قمة في العلم والعبادة والحبّ في الله

قمة في العلم والعبادة والحبّ في الله

الإمام الرضا(ع):
قمة في العلم والعبادة والحبّ في الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

مالئ المرحلة علماً وحكمةً:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب/33).

في هذا اليوم السابع عشر من شهر صفر ـ على بعض الروايات المشهورة ـ كانت وفاة الإمام عليّ بن موسى الرِّضا(ع)، هذا الإمام الذي ملأ المرحلة التي عاشها في العالم الإسلامي علماً وحكمةً وتوعيةً وتوجيهاً، بحيث كان الناس يقصدونه ليتعرّفوا حقائق الإسلام وحقائق الحياة منه. وكان العلماء في المدينة يجلسون في المسجد، ويقصدهم النّاس للسّؤال عن أمور دينهم، فإذا عجزوا عن أية مسألة، قالوا للنّاس: «اذهبوا إلى هذا الإمام الجالس ـ وهو علي بن موسى الرضا(ع) ـ فاسألوه، لأنه يملك ما لا نملك من العلم». وقد قال بعض معاصريه: «ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له عدداً من علماء الأديان، وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور».

وقد جمع له بعض أصحابه المسائل، التي سئل عنها وأجاب عنها، فبلغت ثمانية عشر ألف مسألة، وكان أبوه ـ الإمام موسى بن جعفر(ع) ـ يقول لبنيه: «هذا أخوكم عليّ بن موسى عالم آل محمد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقوله لكم».

وقد كان الإمام الرِّضا(ع) في موقع القمة في العالم الإسلامي، حتى إنَّ المأمون العباسي عندما اختلف مع عائلته من بني العباس الذين فضّلوا عليه أخاه محمد الأمين، ووقفوا إلى جانب أخيه في الصراع الذي دار بينهما وانتصر فيه، أراد أن يعاقب بني العباس لينقل الخلافة منهم إلى بني علي(ع)، فلم يجد شخصاً في علمه وفضله وزهده وعبادته وكلِّ الفضائل المتجمّعة فيه، أفضل من الإمام الرِّضا(ع) ليجعل له ولاية العهد من بعده، وقد رفض الإمام ذلك، لأنه لا يريد أن يدخل في هذا الصراع، ولكنَّ المأمون أصرّ عليه، وقَبِل(ع) ذلك حتى يستفيد من هذه الفرصة، ليملأ العالم الإسلامي بحقائق الإسلام ومفاهيمه، وبأحكام الشريعة وأخلاقيات الإسلام، من أجل أن يقرّب الناس إلى الإسلام الأصيل الذي يتمثّل في خطِّ أهل البيت(ع). وقد طلب المأمون من الشعراء آنذاك أن يقبلوا على الإمام ويمدحوه، وكان من بينهم "الحسن بن هانىء" المشهور بأبي نواس، وكان قد تأخر عن مدح الإمام(ع)، وعوتب على ذلك، فقال:

قيل لي أنت أشعر الناس طراً في نظام من الكلام النبيهِ

لك من موقع القريظ نظام يُعجز الدرّ في يدي مجتنيه

فلماذا تركت مدح بن موسى والخصال التي تجمّعن فيه

قلت لا أستطيع مدح إمام كان جبريل خادماً لأبيه

وقد تحدث بعض أصحاب الإمام الرضا(ع) عن أخلاقياته الاجتماعية مع الناس، فقال: «ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلام قطّ ـ كان طيّب الكلام مع الناس، ولا يقسو على أحد في كلامه ولا يجفوه، بل تميز كلامه باللين والرقة والمحبة ـ ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً من حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليسه، ولا رأيته اتكأ بين يدي جليسه قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه، ولا رأيته تفل، ولا رأيته يقهقه، بل كان ضحكه التبسّم».

القرابة الحقيقيّة في العمل الصالح:

أمَّا احترامه للفقراء والناس العاديين حتى من الخدم والعبيد، فينقل بعض أصحابه يقول: «كنت مع الرضا في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة»، فقال(ع): «الربّ تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال»، كلنا أبناء آدم وحواء، وكلنا عبيد الله، والفرق بين العباد هو بالعمل.

وقال(ع) لبعض أصحابه الذي كان يريد أن يوحي للإمام أن قرابته لرسول الله تمثل القيمة كل القيمة، فواجهه الإمام(ع) بقوله: «ما كنت أرى ـ وأشار إلى عبد أسود ـ أني خيرٌ من هذا بقرابتي من رسول الله، إلا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل منه». وهذا ما يعطينا قاعدة إنسانية عامة في الإسلام، وهي أن النسب وإن كان عظيماً، لكنه لا يميّز الإنسان ويجعل له قيمة زائدة على الآخرين. وقد جاء عن عليّ(ع) وهو يتحدث عن قضية الانتساب إلى النبي(ص): «إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لُحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، ثم تلا(ع) قولـه تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه}. ونقل عن عليّ بن الحسين(ع)، الذي رآه بعض الناس وهو ساجد يبكي، فاستغرب وذكّره بجده وأبيه وأمه وجدته وعمه، فقال(ع): «دع عني ذكر أبي وأمي وجدي وعمي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق جهنم لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً». هذا هو الخط الإسلامي الأصيل فيما علّمنا الله ذلك، وفيما أكَّده الأئمة من أهل البيت(ع).

الدعوة إلى تدبر القرآن:

وكان الإمام الرِّضا(ع) يوجّه الناس إلى القرآن، ويريد لهم أن يقرأوه بتدبّر ورعاية ويعملوا به، ليكون الكتاب الذي يركِّز في النَّاس كلَّ المفاهيم الأصيلة، فينقل "الريَّان بن السلط" أنه قال: "قلت للرضا: ما تقول في القرآن"، قال(ع): «كلام الله فلا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا». وقد ورد في كلامه عن أبيه الكاظم(ع)، أنَّ رجلاً سأل الصادق(ع): «ما بال القرآن ما يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضة؟» فكلما تقدّم الزمن، ازداد القرآن جدّةً، وكل جيل يشعر بأن القرآن يمثل كلاماً جديداً، بحيث يعالج كل القضايا التي تمر في حياته، فقال(ع): «لأن الله لم ينـزلـه لزمان دون زمان ـ الله تعالى أنزله للحياة كلها والناس كلهم ـ ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كلِّ قومٍ غضّ ـ حيوي ـ إلى يوم القيامة».

أفضل الصَّدقة إعانة الضَّعيف:

وكان من كلامه(ع) في بيان بعض ما قد لا يعتبره الناس من الصَّدقات: «عونك الضعيف أفضل الصَّدقة»، فالصَّدقة ليست فقط في أن تبذل للناس هنا أو هناك، ولكنّ مساعدتك للضعيف في أن تعطيه القوة؛ أيّ نوع من القوة، هو من أفضل الصَّدقة، لأنك عندما تعطيه مالاً، فقد تحلّ له مشكلة محدودة، ولكن عندما تمدُّه بالقوَّة، فإنَّك تكون قد أعطيته روحاً جديدة، وانفتحت به على مواقع القوَّة في الحياة.

وكان(ع) يريد للإنسان أن يعيش دائماً مع عقله، ليعتبره الصديق الدائم، لأن العقل هو الذي يهدي الناس إلى التمييز بين الحسن والقبيح، وبين الخير والشر، وبين الحق والباطل، فكان يقول للناس: «صديق كل امرئ عقله»، ليكن عقلك هو صديقك الذي تستشيره وتتعلّم منه، لأنه حجة الله بينه وبين عباده، ولأنَّ العقل هو رسول من الداخل...

وكان يقول(ع) لبعض النَّاس الذين يأتمنون بعض الأشخاص على مالهم فيخونونهم، فيقول: خانني الأمين...، فيقول(ع): «لم يخنك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن». ادرس الناس قبل أن تأتمنهم على مال أو عرض أو مسؤولية. أدرسهم في كل خفايا أمورهم، حتى تميّز الأمين من الخائن، ولا تنظر إلى ظاهر الأمور. وهذا ما نحتاجه في كلِّ أمورنا في الحياة، ولا سيّما عندما نريد اختيار المسؤول، لأنَّك عندما تثق بإنسان وتمنحه صوتك أو تؤيّده، فإنك تأتمنه على دينك في بعض الحالات، أو على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المسؤوليَّات العامة، فعليك قبل أن تبادر إلى ذلك، أن تدرس هذا الإنسان؛ هل هو مؤتمن على البلاد والعباد؟ هل هو مؤتمن على دين الله إذا كان من رجال الدين؟ هل هو مؤتمن على الوظيفة التي تريد أن تعطيه إياها؟ هل هو مؤتمن على الواقع أم لا؟ ادرس الناس قبل أن تأتمنهم على أية مسؤولية كبيرة أو صغيرة، لأن الله تعالى سوف يحاسبك على ذلك كله.

العبادة كثرة التفكر في الله:

وكان(ع) يقول، وهو يشير إلى أنّ بعض الناس يعتبرون أن العبادة هي في كثرة الصلاة والصوم، «ليست العبادة كثرة الصلاة والصيام، ولكن العبادة كثرة التفكّر في أمر الله». وكان(ع) يقول: «أحيوا أمرنا رحم الله عبداً أحيا أمرنا»، فسئل: وكيف نحيي أمركم؟ ـ هل نحييها بضرب الرؤوس بالسيوف والظهور بالسلاسل؟ إن هذا يمثل هتكاً لحرمة الخط الأصيل لأهل البيت(ع) ـ فقال(ع): «يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس ـ الأئمة ليس عندهم غير الإسلام والقرآن، فحساباتهم هي حسابات الله ـ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا».

وكان الإمام الرِّضا(ع) يريد أن يعرَّف الناس معنى الاستماع لأيِّ شخص، فينقل عن رسول الله (ص)، أنَّ الإصغاء هو نوع من العبادة، لأن العبادة هي غاية الخضوع، فيقول: «قال رسول الله: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس».

عظمة أهل البيت(ع) أنهم عرفوا الله حق معرفته، وعرفوا رسول الله، وكانوا القمة في العلم والعبادة ومحبة الناس، ولذلك فإن علينا أن نلتزم أهل البيت بعقولنا وقلوبنا وحياتنا، لأنهم حجج الله على خلقه والأدلاّء عليه تعالى. والسلام على عليّ بن موسى الرِّضا يوم وُلد ويوم انتقل إلى جوار ربِّه ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف في هذه المرحلة الصعبة التي يقف فيها الاستكبار العالمي ضد الواقع الإسلامي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني، لنقف صفاً واحداً في مواجهته، لأن الله تعالى يريدنا أن نكون موحَّدين، وأن نهتم بأمور المسلمين ونساعدهم، حتى تكون القوة للحقِّ كلِّه، وللإسلام كله ضد الباطل كله وضد الاستكبار كله. فماذا هناك؟:

إبقاء الفلسطينيين ضحية:

في المشهد الفلسطيني، سُجِّل اقتحام الصهاينة سجناً في أريحا يُعتقل فيه بعض المناضلين الفلسطينيين، ومقاطعة يتجمّع فيها نفر من قوى الأمن الفلسطيني، في عملية قصف مركَّز سقط فيه بعض القتلى والجرحى، بدعم أمريكي وبريطاني، لأن المرحلة هي مرحلة الانتخابات الصهيونية في الكيان الغاصب التي هي بحاجة لأكثر من ضحية فلسطينية، وأكثر من إذلال للإنسان الفلسطيني هناك، ما قد يساهم في نجاح حزب "كاديما"...

وهذا ما يدلِّل على المدى الذي بلغه الحقد الأمريكي البريطاني على الشعب الفلسطيني، بالتنسيق مع الحقد الصهيوني، الأمر الذي جعل الأعذار التبريرية التي قدّمتها الدولتان تبعث على الضحك، لأنها لا تخضع لأي منطق... ومن اللافت أنَّ الصمت العربي قد تمثّل في موقف أكثر المسؤولين العرب، الذين لم يقوموا بأية مبادرة احتجاجية رادعة، ما عدا ذرف دموع التماسيح...

إننا نجد في هذه المواقف، أنَّ الأنظمة العربية ـ ولا سيما التي صالحت العدو دبلوماسياً وواقعياً ـ تلتقي مع ما يسمّى بالمجتمع الدولي ـ بما في ذلك مجلس الأمن ـ في إبقاء الشعب الفلسطيني تحت رحمة القذائف الصهيونية من خلال المناسبات الانتخابية، أو السقوط تحت تأثير الغرائز الذاتية للحقد اليهودي ضد العرب والمسلمين، وقد صرّح بعضهم أن "لا حدود سياسية في الحرب ضد العرب"...

موقف عربي متخاذل:

إنَّه زمن العار والخذلان الذي يقف فيه العرب والمسلمون على الحافة، ليؤمر بهم من خلال مجلس الأمن أو غيره للقفز في المجهول، أو لتخرج عليهم وزيرة الخارجية الأمريكية لتفرض عليهم الخضوع لإسرائيل جملةً وتفصيلاً دون قيد أو شرط، وذلك في دعوتهم حركة حماس المجاهدة إلى الاعتراف بإسرائيل لضمان السَّلام في الشرق الأوسط، الذي لا يتحقَّق ـ حتى من خلال اللجنة الرباعية الدولية ـ إلا بالشروط الإسرائيلية التي لا تترك للفلسطينيين أية فرصة لدولة قابلة للحياة.

دعوة العراقيين إلى اليقظة والحذر:

إنه زمن القهر الذي تُذبح فيه الأمة تحت عناوين الشعارات المذهبية، وترتفع فيه الأصوات في العراق أو في غيره خشية وقوع الحرب الأهلية من خلال الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة، على وقع مجازر الاحتلال والعناصر التكفيرية التي تستحلُّ دماء المسلمين من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، لتجتذب بين وقت وآخر ردود الفعل الدامية بطريقة وبأخرى...

ومن جهة أخرى، فإنَّ الخلافات السياسية للفئات المختلفة في العراق، تمنع تشكيل حكومة وحدة وطنية، ليبقى العراق في قبضة الفوضى الأمنية والسياسية والحياتية بشكل عام، ما يؤمن للمحتلّ تغطيةً لاستمراره بحجة حفظ التوازن ـ كما يقول ـ وهو الذي يصرّح في كلِّ مناسبة بأنه سوف يبقى طويلاً في العراق؛ البقرة الحلوب للبترول، والنقطة الاستراتيجية المطلة على المنطقة، للسيطرة على بلدانها بطريقة وبأخرى.

