لتكن ذكرى المولد النبويّ ذكرى للعزّة والحرّيّة والقوّة

لتكن ذكرى المولد النبويّ ذكرى للعزّة والحرّيّة والقوّة

لتكن ذكرى المولد النبويّ ذكرى للعزّة والحرّيّة والقوّة...

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإنسانية النابضة بالرّحمة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(الأحزاب/45-46). نعيش في هذه الأيام، ذكرى رسول الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، من خلال القرآن الكريم الذي هو النور الذي يشرق في العقول ليفتحها على الحقيقة، وفي القلوب ليفتحها على المحبة والرحمة، وفي الحياة ليحركها في اتجاه الخير والعدل.

هذا الرسول الذي عاش رسالته في إنسانيته التي كانت تنبض بكل الرأفة والرحمة للناس كافة، وقد كان الرسول اليتيم الذي فقد أمه وأباه منذ انطلق إلى الحياة، فعاش للأيتام وللمساكين والفقراء والمتألّمين والملهوفين، ليردّ لهفتهم، وليخفّف عنهم آلامهم، النبي الإنسان الذي حدّثنا الله تعالى عن إنسانيته النابضة في كلُّ من حوله وما حوله، وهو قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة/128). هذا الرسول الرؤوف بالمؤمنين، والرحيم بهم، كان يتطلع إلى كل الناس الذين يعيشون معه ويحيطون به، ليتحسس كل متاعبهم ومشاكلهم، ليمنحهم الراحة من التعب، وليحلّ لهم كل مشكلة يعانونها، وليتابع كل ما يتحركون فيه في كل المواقع التي ينطلقون فيها؛ في أوضاعهم في بيوتهم، وفي مجتمعاتهم، في أسواقهم وسفرهم وحضرهم، ليوجههم، حرصاً عليهم أن لا يسقطوا ولا ينحرفوا ولا يتزلزلوا.

وكان(ص) كما قال الله في خطابه له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء/107)، فهو نبيّ الرحمة ورسول الرحمة الّذي ينفتح على كل العالم ليقول لهم: تعالوا إليّ، فالإسلام هو دين الرحمة، يرحم النّاس حتى لا يسقطوا، ولا يتعاطى معهم بالغلظة والقسوة. ومن هذه الآية نستوحي أنّ الإسلام ليس دين عنف وإرهاب وقسوة، كما يدّعي البعض، بل هو دين الرحمة، لأنّ النبيّ (ص) هو رسول الرحمة، لا من خلال ذاته، بل من خلال رسالته.

 

إننا لا نبرّئ السياسة الأمريكية التي تحمل الحقد الأسود ضد المسلمين في بلادهم، انطلاقاً من الفوضى السياسية والأمنية التي تمنح الأمريكيين حرية الحركة لإرباك الأوضاع كلها، في منع حركة التقدّم العلمي والاقتصادي والسياسي.

وقد تحدّث الله عن المؤمنين الذي يدخلون في الإسلام، فقال عنهم: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}(البلد/17)، فالمؤمنون يتراحمون فيما بينهم، ويوصي بعضهم بعضاً بالرّحمة في كل أمورهم. ولذلك، فإن المجتمع الإسلاميّ هو مجتمع الرّحمة الذي يرحم فيه القوي الضعيف، ويرحم فيه الغني الفقير، ويرحم فيه الحاكم المحكومين، ويرحم فيه الإنسان الحيوان. وقد ورد عن النبي(ص): «الراحمون يرحمهم الرحمن».

وقد حدّثنا الله تعالى عن أسلوب النبي(ص) في الدعوة، أنه كان رحيماً بلسانه وقلبه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران/159)، كان صاحب القلب الرحيم، وصاحب اللسان الرقيق الذي لا يعنف ولا يقسو، وقد وجّه المسلمين من خلال الوحي: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53).

مسؤولية حمل الرسالة:

وكانت رسالة النبي(ص) رسالة شاملة إلى العالم كلّه، وإلى النّاس كلهم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}(الإسراء/105)، وأراد الله له أن يخاطب الناس ليقول لهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}(الأعراف/158)، وأراد لهذه الرسالة أن تمتد في الحياة؛ أن تدخل عقول الناس ليرتفع العقل حتى يتصل بالحقيقة في نورها، وأن تنفتح بالإنسان على كل كيانه ليعيش إنسانيته.

 

إن أمريكا وأوروبا ـ ومعهما إسرائيل ـ تشنَّان الحرب بطريقة وبأخرى على العالمين العربي والإسلامي، وتبتزان مواردهما الاقتصادية، وتفرضان عليهما الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، وتمنعهما من اتخاذ أيِّ موقف قوي لصالح شعوبهما في القضايا الحيوية والمصيرية.

وقد أراد الله تعالى أن يتحمَّل المسلمون مسؤولية هذه الرسالة، لينقلها كل جيل إلى الجيل الذي يأتي بعده. ولذلك، فإن كل جيل من المسلمين يتحمل مسؤولية المشاركة في حمل الإسلام إلى الأجيال الأخرى، ويتحمّل مسؤولية الدعوة إلى الله لتصل إلى كل العالم؛ كلٌ بحسب ثقافته وقدراته، وقد أراد الله لكلّ منّا أن يبدأ بأهله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(طـه/132)، على أن لا تقتصر مسؤوليته على الاهتمام بأولاده وعياله فحسب، ليعيش اللامبالاة أمام مجتمعه، بل أن يشعر كل إنسان بأنّه رسول الله إلى أهله ومجتمعه، بحيث يبلّغ أهله ومجتمعه رسالة الله.

الإسلام أمانة الله والرّسول عندنا:

والله تعالى أراد أن يقدّم لنا المجتمع الذي صنعه رسول الله(ص) في تربيته لأصحابه، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}(الفتح/29)، وحدَّثنا سبحانه عن أتباع النبيّ(ص) في زمنه وفي كلِّ زمان ومكان، فقال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف/156-157).

إنها الدعوة التي تشمل كل زمان ومكان، إلى الإيمان بالله واتّباع رسوله. هكذا حدثنا الله تعالى عن الذين ينفتحون على رسالته ويتبعونه، هذه الرسالة الإنسانية التي تنطلق للارتفاع بالإنسان إلى أعلى مستوى، لأن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لتكون المجتمعات الإسلاميّة مؤهّلة لصنع الحضارة، وقد اعتبر الله تعالى العقل هو الحجة بينه وبين الناس، واعتبر العلم أساس القيمة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(الزمر/9)، وأراد لكل الذين يأخذون بأسباب العلم، أن يستزيدوا منه في كل مرحلة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(طـه/114)، وأراد للمسلمين أن يكونوا الأقوياء: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}(الأنفال/60). والإسلام عندما ينفتح على العالم، فإنه لا يحمل سيفاً يقتل به الآخرين، بل يحمل إليه روحاً وفكراً وعلماً وحضارةً، ويريد للعالم أن ينطلق على أساس الحضارة الإسلامية التي أغنته.

أيُّها المسلمون: ونحن نعيش ذكرى رسول الله(ص) في هذه الأيام، نؤكِّد من خلال هذه الذكرى، أنَّ النبي(ص) أراد للمسلمين أن يتوحدوا وينطلقوا فيما يختلفون فيه كما وجَّههم الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59). لقد برز في هذه المرحلة الشرك كله والكفر كله والاستكبار كله إلى التوحيد كله والإيمان كله والمستضعفين كلهم، ولذلك علينا أن نأخذ بأسباب الوحدة في كلِّ مواقعنا، فلا يقتل بعضنا بعضاً، ولا يلعن بعضنا بعضاً، ولا يكفّر بعضنا بعضاً، لأن الله أراد للمسلمين أن يعتصموا بحبل الله جميعاً. ولذلك، فإن كل من يحاول أن يثير الفتنة بين المسلمين، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه، وكل من يؤيد العصبية التي تجعل المسلم يقف ضد المسلم في وقت التحديات، ويعطي المستكبرين والكافرين الفرصة من أجل احتلال بلاد المسلمين والإيقاع بينهم، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}(الأنفال/27).

إن الإسلام هو أمانة الله والرسول عندنا، لذلك، لتكن ذكرى المولد النبوي الشريف ذكرى للإسلام كله، ولحركة المسلمين كلهم؛ ذكرى للعزة والحرية والقوة، لأن الله أرادنا أن نكون كذلك؛ أن نقاتل في سبيله القتال الثقافي والسياسي والعسكري صفاً واحداً، يدعم بعضنا بعضاً، وأن ننطلق من أجل أن يكون الإسلام دين العالم كله، ودين الحياة كلها: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التوبة/105).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المرحلة التي تعيشون فيها، بأن يكون الإسلام، في كلِّ مفاهيمه وعقيدته وشريعته، هو هدفنا، وأن يكون المسلمون أمة واحدة، يتحركون ليكونوا قوّةً للفكر والعدل والحياة، وليكونوا قوّةً في مواجهة الكفر والظلم والاستكبار، وتلك هي مسؤوليتنا تجاه الإسلام والمسلمين، وذلك هو قول النبي(ص): «من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع منادياً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم». لذلك، ومن خلال هذا الأفق الواسع الذي نتحمّل فيه مسؤوليتنا تجاه الإسلام والمسلمين، لا بدّ لنا من أن ندرس ما في الواقع الإسلامي في العالم كله، فماذا هناك:

أمريكا: ديمقراطية المجازر:

في المشهد الأمريكي، تثير الولايات المتحدة الأمريكية الضجيج ضد إيران التي أعلنت نجاحها في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، مهددةً بالعقوبات ضدها في مجلس الأمن الخاضع للسياسة الأمريكية في قراراته، بما في ذلك لجوؤها ـ ومعها إسرائيل ـ إلى الحلّ العسكري ضدّها...

 

إن كل من يحاول أن يثير الفتنة بين المسلمين، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه، وكل من يؤيد العصبية التي تجعل المسلم يقف ضد المسلم في وقت التحديات، ويعطي المستكبرين والكافرين الفرصة من أجل احتلال بلاد المسلمين والإيقاع بينهم، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه.

وفي جانب آخر، فإن الإدارة الأمريكية تتحرك ـ مع الاتحاد الأوروبي ـ في معاقبة الشعب الفلسطيني على ممارسته للديمقراطية في انتخابه لحركة حماس، بالمقاطعة الاقتصادية، في الوقت الذي يعلم الجميع، أن أوروبا وأمريكا تتحمّلان المسؤولية في قتل الفلسطينيين وتشريدهم من بلادهم، من خلال دعم الوجود الصهيوني في فلسطين. وما يزيد الأمر سوءاً، أن الأمم المتحدة قررت مقاطعة الحكومة الفلسطينية سياسياً، وذلك انصياعاً للضغط الأمريكي الذي منعها من إدانة المجازر الصهيونية الأخيرة للفلسطينيين، في قتل المدنيين والأطفال والنساء في مساكنهم، تماماً كما لو كان الجيش الصهيوني يجعل من غزة مركزاً للتدريب على قتل الناس بدم بارد حاقد، من دون أن تصدر أيّة إدانة أمريكية أو أوروبية لذلك، وفي ظل صمت عربي، لأن هذا العالم الغربي لا يحترم إلا اليهود، أما العرب والمسلمون، فلا قيمة لهم في ميزان حقوق الإنسان عنده، تماماً "كما هي الحشرات"، حسب تعبير بعض حاخامات اليهود... كل ذلك في ظل سقوط عربي خائف من الغضب الأمريكي في إدانة إسرائيل، وفي المساعدة الاقتصادية للحكومة الفلسطينية الجديدة، خوفاً من المحاسبة الأمريكية!!

إن أمريكا وأوروبا ـ ومعهما إسرائيل ـ تشنَّان الحرب بطريقة وبأخرى على العالمين العربي والإسلامي، وتبتزان مواردهما الاقتصادية، وتفرضان عليهما الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، وتمنعهما من اتخاذ أيِّ موقف قوي لصالح شعوبهما في القضايا الحيوية والمصيرية، لأن المشكلة هي أننا في هذين العالمين لا نملك دولاً تحترم شعوبها، ولكننا نواجه ملوكاً ورؤساء وأمراء خاضعين للاستكبار العالمي ـ ولا سيما الأمريكي ـ خوفاً على عروشهم... يا للعار!

وفي جانب آخر، فإن الضغط الأمريكي لا يزال يطبق على العراق في احتلاله، وفي إرباك المسألة السياسية فيه، بالتدخّل في القرار العراقي المستقل في اختيار المسؤولين في حكومته المقبلة ديمقراطياً، لأن الإدارة الأمريكية لا تشجع الديمقراطية في المبدأ والتفاصيل، إلا إذا كانت منسجمة مع مصالحها الاستراتيجية... وهذا ما نلاحظه في الضغط على رئيس الوزراء المنتخَب ديمقراطياً من الائتلاف الموحَّد، بالمستوى الذي يتدخّل فيه الرئيس بوش شخصياً ضد اختياره...

ولا تزال المجازر الوحشية بالتفجيرات للمساجد والشوارع والأسواق، تتحرك لتفتك بالمدنيين من النساء والأطفال والشباب والشيوخ، وذلك في غياب حالات الشجب القوي لهذه الظاهرة الإجرامية التي انتشرت في العالم الإسلامي من قِبَل الفئات التكفيرية التي لا تفرّق بين السنّة والشيعة، وهذا ما رأيناه في المجزرة الوحشية في كراتشي (باكستان) في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.

وإننا ـ في كل مواقع هذه الظاهرة الوحشية ـ لا نبرّئ السياسة الأمريكية التي تحمل الحقد الأسود ضد المسلمين في بلادهم، انطلاقاً من الفوضى السياسية والأمنية التي تمنح الأمريكيين حرية الحركة لإرباك الأوضاع كلها، في منع حركة التقدّم العلمي والاقتصادي والسياسي، وهذا ما يتمثّل في التخطيط لعالم خاضع لـ"الإمبراطورية الأمريكية ـ الإسرائيلية"، التي تضغط على الدول الأخرى، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان والصين، كلٌ بحسب موقعه وظروفه... ورحم الله الإمام الخميني الذي كان يتحدث عن الشيطان الأكبر الوسواس الخنّاس، الذي يتحرك في العالم كلّه، مهدداً دول الممانعة بأسلحة الدمار الشامل، ومانعاً الشعوب من التخطيط للحصول على الأسلحة الدفاعية والمشاريع السلمية الإبداعية...

 

عندما ينفتح الإسلام على العالم، فإنه لا يحمل سيفاً يقتل به الآخرين، بل يحمل إليه روحاً وفكراً وعلماً وحضارةً، ويريد للعالم أن ينطلق على أساس الحضارة الإسلامية التي أغنته.

لبنان: التصدي لمثيري الفتن:

أما لبنان، فإنه يعيش هاجس الذكرى الواحدة بعد الثلاثين للحرب اللبنانية، ويتخوّف مواطنوه من الألاعيب السياسية المعقّدة التي يتحرك فيها النادي السياسي من خلال المشاريع المشبوهة لهذا الفريق أو ذاك، في كلمات الحق التي يختفي في داخلها الباطل...

وإننا نؤكد على المسؤولين وكل الأجهزة الأمنية المخلصة في البلد، أن تلاحق خفافيش الظلام الذين يخطّطون للفتنة على صعيد طائفي أو مذهبي أو حزبي، والتصدي للأجواء التي تتحرك فيها عناصر الإثارة في التحليلات والخطابات والتصريحات، ولا سيما في حركة الزوايا المخابراتية المظلمة في السفارات، وخصوصاً السفارة الأمريكية، من خلال تعليمات إدارتها للّعب بلبنان كورقة ضاغطة في سياستها في المنطقة...

ولكننا في الوقت الذي نأمل أن تستكمل الحكومة الإصلاحات الاقتصادية من أجل حلّ المشاكل المزمنة التي يعاني منها اللبنانيون، ولا سيما في المناطق المحرومة الجائعة الفاقدة لفرص العيش الكريم، ندعو الجميع ـ ولا سيما الخبراء ـ إلى التوفّر على الدراسة العلمية والوسائل الواقعية التي قد تصل بالوطن إلى شاطئ الأمان، وأن لا يجعلوا مشكلة البلد تتمحور في موقع واحد، لأن لبنان يعيش الفوضى في أوضاعه، من خلال أكثر من مشكلة اقتصادية وسياسية وأمنية ورئاسية، ما يفرض دراسة المشاكل بالجملة، لا بالتحديق في مشكلة واحدة يستغرق فيها الجميع وينسون السرطان الكامن في كل الجسم اللبناني...

إننا نأمل أن تنجح الدولة في الأمن والاقتصاد والسياسة، عندما تتحوّل الأمور إلى صناعة الدولة، بعيداً عن المزرعة في تاريخها وفي حاضرها، فذلك هو الذي يتطلّع إليه اللبنانيون.

لتكن ذكرى المولد النبويّ ذكرى للعزّة والحرّيّة والقوّة...

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإنسانية النابضة بالرّحمة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(الأحزاب/45-46). نعيش في هذه الأيام، ذكرى رسول الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، من خلال القرآن الكريم الذي هو النور الذي يشرق في العقول ليفتحها على الحقيقة، وفي القلوب ليفتحها على المحبة والرحمة، وفي الحياة ليحركها في اتجاه الخير والعدل.

هذا الرسول الذي عاش رسالته في إنسانيته التي كانت تنبض بكل الرأفة والرحمة للناس كافة، وقد كان الرسول اليتيم الذي فقد أمه وأباه منذ انطلق إلى الحياة، فعاش للأيتام وللمساكين والفقراء والمتألّمين والملهوفين، ليردّ لهفتهم، وليخفّف عنهم آلامهم، النبي الإنسان الذي حدّثنا الله تعالى عن إنسانيته النابضة في كلُّ من حوله وما حوله، وهو قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة/128). هذا الرسول الرؤوف بالمؤمنين، والرحيم بهم، كان يتطلع إلى كل الناس الذين يعيشون معه ويحيطون به، ليتحسس كل متاعبهم ومشاكلهم، ليمنحهم الراحة من التعب، وليحلّ لهم كل مشكلة يعانونها، وليتابع كل ما يتحركون فيه في كل المواقع التي ينطلقون فيها؛ في أوضاعهم في بيوتهم، وفي مجتمعاتهم، في أسواقهم وسفرهم وحضرهم، ليوجههم، حرصاً عليهم أن لا يسقطوا ولا ينحرفوا ولا يتزلزلوا.

وكان(ص) كما قال الله في خطابه له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء/107)، فهو نبيّ الرحمة ورسول الرحمة الّذي ينفتح على كل العالم ليقول لهم: تعالوا إليّ، فالإسلام هو دين الرحمة، يرحم النّاس حتى لا يسقطوا، ولا يتعاطى معهم بالغلظة والقسوة. ومن هذه الآية نستوحي أنّ الإسلام ليس دين عنف وإرهاب وقسوة، كما يدّعي البعض، بل هو دين الرحمة، لأنّ النبيّ (ص) هو رسول الرحمة، لا من خلال ذاته، بل من خلال رسالته.

 

إننا لا نبرّئ السياسة الأمريكية التي تحمل الحقد الأسود ضد المسلمين في بلادهم، انطلاقاً من الفوضى السياسية والأمنية التي تمنح الأمريكيين حرية الحركة لإرباك الأوضاع كلها، في منع حركة التقدّم العلمي والاقتصادي والسياسي.

وقد تحدّث الله عن المؤمنين الذي يدخلون في الإسلام، فقال عنهم: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}(البلد/17)، فالمؤمنون يتراحمون فيما بينهم، ويوصي بعضهم بعضاً بالرّحمة في كل أمورهم. ولذلك، فإن المجتمع الإسلاميّ هو مجتمع الرّحمة الذي يرحم فيه القوي الضعيف، ويرحم فيه الغني الفقير، ويرحم فيه الحاكم المحكومين، ويرحم فيه الإنسان الحيوان. وقد ورد عن النبي(ص): «الراحمون يرحمهم الرحمن».

وقد حدّثنا الله تعالى عن أسلوب النبي(ص) في الدعوة، أنه كان رحيماً بلسانه وقلبه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران/159)، كان صاحب القلب الرحيم، وصاحب اللسان الرقيق الذي لا يعنف ولا يقسو، وقد وجّه المسلمين من خلال الوحي: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53).

مسؤولية حمل الرسالة:

وكانت رسالة النبي(ص) رسالة شاملة إلى العالم كلّه، وإلى النّاس كلهم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}(الإسراء/105)، وأراد الله له أن يخاطب الناس ليقول لهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}(الأعراف/158)، وأراد لهذه الرسالة أن تمتد في الحياة؛ أن تدخل عقول الناس ليرتفع العقل حتى يتصل بالحقيقة في نورها، وأن تنفتح بالإنسان على كل كيانه ليعيش إنسانيته.

 

إن أمريكا وأوروبا ـ ومعهما إسرائيل ـ تشنَّان الحرب بطريقة وبأخرى على العالمين العربي والإسلامي، وتبتزان مواردهما الاقتصادية، وتفرضان عليهما الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، وتمنعهما من اتخاذ أيِّ موقف قوي لصالح شعوبهما في القضايا الحيوية والمصيرية.

وقد أراد الله تعالى أن يتحمَّل المسلمون مسؤولية هذه الرسالة، لينقلها كل جيل إلى الجيل الذي يأتي بعده. ولذلك، فإن كل جيل من المسلمين يتحمل مسؤولية المشاركة في حمل الإسلام إلى الأجيال الأخرى، ويتحمّل مسؤولية الدعوة إلى الله لتصل إلى كل العالم؛ كلٌ بحسب ثقافته وقدراته، وقد أراد الله لكلّ منّا أن يبدأ بأهله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(طـه/132)، على أن لا تقتصر مسؤوليته على الاهتمام بأولاده وعياله فحسب، ليعيش اللامبالاة أمام مجتمعه، بل أن يشعر كل إنسان بأنّه رسول الله إلى أهله ومجتمعه، بحيث يبلّغ أهله ومجتمعه رسالة الله.

الإسلام أمانة الله والرّسول عندنا:

والله تعالى أراد أن يقدّم لنا المجتمع الذي صنعه رسول الله(ص) في تربيته لأصحابه، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}(الفتح/29)، وحدَّثنا سبحانه عن أتباع النبيّ(ص) في زمنه وفي كلِّ زمان ومكان، فقال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف/156-157).

إنها الدعوة التي تشمل كل زمان ومكان، إلى الإيمان بالله واتّباع رسوله. هكذا حدثنا الله تعالى عن الذين ينفتحون على رسالته ويتبعونه، هذه الرسالة الإنسانية التي تنطلق للارتفاع بالإنسان إلى أعلى مستوى، لأن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لتكون المجتمعات الإسلاميّة مؤهّلة لصنع الحضارة، وقد اعتبر الله تعالى العقل هو الحجة بينه وبين الناس، واعتبر العلم أساس القيمة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(الزمر/9)، وأراد لكل الذين يأخذون بأسباب العلم، أن يستزيدوا منه في كل مرحلة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(طـه/114)، وأراد للمسلمين أن يكونوا الأقوياء: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}(الأنفال/60). والإسلام عندما ينفتح على العالم، فإنه لا يحمل سيفاً يقتل به الآخرين، بل يحمل إليه روحاً وفكراً وعلماً وحضارةً، ويريد للعالم أن ينطلق على أساس الحضارة الإسلامية التي أغنته.

أيُّها المسلمون: ونحن نعيش ذكرى رسول الله(ص) في هذه الأيام، نؤكِّد من خلال هذه الذكرى، أنَّ النبي(ص) أراد للمسلمين أن يتوحدوا وينطلقوا فيما يختلفون فيه كما وجَّههم الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59). لقد برز في هذه المرحلة الشرك كله والكفر كله والاستكبار كله إلى التوحيد كله والإيمان كله والمستضعفين كلهم، ولذلك علينا أن نأخذ بأسباب الوحدة في كلِّ مواقعنا، فلا يقتل بعضنا بعضاً، ولا يلعن بعضنا بعضاً، ولا يكفّر بعضنا بعضاً، لأن الله أراد للمسلمين أن يعتصموا بحبل الله جميعاً. ولذلك، فإن كل من يحاول أن يثير الفتنة بين المسلمين، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه، وكل من يؤيد العصبية التي تجعل المسلم يقف ضد المسلم في وقت التحديات، ويعطي المستكبرين والكافرين الفرصة من أجل احتلال بلاد المسلمين والإيقاع بينهم، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}(الأنفال/27).

إن الإسلام هو أمانة الله والرسول عندنا، لذلك، لتكن ذكرى المولد النبوي الشريف ذكرى للإسلام كله، ولحركة المسلمين كلهم؛ ذكرى للعزة والحرية والقوة، لأن الله أرادنا أن نكون كذلك؛ أن نقاتل في سبيله القتال الثقافي والسياسي والعسكري صفاً واحداً، يدعم بعضنا بعضاً، وأن ننطلق من أجل أن يكون الإسلام دين العالم كله، ودين الحياة كلها: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التوبة/105).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المرحلة التي تعيشون فيها، بأن يكون الإسلام، في كلِّ مفاهيمه وعقيدته وشريعته، هو هدفنا، وأن يكون المسلمون أمة واحدة، يتحركون ليكونوا قوّةً للفكر والعدل والحياة، وليكونوا قوّةً في مواجهة الكفر والظلم والاستكبار، وتلك هي مسؤوليتنا تجاه الإسلام والمسلمين، وذلك هو قول النبي(ص): «من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع منادياً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم». لذلك، ومن خلال هذا الأفق الواسع الذي نتحمّل فيه مسؤوليتنا تجاه الإسلام والمسلمين، لا بدّ لنا من أن ندرس ما في الواقع الإسلامي في العالم كله، فماذا هناك:

أمريكا: ديمقراطية المجازر:

في المشهد الأمريكي، تثير الولايات المتحدة الأمريكية الضجيج ضد إيران التي أعلنت نجاحها في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، مهددةً بالعقوبات ضدها في مجلس الأمن الخاضع للسياسة الأمريكية في قراراته، بما في ذلك لجوؤها ـ ومعها إسرائيل ـ إلى الحلّ العسكري ضدّها...

 

إن كل من يحاول أن يثير الفتنة بين المسلمين، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه، وكل من يؤيد العصبية التي تجعل المسلم يقف ضد المسلم في وقت التحديات، ويعطي المستكبرين والكافرين الفرصة من أجل احتلال بلاد المسلمين والإيقاع بينهم، هو خائن لله ولرسوله ولأوليائه.

وفي جانب آخر، فإن الإدارة الأمريكية تتحرك ـ مع الاتحاد الأوروبي ـ في معاقبة الشعب الفلسطيني على ممارسته للديمقراطية في انتخابه لحركة حماس، بالمقاطعة الاقتصادية، في الوقت الذي يعلم الجميع، أن أوروبا وأمريكا تتحمّلان المسؤولية في قتل الفلسطينيين وتشريدهم من بلادهم، من خلال دعم الوجود الصهيوني في فلسطين. وما يزيد الأمر سوءاً، أن الأمم المتحدة قررت مقاطعة الحكومة الفلسطينية سياسياً، وذلك انصياعاً للضغط الأمريكي الذي منعها من إدانة المجازر الصهيونية الأخيرة للفلسطينيين، في قتل المدنيين والأطفال والنساء في مساكنهم، تماماً كما لو كان الجيش الصهيوني يجعل من غزة مركزاً للتدريب على قتل الناس بدم بارد حاقد، من دون أن تصدر أيّة إدانة أمريكية أو أوروبية لذلك، وفي ظل صمت عربي، لأن هذا العالم الغربي لا يحترم إلا اليهود، أما العرب والمسلمون، فلا قيمة لهم في ميزان حقوق الإنسان عنده، تماماً "كما هي الحشرات"، حسب تعبير بعض حاخامات اليهود... كل ذلك في ظل سقوط عربي خائف من الغضب الأمريكي في إدانة إسرائيل، وفي المساعدة الاقتصادية للحكومة الفلسطينية الجديدة، خوفاً من المحاسبة الأمريكية!!

إن أمريكا وأوروبا ـ ومعهما إسرائيل ـ تشنَّان الحرب بطريقة وبأخرى على العالمين العربي والإسلامي، وتبتزان مواردهما الاقتصادية، وتفرضان عليهما الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، وتمنعهما من اتخاذ أيِّ موقف قوي لصالح شعوبهما في القضايا الحيوية والمصيرية، لأن المشكلة هي أننا في هذين العالمين لا نملك دولاً تحترم شعوبها، ولكننا نواجه ملوكاً ورؤساء وأمراء خاضعين للاستكبار العالمي ـ ولا سيما الأمريكي ـ خوفاً على عروشهم... يا للعار!

وفي جانب آخر، فإن الضغط الأمريكي لا يزال يطبق على العراق في احتلاله، وفي إرباك المسألة السياسية فيه، بالتدخّل في القرار العراقي المستقل في اختيار المسؤولين في حكومته المقبلة ديمقراطياً، لأن الإدارة الأمريكية لا تشجع الديمقراطية في المبدأ والتفاصيل، إلا إذا كانت منسجمة مع مصالحها الاستراتيجية... وهذا ما نلاحظه في الضغط على رئيس الوزراء المنتخَب ديمقراطياً من الائتلاف الموحَّد، بالمستوى الذي يتدخّل فيه الرئيس بوش شخصياً ضد اختياره...

ولا تزال المجازر الوحشية بالتفجيرات للمساجد والشوارع والأسواق، تتحرك لتفتك بالمدنيين من النساء والأطفال والشباب والشيوخ، وذلك في غياب حالات الشجب القوي لهذه الظاهرة الإجرامية التي انتشرت في العالم الإسلامي من قِبَل الفئات التكفيرية التي لا تفرّق بين السنّة والشيعة، وهذا ما رأيناه في المجزرة الوحشية في كراتشي (باكستان) في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.

وإننا ـ في كل مواقع هذه الظاهرة الوحشية ـ لا نبرّئ السياسة الأمريكية التي تحمل الحقد الأسود ضد المسلمين في بلادهم، انطلاقاً من الفوضى السياسية والأمنية التي تمنح الأمريكيين حرية الحركة لإرباك الأوضاع كلها، في منع حركة التقدّم العلمي والاقتصادي والسياسي، وهذا ما يتمثّل في التخطيط لعالم خاضع لـ"الإمبراطورية الأمريكية ـ الإسرائيلية"، التي تضغط على الدول الأخرى، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان والصين، كلٌ بحسب موقعه وظروفه... ورحم الله الإمام الخميني الذي كان يتحدث عن الشيطان الأكبر الوسواس الخنّاس، الذي يتحرك في العالم كلّه، مهدداً دول الممانعة بأسلحة الدمار الشامل، ومانعاً الشعوب من التخطيط للحصول على الأسلحة الدفاعية والمشاريع السلمية الإبداعية...

 

عندما ينفتح الإسلام على العالم، فإنه لا يحمل سيفاً يقتل به الآخرين، بل يحمل إليه روحاً وفكراً وعلماً وحضارةً، ويريد للعالم أن ينطلق على أساس الحضارة الإسلامية التي أغنته.

لبنان: التصدي لمثيري الفتن:

أما لبنان، فإنه يعيش هاجس الذكرى الواحدة بعد الثلاثين للحرب اللبنانية، ويتخوّف مواطنوه من الألاعيب السياسية المعقّدة التي يتحرك فيها النادي السياسي من خلال المشاريع المشبوهة لهذا الفريق أو ذاك، في كلمات الحق التي يختفي في داخلها الباطل...

وإننا نؤكد على المسؤولين وكل الأجهزة الأمنية المخلصة في البلد، أن تلاحق خفافيش الظلام الذين يخطّطون للفتنة على صعيد طائفي أو مذهبي أو حزبي، والتصدي للأجواء التي تتحرك فيها عناصر الإثارة في التحليلات والخطابات والتصريحات، ولا سيما في حركة الزوايا المخابراتية المظلمة في السفارات، وخصوصاً السفارة الأمريكية، من خلال تعليمات إدارتها للّعب بلبنان كورقة ضاغطة في سياستها في المنطقة...

ولكننا في الوقت الذي نأمل أن تستكمل الحكومة الإصلاحات الاقتصادية من أجل حلّ المشاكل المزمنة التي يعاني منها اللبنانيون، ولا سيما في المناطق المحرومة الجائعة الفاقدة لفرص العيش الكريم، ندعو الجميع ـ ولا سيما الخبراء ـ إلى التوفّر على الدراسة العلمية والوسائل الواقعية التي قد تصل بالوطن إلى شاطئ الأمان، وأن لا يجعلوا مشكلة البلد تتمحور في موقع واحد، لأن لبنان يعيش الفوضى في أوضاعه، من خلال أكثر من مشكلة اقتصادية وسياسية وأمنية ورئاسية، ما يفرض دراسة المشاكل بالجملة، لا بالتحديق في مشكلة واحدة يستغرق فيها الجميع وينسون السرطان الكامن في كل الجسم اللبناني...

إننا نأمل أن تنجح الدولة في الأمن والاقتصاد والسياسة، عندما تتحوّل الأمور إلى صناعة الدولة، بعيداً عن المزرعة في تاريخها وفي حاضرها، فذلك هو الذي يتطلّع إليه اللبنانيون.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية