يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(آل عمران/102-104).
يدعو الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة المسلمين جميعاً إلى أن يفكروا بالتقوى بكل درجاتها ومواقعها، وذلك بأن يجعل المؤمن الله نصب عينيه فيكون الله تعالى عقلاً في عقله فلا يحرّك عقله إلا بما يرضي الله، لأن الله يراقب الإنسان في حركة عقله كيف يحرّكه في نفع الناس أو في الإضرار بهم، لأن بعض الناس يجعلون عقولهم في خدمة المستكبرين والظالمين والمنحرفين، هؤلاء الذين يوظفهم الظالمون كمستشارين ومساعدين، بحيث يشيرون عليهم كيف يظلمون ويقهرون ويغشون.
وعلى الإنسان أن يتقي الله في نبضات قلبه، أن يحبّ من يحبّه الله ويبغض من يبغضه الله، أن لا تكون محبته لمن يبغضه الله، وأن لا تكون بغضاؤه لمن يحبّه الله، وقد ورد في الحديث: «إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإن كان قلبك يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبّك، وإن كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحب». وقد ورد في حديث الإمام الصادق (ع): «وهل الدين إلا الحب»، يُعرف دينك من خلال من تحبّ وما تحبّ.
ولا بد أن تتقي الله وتراقبه في كل قول وفعل ومعاملة وعلاقة وموقف، وهذا هو معنى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، كما يجب وينبغي أن يُتقى، وقد ورد في الحديث: «خف الله كأنك تراه ـ بحيث تستشعر إنّ الله أمامك وأنت تعصيه، ألا تخاف منه؟ نحن نخاف من أطفالنا أن يكتشفوا عملنا إذا كان عملاً نستحي به ـ فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وهو يراقبك ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فلا يكن الله أهون الناظرين إليك.
الحفاظ على التقوى:
والمطلوب أن تستمر هذه التقوى، ولتكن كل حياتك إسلاماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، فعليك أن تحافظ على إسلامك أكثر مما تحافظ على مالك لأن الإسلام يمثل المصير. ولذلك على الإنسان أن يكون حذراً ممّا يحيط به، فربما يُصاحب شخصاً يضلّه عن دينه ويبعده عن تقواه، والله يحدّثنا عن بعض الناس: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ـ الذي ظلم نفسه بالمعصية ـ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ـ ليتني لم اتخذ فلاناً صديقاً، صاحباً، زعيماً ـ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}(الفرقان/27-29)، وقد حدّثنا الله تعالى عن يوم القيامة عندما يجمع الناس مع الشيطان ويتبرأ منهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}(إبراهيم/22)، فعلى الإنسان أن يحافظ على إسلامه فلا يضلّه عنه أحد، ولا سيما عندما يعيش في أجواء الضالين والظالمين، ممن يسيرون مع بعض الزعامات السياسية الشيطانية التي تأمره بالمنكر وتمنعه عن المعروف.
الوحدة بين المسلمين:
ثم يؤكد الله تعالى على الوحدة بين المسلمين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ـ وحبل الله هو القرآن والإسلام، والاعتصام بكتاب الله أن نتمسك بكل مفاهيمه العقيدية والشرعية والحياتية، بحيث لا يتحرك الإنسان في أيّ فكر أو خط إلا إذا وجد ذلك في كتاب الله، فاجتمعوا جميعاً على حبل الله ـ وَلا تَفَرَّقُوا ـ بأن يتخذ كل واحد منكم مذهباً غير ما يتخذه الآخر من مذهب، وتتفرقوا على كتاب الله وسنّة رسول الله، بل عليكم أن تتوحدوا بهما. وقد أكد الله هذه الوحدة الإيمانية على الرسل لأن الرسالات واحدة وإن اختلفت في بعض التفاصيل، وقد خاطب الله تعالى الرسل كلهم منذ عهد آدم (ع) إلى عهد النبي محمد (ص): {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ـ ولكن أتباعهم لم يلتزموا بذلك ـ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون/52-53) ـ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ـ وهذا كان في عهد الدعوة الأولى عندما كان أهل المدينة متفرّقين بين عشيرتي الأوس والخزرج ـ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ـ عندما دخل الإسلام إلى قلوبكم تآلفتم ـ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ـ لأن الله تعالى عقد الأخوة بين المسلمين وحمّلهم مسؤولية إصلاح ذات البين إذا اختلفوا فيما بينهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(الحجرات/10) ـ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ـ من خلال الكفر الذي يؤدي بكم إلى السقوط والنـزاع والاختلاف ـ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران/103).
مواجهة الفساد:
ثم يحمّل الله تعالى الأمة الإسلامية مسؤولية مواجهة كل الفساد السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي داخل الأمة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ـ في مقابل الشر ـ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ـ الذي أراده الله لهم أن يكون طابع كل حياتهم وأوضاعهم ـ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ـ على أساس الدعوة إلى الوحدة ـ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}(آل عمران/104-106).
وعلى ضوء هذا، لا بد للمسلمين من أن يأخذوا بأسباب الوحدة الإسلامية، ليقفوا صفاً واحداً في مواجهة الكفر والاستكبار والظلم كله، وإذا كان المسلمون يختلفون فيما بينهم في بعض الجوانب التي تتصل بالعقيدة أو الشريعة أو ببعض شؤون الحياة في المسألة سياسية هنا أو اجتماعية هناك، أو اقتصادية هنالك، فعليهم أن يرجعوا إلى الله والرسول، لأن معنى أن تشهد الشهادتين هو أن تلتزم بالله وحده فيما يقوله ويوحي به، وأن تلتزم بالرسول في كل ما يبلّغه ويعلّمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}(النساء/59)، فلا يكفّر بعضكم بعضاً ولا يضلل بعضكم بعضاً، بل إذا اختلفتم فافتحوا القرآن وسنّة النبي (ص) لتستنطقوهما...
إن الله يريدنا أن ننطلق من خلال الوحدة والمحبة والموقف الواحد والموقع الواحد، لأن أعداء الله ورسوله وأعداء المسلمين قد اتحدوا من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين، وهذا ما نلاحظه في كل الخطط التي تتحرك من خلال المواقع الأمريكية والأوروبية وغيرها، وقد أصبح المسلمون في هذا العصر لا يمارسون قضاياهم بأنفسهم، بل إن الكفر كله والاستكبار كله هو الذي يخطط لهم كيف يتحركون ويواجهون الأمور، حتى عاد المسلمون ممزّقين متناحرين يقتل بعضهم بعضاً ويكفّر بعضهم بعضاً، لذلك فإنّ المسؤولية كبيرة كبيرة، لأن لله يريدنا أن نأخذ بأسباب العزة، وقد ورد في حديث الإمام الصادق(ع): «إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً».
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله وواجهوا الموقف في هذه المرحلة بكل مسؤولياتكم الإسلامية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو أمنية أو اقتصادية وحدّقوا بالمستكبرين كيف يخططون وينفّذون ويظلمون ويقهرون ويصادرون ثروات الأمة ويطوّقونها بكل ما لديهم من وسائل القوة الغاشمة الظالمة، فماذا هناك؟
اللهاث وراء الصوت اليهودي:
في الكونغرس الأمريكي ـ بمجلسيه وتمام أعضائه ـ حفلة تصفيق غير مسبوقة، ولثمانية عشر مرة، احتفاء برئيس حكومة العدوّ الذي لا يحظى بمثل هذا التكريم حتى في الكنيست الإسرائيلي، كان ذلك بعد استقبال الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته لـه بحفاوة كبيرة، مع بعض الكلمات المتصلة بالحل السياسي مع الفلسطينيين بطريقة خجولة، الأمر الذي يوحي للعالم العربي والإسلامي بأن أمريكا ـ بوسطها السياسي كله ـ خاضعة لإسرائيل، ولا سيما بعدما صوّت مجلس النواب الأمريكي بمنع المساعدات عن الشعب الفلسطيني، لأنه يرى في هذا الشعب شعباً إرهابياً لا بد من تجويعه وحرمانه حتى الموت لمصلحة الشعب اليهودي.
إن هذا الموقف من الكونغرس الأمريكي كان بمثابة إشارة إلى أن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقرر إجراؤها في الخريف المقبل قد اتخذت شكل اللهاث خلف الصوت اليهودي المؤثّر، وخلف تمويل المؤسسات اليهودية النافذة، في الوقت الذي لا يمثّل الصوت العربي والإسلامي الأمريكي أية قيمة في المستقبل السياسي في أمريكا، بل إننا سمعنا أصواتاً عربية ولبنانية تمنح تأييدها وتكريمها للمندوب الأمريكي في مجلس الأمن، الذي صرّح المندوب الإسرائيلي في هذا المجلس أنه العضو السادس في بعثة إسرائيل، من خلال دعمه للقضايا الصهيونية في المجلس، ما يبعث على التساؤل عن إرسال وفد نيابي من فريق 14 آذار لتأكيد هذا التكريم؟!
ولا يزال الموقف الأمريكي ـ ومعه الأوروبي ـ يدعم المجازر الإسرائيلية اليومية ضد الشعب الفلسطيني، فلا يخلو يوم واحد من سقوط أكثر من شهيد أو جريح أو معتقل، أو تدمير أكثر من موقع من قِبَل الجيش الصهيوني، من دون أية إدانة أمريكية أو أوروبية أو حتى عربية... وفي المقابل يحاول هؤلاء أن يفرضوا على الحكومة الفلسطينية وعلى السلطة أيضاً الخضوع للشروط الإسرائيلية، واعتبار قضية الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني قضية أمنية لا سياسية، ولا يجدون في المستوطنات والجدار العنصري الفاصل أية مخالفة للقرارات الدولية.
التآمر الأمريكي في إيران والعراق:
وتبقى إيران في ملفها النووي السلمي خطراً على العالم ـ بما فيه أوروبا ـ في حسابات أمريكا، التي تحاول الإيحاء بأن أمريكا تقوم بعملية ردع ضد إيران لحماية أوروبا والعالم، في الوقت الذي يعرف الجميع إنّ أمريكا وإسرائيل هما الخطر على منطقة الشرق الأوسط كلها من خلال ما يملكان من قوة تدميرية، ومن خطط الحرب الاستباقية.
أما العراق، فقد استطاع تأليف حكومته المنتخَبة التي أحاطت بها التحديات الداخلية والخارجية من كل مكان، وحاصرها الاحتلال الذي لا يريد للعراق أن يأخذ بأسباب القوة لأنه لا يريد الانسحاب منه حتى استكمال خططه الاستراتيجية، هذا فضلاً عن المجازر اليومية التي تفتك بالمدنيين في مساجدهم وأسواقهم وأماكن عملهم من قِبَل هؤلاء الذين لا يملكون أيّ معنى للإنسانية، فيخرّبون بلادهم بأيديهم وأيدي المحتلين... إننا ندعو الشعب العراقي إلى أن يجد في حكومة الوحدة الوطنية الأساس للوحدة وللقوة التي تنفتح به على الحرية والسيادة والاستقلال.
المقاومة قوة تحريرية جهادية:
ومن جانب آخر، فإن الفريق الأمريكي والأوروبي في مجلس الأمن لا يزال يضغط لنزع سلاح المقاومة في لبنان في الداخل والخارج، وذلك من جهة حماية الأمن الإسرائيلي الذي يواجه قوة جهادية تحريرية لحماية لبنان من العدوان الصهيوني في احتلال أراضيه وتهديد أمنه... لأن الخطة الأمريكية هي معاقبة الشعب اللبناني ومقاومته على الهزيمة التي أوقعها بالكيان الصهيوني في انسحابه من لبنان من دون قيد أو شرط، وقد تبنّى ذلك بعض اللبنانيين الذين لا يريدون للمقاومة أن تبقى قوّة صامدة متحدية للعدوان الإسرائيلي، كما أنهم لم يعملوا في علاقاتهم بالوصاية الأمريكية والفرنسية على إعطاء القوة القادرة الضاربة للجيش اللبناني، لأن المجتمع الدولي الخاضع لأمريكا لا يريد للجيش اللبناني أن يأخذ بأسباب القوة في مواجهة إسرائيل...
المقاومة فخر لكل عربي:
لقد أثبت المجاهدون من شباب لبنان في المقاومة أنهم كانوا القادرين بإيمانهم على هزيمة العدو من بين العرب، وأنهم هم الذين يستطيعون بإرادتهم وتجاربهم وخبراتهم أن يكونوا في المستقبل طليعة المواجهة في الانتصار على العدو، وإذا كان اللبنانيون مخلصين لاستقلالهم فإن عليهم أن يقفوا مع المقاومة، ويرفضوا نزع سلاحها، لأنها لا تزال تمثل الحاجة الضرورية لمنع أيّ عدوان صهيوني على لبنان...
لقد وقف العالم العربي والإسلامي بكل أطيافه مع المقاومة، واعتبرها القوة الطليعية التي استطاعت أن تمنح الأمة شرفها وعنفوانها في ساحة المواجهة للعدو الذي هزم أكثر من دولة عربية، وقد رفعوا لبنان ـ بمقاومته ـ راية يستظلون بها ويتشرّفون بأن يتقرّبوا منها، بينما تندفع أطراف من محترفي السياسة في لبنان في تأييد قرارات دولية اتُخذت ضمن ظروف معلومة وخدمة لأغراض معلومة إلى حد تهديد وحدة البلاد، ملوّحين بفيدراليات الطوائف التي تستدعي ـ حكماً ـ الحماية الأجنبية للتخلّص مما يصوّرونه "بعبع" المقاومة وصواريخها ورجالها المجاهدين الذين مثّلوا خرقاً للمعادلات والتقاليد والمفاهيم السائدة على المستوى العربي بعامة وفي لبنان بخاصة، بعد سلسلة الهزائم التي مُني بها العرب في مواجهة إسرائيل مع جيوشهم، وهكذا أسقطت المقاومة صفحة العجز عن المواجهة والهرب منها إلى الصلح المنفرد واتفاقات الإذعان...
لقد كنا نتصوّر أن أدنى واجبات الحكومة اللبنانية أن تسجّل عيد المقاومة والتحرير عيداً من أعيادها الوطنية الكبرى التي يحتفل بها اللبنانيون جميعاً كعطلة رسمية، ولكنها تخاف من الضغط الأمريكي الذي يحرّكه سفير أمريكا في لبنان ومندوبوها الموفدون الذين لا يوافقون أن تكون مناسبة هزيمة إسرائيل على يد المقاومة عيداً للاستقلال الحقيقي في البلد...
إن المشكلة هي أن بعض اللبنانيين يخافون من أن يُضبطوا متلبِّسين بجلباب العزة والقوة أمام إسرائيل، ويتحدثون عن الدبلوماسية. ولكن الجميع يعرف أن الدبلوماسية لا تحقق شيئاً إلا إذا كان البلد قوياً في موقفه وموقعه، أما الضعفاء فلا يحصلون من الدبلوماسية الدولية على شيء، وهذا ما يتمثّل في سلوك المجتمع الدولي ـ ولا سيما الأمريكي ـ مع العالم العربي.
مقاومة إصلاحية في الداخل اللبناني:
ويبقى للشعب اللبناني أن يكون واعياً للمستقبل في مطالبته للحكومة بالخطة الإصلاحية التي تخطط للإصلاح السياسي والاقتصادي والأمني، وتعمل على تجاوز العجز المالي، وتدرس مواقع الهدر من الجهات التي سيطرت على وظائف الدولة، وتحاسب الذين أثروا على حساب اقتصادها بفسادهم المالي والإداري، ممّن كانوا لا يملكون شيئاً فأصبحوا من أصحاب الثروات الهائلة، ولا يزالون يسيطرون على مواقع الثروة الشعبية في الدولة من دون أن يحاسبهم أحد.