأقصى، والاستمرار في الاغتيالات والاعتقالات والحصار الاقتصادي والتدمير للبنية التحتية، وإرباك الواقع الداخلي الذي تتهدده الحرب الأهلية بين وقت وآخر...

ثم يتحرك مندوب من هنا ووزيرة من هناك وموفد دولي أوروبي أو أمريكي، ليتحدث عن خارطة الطريق وعن السلام من دون أية جدية سياسية، بل هو تضييع للوقت وتخدير للواقع، لأن الخطة الأمريكية الإسرائيلية ترمي إلى تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية في إدخال القضية الفلسطينية في المتاهات. ولذلك فإننا ندعو شعوبنا العربية والإسلامية، ولاسيما الشعب الفلسطيني واللبناني والعراقي والأفغاني، إلى أن يقف ضد السياسة الأمريكية في حركتها السياسية، وفي مصالحها الاستكبارية، وفي خططها الاستراتيجية، لأنهم لن يحصلوا على أي خيرٍ من ذلك كله.

إيران تريد الانفتاح على دول المنطقة:

ومن جانب آخر، فإن المسؤول الأمريكي قال ـ في تصريح له ـ إن إيران التي تسعى إلى فرض نفسها في الشرق الأوسط، يجب أن تفهم أن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة، كما هو الأمر بالنسبة إلى الدول العربية والأوروبية، وأنه لا حقّ لإيران في السيطرة على الشرق الأوسط ومياه الخليج، وهذا هو سبب إرسال الولايات المتحدة الأمريكية حاملتي الطائرات لمنع إيران من السيطرة على المنطقة.

إننا نقول لهذا المسؤول الأمريكي، إن إيران لا تريد ولا تملك القدرة على السيطرة على المنطقة ومياه الخليج، ولكنها تريد الانفتاح على دول المنطقة، ولاسيما دول الخليج، وإيجاد قاعدة للأمن المشترك، كما أنها لا تريد للاحتلال الأمريكي في العراق أن يترك تأثيره السلبي على أمنها وسياستها واقتصادها، وأن يصادر مشروعها النووي السلمي تحت تأثير كذبة أمريكية معتادة في اتهامها بمشروع السلاح النووي.

إننا لا نريد الدفاع عن إيران، بل إننا نتساءل: هل من حق أمريكا الحفاظ على مصالحها من دون أن يكون للمنطقة الحق في المحافظة على مصالحها؟ ومن الذي أعطى أمريكا الشرعية في السيطرة على العالم، ولاسيما منطقة الشرق الأوسط، لتفرض نفسها على هذه الدولة أو تلك، وتمارس العقوبات المختلفة عليها؟ إنها الشرّ كله والخراب كله والفوضى كلها... وعلى الشعوب أن تفهم ذلك كله، وخصوصاً الشعب الفلسطيني، الذي نريد منه الدخول في مصالحة سياسية، والشعب العراقي الذي يواجه كل المجازر الوحشية، ولاسيما مجزرة سوق الهرج التي اجتاحت أكثر العراقيين فقراً، بعد مجزرة الطلاب وأساتذة الجامعات في المستنصرية، ليتوحَّد في وطنيته وإسلامه بعيداً عن العصبيات الطائفية والمذهبية والذهنيات التكفيرية، من أجل بناء عراق المستقبل على قاعدة ثابتة.

لبنان: تدخل دولي وعربي فاضح:

أمَّا في لبنان، فإننا نلاحظ أن هناك تدخلاً مفضوحاً من القوى الدولية والعربية في شؤونه الداخلية، تحت عنوان تأييد حكومته، ما يوحي بأنها تحولت إلى فريق سياسي محلي داخلي، فنحن نلاحظ أن الخطاب السياسي لهذا الفريق، كما يبدو في مداخلاتهم كلِّها، لا يدرس المطالب الشعبية التي تتمثل في أوسع الجماهير، ولا يدرس حاجاتها، ولا يدقّق في طبيعة الميثاق اللبناني في بنوده الدستورية، ولا يحاول البحث عن آلية واقعية لحلِّ مشاكل هذا البلد.

إننا نخشى أن تتحرَّك التدخلات الخارجية لتزيد حالة الشعب اللبناني سوءاً على سوء، لأن كل دولة تبحث عن مصالحها لا عن المصالح الحقيقية للبنانيين، فالدول ليست جمعيات خيرية لمساعدة الشعوب، ولاسيما أمريكا التي تريد أن تجعل من لبنان ساحةً لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير في المنطقة، وذلك من خلال الضغط على أكثر من موقع سياسي داخلي أو خارجي، انطلاقاً مما تخطط له في مصالحها ضد فريق الحرية الذي يريد لبنان حراً قوياً عادلاً مستقلاً، ويريد لشعبه أن يحصل على نظام المواطنة التي يتساوى فيها اللبنانيون في الحقوق والواجبات، من خلال حكم يحترم شعبه، وينفتح على قضاياه المحقة، ويستمع إلى صرخاته وحاجاته، قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

التقاتل من أعظم المحرَّمات:

وأخيراً، إنني أقول للبنانيين جميعاً، إنّ الخروج من دائرة الخلاف السياسي إلى دائرة التقاتل الأمني، هو من أعظم المحرّمات، وإن الكلام الانفعالي الذي يمثّل مادةً للإثارة، ويتحوَّل إلى نارٍ تأكل الهشيم اللبناني، هو من أخطر الأمور، ولذلك نقول للسياسيين جميعاً: إمّا أن تتحدّثوا بكلمات الوحدة والدعوة إلى الحوار والوئام، وإما أن تكفّوا عن الكلام.

أيُّها الناس: إن لبنان الحرية والعزّة والكرامة، لبنان الذي هزم إسرائيل، بات على مفترق طرق خطير، فلا يتنصَّلنّ أحدٌ من مسؤولياته في الخطاب والفعل والحركة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية