افعلوا الخير... واستبقوا الخيرات

افعلوا الخير... واستبقوا الخيرات

النداء الإلهي للمؤمنين:
افعلوا الخير... واستبقوا الخيرات


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

بسم الله الرَّحمن الرحيم

فعل الخير طريق إلى الجنة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وافعلوا الخير}(الحجّ/77) ويقول أيضاً: {فاستبقوا الخيرات}(المائدة/48). هذا هو العنوان الكبير الذي يريده الله تعالى للإنسان في الحياة؛ أن يملأها بالخير من جهده، بأن يتحرَّك فكره من أجل أن يُصلح تصوّرات الناس في كلّ ما يعيشونه وما يتحركون فيه، وفي كلّ ما ينطلقون به من علاقات ومواقف ومواقع، لأن الله {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد/11)، وبأن ينتج الخير في أعماله الفردية، فلا يتحرك إلا بما يكون خيراً لنفسه وعياله وللناس من حوله، في كلِّ ما يخطط له ويسير فيه.

كما يريد الله تعالى للإنسان أن يستبق الخيرات في علاقته بالناس، ولا سيَّما عندما يعيشون المشاكل في كل قضاياهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، حيث تكون هناك حاجة إلى كلّ من يملك جهداً ومالاً وموقعاً، ليعين النّاس من خلالها، ولتكون إعانته صدقة جارية في هذا الموقع أو ذاك، باعتبارها طريقاً إلى الجنة. وقد جاء في الحديث أن جماعة جاؤوا إلى رسول الله(ص) وقاولوا: دلّنا على عمل إذا عملناه دخلنا الجنة، فقال(ص): «أنل ما أنالك الله»، فقال له: وإن كنت أحوج ممن أنيله؟ فقال(ص) له: «فانصر المظلوم»، إن هناك أناساً يحتاجون إلى قوتك لتدفع عنهم ظلامة الآخرين، سواء كان الظالم فرداً أو جماعةً أو دولةً، فقال: «فإن كنت أضعف ممن أنصره»؟ فقال(ص) له: «فاصنع للأخرق»، يعني أشر عليه، فإذا كنت لا تملك قوة، فإنك تملك خبرةً ورأياً يمكن أن يحقّقا للناس الخير والحلَّ لمشاكلهم. دبّر الإنسان الذي لا يستطيع أن يدبّر نفسه، أعطه الخبرة والرأي والمشورة، فقال: «فإن كنت أخرق ممن أصنع له»؟ فقال(ص) له: «فاصمت لسانك إلا من خير»، فعندما تتكلم، عليك أن تمسك لسانك عن أية كلمة شر أو ضرر، وأن لا تطلقه إلاّ للخير، «أما يسرُّك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة».

الحث على قضاء حوائج المؤمنين:

ونقرأ في الأحاديث الشريفة عن أئمَّة أهل البيت(ع) في قضاء حوائج المؤمنين، باعتبار أن المؤمن بحاجة إلى أخيه المؤمن في شؤونه المالية أو الصحية أو النفسية أو الاجتماعية أو العائلية أو ما إلى ذلك، كما قال الشاعر:

الناس للناس من بدو ومن حَضَر              بعض لبعض وإن لم يعلموا خدمُ

صاحب المال خادمٌ للعمّال، وهم خدمٌ له لأنهم يهيئون ما يحتاجه، وصاحب المحل يخدم الناس بتأمين حاجاتهم، وهو بحاجة إليهم في تنمية ثروته. أغنى الناس يحتاج إلى أفقر الناس، وأعلم الناس يحتاج إلى أجهل الناس، وأقوى الناس يحتاج إلى أضعف الناس. لنقرأ ما جاء عن أئمة أهل البيت(ع)، لأننا نلتزم إمامتهم وولايتهم، وعلينا أن نلتزم نصائحهم. عن المفضّل عن الصادق(ع) قال: قال لي: «يا مفضّل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنه الحق وافعله، وأخبر به عليّة إخوانك»، قلت: جُعلت فداك، وما عليّة إخواني؟ قال(ع): «الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى الله عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجة، من ذلك أولها الجنة، ومن ذلك أن يُدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة».

وعن إسماعيل بن عمّار الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله(ع): «جُعلت فداك، المؤمن رحمة على المؤمن»، قال(ع): "نعم"، قلت: وكيف ذلك؟ قال(ع): "أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من الله ساقها إليه، وسببها له، فإن قضى حاجته، كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنما ردّ عن نفسه رحمةً من الله عزّ وجلّ ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله عزّ وجلّ تلك الرحمة إلى يوم القيامة، حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره. يا إسماعيل فإذا كان يوم القيامة، وهو الحاكم في رحمة من الله قد شرعت له، فإلى من ترى يصرفها"؟ قلت: لا أظن يصرفها عن نفسه، قال(ع): "لا تظن، ولكن استيقن، فإنه لن يردّها عن نفسه. يا إسماعيل، مَن أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له، سلّط الله عليه شجاعاً ـ أفعى ـ ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة، مغفوراً له أو معذّبا".

التنافس في المعروف:

وعن الصادق(ع): «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة». وعنه(ع): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزّ وجلّ به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربه، ويدعوان بقضاء حاجته»، ثم قال: «والله، لرسول الله(ص) أسرُّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة».

وفي حديث موجّه إلى من يحجون كثيراً ولكنهم غير مستعدين لدفع شيء للفقراء، يقول الإمام الباقر(ع): «والله، لأن أحجّ حجة أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة ورقبة، حتّى انتهى إلى عشرة، ومثلها حتى انتهى إلى سبعين، ولأن أعول أهل بيت من المسلمين، أشبع جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجة وحجة وحجة حتّى انتهى إلى عشر وعشر، ومثلها ومثلها حتى انتهى إلى السبعين».

نحن نعيش الآن في مشكلة اجتاحت الناس كلَّهم، ولا سيما من أتباع أهل البيت(ع)، وخصوصاً أهل جبل عامل والبقاع والضاحية، وفي هذه المناطق الكثير من الفقراء والمساكين وأهل الحاجة، لذلك، فإننا بحاجة إلى أن نعيش أخوّتنا الإيمانية التي تجعل منّا جسداً واحداً، وعلينا أن نعيش التكافل الاجتماعي؛ أن يكفل بعضنا بعضاً فيما يملك إعانته وكفالته، لأنَّ أعداء الله ورسوله أرادوا من خلال كل هذه الحرب الوحشية إسقاط الناس وإذلالاهم، وأن يقف المؤمنون على أبوابهم من أجل أن يستجدوا منهم مساعدةً هنا ومساعدةً هناك، ونحن نعرف كيف تحرَّكت هيئة الإغاثة فيما وصلها من أموال، حيث أنها لم تقدّم للمستضعفين أيّ شيء، وإنما وزعت كل موارد الإغاثة على جماعتها وفريقها وأحزابها، ولم يصل منها إلى الجنوب الذي كان يحتاج إلى لقمة خبز وشربة ماء، أي شيء، بل على العكس، وزعت على الكثير ممن يعتبرون أن المشاكل التي تصيب بلدهم فرصة لتنمية ثرواتهم وللسير مع أوضاعهم الخاصة.

لذلك، علينا أن ندعم بعضنا بعضاً، وأن نساعد بعضنا بعضاً، كلٌ بحسب إمكاناته وقدراته، وأن نعيش على أساس الرحمة والمحبة، لأن ذلك هو ما يحبّه الله ورسوله ويرضيا عنه، حتى نستطيع أن نخرج من هذه الكارثة، و«المؤمن في رحمة الله ما دام في عون أخيه المؤمن».

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من قاعدة الوحدة بين المسلمين، والوحدة بين المستضعفين، حتّى نواجه المستكبرين بكلِّ ما نملك من قوة، وحتّى نكشف كلّ مؤامراتهم، لنعرف أنهم لا يريدون الخير للمستضعفين، بل إنهم ينطلقون على أساس الاستكبار من أجل أن يسيطروا على العالم كله، لتكون لهم الإمبراطورية العالمية التي تتحرك في محور الشر والإرهاب، وهنا نسأل: هل يمكن أن نثق بالغرب أياً كانت دول الغرب؟ إننا نؤكد أن الجميع وقفوا في كل تاريخنا الحديث ضد كل المسلمين والمستضعفين، فتعالوا لنزداد وعياً، حتى لا تخدعنا هذه الدولة الغربية أو تلك بأنها تدافع عن حقوق الإنسان، فماذا هناك؟

الغرب سبب مشاكلنا:

من أين نشأت مشكلة العرب والمسلمين في المنطقة؟ ومن أين كلّ هذه المجازر الأمنيّة المتنقلة من بلدٍ إلى بلدٍ؟ ومن أين هذه الفوضى السياسية التي تتحرّك فيها كلّ متاهات الواقع الضائع في مختلف الاتجاهات؟

إنهّا من الغرب كلّه، الذي كان يخطِّط بمختلف دوله لنهب ثروات المنطقة البتروليّة، وتمزيق وحدتها الإسلاميّة والعربية، في تنوّع محاوره؛ من المحور البريطاني الذي احتلّ أكثر من موقع عربيّ، ونفّذ أكثر من خطّة لسيطرة اليهود على فلسطين من خلال وعد "بلفور" لهم بالوطن القومي فيها، وتحويل العراق إلى ساحة استعماريّة للنفوذ البريطاني والعبث بمقدّراته وأوضاعه، وصولاً إلى "نجد" و"الحجاز"، معتمداً في ذلك أساليب الخداع التي صادر فيها الواقع العربي في وعود نفاقيّة كاذبة.

وكانت فرنسا هي الدولة الغربية الثانية التي احتلّت بلاد الشام، ولا سيّما لبنان وسوريا، وعبثت فيها في عمليّة إفسادٍ وتمزيق ونهب لثرواتها بطريقة وبأخرى. ثمّ جاءت أمريكا في صراعها السياسي والأمني في الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي، وجمعت الغرب كلّه حولها لحاجته الأمنيّة إليها.

ثمّ سقط الشرق السوفياتي، وأصبحت أمريكا الدولة العظمى الأولى في العالم، وخطّطت لتأسيس إمبراطوريّتها؛ إمبراطوريّة الشرّ التي تتحرّك بالقوّة الهائلة التي تملكها لفرض سياستها على العالم كلّه، ولتصادر ثرواته لحساب شركاتها الاحتكاريّة التي يملكها القائمون على شؤون رئاستها وإدارتها، وفي مقدّمتهم المحور الصهيوني والمحافظون الجدد الذين كانت خطّتهم نشر الحروب الاستباقيّة، في عمليّة احتلال مباشر أو غير مباشر للعالم الثالث، ولا سيّما العالم العربي والإسلامي، ونهب ثرواته البتروليّة لحساب رخاء أمريكا ورخاء الغرب كلّه، في نطاق الدائرة الاقتصاديّة الأمريكية التي تعمل على محاصرته.

سمة الإرهاب لمعارضي السياسة الأمريكية:

وكانت إسرائيل ـ وليدة الغرب ـ الدولة التي تحتضنها الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث ربطت مصالحها بمصالحها، وأمنها بأمنها، وحربها وسلمها بحربها وسلمها، حتى خيّل للعالم أنّ أمريكا تخضع للدولة العبريّة، وليس العكس.

وكانت مسألة احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان من خلال استغلالها ما حدث في 11 أيلول، الذي رأت فيه فرصةً لإطلاق مشروع الحرب ضدّ ما تسمّيه الإرهاب، الذي أعلنت فيه الحرب على كلّ معارضٍ لسياستها وسياسة إسرائيل، ولا سيّما في فلسطين، حيث أصدرت حكمها على الانتفاضة بأنّها حركة إرهاب، فعطّلت بذلك كلّ فرص السلام هناك، من خلال فرض نزع سلاح المجاهدين كشرط للتفاوض. ثمّ تحرّكت لإرباك الواقع السياسي والأمني في المنطقة، وخصوصاً في العراق، بحيث تحوّل الواقع هناك إلى مجازر يوميّة متحرّكة ضدّ الشعب كلّه، بفعل الفوضى الأمنيّة والسياسيّة التي أثارتها في هذا البلد.

ثم بدأ الغرب يخطّط للسيطرة على سوريا ولبنان، من أجل أن يكون لبنان ساحةً لنفوذه السياسي في المنطقة. وهكذا، بدأ بإصدار القرارات المتنوّعة ضد قوى المعارضة للسياستين الأمريكية والإسرائيلية في لبنان، من مجلس الأمن الذي استطاع الغرب أن يصادره من خلال ضغوطه على الأعضاء الدائمين وغيرهم، فكان القرار 1559، وما تلاه من قرارات من أجل نزع سلاح المقاومة، حمايةً للأمن الاسرائيلي، ليكون لبنان ساحةً مفتوحةً للضغط الإسرائيلي، فلا يملك أيّ قوّة لردّ عدوانها.

المقاومة هزمت إسرائيل:

وقد كان التحرير عام 2000 الذي أنجزته المقاومة في لبنان صدمةً لأمريكا وإسرائيل، لأنّه استطاع أن يُنزل بإسرائيل الهزيمة بشكل مباشر لأوّل مرّة في تاريخها. ولذلك بدأ الغرب يخطّط ـ مع حليفته إسرائيل ـ كيف يثأر من هذه القوّة المقاوِمة التي تتمتّع بالوعي والخبرة الجهادية والصلابة والإيمان، فبحث عن مبرّر مهما كان، على الطريقة التي كانت تبحث فيها إسرائيل عن المبرّرات في عدوانها على لبنان، فكانت عمليّة خطف الجنديّين الإسرائيليّين، التي سبقتها عمليّات مماثلة انتهت بالتبادل مع الأسرى، هي المبرّر الذي نفّذت من خلاله أمريكا وحليفتها إسرائيل ما خطّطته لإسقاط القوّة المقاومة في لبنان، من أجل فرض سياستها التي أعلنت عنها، وهي تحريك مشروع الشرق الأوسط الجديد، لا إنقاذ لبنان مما تسمّيه "فوضى السّلاح".

وهكذا، حشدت قوى الشر في العالم من خلال المستكبرين الذين اجتمعوا في مؤتمر الثمانية الكبار في روما، ثم في مجلس الأمن، لاستصدار القرار 1701 لمصلحة إسرائيل التي انهزمت عسكريّاً في الحرب ضدّ المقاومة، وذلك باعتراف مسؤوليها السياسيين والعسكريين، في الوقت الذي كانت أمريكا تنتظر منها تحقيق أهدافها في إسقاط المقاومة ميدانياً تمهيداً لنـزع سلاحها، ولذلك امتنعت الإدارة الأمريكية ـ برئاسة بوش ـ عن إقرار قرار وقف إطلاق النار الذي ارتفعت الصيحات في العالم الإسلامي والعربي وبقيّة أحرار العالم للمطالبة به احتجاجاً على المجازر الإسرائيليّة، واستمرار الحرب ضدّ المدنيّين العزّل الذين كانت إسرائيل تهدم بيوتهم على رؤوس أهلها من الأطفال والنساء والشيوخ، وخصوصاً في قانا ومروحين وصريفا والدوير وعيناثا والقاع وغيرها من القرى؛ لأنّ أمريكا كانت تنتظر نصراً للجيش الإسرائيلي، لكنه لم يستطع تحقيقه على الأرض.

وهكذا، رحّبت إسرائيل بالقرار من خلال بعض بنوده، وغموضه الذي يمنحها تفسيره بما يحقّق مصالحها. ولا يزال وقف إطلاق النار جامداً في هذا القرار، ولا تزال أمريكا تهدّد باستصدار قرار آخر من أجل نزع سلاح المقاومة، ولا تزال الدول الغربيّة خاضعةً للإرادة الأمريكية في إدارتها الحاليّة؛ لأنّ الغرب لا يمنح العرب والمسلمين أيّ احترام سياسي أو أمني أو اقتصادي، ولا سيّما أنّ هؤلاء قبلوا بالضعف الذي تمارسه حكوماتهم أمام الغرب وإسرائيل، ولم يحرّكوا ساكناً في استخدام عناصر القوّة التي يملكونها، بل إنّهم سقطوا ـ مع بعض الساسة اللبنانيّين ـ أمام تأييدهم للحرب الإسرائيلية ضدّ لبنان.

الغرب لا يحترم الشرعية الدولية:

إنّ مجلس الأمن لم يضغط على إسرائيل في كلِّ تاريخه منذ تأسيس الكيان العبريّ، وفي القرارات التي صدرت عام 67، ومنها القرار 194، والذي اعترف بحق عودة الفلسطينيّين إلى بلدهم، ولم تطبّق إسرائيل أيّ قرار، من خلال الغطاء الأمريكي الذي يعمل لحمايتها بالتّهديد باستعمال حقّ النقض (الفيتو)، وما زال مجلس الأمن يمنع من إدانتها على ارتكابها المجازر واختراقاتها للبنان وفلسطين، على الرغم من حديثه عن الحلّ السلمي الذي لم تضغط أمريكا لتحقيقه، لأنّ إسرائيل ترفض السلام الذي يمنح الشعب الفلسطيني حقّه في تقرير مصيره، وإنشاء دولته المستقلّة القابلة للحياة، ذلك لأن المجتمع الدولي ـ وفي مقدّمته أمريكا ـ لا يحترم الشرعية الدوليّة إذا كانت ضدّ مصلحة إسرائيل، ويؤكّدها إذا كانت ضدّ العرب والمسلمين.

وفي هذا الجوّ، نجد أنَّ الرئيس بوش الذي يتحدث عن بعض المساعدات الماليّة للبنان، هو نفسه الذي زوّد إسرائيل بالقنابل الذكيّة المتطوّرة التي قتلت المدنيّين العزّل الأبرياء من الشعب اللبناني، وأنّ بريطانيا هي التي كانت الجسر الذي ساهم في إيصالها إلى إسرائيل. إنّهم القتلة المتوحّشون الذين يرفضون حماية الطفولة في لبنان، ثمّ يحدّثوننا بعد ذلك عن المساعدات الإنسانية وعلب الحليب، تماماً كما لو أنهم كانوا يتصوّرون أن شعبنا يعيش السذاجة الإنسانيّة السياسية.

الأخذ بأسباب الوحدة وإرادة العزة:

وما يزال الحقد الغربي الأعمى يخضع ـ كخضوع أمريكا ـ للكيان العبريّ، ويحتقر العالم العربي والإسلامي، ولا يجد أيّ حقّ له من حقوق الإنسان؛ لأنّ الأساس عنده هو أن يبقى هذا العالم البقرة الحلوب لرخاء الغرب الاقتصادي. وهذا ما يفرض على العرب والمسلمين أن يأخذوا بأسباب القوّة، ليحرّكوا عناصر الضغط عندهم، ولا يستسلموا لحركة المجتمع الدولي ضدّ مصالحهم تحت عنوان الشرعية الدوليّة، والتي هي شرعيّة الغرب في مصالحه، لا شرعيّة الشعوب الحرّة المستضعفة في قضاياها الحيويّة المصيريّة.

أيّها اللبنانيّون السياسيّون والحاكمون: لتكن لكم ـ ولو لبعض الوقت ـ إرادة أن تكونوا أحراراً في دنياكم، وإرادة العزّة والسيادة والاستقلال، ولتطلقوا الصرخة القويّة ضدّ الحصار البحري والجوي الذي تفرضه إسرائيل بغطاء من أمريكا، لأننا بحاجة إلى الكلمة القوّية التي تعرف أن تقول "لا" في مواقع الرفض للإذلال الإسرائيلي والأمريكي للشعب كلّه.

ويا أيّها العرب والمسلمون: لتكن لكم إرادة التحدّي للاستكبار الذي يصادر كلّ مواقعكم في العزّة والكرامة، ولا سيما أنّ الله تعالى أراد العزّة للمؤمنين.

النداء الإلهي للمؤمنين:
افعلوا الخير... واستبقوا الخيرات


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

بسم الله الرَّحمن الرحيم

فعل الخير طريق إلى الجنة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وافعلوا الخير}(الحجّ/77) ويقول أيضاً: {فاستبقوا الخيرات}(المائدة/48). هذا هو العنوان الكبير الذي يريده الله تعالى للإنسان في الحياة؛ أن يملأها بالخير من جهده، بأن يتحرَّك فكره من أجل أن يُصلح تصوّرات الناس في كلّ ما يعيشونه وما يتحركون فيه، وفي كلّ ما ينطلقون به من علاقات ومواقف ومواقع، لأن الله {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد/11)، وبأن ينتج الخير في أعماله الفردية، فلا يتحرك إلا بما يكون خيراً لنفسه وعياله وللناس من حوله، في كلِّ ما يخطط له ويسير فيه.

كما يريد الله تعالى للإنسان أن يستبق الخيرات في علاقته بالناس، ولا سيَّما عندما يعيشون المشاكل في كل قضاياهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، حيث تكون هناك حاجة إلى كلّ من يملك جهداً ومالاً وموقعاً، ليعين النّاس من خلالها، ولتكون إعانته صدقة جارية في هذا الموقع أو ذاك، باعتبارها طريقاً إلى الجنة. وقد جاء في الحديث أن جماعة جاؤوا إلى رسول الله(ص) وقاولوا: دلّنا على عمل إذا عملناه دخلنا الجنة، فقال(ص): «أنل ما أنالك الله»، فقال له: وإن كنت أحوج ممن أنيله؟ فقال(ص) له: «فانصر المظلوم»، إن هناك أناساً يحتاجون إلى قوتك لتدفع عنهم ظلامة الآخرين، سواء كان الظالم فرداً أو جماعةً أو دولةً، فقال: «فإن كنت أضعف ممن أنصره»؟ فقال(ص) له: «فاصنع للأخرق»، يعني أشر عليه، فإذا كنت لا تملك قوة، فإنك تملك خبرةً ورأياً يمكن أن يحقّقا للناس الخير والحلَّ لمشاكلهم. دبّر الإنسان الذي لا يستطيع أن يدبّر نفسه، أعطه الخبرة والرأي والمشورة، فقال: «فإن كنت أخرق ممن أصنع له»؟ فقال(ص) له: «فاصمت لسانك إلا من خير»، فعندما تتكلم، عليك أن تمسك لسانك عن أية كلمة شر أو ضرر، وأن لا تطلقه إلاّ للخير، «أما يسرُّك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة».

الحث على قضاء حوائج المؤمنين:

ونقرأ في الأحاديث الشريفة عن أئمَّة أهل البيت(ع) في قضاء حوائج المؤمنين، باعتبار أن المؤمن بحاجة إلى أخيه المؤمن في شؤونه المالية أو الصحية أو النفسية أو الاجتماعية أو العائلية أو ما إلى ذلك، كما قال الشاعر:

الناس للناس من بدو ومن حَضَر              بعض لبعض وإن لم يعلموا خدمُ

صاحب المال خادمٌ للعمّال، وهم خدمٌ له لأنهم يهيئون ما يحتاجه، وصاحب المحل يخدم الناس بتأمين حاجاتهم، وهو بحاجة إليهم في تنمية ثروته. أغنى الناس يحتاج إلى أفقر الناس، وأعلم الناس يحتاج إلى أجهل الناس، وأقوى الناس يحتاج إلى أضعف الناس. لنقرأ ما جاء عن أئمة أهل البيت(ع)، لأننا نلتزم إمامتهم وولايتهم، وعلينا أن نلتزم نصائحهم. عن المفضّل عن الصادق(ع) قال: قال لي: «يا مفضّل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنه الحق وافعله، وأخبر به عليّة إخوانك»، قلت: جُعلت فداك، وما عليّة إخواني؟ قال(ع): «الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى الله عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجة، من ذلك أولها الجنة، ومن ذلك أن يُدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة».

وعن إسماعيل بن عمّار الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله(ع): «جُعلت فداك، المؤمن رحمة على المؤمن»، قال(ع): "نعم"، قلت: وكيف ذلك؟ قال(ع): "أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من الله ساقها إليه، وسببها له، فإن قضى حاجته، كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنما ردّ عن نفسه رحمةً من الله عزّ وجلّ ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله عزّ وجلّ تلك الرحمة إلى يوم القيامة، حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره. يا إسماعيل فإذا كان يوم القيامة، وهو الحاكم في رحمة من الله قد شرعت له، فإلى من ترى يصرفها"؟ قلت: لا أظن يصرفها عن نفسه، قال(ع): "لا تظن، ولكن استيقن، فإنه لن يردّها عن نفسه. يا إسماعيل، مَن أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له، سلّط الله عليه شجاعاً ـ أفعى ـ ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة، مغفوراً له أو معذّبا".

التنافس في المعروف:

وعن الصادق(ع): «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة». وعنه(ع): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزّ وجلّ به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربه، ويدعوان بقضاء حاجته»، ثم قال: «والله، لرسول الله(ص) أسرُّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة».

وفي حديث موجّه إلى من يحجون كثيراً ولكنهم غير مستعدين لدفع شيء للفقراء، يقول الإمام الباقر(ع): «والله، لأن أحجّ حجة أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة ورقبة، حتّى انتهى إلى عشرة، ومثلها حتى انتهى إلى سبعين، ولأن أعول أهل بيت من المسلمين، أشبع جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجة وحجة وحجة حتّى انتهى إلى عشر وعشر، ومثلها ومثلها حتى انتهى إلى السبعين».

نحن نعيش الآن في مشكلة اجتاحت الناس كلَّهم، ولا سيما من أتباع أهل البيت(ع)، وخصوصاً أهل جبل عامل والبقاع والضاحية، وفي هذه المناطق الكثير من الفقراء والمساكين وأهل الحاجة، لذلك، فإننا بحاجة إلى أن نعيش أخوّتنا الإيمانية التي تجعل منّا جسداً واحداً، وعلينا أن نعيش التكافل الاجتماعي؛ أن يكفل بعضنا بعضاً فيما يملك إعانته وكفالته، لأنَّ أعداء الله ورسوله أرادوا من خلال كل هذه الحرب الوحشية إسقاط الناس وإذلالاهم، وأن يقف المؤمنون على أبوابهم من أجل أن يستجدوا منهم مساعدةً هنا ومساعدةً هناك، ونحن نعرف كيف تحرَّكت هيئة الإغاثة فيما وصلها من أموال، حيث أنها لم تقدّم للمستضعفين أيّ شيء، وإنما وزعت كل موارد الإغاثة على جماعتها وفريقها وأحزابها، ولم يصل منها إلى الجنوب الذي كان يحتاج إلى لقمة خبز وشربة ماء، أي شيء، بل على العكس، وزعت على الكثير ممن يعتبرون أن المشاكل التي تصيب بلدهم فرصة لتنمية ثرواتهم وللسير مع أوضاعهم الخاصة.

لذلك، علينا أن ندعم بعضنا بعضاً، وأن نساعد بعضنا بعضاً، كلٌ بحسب إمكاناته وقدراته، وأن نعيش على أساس الرحمة والمحبة، لأن ذلك هو ما يحبّه الله ورسوله ويرضيا عنه، حتى نستطيع أن نخرج من هذه الكارثة، و«المؤمن في رحمة الله ما دام في عون أخيه المؤمن».

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من قاعدة الوحدة بين المسلمين، والوحدة بين المستضعفين، حتّى نواجه المستكبرين بكلِّ ما نملك من قوة، وحتّى نكشف كلّ مؤامراتهم، لنعرف أنهم لا يريدون الخير للمستضعفين، بل إنهم ينطلقون على أساس الاستكبار من أجل أن يسيطروا على العالم كله، لتكون لهم الإمبراطورية العالمية التي تتحرك في محور الشر والإرهاب، وهنا نسأل: هل يمكن أن نثق بالغرب أياً كانت دول الغرب؟ إننا نؤكد أن الجميع وقفوا في كل تاريخنا الحديث ضد كل المسلمين والمستضعفين، فتعالوا لنزداد وعياً، حتى لا تخدعنا هذه الدولة الغربية أو تلك بأنها تدافع عن حقوق الإنسان، فماذا هناك؟

الغرب سبب مشاكلنا:

من أين نشأت مشكلة العرب والمسلمين في المنطقة؟ ومن أين كلّ هذه المجازر الأمنيّة المتنقلة من بلدٍ إلى بلدٍ؟ ومن أين هذه الفوضى السياسية التي تتحرّك فيها كلّ متاهات الواقع الضائع في مختلف الاتجاهات؟

إنهّا من الغرب كلّه، الذي كان يخطِّط بمختلف دوله لنهب ثروات المنطقة البتروليّة، وتمزيق وحدتها الإسلاميّة والعربية، في تنوّع محاوره؛ من المحور البريطاني الذي احتلّ أكثر من موقع عربيّ، ونفّذ أكثر من خطّة لسيطرة اليهود على فلسطين من خلال وعد "بلفور" لهم بالوطن القومي فيها، وتحويل العراق إلى ساحة استعماريّة للنفوذ البريطاني والعبث بمقدّراته وأوضاعه، وصولاً إلى "نجد" و"الحجاز"، معتمداً في ذلك أساليب الخداع التي صادر فيها الواقع العربي في وعود نفاقيّة كاذبة.

وكانت فرنسا هي الدولة الغربية الثانية التي احتلّت بلاد الشام، ولا سيّما لبنان وسوريا، وعبثت فيها في عمليّة إفسادٍ وتمزيق ونهب لثرواتها بطريقة وبأخرى. ثمّ جاءت أمريكا في صراعها السياسي والأمني في الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي، وجمعت الغرب كلّه حولها لحاجته الأمنيّة إليها.

ثمّ سقط الشرق السوفياتي، وأصبحت أمريكا الدولة العظمى الأولى في العالم، وخطّطت لتأسيس إمبراطوريّتها؛ إمبراطوريّة الشرّ التي تتحرّك بالقوّة الهائلة التي تملكها لفرض سياستها على العالم كلّه، ولتصادر ثرواته لحساب شركاتها الاحتكاريّة التي يملكها القائمون على شؤون رئاستها وإدارتها، وفي مقدّمتهم المحور الصهيوني والمحافظون الجدد الذين كانت خطّتهم نشر الحروب الاستباقيّة، في عمليّة احتلال مباشر أو غير مباشر للعالم الثالث، ولا سيّما العالم العربي والإسلامي، ونهب ثرواته البتروليّة لحساب رخاء أمريكا ورخاء الغرب كلّه، في نطاق الدائرة الاقتصاديّة الأمريكية التي تعمل على محاصرته.

سمة الإرهاب لمعارضي السياسة الأمريكية:

وكانت إسرائيل ـ وليدة الغرب ـ الدولة التي تحتضنها الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث ربطت مصالحها بمصالحها، وأمنها بأمنها، وحربها وسلمها بحربها وسلمها، حتى خيّل للعالم أنّ أمريكا تخضع للدولة العبريّة، وليس العكس.

وكانت مسألة احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان من خلال استغلالها ما حدث في 11 أيلول، الذي رأت فيه فرصةً لإطلاق مشروع الحرب ضدّ ما تسمّيه الإرهاب، الذي أعلنت فيه الحرب على كلّ معارضٍ لسياستها وسياسة إسرائيل، ولا سيّما في فلسطين، حيث أصدرت حكمها على الانتفاضة بأنّها حركة إرهاب، فعطّلت بذلك كلّ فرص السلام هناك، من خلال فرض نزع سلاح المجاهدين كشرط للتفاوض. ثمّ تحرّكت لإرباك الواقع السياسي والأمني في المنطقة، وخصوصاً في العراق، بحيث تحوّل الواقع هناك إلى مجازر يوميّة متحرّكة ضدّ الشعب كلّه، بفعل الفوضى الأمنيّة والسياسيّة التي أثارتها في هذا البلد.

ثم بدأ الغرب يخطّط للسيطرة على سوريا ولبنان، من أجل أن يكون لبنان ساحةً لنفوذه السياسي في المنطقة. وهكذا، بدأ بإصدار القرارات المتنوّعة ضد قوى المعارضة للسياستين الأمريكية والإسرائيلية في لبنان، من مجلس الأمن الذي استطاع الغرب أن يصادره من خلال ضغوطه على الأعضاء الدائمين وغيرهم، فكان القرار 1559، وما تلاه من قرارات من أجل نزع سلاح المقاومة، حمايةً للأمن الاسرائيلي، ليكون لبنان ساحةً مفتوحةً للضغط الإسرائيلي، فلا يملك أيّ قوّة لردّ عدوانها.

المقاومة هزمت إسرائيل:

وقد كان التحرير عام 2000 الذي أنجزته المقاومة في لبنان صدمةً لأمريكا وإسرائيل، لأنّه استطاع أن يُنزل بإسرائيل الهزيمة بشكل مباشر لأوّل مرّة في تاريخها. ولذلك بدأ الغرب يخطّط ـ مع حليفته إسرائيل ـ كيف يثأر من هذه القوّة المقاوِمة التي تتمتّع بالوعي والخبرة الجهادية والصلابة والإيمان، فبحث عن مبرّر مهما كان، على الطريقة التي كانت تبحث فيها إسرائيل عن المبرّرات في عدوانها على لبنان، فكانت عمليّة خطف الجنديّين الإسرائيليّين، التي سبقتها عمليّات مماثلة انتهت بالتبادل مع الأسرى، هي المبرّر الذي نفّذت من خلاله أمريكا وحليفتها إسرائيل ما خطّطته لإسقاط القوّة المقاومة في لبنان، من أجل فرض سياستها التي أعلنت عنها، وهي تحريك مشروع الشرق الأوسط الجديد، لا إنقاذ لبنان مما تسمّيه "فوضى السّلاح".

وهكذا، حشدت قوى الشر في العالم من خلال المستكبرين الذين اجتمعوا في مؤتمر الثمانية الكبار في روما، ثم في مجلس الأمن، لاستصدار القرار 1701 لمصلحة إسرائيل التي انهزمت عسكريّاً في الحرب ضدّ المقاومة، وذلك باعتراف مسؤوليها السياسيين والعسكريين، في الوقت الذي كانت أمريكا تنتظر منها تحقيق أهدافها في إسقاط المقاومة ميدانياً تمهيداً لنـزع سلاحها، ولذلك امتنعت الإدارة الأمريكية ـ برئاسة بوش ـ عن إقرار قرار وقف إطلاق النار الذي ارتفعت الصيحات في العالم الإسلامي والعربي وبقيّة أحرار العالم للمطالبة به احتجاجاً على المجازر الإسرائيليّة، واستمرار الحرب ضدّ المدنيّين العزّل الذين كانت إسرائيل تهدم بيوتهم على رؤوس أهلها من الأطفال والنساء والشيوخ، وخصوصاً في قانا ومروحين وصريفا والدوير وعيناثا والقاع وغيرها من القرى؛ لأنّ أمريكا كانت تنتظر نصراً للجيش الإسرائيلي، لكنه لم يستطع تحقيقه على الأرض.

وهكذا، رحّبت إسرائيل بالقرار من خلال بعض بنوده، وغموضه الذي يمنحها تفسيره بما يحقّق مصالحها. ولا يزال وقف إطلاق النار جامداً في هذا القرار، ولا تزال أمريكا تهدّد باستصدار قرار آخر من أجل نزع سلاح المقاومة، ولا تزال الدول الغربيّة خاضعةً للإرادة الأمريكية في إدارتها الحاليّة؛ لأنّ الغرب لا يمنح العرب والمسلمين أيّ احترام سياسي أو أمني أو اقتصادي، ولا سيّما أنّ هؤلاء قبلوا بالضعف الذي تمارسه حكوماتهم أمام الغرب وإسرائيل، ولم يحرّكوا ساكناً في استخدام عناصر القوّة التي يملكونها، بل إنّهم سقطوا ـ مع بعض الساسة اللبنانيّين ـ أمام تأييدهم للحرب الإسرائيلية ضدّ لبنان.

الغرب لا يحترم الشرعية الدولية:

إنّ مجلس الأمن لم يضغط على إسرائيل في كلِّ تاريخه منذ تأسيس الكيان العبريّ، وفي القرارات التي صدرت عام 67، ومنها القرار 194، والذي اعترف بحق عودة الفلسطينيّين إلى بلدهم، ولم تطبّق إسرائيل أيّ قرار، من خلال الغطاء الأمريكي الذي يعمل لحمايتها بالتّهديد باستعمال حقّ النقض (الفيتو)، وما زال مجلس الأمن يمنع من إدانتها على ارتكابها المجازر واختراقاتها للبنان وفلسطين، على الرغم من حديثه عن الحلّ السلمي الذي لم تضغط أمريكا لتحقيقه، لأنّ إسرائيل ترفض السلام الذي يمنح الشعب الفلسطيني حقّه في تقرير مصيره، وإنشاء دولته المستقلّة القابلة للحياة، ذلك لأن المجتمع الدولي ـ وفي مقدّمته أمريكا ـ لا يحترم الشرعية الدوليّة إذا كانت ضدّ مصلحة إسرائيل، ويؤكّدها إذا كانت ضدّ العرب والمسلمين.

وفي هذا الجوّ، نجد أنَّ الرئيس بوش الذي يتحدث عن بعض المساعدات الماليّة للبنان، هو نفسه الذي زوّد إسرائيل بالقنابل الذكيّة المتطوّرة التي قتلت المدنيّين العزّل الأبرياء من الشعب اللبناني، وأنّ بريطانيا هي التي كانت الجسر الذي ساهم في إيصالها إلى إسرائيل. إنّهم القتلة المتوحّشون الذين يرفضون حماية الطفولة في لبنان، ثمّ يحدّثوننا بعد ذلك عن المساعدات الإنسانية وعلب الحليب، تماماً كما لو أنهم كانوا يتصوّرون أن شعبنا يعيش السذاجة الإنسانيّة السياسية.

الأخذ بأسباب الوحدة وإرادة العزة:

وما يزال الحقد الغربي الأعمى يخضع ـ كخضوع أمريكا ـ للكيان العبريّ، ويحتقر العالم العربي والإسلامي، ولا يجد أيّ حقّ له من حقوق الإنسان؛ لأنّ الأساس عنده هو أن يبقى هذا العالم البقرة الحلوب لرخاء الغرب الاقتصادي. وهذا ما يفرض على العرب والمسلمين أن يأخذوا بأسباب القوّة، ليحرّكوا عناصر الضغط عندهم، ولا يستسلموا لحركة المجتمع الدولي ضدّ مصالحهم تحت عنوان الشرعية الدوليّة، والتي هي شرعيّة الغرب في مصالحه، لا شرعيّة الشعوب الحرّة المستضعفة في قضاياها الحيويّة المصيريّة.

أيّها اللبنانيّون السياسيّون والحاكمون: لتكن لكم ـ ولو لبعض الوقت ـ إرادة أن تكونوا أحراراً في دنياكم، وإرادة العزّة والسيادة والاستقلال، ولتطلقوا الصرخة القويّة ضدّ الحصار البحري والجوي الذي تفرضه إسرائيل بغطاء من أمريكا، لأننا بحاجة إلى الكلمة القوّية التي تعرف أن تقول "لا" في مواقع الرفض للإذلال الإسرائيلي والأمريكي للشعب كلّه.

ويا أيّها العرب والمسلمون: لتكن لكم إرادة التحدّي للاستكبار الذي يصادر كلّ مواقعكم في العزّة والكرامة، ولا سيما أنّ الله تعالى أراد العزّة للمؤمنين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية