ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة ، ومما جاء في الخطبة الأولى :
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين". هذا نداء من الله تعالى للمؤمنين في المسألة الإعلامية التي يُراد من خلالها أن يتحدث بعض الناس أو بعض الأجهزة في كثير من الأوضاع التي تتصل بالأشخاص، وبالقضايا التي تتحرك في صعيد الواقع، لأن مسألة الإعلام فيما ينقله الناس من أخبار هي مسألة حيوية، لأنها تجعل الناس يتصوّرون القضايا بطريقة معينة مما يحركه الإعلام في كل أساليبه وفي كل مواضعه ومواقعه، وبذلك فإنه قد يسيء الى تصورات الناس للأشخاص وللأوضاع وللقضايا، ولا سيما في قضايا الحرب والسلم وما الى ذلك، مما يخطط له المستكبرون والذين يريدون للأمة أن تنحرف في تصوراتها وقضاياها. ونحن نعرف بأن مسألة الإعلام أصبحت من المسائل التي تتحرك فيها وفي التخطيط لها الأجهزة الدولية، ولا سيما الأجهزة المخابراتية، التي ليس دورها فقط أن تبحث عن الواقع ولكن أن تصنع الواقع، ولعل بعض أساليب ووسائل صناعة الواقع هي صناعة التصورات المنحرفة التي يُراد من خلالها إسقاط وضع أو بناء وضع، مما يتصل بمصير الأمة هنا وهناك. وعلى ضوء هذا، جاء التوجيه الإلهي للمؤمنين بأن عليهم أن يدرسوا شخصية الذي ينقل الخبر للناس، في أية قضية من القضايا، فإذا كان هذا الشخص من يخاف الله تعالى ويتحمّل مسؤولية الكلمة التي يقولها، والفكرة التي يحاول أن يركزها، فمن الممكن أن يتقبلوا خبره ويرتّبوا الأثر عليه، أما إذا كان إنساناً لا يخاف الله، كان إنساناً فاسقاً يتمرد على الله تعالى ويستحلّ الكذب فعليهم أن لا يقبلوا خبره، بل أن يصلوا الى القضية التي يتحدث عنها بوسائلهم الخاصة، ليتبيّن لهم الصدق من الكذب والحق من الباطل، لأنهم إذا لم يتبيّنوا ولم يتثبّتوا وأخذوا بأقوال الفاسق فإنه قد يدفعهم الى أن يتصرفوا بدون مسؤولية، فيصيبوا قوماً بجهالة فيندموا حيث لا ينفع الندم. وقد عالج الله تعالى هذه المسألة على أساس القاعدة التي رسمها لما يتحرك به الإنسان في كل أموره وقضاياه، في أقواله وأفعاله واقتناعاته، وذلك هو قول الله تعالى: "ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا". فلا بد للإنسان إذا أراد أن يتبع أيّ وضع أو أية كلمة أن يدرس شخصية الذي يطلق الكلمة أو الذي يركّز الوضع أو الذي يحرّك القناعة حتى يتبيّن له إذا كان ممن يفيد قوله الثقة والاطمئنان والعلم، لأن الله تعالى سوف يسأل الإنسان يوم القيامة، عندما يقف الإنسان بين يديه سبحانه وتعالى، عمّا سمع وكيف سمع، وعمّا أبصر وكيف أبصر، وعمّا اعتقد وكيف اعتقد، لأن الله تعالى يريد للإنسان أن ينطلق من خلال قاعدة ثابتة في الوعي والعقل والحياة كلها. وقد أراد الله تعالى للناس أن يتثبّتوا في القضايا التي تتصل بأمنهم، فلا يستعجلوا الحكم أو الحديث عنها: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه الى الرسول والى أولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم". وعليه، فإننا في هذه المرحلة التي يخوض فيها إعلام المستكبرين والمنحرفين الحرب الإعلامية الى جانب الحرب العسكرية والسياسية، نريد للمؤمنين أن يتثبّتوا فيما يسمعونه ويقرأونه، لأن الفاسق قد يكون شخصاً أو صحيفة أو إذاعة أو تلفازاً أو جهازاً سياسياً هنا وهناك. إن هذه المرحلة هي من أقسى المراحل التي واجهها الإسلام في كل تاريخه، لأن المستكبرين في كل فئاتهم، ولأن الكافرين بكل أوضاعهم، أطلقوا الحرب ضد الإسلام والمسلمين في كل مواقعهم وأوضاعهم، لأنهم لا يريدون للإسلام أن يكون قوة في العالم، بل يريدون له أن يكون مزقاً متناثرة، ولذلك فهم يعملون على تمزيق وحدة المسلمين وتفرقة صفوفهم. لذلك، علينا أن نتأدّب بآداب الله، وأن نتحرك في خط الوعي والعلم مما يمكن لنا أن نقف غداً بين يدي الله لنقدّم حسابنا فيما تكلمنا به وتحدثنا عنه وفيما سمعناه.
الخطبة الثانية بسم الله الرحمن الرحيم عباد الله.. اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، إن المرحلة التي يواجهها الإسلام والمسلمون من أقسى المراحل، فلا بد لنا أن نأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية ووحدة الموقف، وأن نعيش على أساس الاهتمام بأمور المسلمين... كونوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، كونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، إننا نواجه الآن موقفاً من أصعب المواقف في كل أوضاعنا الإسلامية، وعلينا أن نعرف ماذا هناك. إنها الحرب الأمريكية التي لا يزال الرئيس الأمريكي وأعضاء إدارته مصرّون عليها، وكأنهم لم يرتووا بعد من دماء أطفال لبنان ونسائه وشيوخه، ولم يشبعوا من لحومهم، كما لو كان اللبنانيون بنظر هذا الرئيس وإدارته من الهنود الحمر الذين كان الجنود الأمريكيون يصطادونهم كما يصطادون الأرانب.. إنها حرب أمريكا على لبنان بصفتها جزءاً من حرب أشمل، أو على الأقل بكونها خطوة مهمة نحو إحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسّع الذي تعثّر في العراق، أو تعويض خسائرها النسبية في بلاد ما بين النهرين عبر ربح دولاً أخرى تعمل الإدارة الأمريكية لكي يكون لبنان أول حبة في عنقودها.. وربما كان من بين أهدافها استعادة هيبة الردع الأمريكي التي تآكلت بسبب الضربات التي تتلقاها قواتها في العراق، ومن ثم وقف تدهور المشروع الأمريكي الشرق أوسطي الذي وضعه المحافظون الجدد كجزء رئيسي من الاستراتيجية الأمريكية لتأييد السيطرة على موقعها في العالم. ولذلك، فإن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي في الحرب على لبنان أُريد له أن يخضع للتدمير المنظّم لكل بنيته التحتية، ولتشريد شعبه ولا سيما أبناء الجنوب، في عملية إبادة متحركة بكل الوسائل العسكرية التي منحتها أمريكا للعدو الصهيوني سابقاً ولاحقاً لتلاحق المدنيين بكل وحشية بربرية، بما في ذلك تهديم البيوت على رؤوس أهلها، على طريقة مجزرة قانا الثانية التي حصدت عشرات الأطفال، بالإضافة الى أمهاتهم وأبائهم.. ولا تزال أمريكا تزوّد العدو بأكثر القنابل تقدّماً للفتك باللبنانيين المدنيين من دون أيّ حساب، لتقتل أكبر عدد منهم، الأمر الذي يؤكد للعالم سقوط كل الشعارات التي يطلقها الرئيس الأمريكي في الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الإنسانية، وليعرف الناس المستضعفون في العالم، ولا سيما في المنطقة العربية والإسلامية، أن الإدارة الأمريكية الحالية تمثل الخطر السرطاني على الإنسان كله، وعلى جميع المستويات. لقد أرادت أمريكا أن تكون إسرائيل هي القوة الأكبر في المنطقة، لتكون يدها الضاربة التي تضرب فيها كل الأنظمة العربية، بما في ذلك كل الأنظمة العربية بما في ذلك الأنظمة المتعاملة معها، حتى أنها فرضت على بعضها الصلح مع العدو من موقع الهزيمة السياسية والنفسية والعسكرية، كما فرضت على بعضها الآخر أن تتفق معها في ممثليات تجارية على صعيد العلاقات التطبيعية التي تفتح لإسرائيل في العالم العربي كل الفرص الاقتصادية لتصدير منتجاتها على حساب إسقاط المشروع العربي في المقاطعة الاقتصادية.. وهكذا بدأ الخوف العربي من العدو يجتاح كل عقول حكّام العرب وغير العرب، حتى أصبح الطريق الى العلاقات مع أمريكا يمر بالعلاقة مع إسرائيل.. وقد تحركت الإدارة الأمريكية لمواجهة كل قوى التحرر والرفض والممانعة للاحتلال بالحصار والعنف الأمني والسياسي، سواء في فلسطين أو في لبنان، وأطلقت تهمة الإرهاب لكل فريق يطلب الحرية لشعبه ويرفض الاحتلال لأرضه والسيطرة الأمريكية الاستكبارية على مقدّراته السياسية والاقتصادية، وخضعت الأنظمة التي وظّفتها المخابرات المركزية الأمريكية لحساب خطتها في السيطرة على المنطقة ومقدّراتها.. ولا تزال فلسطين تعاني من تدمير البنية التحتية لشعبها، ومن الحصار العربي، بالإضافة الى الحصار الإسرائيلي في كل عمليات الاغتيال بكل الأسلحة الأمريكية، ومنع أية خطة للسلام بالرغم من الحديث عن دولة فلسطينية قابلة للحياة الى جانب الكيان الصهيوني، في عملية نفاق اللجنة الرباعية الدولية الخاضعة لأمريكا.. وهكذا، رأينا كيف تحوّلت الخطة الأمريكية لتدمير لبنان تحت شعار حمايته ومساعدته في الحصول على القوة.. ومن الطريف أن أمريكا تتحدث عن الجيش اللبناني كقوة لبسط الدولة سيطرتها من خلاله على لبنان، في الوقت الذي تقصف فيه إسرائيل ثكنات هذا الجيش، وتقتل ضباطه وجنوده، من دون أيّ احتجاج أمريكي أو أوروبي أو حتى عربي على ذلك، مما يوحي بأن المسألة هي إضعاف كل قوة لبنان في هذه الحرب المجنونة التي تريد لها أمريكا الاستمرار بحجة الحل الشامل الذي يكفل الاستقرار للبنان.. إن القضية كل القضية لدى أمريكا وحلفائها هي حماية الأمن الإسرائيلي من كل القوى التي ترفض الاحتلال والهيمنة الصهيونية، ولكن حساب "الحقل الصهيوني" لم يتناسب مع حساب "البيدر اللبناني"، فقد انطلقت المقاومة في حركة المجاهدين ضد العدو الصهيوني لتواجه العنفوان الإسرائيلي الذي كان يتحدث عن الجيش الذي يخيف ولا يخاف، بخطة عسكرية شجاعة حكيمة لتبادله قصفاً بقصف، وقتالاً بقتال، بالطريقة التي لم يستطع فيها العدو أن يتماسك في المعركة، بحيث أنه لم يتمكّن من الحصول على أيّ نصر، مما جعله يلجأ الى قصف المدنيين بأكثر الأساليب والأسلحة وحشية.. وهذا هو الواقع الجديد الذي جعل حلفاء أمريكا وأصدقاء إسرائيل من بعض الأنظمة العربية يشعرون بهذه القوة الجديدة التي واجهت العدو بمنطق النصر على جنوده، مما بدأوا يحسبون له ألف حساب، حتى أنهم ـ بالرغم من إنكارهم الشكلي ـ أصبحوا يشجّعون العدو على الاستمرار في حرب لبنان أملاً في إنزال الهزيمة بالمقاومة.. ولكن الشعوب العربية والإسلامية انطلقت لتقف مع المقاومة بالتأييد المطلق، لأنها أعادت لها العنفوان العربي والإسلامي بالطريقة التي بدأت تهز الكثير من المواقع الرسمية.. إن هناك عصراً جديداً للانتصار في موقع الأمة الواسع الذي سوف ينطلق به جيل خلف جيل، وعلى العرب والمسلمين أن يدرسوا هذه التجربة الرائدة في حركة المجاهدين ويتابعوها في ساحة الصراع، ليعرفوا أن القضية ليست قضية نوع السلاح ولكنها قضية نوعية المقاتل المقاوم الذي يتحرك بالإيمان بالله، والثقة به، واستمداد القوة منه، بالإضافة الى خبرته العميقة في حركة القتال.. إنها حرب المقاومة ضد حرب أمريكا وإسرائيل، وسوف تمتد الى كل العالم العربي والإسلامي، وسوف ينتصر المجاهدون مهما طال الزمن، ومهما تعقّدت الأوضاع، "ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز". |