مزيداً من الوعي والصبر والصمود في خط الحرية والكرامة

مزيداً من الوعي والصبر والصمود في خط الحرية والكرامة

مزيداً من الوعي والصبر والصمود
في خط الحرية والكرامة


في أول إطلالة علنية له، ألقى سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشد كبير من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:

في هذه الجمعة المباركة، نتذكر كل شبابنا الذين كانوا الورود المتفتّحة في ربيع الأمة؛ شبابنا المؤمن الذي كان يصلي معنا، ويصوم معنا، ويدعو معنا، ويعيش معنا، ولا يزالون معنا في عقولنا وقلوبنا، مع الأمة كلها التي رفعوا رأسها عالياً أمام العالم، ولأرواح هؤلاء الشهداء نقرأ الفاتحة.

الصبر مسيرة الأنبياء

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (البقرة:155-157)، ويقول سبحانه: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران:142)، ويقول تعالى: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور} (آل عمران:186).

لم يؤكِّد الله تعالى أهميّة أية قيمة روحية وأخلاقية إنسانية كما أكّد أهميّة قيمة الصبر، ولذلك فإنّه سبحانه لم يعط من الأجر والثواب على أية قيمة كما أعطى على الصبر، وقال تعالى: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزّمر:10)، فكل حسنة لها أجرها المحدود: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام:160)، ولكن أجر الصبر لا حدود له، ويقول الإمام الباقر(ع): "كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله".

لذلك، كانت مسيرة هذه الأمة في كل تاريخها، منذ زمن الرسول(ص) والذين معه، الذين كانوا أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، وأهل البيت(ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، كانت مسيرة الصبر، فهم الذين كانوا يصبرون في البأساء عندما كانوا يربطون أحجار المجاعة على بطونهم، وكانوا يصبرون في الضرّاء عندما يعيشون المشاكل الصحية، وكانوا يصبرون حين البأس، عندما كانوا يواجهون العدو من موقع الجهاد بكل مواقع القوة والشجاعة والصلابة والإخلاص.

من هنا، كان الصبر هو العنوان الكبير لكل مسيرة النبي(ص) في الدعوة، عندما واجهه المشركون بكل أنواع الأذى، حتى قال(ص): "ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت"، وكان الصبر هو الطابع الذي انطلق به(ص) في هجرته وحركته وحربه وسلمه، وكان الصبر هو ما عاشه وصيّه وخليفته من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، حيث صبر على أقسى ما يصبر عليه إنسان، عندما أُبعد عن حقه، لأنّ مصلحة المسلمين كانت نصب عينيه؛ لم تكن ذاته أمامه، ولكن الإسلام كان أمامه، ولذلك قال(ع): "لأُسلمنّ ـ أو لأسالمن ـ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة". وقد صبر الصبر الصعب، حين انطلق في مصلحة الإسلام والمسلمين، يحمي الذين تقدّموه وأبعدوه، برأيه وموقفه ومشاركته. وانطلق ليواجه كلّ ما اعترضه من مشاكل بالصبر، عندما وضعوا الأشواك في طريقه، ومنعوه من أن ينفّذ كل خططه في الحكم. وكذلك صبر أبناؤه الحسن(ع) والحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه، والأئمة من أهل البيت(ع).

وقيمة الصبر أنه يمنع الناس من أن يسقطوا أمام التحديات، وأنه يساعد الأمة على أن تعيش الوعي لكل ما يواجهها، لأن الإنسان إذا أصيب بالجزع، وسيطرت عليه الآلام التي تسقطه، فإنه لا يستطيع أن يفكر، ولا أن يخطط، ولا أن يواجه التحديات الكبرى. لذا، فإنّ الصبر ليس ضعفاً ولا سقوطاً، والله تعالى يقول: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} (لقمان:17)؛ الصبر الواعي المنفتح المفكّر المخطط، هو الذي يجعل الأمة تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي.

الصبر طريق إلى الحرية والاستقلال

ولا تزال الأمة؛ أمة الإسلام، تعيش التحديات من الكافرين والمستكبرين والظالمين، وقد سقط البعض، ولكن الأكثرية في الأمة وقفت، وهذا البلد كان عنوان الأمة في كل جهاده وتحدّيه وردّ التحدي، إذ أرادت إسرائيل السيطرة على الأمة واستغلالها من خلاله، وأرادت أمريكا أن تحوّل لبنان إلى قاعدة لنفوذها وسياستها، وإلى ساحة تحاول فيها العبث بالمنطقة، ولكن اللبنانيين الأحرار، ولاسيما أهل جبل عامل والبقاع، انطلقوا ليواجهوا كل خطط أمريكا، وكل تحديات إسرائيل، ليعطوا لبنان من صبرهم وصمودهم وإيمان شبابهم وبطولاتهم وصلابتهم معنى الحرية، لم يسبق للبنان أن عاش عمق الحرية قبل تجربة هؤلاء الشباب في مرحلة ما قبل العام 2000 وفي تجربة هذا العام.

إن الاستقلال الذي عرفه اللبنانيون من قبل، لم تسقط فيه قطرة من دم، ولكن هذا الاستقلال الجديد، صنعته الحرية العظيمة المشرقة، ولأول مرة في تاريخه، تحوّلت فيه الدماء؛ دماء أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا، إلى أنهار يستقي منها العالم العربي والإسلامي والعالم الحر كل ريّ الحرية.

يا أبناءنا، يا إخواننا: لقد هُدّمت البيوت على رؤوس أهلها من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، لقد جُرفت هذه الدور، وشُرِّد الناس من بيوتهم، وعرفوا معنى أمريكا وإسرائيل، ولكن كل واحد منكم بقي واقفاً رافع الرأس، أرادوا من الناس أن يتنكّروا للمقاومة، وأن يخرجوا زرافاتٍ ووحداناً من القرى والمدن ليتظاهروا ضد المقاومة، أرادوا أن يقنعوهم بأن المقاومة هي سبب الحرب ليبرّئوا إسرائيل، ولا يزال هناك في لبنان من يتحدث بلغة إسرائيل، ويحمّل المقاومة مسؤولية الحرب، ولكن الناس كانت في أعلى درجات الوعي، وإننا نحترم وعي الناس الذين يتفقدون بيوتهم المهدّمة وقراهم المنكوبة، ويؤكدون وقوفهم مع المقاومة. هذه هي القوة، قوة الصبر، كونوا الواعين الصابرين، كونوا الصامدين، أكملوا المسيرة وارفضوا كل من يريد أن يقف حاجزاً بينكم وبين مواقف العزة والكرامة، لأن الله تعالى أراد لنا أن نكون أعزاء: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون:8)، وإن عليّاً(ع) قال لكل واحد منا: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".

لذلك، يا أحباءنا، يا أهلنا، يا إخواننا، يا أبناءنا: أكملوا المسيرة، ولتفهم أمريكا وإسرائيل وكل هذا العالم المستكبر، بأننا نبقى مع الحرية، لا الحرية التي يتحدث بها رئيس أمريكا، ولكن الحرية التي هي من عمق إسلامنا وعروبتنا وإنسانيتنا. إن المسألة هي أن نبقى صامدين صابرين، وسوف يطلع لنا من خلال كل هذه المآسي الفجر؛ فجر الإنسان الحرّ والمؤمن: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:139)، {إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران:140)، {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} (النساء:104).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد: {إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)، سواء كان القتال قتالاً عسكرياً، أو كان القتال سياسياً أو أمنياً. إن علينا أن نقاتل كل الاستكبار والصهيونية بكل وسائل القتال، لأن الكثيرين من المستكبرين يريدون أن يأخذوا بالسلم ما لم يأخذوه بالحرب، ويريدون أن يحصلوا على النصر من خلال الألاعيب السياسية التي يتحركون بها، وعلينا أن نبقى في خط الوعي والوحدة، وأن لا نسمح للذين يريدون أن يلقوا الفتنة في داخل الأمة أن ينجحوا في ذلك، بل علينا أن نضرب على أيديهم بكل قوة وصلابة، لأن هؤلاء هم من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، فماذا هناك؟

النصر صنع تاريخاً جديداً

إنه النصر؛ نصر الشباب المؤمن المجاهد الذي اشترى الله منهم أنفسهم بأن لهم الجنة، لأنهم كانوا يقاتلون في سبيل الله، فقَتلوا وقُتلوا، وارتفعوا إلى مستوى القمة في الجهاد، وارتقوا في أهدافهم إلى كل امتدادات الأمة، وعاشوا الحرية من أجل تحرير الأرض والإنسان، وصنعوا القوة التي أراد الله لهم أن يصنعوها في مواجهة الاستكبار الذي أراد أن يفرض على الواقع المتحرك في أوضاعهم عناصر الضعف.

إنه النصر؛ نصر الطليعة الإسلامية التي ارتفعت بأرواحها إلى مواقع القرب لله، لتتعبّد له في محراب الشهادة، ولتسبّحه في سلاحها الذي يعرف كيف يحدد أهدافه، ويصوّب مواقعه، فلا يطلقه إلا ضد أعداء الله والإنسانية، فهم يحترمون إنسانية الإنسان، فلا يقاتلون إلا الذين يقتلون إنسانية الإنسان، ويذبحون الطفولة على صدور الأمهات، وهم اليهود الذين كانوا يقتلون النبيين ويعيثون في الأرض فساداً، ويتحركون في مجازرهم الوحشية ليهدموا البيوت على رؤوس أهلها، حتى الأطفال، ويشرّدوا الناس من أرضهم، ليصادروا أوطانهم، هؤلاء العنصريون الذين لا يحبّون أحداً، ولا يفكرون إلا بأنفسهم، ويستبيحون البلاد والعباد.

إنه النصر الذي صنع للإسلام الحيّ المنفتح على الإنسان كله، وعلى الحرية كلها، تاريخاً جديداً يضيف إلى "بدر" بدراً إسلامية جديدة، ويصنع في "خيبر" الجديدة فتحاً جديداً يقتحم القلاع المحصّنة بأنواع الأسلحة المتطوّرة التي زوّدت بها الإدارة الأمريكية المستكبرة الصهاينة في فلسطين، ليقتلوا بها العرب والمسلمين، وخصوصاً اللبنانيين والفلسطينيين. لقد ربح شباب المقاومة الحرب عندما بدأوا قتال جنود العدو وجهاً لوجه، وعندما دمّروا دباباته المتطوّرة، وجرافاته المتقدّمة، وقصفوا مستوطناته بصواريخهم المباركة، مما لم يتوقع العدو أن يواجه مثله في كل تاريخه الذي أسقط فيه الواقع العربي وهزم جيوشه، فكانت الطليعة الإسلامية هي التي أعادت للعروبة عزتها، وللإسلام عنفوانه، وللعرب والمسلمين كرامتهم في عملية الانتصار الذي غسل آثار هزائم العرب الماضية.

أمريكا تطلق يد إسرائيل في لبنان

أيها الأحبة: لقد كانت الحرب حرب أمريكا التي خططت لها من خلال حليفتها إسرائيل التي أرادت أن تكون يدها الضاربة في المنطقة، من أجل أن تنفّذ مشاريعها الاستكبارية ضد الشعوب للسيطرة على مقدّراتها السياسية والاقتصادية والأمنية. وقد كانت الخطة الموضوعة لحرب لبنان سابقة على هذا التاريخ، من أجل انتظار الفرصة السانحة المبررة لذلك، لتدمير لبنان ـ ولاسيما "جبل عامل" ـ وإسقاط المقاومة التي استطاعت أن تربك سياستها في لبنان الذي أرادته قاعدةً لنفوذها، وساحةً لضغوطها على أكثر من محور في المنطقة، وموقعاً لحماية أمن إسرائيل الذي التزمته بالمطلق، ولم تلتزم أمن أيّ بلد غيره، بما في ذلك لبنان الذي أفسحت المجال فيه للمخابرات الإسرائيلية المتحالفة مع مخابراتها لتغتال فيه من تشاء، وتحرّك الفتنة فيه بألاعيبها المخابراتية الموسادية، وتوظّف فيه من تشاء من العملاء على أكثر من صعيد سياسي طائفي أو مذهبي أو حزبي، ولعل الجميع يعرف أن أمريكا منعت الحكومة اللبنانية من تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة عند اكتشاف الخلية المخابراتية الإسرائيلية التي قامت بأكثر من عملية اغتيال للمجاهدين في صيدا وبيروت.

وها نحن نستمع إلى رئيس حكومة العدو، وهو يعلن تهديده لقيادات المقاومة الإسلامية وعناصرها، بملاحقتهم بالاغتيالات في كل زمان ومكان، من خلال أجهزة مخابراته المنتشرة في لبنان، برعاية من السفارة الأمريكية وحمايتها، وتشجيع من عملائها، من دون أن نسمع أيّ اعتراض أو إنكار من الإدارة الأمريكية والإدارات الغربية التي كانت ـ ولا تزال ـ تتحدث عن "بقاء المخابرات السورية في لبنان وخطورتها على أمنه"، لأن الغرب بكلِّ دوله التي شجّعت العدو على قتل اللبنانيين وتدمير وطنهم، لا يرى في حركة الموساد وعبثه بلبنان أية مشكلة سياسية أو أمنية، ولاسيما ضد المقاومة، لأنه ينفّذ خططه في العقدة التي يحملونها ضد العرب والمسلمين.

الغرب: شعارات خادعة في حقوق الإنسان والحريات

وهذا ما تتمثّل فيه الكذبة الكبرى التي يقدّمها الغرب في مسألة حقوق الإنسان وحريات الشعوب، أو في شعار الحرب ضد ما يسمّونه الإرهاب، والتي تمارس أمريكا وإسرائيل فيه إرهاب الدولة الوحشية ضد الشعوب، ولذلك فهم يشجّعون الاحتلال وينكرون حق الشعوب في مواجهة المحتل، ولاسيما الشعب الفلسطيني الذي اعتبروا مقاومته إرهاباً، بينما اعتبروا الوحشية اليهودية ضده دفاعاً عن النفس. وإلى جانب ذلك، ما نتمثّله في الشعبين العراقي والأفغاني، والشعب اللبناني مؤخراً، حيث اعتبروا كل هذا الدمار الذي أصابه، وكل هذه المجازر من قِبَل اليهود بحق أطفاله ونسائه وشيوخه، "دفاعاً عن النفس"، ولذلك أجمعت مؤتمراتهم ومجلس أمنهم على رفض وقف إطلاق النار إلا بشروطهم الخاصة.

اعترافات إسرائيلية بالهزيمة

لقد تحدث الرئيس الأمريكي بعد انتهاء المعركة، أن المقاومة "انهزمت"، وأن العدو "انتصر"، على طريقته في صنع الأكاذيب التي لا يمكن أن يصدّقها أحد، لأنه لو تكلم بالصدق، وتحدث عن الحقيقة التي صرّح بها بعض مسؤولي العدو من سياسيين وعسكريين، لعرف أن إسرائيل قد انهزمت في ساحة المعركة، بالرغم من اللعبة السياسية في مجلس الأمن التي انطلق الغرب فيها ـ مع التابعين له ـ لإعطاء إسرائيل بعض ما يحفظ لها ماء وجهها، وليمنح حكومتها فرصة الدفاع عن نفسها أمام شعبها، وليطوّق لبنان ببعض القيود التي تربك أوضاعه الداخلية، وتفسح في المجال لبعض التعقيدات السياسية أو الطائفية، لإيجاد بعض حالات الإرباك التي يحاول البعض أن يخطط فيها لفتنة داخلية، أو لحرب أهلية لا يزال اللبنانيون يرفضونها.

ومما يضحك الثكلى، أن بعض المسؤولين في واشنطن يصرّح بأنه "ليس هناك بلد يدعم مصالح لبنان أكثر من الولايات المتحدة". وإننا نسأل، ويتساءل اللبنانيون معنا: أيّ مصلحة للبنان في تسليط إسرائيل عليه لتدمّر بنيته التحتية، ولتقتل أطفاله ونساءه وشيوخه، ولتهدِّم بيوته على رؤوس أصحابها، ولترتكب أبشع المجازر الوحشية بحق أهله، ثم تمتنع في قرار الأمم المتحدة عن وقف إطلاق النار بشكل فوري؟!

المقاومة من صميم الدولة

أما حديث الرئيس الأمريكي عن المقاومة المسلّحة بأنها "دولة في داخل الدولة"، فهو كلام منافٍ للواقع، لأن فريق المقاومة هو جزء من الدولة، سواء في داخل الحكومة أو المجلس النيابي، وهو لم يحرّك سلاحه للضغط على أيّ موقع داخلي، سواء كان رسمياً أو شعبياً، بل كل منطقه أنه سلاح للدفاع عن الوطن في مواجهة عدوان إسرائيل، وهو ما قام به كردِّ فعل على الحرب التي شنّها العدو على لبنان، فهو لم يبدأ القتال، بل جاء قتاله وقصفه للمستوطنات في فلسطين المحتلة بعد قصف العدو للجنوب ولأكثر من منطقة، وتدميره للبنية التحتية للبنان.

أما خطف الجنديين الإسرائيليين، فإن من السذاجة السياسية اعتبار هذه الحرب ناتجة عنه، لأنه سبقت هذه التجربة تجارب أخرى لإطلاق الأسرى، واستجاب العدو لها من دون حرب، ولو كانت أمريكا مخلصةً وداعمةً للبنان، لتدخّلت في حلّ هذه المشكلة بالطريقة التي تحفظ للبنان أمنه، ولإسرائيل جنودها، ولكن الخطة للحرب كانت أمريكية ـ إسرائيلية، حتى إن بعض المسؤولين الصهاينة اعتبر أن أمريكا "تستخدم إسرائيل لتنفيذ مشروعها الذي أعلنت عنه "رايس"، وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد، لا لتحقيق أهداف إسرائيل في إطلاق الجنديين والحفاظ على أمنها مستقبلاً".

وأخيراً، إن عودة العامليين إلى أرضهم المدمَّرة، وطرقاتهم المقطوعة، تمثل مقاومة سياسية للعدو ولأمريكا في الخطة التي كانت تريد ابتزاز لبنان وشعبه في مسألة عودة النازحين إلى بيوتهم بالشروط الإسرائيلية. إن أهل جبل عامل عاشوا في كل تاريخهم الارتباط بأرضهم في كل عدوان العدو في الماضي، ولا يزالون يعيشون المقاومة في أبنائهم، وفي صمودهم وتحدياتهم، وفي التزامهم بقضية الحرية التي تواجه كل الذين يستعبدون الشعوب.

دعوة إلى دراسة تجربة المقاومة

وإننا ـ في هذه المناسبة ـ ندعو كل أطياف الشعب اللبناني والشعوب العربية والإسلامية، إلى دراسة هذه التجربة الرائدة في الصراع مع إسرائيل، في هزيمتها في سلاحها المتطوّر، وفي رفض السياسة الأمريكية الاستكبارية التي تعمل للضغط على الشعوب لمصالحها الاستراتيجية ضد مصالح المستضعفين، لأن هذه التجربة تمثل تجربة جديدة، لا بد من التعمّق في وسائلها وأساليبها، والتعامل مع امتداداتها في كل معركة فيها للحق قضية ضد الباطل، وللخير ضد الشرّ، لتتحرك المقاومة في كل عالم الدكتاتوريات التي يدعمها الاستكبار لتحويل الأوطان إلى سجون للشعوب.

الحفاظ على سلاح المقاومة

وكلمة أخيرة للبنانيين الذين يعتبرون أن إسرائيل هي العدو: إن عليهم إذا كانوا جادّين في ذلك، أن يحافظوا على سلاح المقاومة، وأن يكونوا جنباً إلى جنب مع المجاهدين، لتكون المقاومة مقاومة لبنان كله في مواجهة أيّ موقع عدواني إسرائيلي. وعليهم أن يدرسوا تاريخ إسرائيل مع لبنان، الذي كانت فيه هي الدولة العدوانية منذ أن احتلت فلسطين، ولذلك كنا نقول: كان ينبغي على المجتمع الدولي أن يقرر نشر القوات التي تحمي لبنان من إسرائيل على الجانب الفلسطيني، وليست التي تحمي إسرائيل من لبنان الذي لم يكن في يوم من الأيام إلا في موقع الدفاع عن أرضه وشعبه وكرامته.

مزيداً من الوعي والصبر والصمود
في خط الحرية والكرامة


في أول إطلالة علنية له، ألقى سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشد كبير من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:

في هذه الجمعة المباركة، نتذكر كل شبابنا الذين كانوا الورود المتفتّحة في ربيع الأمة؛ شبابنا المؤمن الذي كان يصلي معنا، ويصوم معنا، ويدعو معنا، ويعيش معنا، ولا يزالون معنا في عقولنا وقلوبنا، مع الأمة كلها التي رفعوا رأسها عالياً أمام العالم، ولأرواح هؤلاء الشهداء نقرأ الفاتحة.

الصبر مسيرة الأنبياء

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (البقرة:155-157)، ويقول سبحانه: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران:142)، ويقول تعالى: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور} (آل عمران:186).

لم يؤكِّد الله تعالى أهميّة أية قيمة روحية وأخلاقية إنسانية كما أكّد أهميّة قيمة الصبر، ولذلك فإنّه سبحانه لم يعط من الأجر والثواب على أية قيمة كما أعطى على الصبر، وقال تعالى: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزّمر:10)، فكل حسنة لها أجرها المحدود: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام:160)، ولكن أجر الصبر لا حدود له، ويقول الإمام الباقر(ع): "كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله".

لذلك، كانت مسيرة هذه الأمة في كل تاريخها، منذ زمن الرسول(ص) والذين معه، الذين كانوا أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، وأهل البيت(ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، كانت مسيرة الصبر، فهم الذين كانوا يصبرون في البأساء عندما كانوا يربطون أحجار المجاعة على بطونهم، وكانوا يصبرون في الضرّاء عندما يعيشون المشاكل الصحية، وكانوا يصبرون حين البأس، عندما كانوا يواجهون العدو من موقع الجهاد بكل مواقع القوة والشجاعة والصلابة والإخلاص.

من هنا، كان الصبر هو العنوان الكبير لكل مسيرة النبي(ص) في الدعوة، عندما واجهه المشركون بكل أنواع الأذى، حتى قال(ص): "ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت"، وكان الصبر هو الطابع الذي انطلق به(ص) في هجرته وحركته وحربه وسلمه، وكان الصبر هو ما عاشه وصيّه وخليفته من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، حيث صبر على أقسى ما يصبر عليه إنسان، عندما أُبعد عن حقه، لأنّ مصلحة المسلمين كانت نصب عينيه؛ لم تكن ذاته أمامه، ولكن الإسلام كان أمامه، ولذلك قال(ع): "لأُسلمنّ ـ أو لأسالمن ـ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة". وقد صبر الصبر الصعب، حين انطلق في مصلحة الإسلام والمسلمين، يحمي الذين تقدّموه وأبعدوه، برأيه وموقفه ومشاركته. وانطلق ليواجه كلّ ما اعترضه من مشاكل بالصبر، عندما وضعوا الأشواك في طريقه، ومنعوه من أن ينفّذ كل خططه في الحكم. وكذلك صبر أبناؤه الحسن(ع) والحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه، والأئمة من أهل البيت(ع).

وقيمة الصبر أنه يمنع الناس من أن يسقطوا أمام التحديات، وأنه يساعد الأمة على أن تعيش الوعي لكل ما يواجهها، لأن الإنسان إذا أصيب بالجزع، وسيطرت عليه الآلام التي تسقطه، فإنه لا يستطيع أن يفكر، ولا أن يخطط، ولا أن يواجه التحديات الكبرى. لذا، فإنّ الصبر ليس ضعفاً ولا سقوطاً، والله تعالى يقول: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} (لقمان:17)؛ الصبر الواعي المنفتح المفكّر المخطط، هو الذي يجعل الأمة تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي.

الصبر طريق إلى الحرية والاستقلال

ولا تزال الأمة؛ أمة الإسلام، تعيش التحديات من الكافرين والمستكبرين والظالمين، وقد سقط البعض، ولكن الأكثرية في الأمة وقفت، وهذا البلد كان عنوان الأمة في كل جهاده وتحدّيه وردّ التحدي، إذ أرادت إسرائيل السيطرة على الأمة واستغلالها من خلاله، وأرادت أمريكا أن تحوّل لبنان إلى قاعدة لنفوذها وسياستها، وإلى ساحة تحاول فيها العبث بالمنطقة، ولكن اللبنانيين الأحرار، ولاسيما أهل جبل عامل والبقاع، انطلقوا ليواجهوا كل خطط أمريكا، وكل تحديات إسرائيل، ليعطوا لبنان من صبرهم وصمودهم وإيمان شبابهم وبطولاتهم وصلابتهم معنى الحرية، لم يسبق للبنان أن عاش عمق الحرية قبل تجربة هؤلاء الشباب في مرحلة ما قبل العام 2000 وفي تجربة هذا العام.

إن الاستقلال الذي عرفه اللبنانيون من قبل، لم تسقط فيه قطرة من دم، ولكن هذا الاستقلال الجديد، صنعته الحرية العظيمة المشرقة، ولأول مرة في تاريخه، تحوّلت فيه الدماء؛ دماء أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا، إلى أنهار يستقي منها العالم العربي والإسلامي والعالم الحر كل ريّ الحرية.

يا أبناءنا، يا إخواننا: لقد هُدّمت البيوت على رؤوس أهلها من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، لقد جُرفت هذه الدور، وشُرِّد الناس من بيوتهم، وعرفوا معنى أمريكا وإسرائيل، ولكن كل واحد منكم بقي واقفاً رافع الرأس، أرادوا من الناس أن يتنكّروا للمقاومة، وأن يخرجوا زرافاتٍ ووحداناً من القرى والمدن ليتظاهروا ضد المقاومة، أرادوا أن يقنعوهم بأن المقاومة هي سبب الحرب ليبرّئوا إسرائيل، ولا يزال هناك في لبنان من يتحدث بلغة إسرائيل، ويحمّل المقاومة مسؤولية الحرب، ولكن الناس كانت في أعلى درجات الوعي، وإننا نحترم وعي الناس الذين يتفقدون بيوتهم المهدّمة وقراهم المنكوبة، ويؤكدون وقوفهم مع المقاومة. هذه هي القوة، قوة الصبر، كونوا الواعين الصابرين، كونوا الصامدين، أكملوا المسيرة وارفضوا كل من يريد أن يقف حاجزاً بينكم وبين مواقف العزة والكرامة، لأن الله تعالى أراد لنا أن نكون أعزاء: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون:8)، وإن عليّاً(ع) قال لكل واحد منا: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".

لذلك، يا أحباءنا، يا أهلنا، يا إخواننا، يا أبناءنا: أكملوا المسيرة، ولتفهم أمريكا وإسرائيل وكل هذا العالم المستكبر، بأننا نبقى مع الحرية، لا الحرية التي يتحدث بها رئيس أمريكا، ولكن الحرية التي هي من عمق إسلامنا وعروبتنا وإنسانيتنا. إن المسألة هي أن نبقى صامدين صابرين، وسوف يطلع لنا من خلال كل هذه المآسي الفجر؛ فجر الإنسان الحرّ والمؤمن: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:139)، {إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران:140)، {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} (النساء:104).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد: {إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)، سواء كان القتال قتالاً عسكرياً، أو كان القتال سياسياً أو أمنياً. إن علينا أن نقاتل كل الاستكبار والصهيونية بكل وسائل القتال، لأن الكثيرين من المستكبرين يريدون أن يأخذوا بالسلم ما لم يأخذوه بالحرب، ويريدون أن يحصلوا على النصر من خلال الألاعيب السياسية التي يتحركون بها، وعلينا أن نبقى في خط الوعي والوحدة، وأن لا نسمح للذين يريدون أن يلقوا الفتنة في داخل الأمة أن ينجحوا في ذلك، بل علينا أن نضرب على أيديهم بكل قوة وصلابة، لأن هؤلاء هم من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، فماذا هناك؟

النصر صنع تاريخاً جديداً

إنه النصر؛ نصر الشباب المؤمن المجاهد الذي اشترى الله منهم أنفسهم بأن لهم الجنة، لأنهم كانوا يقاتلون في سبيل الله، فقَتلوا وقُتلوا، وارتفعوا إلى مستوى القمة في الجهاد، وارتقوا في أهدافهم إلى كل امتدادات الأمة، وعاشوا الحرية من أجل تحرير الأرض والإنسان، وصنعوا القوة التي أراد الله لهم أن يصنعوها في مواجهة الاستكبار الذي أراد أن يفرض على الواقع المتحرك في أوضاعهم عناصر الضعف.

إنه النصر؛ نصر الطليعة الإسلامية التي ارتفعت بأرواحها إلى مواقع القرب لله، لتتعبّد له في محراب الشهادة، ولتسبّحه في سلاحها الذي يعرف كيف يحدد أهدافه، ويصوّب مواقعه، فلا يطلقه إلا ضد أعداء الله والإنسانية، فهم يحترمون إنسانية الإنسان، فلا يقاتلون إلا الذين يقتلون إنسانية الإنسان، ويذبحون الطفولة على صدور الأمهات، وهم اليهود الذين كانوا يقتلون النبيين ويعيثون في الأرض فساداً، ويتحركون في مجازرهم الوحشية ليهدموا البيوت على رؤوس أهلها، حتى الأطفال، ويشرّدوا الناس من أرضهم، ليصادروا أوطانهم، هؤلاء العنصريون الذين لا يحبّون أحداً، ولا يفكرون إلا بأنفسهم، ويستبيحون البلاد والعباد.

إنه النصر الذي صنع للإسلام الحيّ المنفتح على الإنسان كله، وعلى الحرية كلها، تاريخاً جديداً يضيف إلى "بدر" بدراً إسلامية جديدة، ويصنع في "خيبر" الجديدة فتحاً جديداً يقتحم القلاع المحصّنة بأنواع الأسلحة المتطوّرة التي زوّدت بها الإدارة الأمريكية المستكبرة الصهاينة في فلسطين، ليقتلوا بها العرب والمسلمين، وخصوصاً اللبنانيين والفلسطينيين. لقد ربح شباب المقاومة الحرب عندما بدأوا قتال جنود العدو وجهاً لوجه، وعندما دمّروا دباباته المتطوّرة، وجرافاته المتقدّمة، وقصفوا مستوطناته بصواريخهم المباركة، مما لم يتوقع العدو أن يواجه مثله في كل تاريخه الذي أسقط فيه الواقع العربي وهزم جيوشه، فكانت الطليعة الإسلامية هي التي أعادت للعروبة عزتها، وللإسلام عنفوانه، وللعرب والمسلمين كرامتهم في عملية الانتصار الذي غسل آثار هزائم العرب الماضية.

أمريكا تطلق يد إسرائيل في لبنان

أيها الأحبة: لقد كانت الحرب حرب أمريكا التي خططت لها من خلال حليفتها إسرائيل التي أرادت أن تكون يدها الضاربة في المنطقة، من أجل أن تنفّذ مشاريعها الاستكبارية ضد الشعوب للسيطرة على مقدّراتها السياسية والاقتصادية والأمنية. وقد كانت الخطة الموضوعة لحرب لبنان سابقة على هذا التاريخ، من أجل انتظار الفرصة السانحة المبررة لذلك، لتدمير لبنان ـ ولاسيما "جبل عامل" ـ وإسقاط المقاومة التي استطاعت أن تربك سياستها في لبنان الذي أرادته قاعدةً لنفوذها، وساحةً لضغوطها على أكثر من محور في المنطقة، وموقعاً لحماية أمن إسرائيل الذي التزمته بالمطلق، ولم تلتزم أمن أيّ بلد غيره، بما في ذلك لبنان الذي أفسحت المجال فيه للمخابرات الإسرائيلية المتحالفة مع مخابراتها لتغتال فيه من تشاء، وتحرّك الفتنة فيه بألاعيبها المخابراتية الموسادية، وتوظّف فيه من تشاء من العملاء على أكثر من صعيد سياسي طائفي أو مذهبي أو حزبي، ولعل الجميع يعرف أن أمريكا منعت الحكومة اللبنانية من تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة عند اكتشاف الخلية المخابراتية الإسرائيلية التي قامت بأكثر من عملية اغتيال للمجاهدين في صيدا وبيروت.

وها نحن نستمع إلى رئيس حكومة العدو، وهو يعلن تهديده لقيادات المقاومة الإسلامية وعناصرها، بملاحقتهم بالاغتيالات في كل زمان ومكان، من خلال أجهزة مخابراته المنتشرة في لبنان، برعاية من السفارة الأمريكية وحمايتها، وتشجيع من عملائها، من دون أن نسمع أيّ اعتراض أو إنكار من الإدارة الأمريكية والإدارات الغربية التي كانت ـ ولا تزال ـ تتحدث عن "بقاء المخابرات السورية في لبنان وخطورتها على أمنه"، لأن الغرب بكلِّ دوله التي شجّعت العدو على قتل اللبنانيين وتدمير وطنهم، لا يرى في حركة الموساد وعبثه بلبنان أية مشكلة سياسية أو أمنية، ولاسيما ضد المقاومة، لأنه ينفّذ خططه في العقدة التي يحملونها ضد العرب والمسلمين.

الغرب: شعارات خادعة في حقوق الإنسان والحريات

وهذا ما تتمثّل فيه الكذبة الكبرى التي يقدّمها الغرب في مسألة حقوق الإنسان وحريات الشعوب، أو في شعار الحرب ضد ما يسمّونه الإرهاب، والتي تمارس أمريكا وإسرائيل فيه إرهاب الدولة الوحشية ضد الشعوب، ولذلك فهم يشجّعون الاحتلال وينكرون حق الشعوب في مواجهة المحتل، ولاسيما الشعب الفلسطيني الذي اعتبروا مقاومته إرهاباً، بينما اعتبروا الوحشية اليهودية ضده دفاعاً عن النفس. وإلى جانب ذلك، ما نتمثّله في الشعبين العراقي والأفغاني، والشعب اللبناني مؤخراً، حيث اعتبروا كل هذا الدمار الذي أصابه، وكل هذه المجازر من قِبَل اليهود بحق أطفاله ونسائه وشيوخه، "دفاعاً عن النفس"، ولذلك أجمعت مؤتمراتهم ومجلس أمنهم على رفض وقف إطلاق النار إلا بشروطهم الخاصة.

اعترافات إسرائيلية بالهزيمة

لقد تحدث الرئيس الأمريكي بعد انتهاء المعركة، أن المقاومة "انهزمت"، وأن العدو "انتصر"، على طريقته في صنع الأكاذيب التي لا يمكن أن يصدّقها أحد، لأنه لو تكلم بالصدق، وتحدث عن الحقيقة التي صرّح بها بعض مسؤولي العدو من سياسيين وعسكريين، لعرف أن إسرائيل قد انهزمت في ساحة المعركة، بالرغم من اللعبة السياسية في مجلس الأمن التي انطلق الغرب فيها ـ مع التابعين له ـ لإعطاء إسرائيل بعض ما يحفظ لها ماء وجهها، وليمنح حكومتها فرصة الدفاع عن نفسها أمام شعبها، وليطوّق لبنان ببعض القيود التي تربك أوضاعه الداخلية، وتفسح في المجال لبعض التعقيدات السياسية أو الطائفية، لإيجاد بعض حالات الإرباك التي يحاول البعض أن يخطط فيها لفتنة داخلية، أو لحرب أهلية لا يزال اللبنانيون يرفضونها.

ومما يضحك الثكلى، أن بعض المسؤولين في واشنطن يصرّح بأنه "ليس هناك بلد يدعم مصالح لبنان أكثر من الولايات المتحدة". وإننا نسأل، ويتساءل اللبنانيون معنا: أيّ مصلحة للبنان في تسليط إسرائيل عليه لتدمّر بنيته التحتية، ولتقتل أطفاله ونساءه وشيوخه، ولتهدِّم بيوته على رؤوس أصحابها، ولترتكب أبشع المجازر الوحشية بحق أهله، ثم تمتنع في قرار الأمم المتحدة عن وقف إطلاق النار بشكل فوري؟!

المقاومة من صميم الدولة

أما حديث الرئيس الأمريكي عن المقاومة المسلّحة بأنها "دولة في داخل الدولة"، فهو كلام منافٍ للواقع، لأن فريق المقاومة هو جزء من الدولة، سواء في داخل الحكومة أو المجلس النيابي، وهو لم يحرّك سلاحه للضغط على أيّ موقع داخلي، سواء كان رسمياً أو شعبياً، بل كل منطقه أنه سلاح للدفاع عن الوطن في مواجهة عدوان إسرائيل، وهو ما قام به كردِّ فعل على الحرب التي شنّها العدو على لبنان، فهو لم يبدأ القتال، بل جاء قتاله وقصفه للمستوطنات في فلسطين المحتلة بعد قصف العدو للجنوب ولأكثر من منطقة، وتدميره للبنية التحتية للبنان.

أما خطف الجنديين الإسرائيليين، فإن من السذاجة السياسية اعتبار هذه الحرب ناتجة عنه، لأنه سبقت هذه التجربة تجارب أخرى لإطلاق الأسرى، واستجاب العدو لها من دون حرب، ولو كانت أمريكا مخلصةً وداعمةً للبنان، لتدخّلت في حلّ هذه المشكلة بالطريقة التي تحفظ للبنان أمنه، ولإسرائيل جنودها، ولكن الخطة للحرب كانت أمريكية ـ إسرائيلية، حتى إن بعض المسؤولين الصهاينة اعتبر أن أمريكا "تستخدم إسرائيل لتنفيذ مشروعها الذي أعلنت عنه "رايس"، وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد، لا لتحقيق أهداف إسرائيل في إطلاق الجنديين والحفاظ على أمنها مستقبلاً".

وأخيراً، إن عودة العامليين إلى أرضهم المدمَّرة، وطرقاتهم المقطوعة، تمثل مقاومة سياسية للعدو ولأمريكا في الخطة التي كانت تريد ابتزاز لبنان وشعبه في مسألة عودة النازحين إلى بيوتهم بالشروط الإسرائيلية. إن أهل جبل عامل عاشوا في كل تاريخهم الارتباط بأرضهم في كل عدوان العدو في الماضي، ولا يزالون يعيشون المقاومة في أبنائهم، وفي صمودهم وتحدياتهم، وفي التزامهم بقضية الحرية التي تواجه كل الذين يستعبدون الشعوب.

دعوة إلى دراسة تجربة المقاومة

وإننا ـ في هذه المناسبة ـ ندعو كل أطياف الشعب اللبناني والشعوب العربية والإسلامية، إلى دراسة هذه التجربة الرائدة في الصراع مع إسرائيل، في هزيمتها في سلاحها المتطوّر، وفي رفض السياسة الأمريكية الاستكبارية التي تعمل للضغط على الشعوب لمصالحها الاستراتيجية ضد مصالح المستضعفين، لأن هذه التجربة تمثل تجربة جديدة، لا بد من التعمّق في وسائلها وأساليبها، والتعامل مع امتداداتها في كل معركة فيها للحق قضية ضد الباطل، وللخير ضد الشرّ، لتتحرك المقاومة في كل عالم الدكتاتوريات التي يدعمها الاستكبار لتحويل الأوطان إلى سجون للشعوب.

الحفاظ على سلاح المقاومة

وكلمة أخيرة للبنانيين الذين يعتبرون أن إسرائيل هي العدو: إن عليهم إذا كانوا جادّين في ذلك، أن يحافظوا على سلاح المقاومة، وأن يكونوا جنباً إلى جنب مع المجاهدين، لتكون المقاومة مقاومة لبنان كله في مواجهة أيّ موقع عدواني إسرائيلي. وعليهم أن يدرسوا تاريخ إسرائيل مع لبنان، الذي كانت فيه هي الدولة العدوانية منذ أن احتلت فلسطين، ولذلك كنا نقول: كان ينبغي على المجتمع الدولي أن يقرر نشر القوات التي تحمي لبنان من إسرائيل على الجانب الفلسطيني، وليست التي تحمي إسرائيل من لبنان الذي لم يكن في يوم من الأيام إلا في موقع الدفاع عن أرضه وشعبه وكرامته.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية