في الخلق والرحمة والعفو والمشاورة والنصح

في الخلق والرحمة والعفو والمشاورة والنصح

رسول الله(ص) النموذج الإنساني الأكمل:
في الخلق والرحمة والعفو والمشاورة والنصح


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

تؤكد الشريعة الإسلامية في منهجها الأخلاقي، أن يكون الإنسان المسلم منفتحاً على الناس بأخلاقه، فيعيش معهم ليمنحهم من خلقه كل الخير، وكل الرعاية، وكل المحبة وكل الانفتاح، بحيث يكون ليّن القلب فيكون قلبه القلب الرحيم المنفتح في نبضاته على الناس جميعاً، وليكون ليّن اللسان، فلا يتكلم إلا بالكلمات التي تفتح القلب بالرحمة وبالخير، وبكل ما يوحّد ولا يفرّق، ويحبب ولا يبغّض.

صاحب الخلق العظيم

وقد قدّم الإسلام لنا رسول الله(ص) نموذجاً إنسانياً أكمل في أخلاقه، فخاطبه تعالى بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)، وأراد لنا أن ندرس الرسول(ص) في أخلاقه التي ارتفعت حتى وصلت إلى مستوى العظمة، وعندما يكون الله هو الذي يصف الرسول، فإننا نستوحي من ذلك أنّه(ص) بلغ في أخلاقه أعلى المستويات، وأعظم المواقع.

ويحدّثنا تعالى عن أسلوب النبي (ص) في علاقته مع الناس، في قلبه المنفتح، وفي لسانه الليّن: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، فقد كان قلبه يخفق ويرق ويلين في كل نبضاته المنفتحة على آلام الناس وهمومهم، وعلى كل أوضاعهم، وكان ليّن اللسان، فلا يغلظ في لسانه لأحد، ولا يقسو على أحد، لأن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين.

ثم يقول الله تعالى مخاطباً رسوله: {فاعفُ عنهم واستغفر لهم ـ إذا أساؤوا إليك أو أخطأوا، وإذا عشت مع جماعة، فلا تستبد عليهم برأي، ولو كنت صاحب الرأي الأفضل، لأنك لا تنطق عن الهوى، ومع ذلك عليك أن تشاورهم ـ وشاورهم في الأمر ـ إذا أردت أن تدخل في حرب أو سلم أو أيّ قضية، فاجمع أصحابك وليعطك كل واحد منهم رأيه، وإن كنت لست بحاجة إلى هذه الآراء، لأن الله سدّدك بالرأي الصحيح، ولكن درّبهم على أن يعطوا رأيهم ـ فإذا عزمت ـ على أن تنطلق في ما تريده ـ فتوكّل على الله ـ فلا تتراجع، ولا تسقط، ولا تخف ـ إن الله يحبّ المتوكلين} (آل عمران:159).

المتواضع والحريص على المؤمنين

ويحدثنا الله تعالى عن رسوله(ص)، كيف كان الإنسان الذي يحمل همّ الأمة في كل ما كان يشقّ عليها، وفي كل ما تعيشه من جهد، وكان يرأف بالمؤمنين ويرحمهم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم ـ حريص أن لا تضيعوا ولا تسقطوا ولا تتألموا ـ بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128).

وقد أراد الله تعالى له أن يعيش مع الفقراء المؤمنين الذين يخافون الله ويخلصون له، لا كما هو حال الكثير من القيادات الذين يفضّلون العيش مع الأغنياء والمترفين، فقال له: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} (الكهف:28).

وكان(ص) المتواضع مع أصحابه، بحيث كان لا يتميّز عنهم حتى في موضع جلوس، فإذا دخل شخص، والمسلمون مجتمعون معه(ص)، كان يسأل: "أيكم محمد؟". كان يتواضع للناس الفقراء الطيبين، وقد رأته امرأة، فارتعدت هيبة لـه، فقال لها وهو يخفف عنها هذا الإحساس بالهيبة: "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك". وقد حدّثنا رسول الله(ص) عن مسألة الأخلاق وعلاقتها بالدين، فقال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

لقد جاء الأنبياء في رسالاتهم ليؤكدوا النظام الأخلاقي في حياة الناس، وجاء(ص) لتكتمل هذه الأخلاق بالإسلام الذي يجمع الأخلاق كلها، سواء كانت أخلاقاً فردية أو اجتماعية، وقد كان خلقه القرآن، وكان(ص) يوصي الناس أن لا تكون الأخلاق بينهم أخلاقاً تجارية؛ أن أحترمك فقط لأنك تحترمني، وأن أصلك فقط لأنك تصلني، وقد قال: "ألا أنبئكم بمكارم الأخلاق؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك"، يعني أن تسمو وترتفع لتكون الأخلاق لديك طبيعة تتركز في داخل شخصيتك، ولا تكون مسألة مبادلة عمل بعمل. وقد عبّر الإمام زين العابدين(ع) عن ذلك في الصحيفة السجادية، فقال: "اللهم وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة".

منهجه(ص) حُسن الخلق

وقد سئل النبي(ص) عن الإسلام فقال: "الإسلام حُسن الخلق"؛ أن تكون إنساناً تتمثل الأخلاق في علاقاتك بالناس كلهم بأحسن ما يكون. ويقول(ص): "حُسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة"، ويقول أيضاً: "ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزّ وجلّ"، قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: "حلم يردّ به جهل الجاهل ـ سعة الصدر التي تجعل الإنسان يمتص جهل الجاهلين ـ وحسن خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله". ويقول(ص): "من حسّن خلقه بلّغه الله درجة الصائم القائم". ويقول: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة"، ويقول(ص): "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"، فهو الذي يرجّح الميزان الذي يزن به الله الأعمال يوم القيامة. ويقول(ص): "ألا أنبئكم بخياركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أحاسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً ـ المتواضعون ـ الذين يَألفون ويُؤلفون".

وقد ورد عن الإمام عليّ(ع) في وصيته لـ"كميل" قال: "يا كميل، مر أهلك يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من امرئ أودع قلباً سروراً، إلا وخلق الله من ذلك السرور لطفاً، فإذا نابته نائبة، جرى إليها كالسيل في انحداره، فيطردها كما تُطرد غريبة الإبل". ويقول الإمام الصادق(ع): "الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد"، وقال أيضاً: " الخلق السيىء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل".

إن الإنسان الذي يعيش في قلب المجتمع، ولاسيما الذي يتحمل المسؤولية في إدارة شؤونه، لا بد له من أن يأخذ بالأخلاق الحسنة، حتى يكون خيراً للناس، كما يكون خيراً لنفسه، وقد ورد في حديث الإمام عليّ(ع) عن المؤمن: "الناس منه في راحة، ونفسه منه في تعب". ويقول الإمام الصادق(ع): "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لأمر معيشته، لا يُلدغ من جحر مرتين".

لذلك، علينا أن نقتدي برسول الله(ص) في الخلق العظيم: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم والآخر وذكر الله كثيراً} (الأحزاب:21).

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وخذوا بأسباب الوحدة، فإن الله {يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)، وعلينا أن نواجه كل قضايا الإسلام والمسلمين بالاهتمام والعمل على أساس رعاية الواقع كله، فلنحاول أن نتعرّف بعض ذلك:

مجزرة بئر العبد: مثال الإرهاب الأمريكي

في الثامن من آذار، يتذكر اللبنانيون ـ وخصوصاً أهل الضاحية ـ الجريمة الوحشية التي حصدت أكثر من مائتي طفل وامرأة وشيخ وعامل، بالتفجير الذي خططت لـه المخابرات الأمريكية بحجة أنه "دفاع عن النفس"، كما قال الرئيس الأمريكي ريغان في تبريره لهذا الحادث المروّع... أما رئيس الاستخبارات الأمريكية فقد قال: "إن فضل الله أصبح مزعجاً للسياسة الأمريكية، وإن عليه أن يرحل"...

إننا نضع هذه الذكرى المؤلمة أمام الذين لا يزالون يتحدثون عن أمريكا بأنها الدولة التي تساعد الشعوب وتحميها، وترفض الإرهاب وتحافظ على حقوق الإنسان، ولاسيما في الواقع اللبناني، الذي تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية بكل أجهزتها السياسية والأمنية. إننا نتذكر الشهداء الذين سقطوا بفعل هذا التفجير الأمريكي، كما نتذكر المعاقين الذين يعانون من الإعاقة الدائمة، ونقدّم ذلك إلى الذين يصدّقون أمريكا في دعمها لـ"ثورة الأرز".

الإرهاب الإسرائيلي فوق المحاسبة والمحاكمة!!

أما إسرائيل، فإنها تقصف غزة بأطفالها ونسائها ورجالها، وتغلق المعابر الفلسطينية، لتدمّر الاقتصاد الفلسطيني على مستوى الاستيراد والتصدير، في عملية تجويع وحرمان للشعب كله، وتهدد القيادات بالاغتيال، ولاسيما قيادة حماس، وتخطط لمصادرة الأرض الفلسطينية المحتلة في الضفة والقدس وغور الأردن لإقامة حدود الدولة العبرية، خلافاً لكل قرارات الأمم المتحدة التي يرفض المجتمع الدولي ـ وخصوصاً اللجنة الرباعية الدولية ـ محاسبتها عليها، في الوقت الذي يضغط على لبنان لتنفيذ قراراته بفعل التحرك الأمريكي ـ الإسرائيلي؟!

إنه الصمت الدولي على المجازر الإنسانية والجغرافية والسياسية والاقتصادية التي تقوم بها إسرائيل، لأنها ـ حسب المجتمع الدولي ـ فوق المحاسبة والمحاكمة، في الخط النفاقي المخادع للسياسة الأمريكية والأوروبية التي لا ترى للشعب الفلسطيني أيّ حق من حقوق الإنسان بقدر ما تتصل المسألة بإسرائيل.

العراق: الاستقلال والحرية بالتضامن والوحدة

أما العراق، فلا يزال غارقاً في بحر من الدماء التي تسيل يومياً، في المجازر الوحشية ضد العراقيين المدنيين، من قِبَل الجماعات التكفيرية من جهة، والفئات الخارجية من جهة أخرى، إضافة إلى عملية التهجير الجماعي في المناطق المختلطة، في عملية تصفية مذهبية عنصرية، في الوقت الذي نجد الاحتلال متفرّجاً على ذلك كله، ومشجّعاً لـه، بطريقة مخادعة في إعلامه الذي يذرف دموع التماسيح، لأنه يجد في هذه الفوضى الأمنية مبرراً لاستمرار احتلاله للعراق، بحجة حفظ الأمن الذي لم يستطع العراقيون تأمينه لشعبهم. وإلى جانب ذلك، نجد هناك فوضى سياسية يختلط فيها الجانب الطائفي بالجانب العرقي، ما يمنع من تأسيس حكومة وحدة وطنية، ولاسيما في التجاذبات التي يتحدث فيها الأمريكيون عن حرب أهلية، في عملية إيحاء وتشجيع وتخطيط...

إننا ندعو العراقيين إلى أن يفكروا في مستقبل وطنهم ليأخذوا بأسباب الوحدة، فلن يربح الشيعة ولا السنّة أية حسابات سياسية أو طائفية إذا لم يدققوا فيها، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الاحتلال دخل العراق ليبقى... والسؤال: كيف يمكن أن يتضامن العراقيون للحصول على الحرية والاستقلال بانسحاب المحتل من أرضهم؟

ملاحقة إيران في مشروعها النووي!!

وعلى الخط الإيراني، نلاحظ أن الرئيس الأمريكي الذي عقد اتفاقاً نووياً مع الهند، وأعلن عزمه على تطوير العمل في بلاده لاستيلاد طاقة كهربائية من خلال المفاعلات الذرية، يواصل مع فريق إدارته ـ بما فيهم مندوبه في مجلس الأمن ـ إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، التهديد لإيران في مشروعها النووي السلمي، وفي أبحاثها العلمية، لأن ذلك قد يحقق لها الكثير من مصادر الطاقة، ويطوّر إمكاناتها الصناعية...

إنهم يتهمون إيران بصنع السلاح الذري الذي أعلنت أنها ترفضه، في الوقت الذي نجد إسرائيل تملك أكبر ترسانة نووية في المنطقة، من دون أن يحاسبها أحد على ذلك، بل إنها ـ مع أمريكا ـ تهدد إيران عسكرياً. إننا نعتقد أن الموقف الإيراني لا يزال يملك الكثير من عناصر القوة في موقفه السياسي والدبلوماسي والأمني، وعلى الأمة أن تقف مع هذه الدولة من أجل تأكيد مواجهة الاستكبار العالمي بالصلابة والقوة، وحتى لا تصل أمريكا إلى كل أهدافها الاستكبارية.

لبنان: حوار الطرشان

أما لبنان، فلا يزال الحوار يراوح مكانه بين شدّ وجذب، في عملية قصف سياسي يتحرك في المواقع الأمريكية من جهة، وفي دهاليز السفارات من جهة أخرى... إننا نسمع الكثير عن الالتزام بالحوار من الجميع في الكلمات الفضفاضة، ولكننا لا نجد ذهنية حوارية ترتكز على العناصر الموضوعية، لأن الحوار يفرض على كل فريق أن يكون على استعداد للتقدّم خطوة نحو الفريق الآخر، بينما نلاحظ أن هؤلاء يصرّون على الوقوف في مواقعهم من دون أيّ تقدّم، لأنه لا قواسم مشتركة تجمع بينهم في خطوطهم السياسية، ولاسيما أن الماضي الذي صنعه الكثيرون منهم، لا يزال يطل برأسه على الحاضر ويهدد المستقبل...

إننا في الوقت الذي نتمنى للحوار أن يصنع مناخاً لبنانياً جديّاً يتنفس فيه المواطنون الصعداء، ويبتعدون فيه عن حالة الخوف التي تواجههم بين وقت وآخر، نريد للحكومة وللواقع السياسي، أن يعقد مؤتمراً آخر للحوار حول المسألة الاقتصادية التي تطبق مشاكلها على الشعب كله، والوطن كله، لتنتج الجوع والحرمان والضياع، بالإضافة إلى المشكلة الأمنية التي لا يملك المواطن معها أية ضمانة لأمنه في مواقعه، ولكن الدولة تحاول أن تحمّل مسؤولية الخلل الأمني للجهات الخارجية، تماماً كما لو لم تكن مسؤولة عن الأمن. وكذلك المشكلة الاجتماعية التي تنفتح على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. والسؤال: هل يتذكر المواطنون في تجربتهم الجديدة حوار الطرشان؟

رسول الله(ص) النموذج الإنساني الأكمل:
في الخلق والرحمة والعفو والمشاورة والنصح


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

تؤكد الشريعة الإسلامية في منهجها الأخلاقي، أن يكون الإنسان المسلم منفتحاً على الناس بأخلاقه، فيعيش معهم ليمنحهم من خلقه كل الخير، وكل الرعاية، وكل المحبة وكل الانفتاح، بحيث يكون ليّن القلب فيكون قلبه القلب الرحيم المنفتح في نبضاته على الناس جميعاً، وليكون ليّن اللسان، فلا يتكلم إلا بالكلمات التي تفتح القلب بالرحمة وبالخير، وبكل ما يوحّد ولا يفرّق، ويحبب ولا يبغّض.

صاحب الخلق العظيم

وقد قدّم الإسلام لنا رسول الله(ص) نموذجاً إنسانياً أكمل في أخلاقه، فخاطبه تعالى بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)، وأراد لنا أن ندرس الرسول(ص) في أخلاقه التي ارتفعت حتى وصلت إلى مستوى العظمة، وعندما يكون الله هو الذي يصف الرسول، فإننا نستوحي من ذلك أنّه(ص) بلغ في أخلاقه أعلى المستويات، وأعظم المواقع.

ويحدّثنا تعالى عن أسلوب النبي (ص) في علاقته مع الناس، في قلبه المنفتح، وفي لسانه الليّن: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، فقد كان قلبه يخفق ويرق ويلين في كل نبضاته المنفتحة على آلام الناس وهمومهم، وعلى كل أوضاعهم، وكان ليّن اللسان، فلا يغلظ في لسانه لأحد، ولا يقسو على أحد، لأن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين.

ثم يقول الله تعالى مخاطباً رسوله: {فاعفُ عنهم واستغفر لهم ـ إذا أساؤوا إليك أو أخطأوا، وإذا عشت مع جماعة، فلا تستبد عليهم برأي، ولو كنت صاحب الرأي الأفضل، لأنك لا تنطق عن الهوى، ومع ذلك عليك أن تشاورهم ـ وشاورهم في الأمر ـ إذا أردت أن تدخل في حرب أو سلم أو أيّ قضية، فاجمع أصحابك وليعطك كل واحد منهم رأيه، وإن كنت لست بحاجة إلى هذه الآراء، لأن الله سدّدك بالرأي الصحيح، ولكن درّبهم على أن يعطوا رأيهم ـ فإذا عزمت ـ على أن تنطلق في ما تريده ـ فتوكّل على الله ـ فلا تتراجع، ولا تسقط، ولا تخف ـ إن الله يحبّ المتوكلين} (آل عمران:159).

المتواضع والحريص على المؤمنين

ويحدثنا الله تعالى عن رسوله(ص)، كيف كان الإنسان الذي يحمل همّ الأمة في كل ما كان يشقّ عليها، وفي كل ما تعيشه من جهد، وكان يرأف بالمؤمنين ويرحمهم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم ـ حريص أن لا تضيعوا ولا تسقطوا ولا تتألموا ـ بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128).

وقد أراد الله تعالى له أن يعيش مع الفقراء المؤمنين الذين يخافون الله ويخلصون له، لا كما هو حال الكثير من القيادات الذين يفضّلون العيش مع الأغنياء والمترفين، فقال له: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} (الكهف:28).

وكان(ص) المتواضع مع أصحابه، بحيث كان لا يتميّز عنهم حتى في موضع جلوس، فإذا دخل شخص، والمسلمون مجتمعون معه(ص)، كان يسأل: "أيكم محمد؟". كان يتواضع للناس الفقراء الطيبين، وقد رأته امرأة، فارتعدت هيبة لـه، فقال لها وهو يخفف عنها هذا الإحساس بالهيبة: "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك". وقد حدّثنا رسول الله(ص) عن مسألة الأخلاق وعلاقتها بالدين، فقال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

لقد جاء الأنبياء في رسالاتهم ليؤكدوا النظام الأخلاقي في حياة الناس، وجاء(ص) لتكتمل هذه الأخلاق بالإسلام الذي يجمع الأخلاق كلها، سواء كانت أخلاقاً فردية أو اجتماعية، وقد كان خلقه القرآن، وكان(ص) يوصي الناس أن لا تكون الأخلاق بينهم أخلاقاً تجارية؛ أن أحترمك فقط لأنك تحترمني، وأن أصلك فقط لأنك تصلني، وقد قال: "ألا أنبئكم بمكارم الأخلاق؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك"، يعني أن تسمو وترتفع لتكون الأخلاق لديك طبيعة تتركز في داخل شخصيتك، ولا تكون مسألة مبادلة عمل بعمل. وقد عبّر الإمام زين العابدين(ع) عن ذلك في الصحيفة السجادية، فقال: "اللهم وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة".

منهجه(ص) حُسن الخلق

وقد سئل النبي(ص) عن الإسلام فقال: "الإسلام حُسن الخلق"؛ أن تكون إنساناً تتمثل الأخلاق في علاقاتك بالناس كلهم بأحسن ما يكون. ويقول(ص): "حُسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة"، ويقول أيضاً: "ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزّ وجلّ"، قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: "حلم يردّ به جهل الجاهل ـ سعة الصدر التي تجعل الإنسان يمتص جهل الجاهلين ـ وحسن خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله". ويقول(ص): "من حسّن خلقه بلّغه الله درجة الصائم القائم". ويقول: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة"، ويقول(ص): "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"، فهو الذي يرجّح الميزان الذي يزن به الله الأعمال يوم القيامة. ويقول(ص): "ألا أنبئكم بخياركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أحاسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً ـ المتواضعون ـ الذين يَألفون ويُؤلفون".

وقد ورد عن الإمام عليّ(ع) في وصيته لـ"كميل" قال: "يا كميل، مر أهلك يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من امرئ أودع قلباً سروراً، إلا وخلق الله من ذلك السرور لطفاً، فإذا نابته نائبة، جرى إليها كالسيل في انحداره، فيطردها كما تُطرد غريبة الإبل". ويقول الإمام الصادق(ع): "الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد"، وقال أيضاً: " الخلق السيىء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل".

إن الإنسان الذي يعيش في قلب المجتمع، ولاسيما الذي يتحمل المسؤولية في إدارة شؤونه، لا بد له من أن يأخذ بالأخلاق الحسنة، حتى يكون خيراً للناس، كما يكون خيراً لنفسه، وقد ورد في حديث الإمام عليّ(ع) عن المؤمن: "الناس منه في راحة، ونفسه منه في تعب". ويقول الإمام الصادق(ع): "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لأمر معيشته، لا يُلدغ من جحر مرتين".

لذلك، علينا أن نقتدي برسول الله(ص) في الخلق العظيم: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم والآخر وذكر الله كثيراً} (الأحزاب:21).

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وخذوا بأسباب الوحدة، فإن الله {يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)، وعلينا أن نواجه كل قضايا الإسلام والمسلمين بالاهتمام والعمل على أساس رعاية الواقع كله، فلنحاول أن نتعرّف بعض ذلك:

مجزرة بئر العبد: مثال الإرهاب الأمريكي

في الثامن من آذار، يتذكر اللبنانيون ـ وخصوصاً أهل الضاحية ـ الجريمة الوحشية التي حصدت أكثر من مائتي طفل وامرأة وشيخ وعامل، بالتفجير الذي خططت لـه المخابرات الأمريكية بحجة أنه "دفاع عن النفس"، كما قال الرئيس الأمريكي ريغان في تبريره لهذا الحادث المروّع... أما رئيس الاستخبارات الأمريكية فقد قال: "إن فضل الله أصبح مزعجاً للسياسة الأمريكية، وإن عليه أن يرحل"...

إننا نضع هذه الذكرى المؤلمة أمام الذين لا يزالون يتحدثون عن أمريكا بأنها الدولة التي تساعد الشعوب وتحميها، وترفض الإرهاب وتحافظ على حقوق الإنسان، ولاسيما في الواقع اللبناني، الذي تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية بكل أجهزتها السياسية والأمنية. إننا نتذكر الشهداء الذين سقطوا بفعل هذا التفجير الأمريكي، كما نتذكر المعاقين الذين يعانون من الإعاقة الدائمة، ونقدّم ذلك إلى الذين يصدّقون أمريكا في دعمها لـ"ثورة الأرز".

الإرهاب الإسرائيلي فوق المحاسبة والمحاكمة!!

أما إسرائيل، فإنها تقصف غزة بأطفالها ونسائها ورجالها، وتغلق المعابر الفلسطينية، لتدمّر الاقتصاد الفلسطيني على مستوى الاستيراد والتصدير، في عملية تجويع وحرمان للشعب كله، وتهدد القيادات بالاغتيال، ولاسيما قيادة حماس، وتخطط لمصادرة الأرض الفلسطينية المحتلة في الضفة والقدس وغور الأردن لإقامة حدود الدولة العبرية، خلافاً لكل قرارات الأمم المتحدة التي يرفض المجتمع الدولي ـ وخصوصاً اللجنة الرباعية الدولية ـ محاسبتها عليها، في الوقت الذي يضغط على لبنان لتنفيذ قراراته بفعل التحرك الأمريكي ـ الإسرائيلي؟!

إنه الصمت الدولي على المجازر الإنسانية والجغرافية والسياسية والاقتصادية التي تقوم بها إسرائيل، لأنها ـ حسب المجتمع الدولي ـ فوق المحاسبة والمحاكمة، في الخط النفاقي المخادع للسياسة الأمريكية والأوروبية التي لا ترى للشعب الفلسطيني أيّ حق من حقوق الإنسان بقدر ما تتصل المسألة بإسرائيل.

العراق: الاستقلال والحرية بالتضامن والوحدة

أما العراق، فلا يزال غارقاً في بحر من الدماء التي تسيل يومياً، في المجازر الوحشية ضد العراقيين المدنيين، من قِبَل الجماعات التكفيرية من جهة، والفئات الخارجية من جهة أخرى، إضافة إلى عملية التهجير الجماعي في المناطق المختلطة، في عملية تصفية مذهبية عنصرية، في الوقت الذي نجد الاحتلال متفرّجاً على ذلك كله، ومشجّعاً لـه، بطريقة مخادعة في إعلامه الذي يذرف دموع التماسيح، لأنه يجد في هذه الفوضى الأمنية مبرراً لاستمرار احتلاله للعراق، بحجة حفظ الأمن الذي لم يستطع العراقيون تأمينه لشعبهم. وإلى جانب ذلك، نجد هناك فوضى سياسية يختلط فيها الجانب الطائفي بالجانب العرقي، ما يمنع من تأسيس حكومة وحدة وطنية، ولاسيما في التجاذبات التي يتحدث فيها الأمريكيون عن حرب أهلية، في عملية إيحاء وتشجيع وتخطيط...

إننا ندعو العراقيين إلى أن يفكروا في مستقبل وطنهم ليأخذوا بأسباب الوحدة، فلن يربح الشيعة ولا السنّة أية حسابات سياسية أو طائفية إذا لم يدققوا فيها، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الاحتلال دخل العراق ليبقى... والسؤال: كيف يمكن أن يتضامن العراقيون للحصول على الحرية والاستقلال بانسحاب المحتل من أرضهم؟

ملاحقة إيران في مشروعها النووي!!

وعلى الخط الإيراني، نلاحظ أن الرئيس الأمريكي الذي عقد اتفاقاً نووياً مع الهند، وأعلن عزمه على تطوير العمل في بلاده لاستيلاد طاقة كهربائية من خلال المفاعلات الذرية، يواصل مع فريق إدارته ـ بما فيهم مندوبه في مجلس الأمن ـ إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، التهديد لإيران في مشروعها النووي السلمي، وفي أبحاثها العلمية، لأن ذلك قد يحقق لها الكثير من مصادر الطاقة، ويطوّر إمكاناتها الصناعية...

إنهم يتهمون إيران بصنع السلاح الذري الذي أعلنت أنها ترفضه، في الوقت الذي نجد إسرائيل تملك أكبر ترسانة نووية في المنطقة، من دون أن يحاسبها أحد على ذلك، بل إنها ـ مع أمريكا ـ تهدد إيران عسكرياً. إننا نعتقد أن الموقف الإيراني لا يزال يملك الكثير من عناصر القوة في موقفه السياسي والدبلوماسي والأمني، وعلى الأمة أن تقف مع هذه الدولة من أجل تأكيد مواجهة الاستكبار العالمي بالصلابة والقوة، وحتى لا تصل أمريكا إلى كل أهدافها الاستكبارية.

لبنان: حوار الطرشان

أما لبنان، فلا يزال الحوار يراوح مكانه بين شدّ وجذب، في عملية قصف سياسي يتحرك في المواقع الأمريكية من جهة، وفي دهاليز السفارات من جهة أخرى... إننا نسمع الكثير عن الالتزام بالحوار من الجميع في الكلمات الفضفاضة، ولكننا لا نجد ذهنية حوارية ترتكز على العناصر الموضوعية، لأن الحوار يفرض على كل فريق أن يكون على استعداد للتقدّم خطوة نحو الفريق الآخر، بينما نلاحظ أن هؤلاء يصرّون على الوقوف في مواقعهم من دون أيّ تقدّم، لأنه لا قواسم مشتركة تجمع بينهم في خطوطهم السياسية، ولاسيما أن الماضي الذي صنعه الكثيرون منهم، لا يزال يطل برأسه على الحاضر ويهدد المستقبل...

إننا في الوقت الذي نتمنى للحوار أن يصنع مناخاً لبنانياً جديّاً يتنفس فيه المواطنون الصعداء، ويبتعدون فيه عن حالة الخوف التي تواجههم بين وقت وآخر، نريد للحكومة وللواقع السياسي، أن يعقد مؤتمراً آخر للحوار حول المسألة الاقتصادية التي تطبق مشاكلها على الشعب كله، والوطن كله، لتنتج الجوع والحرمان والضياع، بالإضافة إلى المشكلة الأمنية التي لا يملك المواطن معها أية ضمانة لأمنه في مواقعه، ولكن الدولة تحاول أن تحمّل مسؤولية الخلل الأمني للجهات الخارجية، تماماً كما لو لم تكن مسؤولة عن الأمن. وكذلك المشكلة الاجتماعية التي تنفتح على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. والسؤال: هل يتذكر المواطنون في تجربتهم الجديدة حوار الطرشان؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية