الغضب مفسد للإيمان
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً} (الفتح:26). يؤكِّد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، الفارق الأخلاقي بين الكافرين والمؤمنين، فالكافرون يعيشون الحالة النفسية والحركية التي تتميّز بالغضب الذي ينطلق من خلال الغريزة الحادّة، فيندفعون معه اندفاعة شعورية يفقدون معها عقلهم، ولا يدرسون الأمور دراسة على مستوى المصلحة والمفسدة والحسن والقبح، وهذا ما كان يسيطر على الجاهليّين الذين كانوا يتحركون من خلال هذه الحميّة، بوحيّ العصبية التي تنتفخ فيها أوداج الإنسان، فيتصرف من دون وعي.
أما المؤمنون، فإن الله تعالى أنزل سكينته عليهم وعلى رسوله، وأعطاهم العقل الذي لا ينفعل، بل يتصرف على أساس دراسة متأنية للأمور، ليحدّد المسألة بين الحسن والقبح، وبين النفع والضرر، وبين الخير والشر، ومنحهم سكينة القلب الذي لا ينبض إلا بالمحبة والخير، وهدوء الحركة التي تعرف كيف تبدأ وإلى أين تنتهي. ولهذا كانت تصرفاتهم منطلقة من خلال التقوى، فهم يراقبون الله في كل انفعالاتهم ومشاعرهم، حتى لا يخطئوا في قول أو في فعل، وحتى تكون كل أقوالهم وأفعالهم في خطّ رضى الله سبحانه.
وقد أكَّد النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع) هذه المسألة، فتحدثوا في أكثر من أسلوب عن القوة الغضبية. نحن نعرف أن الناس يغضبون عندما يواجهون بعض المشكلات وبعض الأذية من الآخرين. قد يغضب الإنسان في بيته وفي محل عمله، أو في مواقع المجتمع الذي تثور فيه العصبيات، ولذلك فقد يندفع بوحي هذا الغضب ليتصرَّف تصرفاً خاطئاً. وقد ورد في الحديث: "مَن لم يملك غضبه ـ ويمنعه من أن يندفع اندفاعة مجنونة ـ لم يملك عقله"، فالغضب يمثل حالة يغيب العقل فيها، ليتحرك الإنسان من خلال أحاسيسه الملتهبة، بدلاً من أن يتحرك من خلال حسابات عقله.
وقد ورد عن رسول الله(ص): "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخلُّ العسل". وقال أحد أصحاب الإمام الباقر(ع): ذُكر الغضب عند أبي جعفر، فقال(ع): "إن الرجل ليغضب، فما يرضى أبداً حتى يدخل النار ـ لأنّ الغضب قد يجرّه إلى أن يقتل أو يجرح أو يدمّر إنساناً آخر، فيؤدّي به ذلك إلى دخول النار. ولذلك أراد الإمام(ع) أن يقدّم لنا تجربة حركية، نستطيع من خلالها أن نخفف من أثار الغضب ـ فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم، فليجلس من فوره ذلك، فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، وأيما رجل غضب على ذي رحم ـ على ابنه أو أخيه أو أبيه أو زوجته ـ فليدنُ منه وليمسّه، فإن الرحم إذا مُسّت سكنت".
ونقرأ عن الإمام الصادق(ع): "الغضب مفتاح كل شر"، لأن الغضب عندما يحلّ بالإنسان، فإنه يدفعه إلى كثير من الشرور، فقد يغضب، فيقتل نفسه، أو يقتل الإنسان الآخر، أو يحطّم أثاث بيته وما يتصل بقضاياه ومصالحه، وقد يغضب، فيكشف سرّه، أو أسرار الناس، ولدينا كثير من الأسرار التي نحملها عن الناس الآخرين، قال الشاعر:
أغضِبْ صديقك تستطلع سريرته للسـرّ نافذتـان: السِكْر والغضـب
ما صرّح الحوض عمّا في قرارته من راسب الطين إلا وهو مضطرب
إمساك الغضب يطفىء جمرة الشيطان
وعن أبي عبد الله الصادق(ع): "سمعت أبي يقول: أتى رسول الله رجل بدوي وقال: إني أسكن البادية، فعلّمني جوامع الكلام ـ الكلمة التي تجمع لي فيها الخير كله ـ فقال(ص): آمرك ألا تغضب... وكان أبي يقول: أيّ شيء أشد من الغضب، إن الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرّم الله، ويقذف المحصنة". وعنه(ع): "من كفّ غضبه، ستر الله عورته". وعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: "مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى: يا موسى، أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه ـ كل الناس الذين هم تحت سلطتك ـ أكفّ عنك غضبي". وقال أبو عبد الله الصادق(ع): "أوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض أنبيائه: يابن آدم، اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وأرض بي منتصراً، فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك".
وعن أبي عبد الله(ع) قال: قال رجل للنبي(ص): يا رسول علّمني، فقال(ص): "اذهب ولا تغضب... فقال الرجل: قد اكتفيت بذلك، فمضى إلى أهله، فإذا بين قومه وبين جماعة حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثمّ قام معهم، ثم ذكر قول رسول الله(ص)، فرمى السلاح. ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدوّ قومه، فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر، فعليَّ في مالي أنا أوفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم، فاصطلح القوم وذهب الغضب"، لأنه عندما رجع العقل، جاءت الحكمة وحسابات المصلحة والمفسدة. وعن الإمام الباقر(ع): "إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه، وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه، فليلزم الأرض، فإن رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك".
علينا أن نحاول دائماً أن نتحرَّك بوحي هدوء العقل والقلب والمشاعر والأحاسيس، لنعرف كيف نبدأ وإلى أين ننتهي، وقد قال رسول الله(ص) مما روي عن الإمام الباقر(ع): "من كفّ نفسه عن أعراض الناس، أقال الله نفسه يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس، كفّ الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة"، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
إننا نعيش في مرحلةٍ تسيطر علينا فيها المشاكل، ويتحدّانا فيها الفقر والحرمان وكل الأوضاع العسكرية والسياسية، ما يجعلنا في حالة انفعال دائم، لذلك علينا أن نربي أنفسنا تربية روحية عقلانية، لنجعل مجتمعنا مجتمعاً للخير والحياة التي يريد الله أن يكون أساسها السكينة والتقوى.
الخطبـة الثانيـة
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله في كل أموركم ومسؤولياتكم، فإن الله جعل الجنة للمتقين، وأراد لهم أن يعيشوا الحياة مع الناس كافةً، ليكونوا خيراً ومحبة، وليأخذوا بأسباب الوحدة التي توحّد المسلمين في موقف واحد وموقع واحد، وعلينا أن نقف في مواجهة الاستكبار العالمي الذي يكيد للإسلام والمسلمين، ويعمل على إيجاد الفرقة فيما بينهم، وإسقاط كل مصالحهم، لنحذِّر من ذلك وننتبه إليه، فماذا هناك؟
حذار من 17 أيار جديد
ما زالت إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ تخطِّط وتضغط من أجل اجتذاب لبنان إلى تسويةٍ معها، تحت تأثير شروطٍ مهينة كما حدث في ظلّ الاجتياح، في اتفاق 17أيار الذي أُريد لـه إسقاط استقلال الوطن وتحويله إلى بلد تابع لسيطرتها، ولولا الحركة الشعبية وقوى الممانعة الداخلية المتمثلة بالموقف الإسلامي العلمائي والمقاومة ضد الاحتلال، لتَكَرَّس اتفاق العار، ولاسيما بعدما صوّتت الأكثرية في المجلس النيابي اللبناني حينها لمصلحته.
والآن ـ مع ذكرى هذا الاتفاق ـ لا بدَّ لنا من مواجهة الأحداث الأخيرة التي تفرضها أمريكا على الواقع اللبناني في ضغوطها على سياسته، بهدف إبرام اتفاق جديد لمصلحة العدو، الأمر الذي يفرض علينا الاستعداد لمواجهة الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية الجديدة التي تتحرك لإسقاط المقاومة في سلاحها التحريري الجهادي، ولاعتبار سوريا هي العدو الجديد بدلاً من إسرائيل، والتركيز على إيران بأنها "محور الشر"، لأنها تدعم قضايا الحرية والسيادة والاستقلال ضد الاحتلال على مستوى واقع الأمة كلها.
مجلس الأمن: قراراتٌ لمصلحة إسرائيل
وعلينا أن نعرف أن القرار 1559 قد يختلف في صيغته عن اتفاق 17 أيار، لكنه يلتقي به في المصلحة الإسرائيلية على حساب لبنان، من خلال إضعاف موقعه، وتحويله إلى ورقة ضغط على سوريا في مواقفها القومية، وإعادة لبنان إلى المقولة التاريخية، إن "قوته في ضعفه"، لأنه ليس من مصلحة أمريكا الإسرائيلية أن يأخذ لبنان بأسباب القوة في مواجهة العدو الصهيوني.
ومن جانب آخر، فإن أمريكا ـ ومعها فرنسا وبريطانيا ـ لا تزال تستخدم مجلس الأمن كورقة ضغط في مسألة سيادية بين الدول، وهي ترسيم الحدود، وإيجاد علاقات دبلوماسية بين سوريا ولبنان، وهو شأن غير دولي، ولا يتصل بصلاحيات مجلس الأمن من قريب أو بعيد، بل إن ذلك خاضع للاتفاق الثنائي بين البلدين... ونحن نعتقد أن القضية لا بد من أن تبلغ هذا النوع من الاتفاق، ولكن ليس بهذه الطريقة الضاغطة من التشهير السياسي والضغط الدولي.
إننا نسأل مجلس الأمن الدولي، والدول التي فرضت عليه القرار 1680: ماذا عن تنفيذ القرار 194 الذي يعطي حق العودة للفلسطينيين، والقرار 242 القاضي بانسحاب إسرائيل حتى خط الرابع من حزيران، وكذلك القرار 338؟ لماذا بقيت هذه القرارات من دون تنفيذ، ولماذا لا يترك مجلس الأمن للحكومتين اللبنانية والسورية أن تبحثا كل المواضيع العالقة بينهما بكل هدوء، من دون الضغط على هذه الدولة والوقوف إلى جانب تلك؟!
إننا نؤكد ضرورة العلاقات المميزة بين البلدين على المستويات كافّة، في موقف متكامل متواصل يؤكِّد حرية كل منهما، وعلى أساس الحقوق المتبادلة والاحترام المتوازن، لإبقاء اللحمة بين الشعبين، ومن دون أيّ انتقاص من استقلال هذا البلد أو ذاك... إن المشكلة هي في التحالف الاستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي الذي تخضع لـه أوروبا، وتلهث وراءه أكثر الدول المستضعفة، من خلال الضغوط الأمنية والاقتصادية والسياسية.
وعلى الشعوب أن لا تقع ضحية الخديعة الدولية التي تصادر مصالحها الحيوية وأوضاعها المصيرية للحفاظ على المصالح الأمريكية، وهذا ما نراه في احتلال العراق وأفغانستان، وفي الضغط على إيران في ملفها النووي السلمي، لأن الخطة الأمريكية تتمثّل في ألاّ يكون لإيران موقع قوة من حيث الخبرة العلمية التي تجعل منها قوةً كبرى.
إذعان عربي للسياسة الأمريكية
أما في فلسطين، فلم ترد إسرائيل للذكرى الـ58 للنكبة أن تمر بهدوء، بل عملت على صبغها مجدداً بالدم الفلسطيني القاني، وذلك من خلال الغارات الإسرائيلية على جنين والقباطية التي أسقطت 7 شهداء و18 جريحاً، وما زالت عمليات القتل والاغتيال والاعتقال تتواصل يومياً، والعالم يتفرّج، والأمم المتحدة مشغولة بإصدار القرارات لمصلحة إسرائيل ضد لبنان وسوريا وإيران. وتظهر الإحصاءات الدقيقة، أن عدد الفلسطينيين المشرّدين خارج فلسطين منذ أيام النكبة، بلغ نحو خمسة ملايين في نهاية العام 2005، والعالم لا يسأل: لماذا لا يعود هؤلاء إلى أرضهم، لأنه لا يفكر إلا في مصلحة إسرائيل اليهودية الصهيونية. وسوف يسافر رئيس وزراء العدو إلى أمريكا قريباً للقاء الرئيس الأمريكي وإدارته، ليحصل على تأييده لكل مجازره واجتياحاته ومشاريعه التي تصادر أرض الفلسطينيين وتشردهم منها لمصلحة المستوطنات والجدار الفاصل.
أما العرب، فإنهم لم ولن يسمعوا من هذه الإدارة الأمريكية ورئيسها إلا الحديث عن الإرهاب الفلسطيني ونزع سلاح الانتفاضة، تماماً كنزع سلاح المقاومة في لبنان... ويبقى المسؤولون العرب خاضعين خضوع الذلّ والصغار للسياسة الأمريكية ضد حقوق الشعب الفلسطيني، ولاسيما ضدّ حكومة حماس التي يحاصرها العالم من أجل تجويع الشعب، والتبشير بإسقاطها في القريب العاجل.
ويبقى العراق الجرح العربي المسلم النازف الذي يتحرك فيه الجزّار الوحشي التكفيري في قتل المدنيين العراقيين وخطفهم وتفجير مواقعهم، على مرأى ومسمع الجيش الأمريكي المحتل، لأن هذا الواقع سوف يطيل أمد بقائه في العراق... ويبقى النادي السياسي العراقي يتحرك من أجل تعطيل حكومة الوحدة الوطنية على أساس المحاصصة الطائفية التي تقوم عليها خطة السفارة الأمريكية في بغداد.
محاولات انقلاب على لبنان العربي
أما في لبنان، فيستمر الجدل في اللقاءات الحزبية، والكواليس الطائفية، والمصالح الشخصية، في عناوين الإصلاح الذي لم يلتقِ بخطة شاملة تعيد للبلد معنى الدولة بعيداً عن ساحة المزرعة، فيما لم يحقق الحوار أيّ نتائج في القضايا الحيوية والمصيرية التي تمنح الوطن عنفوان القوة التي يملك فيها الخطة الاستراتيجية في الدفاع عن نفسه أمام إسرائيل.
وتتحرك الحكومة من أجل فرض ضرائب جديدة يواجه فيها الناس الكثير من ضغوط الفقر والحرمان، أما بعض النادي السياسي، فإنه مشغول بتكريم الذين لا علاقة لهم بالعرب والعروبة، لأنهم كانوا ولا يزالون يصطادون في الماء العكر ضد المنطقة لمصلحة إسرائيل، ويبقى الشعار لدى أكثر من واحد من القيادات السياسية اللبنانية: إن علينا تكريم أمريكا ومندوبيها في مجلس الأمن وإدارتها، والانفتاح على أكثر من مؤتمر يهودي ضد المنطقة كلها، لإيجاد تحالف جديد بين الأقليات ضد لبنان العربي لحساب أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية، من خلال العقدة التاريخية لبعض الأطراف في لبنان ضد العرب في المنطقة كلها.