إننا نهيب بالعراقيين الانتباه إلى قواعد اللعبة الاستكبارية في عملية لعبة الأمم، وأن لا يستغرقوا في خلافاتهم الحزبية أو الطائفية بعيداً عن دراسة الخلفيات الدولية التي تحوّل العراق إلى ساحة للإرهاب من جهة، وللصراعات المتنافسة من جهة أخرى... وندعوهم إلى الوعي والحذر من الفئات التي تصنع المأساة في كل يوم، ولا سيما في المناسبات الدينية، وخصوصاً في مناسبة زيارة الأربعين.

حذار من المغامرات مع إيران:

وفي جانب آخر، فإنَّ الملفَّ النوويّ الإيراني السلمي المعروض على مجلس الأمن، الذي يضم أمريكا وحلفاءها من الدول التي منحت العدو الصهيوني كل المساعدات لصنع السلاح النووي، ومنعت أية جهة من محاسبته، لأن أمريكا وحلفاءها يعتبرون إسرائيل فوق الحساب، فإن هذا الملف لا يزال يتفاعل، ولا سيما في ظل الحديث التهديدي بالحل العسكري ضد إيران...

إننا نتصوّر أن المسألة لا تزال في حركة الضغط الإعلامي، لأن الجميع يعرفون أنَّ الحرب إذا أُثيرت ضد إيران، فإنَّ المنطقة كلها سوف تتحوّل إلى حريق هائل على جميع المستويات، وسوف يواجه العالم الكثير من المشاكل جراء الحرب الاقتصادية التي تسقط فيها الكثير من الأوضاع، ولذلك فإن على دول المنطقة أن تفكّر طويلاً في حماية أوضاعها من المغامرات الأمريكية والأوروبية التي لا تزال تتفاعل سلباً من خلال احتلال العراق.

هل الحوار اللبناني صناعة لبنانية؟!

أما في لبنان، فقد أُسدل الستار على جولة أخرى من جولات الحوار الداخلي الذي أعطى الفرصة للقادة السياسيين للّقاء والتعارف، ولذا نأمل أن يحقق بعض الإيجابيات على مستوى التنفيذ الذي يمثل الأفعال الجدية أمام الأقوال والكلمات الفضفاضة... ونريدُ للمتحاورين أن يكونوا جادّين صادقين في مقولة أن الحوار صناعة لبنانية، في الوقت الذي نعرف أنَّ سفاراتٍ للدول القريبة والبعيدة تتحرك لتهمس في أذن هذا أو ذاك، من أجل ترتيب الأوضاع الضاغطة هنا وهناك، ولا سيما في مسألة الحديث عن القرارات الدولية التي صُنع بعضها في إسرائيل ـ كما في القرار 1559 ـ وصُدِّر إلى أمريكا وفرنسا، ليمتدَّ إلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وذلك من أجل الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة بحجّة استقرار الأمن الداخلي، من دون أيّ تخطيط لأيّ برنامج دفاعي يتكفّل حماية لبنان من العدوان الإسرائيلي الذي يذكِّر اللبنانيين بوجوده في اختراقاته اليومية...

ويتندّر الكثيرون من اللبنانيين في حقيقة رئاسية، وهي أن دور اللبنانيين أن يستمعوا إلى كلمة السر العربية والدولية منذ كانت الرئاسات تتحرك في الواقع اللبناني، في عملية توافق بين دولة كبرى هنا ودولة إقليمية هناك...

لبنان... ضرورة حلّ المسألة الاقتصادية:

إننا ـ في نهاية المطاف ـ ندعو إلى حوار حول المسألة الاقتصادية، ابتداءً من الميزانية المصابة بأكثر من عجز يُخشى معه من تشريع المزيد من الضرائب المفروضة على الفقراء دون الأغنياء، وصولاً إلى المديونية التي تأكل كل الإنتاج الوطني، وتصادر كلَّ مدّخرات الناس... إننا نسأل الأكثرية والأقلية: ماذا أعددتم من البرامج لحلِّ المسألة الاقتصادية التي بدأت تقترب بالبلد إلى الانهيار أو الإفلاس؟ وهل تنتظرون مؤتمر "بيروت1" الذي تحيط به كل الأزمات الداخلية من أمنية وسياسية؟

ثم، ما هي اللغة الحضارية السلمية الجديدة في علاقة لبنان بأشقائه؟ هل تبقى الكلمات السلبية التي يتراشق فيها هؤلاء في النادي السياسي بكلمات السباب والتخوين، ليبقى الواقع العربي في موقع العداوة، ولتبرز إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ في موقع الصداقة؟! والسؤال: هل إن الجميع يملكون صورة لبنان الجديد السيِّد الحر المستقلّ، أم أن المسألة هي اجترار لبنان الماضي في تغييرات الشكل بعيداً عن المضمون؟

الإمام الرضا(ع):
قمة في العلم والعبادة والحبّ في الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

مالئ المرحلة علماً وحكمةً:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب/33).

في هذا اليوم السابع عشر من شهر صفر ـ على بعض الروايات المشهورة ـ كانت وفاة الإمام عليّ بن موسى الرِّضا(ع)، هذا الإمام الذي ملأ المرحلة التي عاشها في العالم الإسلامي علماً وحكمةً وتوعيةً وتوجيهاً، بحيث كان الناس يقصدونه ليتعرّفوا حقائق الإسلام وحقائق الحياة منه. وكان العلماء في المدينة يجلسون في المسجد، ويقصدهم النّاس للسّؤال عن أمور دينهم، فإذا عجزوا عن أية مسألة، قالوا للنّاس: «اذهبوا إلى هذا الإمام الجالس ـ وهو علي بن موسى الرضا(ع) ـ فاسألوه، لأنه يملك ما لا نملك من العلم». وقد قال بعض معاصريه: «ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له عدداً من علماء الأديان، وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور».

وقد جمع له بعض أصحابه المسائل، التي سئل عنها وأجاب عنها، فبلغت ثمانية عشر ألف مسألة، وكان أبوه ـ الإمام موسى بن جعفر(ع) ـ يقول لبنيه: «هذا أخوكم عليّ بن موسى عالم آل محمد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقوله لكم».

وقد كان الإمام الرِّضا(ع) في موقع القمة في العالم الإسلامي، حتى إنَّ المأمون العباسي عندما اختلف مع عائلته من بني العباس الذين فضّلوا عليه أخاه محمد الأمين، ووقفوا إلى جانب أخيه في الصراع الذي دار بينهما وانتصر فيه، أراد أن يعاقب بني العباس لينقل الخلافة منهم إلى بني علي(ع)، فلم يجد شخصاً في علمه وفضله وزهده وعبادته وكلِّ الفضائل المتجمّعة فيه، أفضل من الإمام الرِّضا(ع) ليجعل له ولاية العهد من بعده، وقد رفض الإمام ذلك، لأنه لا يريد أن يدخل في هذا الصراع، ولكنَّ المأمون أصرّ عليه، وقَبِل(ع) ذلك حتى يستفيد من هذه الفرصة، ليملأ العالم الإسلامي بحقائق الإسلام ومفاهيمه، وبأحكام الشريعة وأخلاقيات الإسلام، من أجل أن يقرّب الناس إلى الإسلام الأصيل الذي يتمثّل في خطِّ أهل البيت(ع). وقد طلب المأمون من الشعراء آنذاك أن يقبلوا على الإمام ويمدحوه، وكان من بينهم "الحسن بن هانىء" المشهور بأبي نواس، وكان قد تأخر عن مدح الإمام(ع)، وعوتب على ذلك، فقال:

قيل لي أنت أشعر الناس طراً في نظام من الكلام النبيهِ

لك من موقع القريظ نظام يُعجز الدرّ في يدي مجتنيه

فلماذا تركت مدح بن موسى والخصال التي تجمّعن فيه

قلت لا أستطيع مدح إمام كان جبريل خادماً لأبيه

وقد تحدث بعض أصحاب الإمام الرضا(ع) عن أخلاقياته الاجتماعية مع الناس، فقال: «ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلام قطّ ـ كان طيّب الكلام مع الناس، ولا يقسو على أحد في كلامه ولا يجفوه، بل تميز كلامه باللين والرقة والمحبة ـ ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً من حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليسه، ولا رأيته اتكأ بين يدي جليسه قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه، ولا رأيته تفل، ولا رأيته يقهقه، بل كان ضحكه التبسّم».

القرابة الحقيقيّة في العمل الصالح:

أمَّا احترامه للفقراء والناس العاديين حتى من الخدم والعبيد، فينقل بعض أصحابه يقول: «كنت مع الرضا في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة»، فقال(ع): «الربّ تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال»، كلنا أبناء آدم وحواء، وكلنا عبيد الله، والفرق بين العباد هو بالعمل.

وقال(ع) لبعض أصحابه الذي كان يريد أن يوحي للإمام أن قرابته لرسول الله تمثل القيمة كل القيمة، فواجهه الإمام(ع) بقوله: «ما كنت أرى ـ وأشار إلى عبد أسود ـ أني خيرٌ من هذا بقرابتي من رسول الله، إلا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل منه». وهذا ما يعطينا قاعدة إنسانية عامة في الإسلام، وهي أن النسب وإن كان عظيماً، لكنه لا يميّز الإنسان ويجعل له قيمة زائدة على الآخرين. وقد جاء عن عليّ(ع) وهو يتحدث عن قضية الانتساب إلى النبي(ص): «إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لُحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، ثم تلا(ع) قولـه تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه}. ونقل عن عليّ بن الحسين(ع)، الذي رآه بعض الناس وهو ساجد يبكي، فاستغرب وذكّره بجده وأبيه وأمه وجدته وعمه، فقال(ع): «دع عني ذكر أبي وأمي وجدي وعمي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق جهنم لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً». هذا هو الخط الإسلامي الأصيل فيما علّمنا الله ذلك، وفيما أكَّده الأئمة من أهل البيت(ع).

الدعوة إلى تدبر القرآن:

وكان الإمام الرِّضا(ع) يوجّه الناس إلى القرآن، ويريد لهم أن يقرأوه بتدبّر ورعاية ويعملوا به، ليكون الكتاب الذي يركِّز في النَّاس كلَّ المفاهيم الأصيلة، فينقل "الريَّان بن السلط" أنه قال: "قلت للرضا: ما تقول في القرآن"، قال(ع): «كلام الله فلا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا». وقد ورد في كلامه عن أبيه الكاظم(ع)، أنَّ رجلاً سأل الصادق(ع): «ما بال القرآن ما يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضة؟» فكلما تقدّم الزمن، ازداد القرآن جدّةً، وكل جيل يشعر بأن القرآن يمثل كلاماً جديداً، بحيث يعالج كل القضايا التي تمر في حياته، فقال(ع): «لأن الله لم ينـزلـه لزمان دون زمان ـ الله تعالى أنزله للحياة كلها والناس كلهم ـ ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كلِّ قومٍ غضّ ـ حيوي ـ إلى يوم القيامة».

أفضل الصَّدقة إعانة الضَّعيف:

وكان من كلامه(ع) في بيان بعض ما قد لا يعتبره الناس من الصَّدقات: «عونك الضعيف أفضل الصَّدقة»، فالصَّدقة ليست فقط في أن تبذل للناس هنا أو هناك، ولكنّ مساعدتك للضعيف في أن تعطيه القوة؛ أيّ نوع من القوة، هو من أفضل الصَّدقة، لأنك عندما تعطيه مالاً، فقد تحلّ له مشكلة محدودة، ولكن عندما تمدُّه بالقوَّة، فإنَّك تكون قد أعطيته روحاً جديدة، وانفتحت به على مواقع القوَّة في الحياة.

وكان(ع) يريد للإنسان أن يعيش دائماً مع عقله، ليعتبره الصديق الدائم، لأن العقل هو الذي يهدي الناس إلى التمييز بين الحسن والقبيح، وبين الخير والشر، وبين الحق والباطل، فكان يقول للناس: «صديق كل امرئ عقله»، ليكن عقلك هو صديقك الذي تستشيره وتتعلّم منه، لأنه حجة الله بينه وبين عباده، ولأنَّ العقل هو رسول من الداخل...

وكان يقول(ع) لبعض النَّاس الذين يأتمنون بعض الأشخاص على مالهم فيخونونهم، فيقول: خانني الأمين...، فيقول(ع): «لم يخنك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن». ادرس الناس قبل أن تأتمنهم على مال أو عرض أو مسؤولية. أدرسهم في كل خفايا أمورهم، حتى تميّز الأمين من الخائن، ولا تنظر إلى ظاهر الأمور. وهذا ما نحتاجه في كلِّ أمورنا في الحياة، ولا سيّما عندما نريد اختيار المسؤول، لأنَّك عندما تثق بإنسان وتمنحه صوتك أو تؤيّده، فإنك تأتمنه على دينك في بعض الحالات، أو على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المسؤوليَّات العامة، فعليك قبل أن تبادر إلى ذلك، أن تدرس هذا الإنسان؛ هل هو مؤتمن على البلاد والعباد؟ هل هو مؤتمن على دين الله إذا كان من رجال الدين؟ هل هو مؤتمن على الوظيفة التي تريد أن تعطيه إياها؟ هل هو مؤتمن على الواقع أم لا؟ ادرس الناس قبل أن تأتمنهم على أية مسؤولية كبيرة أو صغيرة، لأن الله تعالى سوف يحاسبك على ذلك كله.

العبادة كثرة التفكر في الله:

وكان(ع) يقول، وهو يشير إلى أنّ بعض الناس يعتبرون أن العبادة هي في كثرة الصلاة والصوم، «ليست العبادة كثرة الصلاة والصيام، ولكن العبادة كثرة التفكّر في أمر الله». وكان(ع) يقول: «أحيوا أمرنا رحم الله عبداً أحيا أمرنا»، فسئل: وكيف نحيي أمركم؟ ـ هل نحييها بضرب الرؤوس بالسيوف والظهور بالسلاسل؟ إن هذا يمثل هتكاً لحرمة الخط الأصيل لأهل البيت(ع) ـ فقال(ع): «يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس ـ الأئمة ليس عندهم غير الإسلام والقرآن، فحساباتهم هي حسابات الله ـ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا».

وكان الإمام الرِّضا(ع) يريد أن يعرَّف الناس معنى الاستماع لأيِّ شخص، فينقل عن رسول الله (ص)، أنَّ الإصغاء هو نوع من العبادة، لأن العبادة هي غاية الخضوع، فيقول: «قال رسول الله: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس».

عظمة أهل البيت(ع) أنهم عرفوا الله حق معرفته، وعرفوا رسول الله، وكانوا القمة في العلم والعبادة ومحبة الناس، ولذلك فإن علينا أن نلتزم أهل البيت بعقولنا وقلوبنا وحياتنا، لأنهم حجج الله على خلقه والأدلاّء عليه تعالى. والسلام على عليّ بن موسى الرِّضا يوم وُلد ويوم انتقل إلى جوار ربِّه ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف في هذه المرحلة الصعبة التي يقف فيها الاستكبار العالمي ضد الواقع الإسلامي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني، لنقف صفاً واحداً في مواجهته، لأن الله تعالى يريدنا أن نكون موحَّدين، وأن نهتم بأمور المسلمين ونساعدهم، حتى تكون القوة للحقِّ كلِّه، وللإسلام كله ضد الباطل كله وضد الاستكبار كله. فماذا هناك؟:

إبقاء الفلسطينيين ضحية:

في المشهد الفلسطيني، سُجِّل اقتحام الصهاينة سجناً في أريحا يُعتقل فيه بعض المناضلين الفلسطينيين، ومقاطعة يتجمّع فيها نفر من قوى الأمن الفلسطيني، في عملية قصف مركَّز سقط فيه بعض القتلى والجرحى، بدعم أمريكي وبريطاني، لأن المرحلة هي مرحلة الانتخابات الصهيونية في الكيان الغاصب التي هي بحاجة لأكثر من ضحية فلسطينية، وأكثر من إذلال للإنسان الفلسطيني هناك، ما قد يساهم في نجاح حزب "كاديما"...

وهذا ما يدلِّل على المدى الذي بلغه الحقد الأمريكي البريطاني على الشعب الفلسطيني، بالتنسيق مع الحقد الصهيوني، الأمر الذي جعل الأعذار التبريرية التي قدّمتها الدولتان تبعث على الضحك، لأنها لا تخضع لأي منطق... ومن اللافت أنَّ الصمت العربي قد تمثّل في موقف أكثر المسؤولين العرب، الذين لم يقوموا بأية مبادرة احتجاجية رادعة، ما عدا ذرف دموع التماسيح...

إننا نجد في هذه المواقف، أنَّ الأنظمة العربية ـ ولا سيما التي صالحت العدو دبلوماسياً وواقعياً ـ تلتقي مع ما يسمّى بالمجتمع الدولي ـ بما في ذلك مجلس الأمن ـ في إبقاء الشعب الفلسطيني تحت رحمة القذائف الصهيونية من خلال المناسبات الانتخابية، أو السقوط تحت تأثير الغرائز الذاتية للحقد اليهودي ضد العرب والمسلمين، وقد صرّح بعضهم أن "لا حدود سياسية في الحرب ضد العرب"...

موقف عربي متخاذل:

إنَّه زمن العار والخذلان الذي يقف فيه العرب والمسلمون على الحافة، ليؤمر بهم من خلال مجلس الأمن أو غيره للقفز في المجهول، أو لتخرج عليهم وزيرة الخارجية الأمريكية لتفرض عليهم الخضوع لإسرائيل جملةً وتفصيلاً دون قيد أو شرط، وذلك في دعوتهم حركة حماس المجاهدة إلى الاعتراف بإسرائيل لضمان السَّلام في الشرق الأوسط، الذي لا يتحقَّق ـ حتى من خلال اللجنة الرباعية الدولية ـ إلا بالشروط الإسرائيلية التي لا تترك للفلسطينيين أية فرصة لدولة قابلة للحياة.

دعوة العراقيين إلى اليقظة والحذر:

إنه زمن القهر الذي تُذبح فيه الأمة تحت عناوين الشعارات المذهبية، وترتفع فيه الأصوات في العراق أو في غيره خشية وقوع الحرب الأهلية من خلال الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة، على وقع مجازر الاحتلال والعناصر التكفيرية التي تستحلُّ دماء المسلمين من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، لتجتذب بين وقت وآخر ردود الفعل الدامية بطريقة وبأخرى...

ومن جهة أخرى، فإنَّ الخلافات السياسية للفئات المختلفة في العراق، تمنع تشكيل حكومة وحدة وطنية، ليبقى العراق في قبضة الفوضى الأمنية والسياسية والحياتية بشكل عام، ما يؤمن للمحتلّ تغطيةً لاستمراره بحجة حفظ التوازن ـ كما يقول ـ وهو الذي يصرّح في كلِّ مناسبة بأنه سوف يبقى طويلاً في العراق؛ البقرة الحلوب للبترول، والنقطة الاستراتيجية المطلة على المنطقة، للسيطرة على بلدانها بطريقة وبأخرى.

إننا نهيب بالعراقيين الانتباه إلى قواعد اللعبة الاستكبارية في عملية لعبة الأمم، وأن لا يستغرقوا في خلافاتهم الحزبية أو الطائفية بعيداً عن دراسة الخلفيات الدولية التي تحوّل العراق إلى ساحة للإرهاب من جهة، وللصراعات المتنافسة من جهة أخرى... وندعوهم إلى الوعي والحذر من الفئات التي تصنع المأساة في كل يوم، ولا سيما في المناسبات الدينية، وخصوصاً في مناسبة زيارة الأربعين.

حذار من المغامرات مع إيران:

وفي جانب آخر، فإنَّ الملفَّ النوويّ الإيراني السلمي المعروض على مجلس الأمن، الذي يضم أمريكا وحلفاءها من الدول التي منحت العدو الصهيوني كل المساعدات لصنع السلاح النووي، ومنعت أية جهة من محاسبته، لأن أمريكا وحلفاءها يعتبرون إسرائيل فوق الحساب، فإن هذا الملف لا يزال يتفاعل، ولا سيما في ظل الحديث التهديدي بالحل العسكري ضد إيران...

إننا نتصوّر أن المسألة لا تزال في حركة الضغط الإعلامي، لأن الجميع يعرفون أنَّ الحرب إذا أُثيرت ضد إيران، فإنَّ المنطقة كلها سوف تتحوّل إلى حريق هائل على جميع المستويات، وسوف يواجه العالم الكثير من المشاكل جراء الحرب الاقتصادية التي تسقط فيها الكثير من الأوضاع، ولذلك فإن على دول المنطقة أن تفكّر طويلاً في حماية أوضاعها من المغامرات الأمريكية والأوروبية التي لا تزال تتفاعل سلباً من خلال احتلال العراق.

هل الحوار اللبناني صناعة لبنانية؟!

أما في لبنان، فقد أُسدل الستار على جولة أخرى من جولات الحوار الداخلي الذي أعطى الفرصة للقادة السياسيين للّقاء والتعارف، ولذا نأمل أن يحقق بعض الإيجابيات على مستوى التنفيذ الذي يمثل الأفعال الجدية أمام الأقوال والكلمات الفضفاضة... ونريدُ للمتحاورين أن يكونوا جادّين صادقين في مقولة أن الحوار صناعة لبنانية، في الوقت الذي نعرف أنَّ سفاراتٍ للدول القريبة والبعيدة تتحرك لتهمس في أذن هذا أو ذاك، من أجل ترتيب الأوضاع الضاغطة هنا وهناك، ولا سيما في مسألة الحديث عن القرارات الدولية التي صُنع بعضها في إسرائيل ـ كما في القرار 1559 ـ وصُدِّر إلى أمريكا وفرنسا، ليمتدَّ إلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وذلك من أجل الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة بحجّة استقرار الأمن الداخلي، من دون أيّ تخطيط لأيّ برنامج دفاعي يتكفّل حماية لبنان من العدوان الإسرائيلي الذي يذكِّر اللبنانيين بوجوده في اختراقاته اليومية...

ويتندّر الكثيرون من اللبنانيين في حقيقة رئاسية، وهي أن دور اللبنانيين أن يستمعوا إلى كلمة السر العربية والدولية منذ كانت الرئاسات تتحرك في الواقع اللبناني، في عملية توافق بين دولة كبرى هنا ودولة إقليمية هناك...

لبنان... ضرورة حلّ المسألة الاقتصادية:

إننا ـ في نهاية المطاف ـ ندعو إلى حوار حول المسألة الاقتصادية، ابتداءً من الميزانية المصابة بأكثر من عجز يُخشى معه من تشريع المزيد من الضرائب المفروضة على الفقراء دون الأغنياء، وصولاً إلى المديونية التي تأكل كل الإنتاج الوطني، وتصادر كلَّ مدّخرات الناس... إننا نسأل الأكثرية والأقلية: ماذا أعددتم من البرامج لحلِّ المسألة الاقتصادية التي بدأت تقترب بالبلد إلى الانهيار أو الإفلاس؟ وهل تنتظرون مؤتمر "بيروت1" الذي تحيط به كل الأزمات الداخلية من أمنية وسياسية؟

ثم، ما هي اللغة الحضارية السلمية الجديدة في علاقة لبنان بأشقائه؟ هل تبقى الكلمات السلبية التي يتراشق فيها هؤلاء في النادي السياسي بكلمات السباب والتخوين، ليبقى الواقع العربي في موقع العداوة، ولتبرز إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ في موقع الصداقة؟! والسؤال: هل إن الجميع يملكون صورة لبنان الجديد السيِّد الحر المستقلّ، أم أن المسألة هي اجترار لبنان الماضي في تغييرات الشكل بعيداً عن المضمون؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية