تأكيد صدق الانتماء إلى الرسالة بالعمل

تأكيد صدق الانتماء إلى الرسالة بالعمل

على خطِّ الحسين ونهجه ومبادئه:
تأكيد صدق الانتماء إلى الرسالة بالعمل


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

عقيدة وموقف:

في عاشوراء كنّا مع الحسين(ع)، نتذكّره ونتابع عقله وروحه وقلبه وحركته وروحانيته، كنّا مع الحسين(ع) في ظهيرة يوم عاشوراء، والمنادي ينادي لقد حان وقت الصلاة، ويتطلّع الإمام الحسين(ع) ويقول: هذا أوّل وقتها، ويقف ليصلّي بأصحابه، فتنطلق السهام عليه وهو يصلي، فيستشهد أحد أصحابه وهو يدافع عنه. هذه الروحانية عاشها الحسين(ع) مع الله حتى في أشدّ ساعات الخطر وأقسى ساعات الألم، لأن الحسين(ع) كجدّه وأبيه وأمه وأخيه، باعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى.

كان أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في أشدّ حالات الحرب في صفين يصلي وهو في قلب المعركة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، المعركة على أشدها وأنت تصلي، أفهذا وقت صلاة؟ فقال(ع): علامَ قاتلناهم؟! إننا نقاتلهم لأنهم لا يعيشون معنى الصلاة وسرّها وانفتاحها على الله، وعلى كل ما يقرب الإنسان إليه ويبعده عن معاصيه، فهي روح المؤمن إلى الله، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فمن لا يصلي لا علاقة له بالله، ولا علاقة لله به، لأنها هي التي تربط بين المسلم وبين ربه.

الإمام الحسين(ع) في كربلاء يؤكّد للناس الذين تجمّعوا حوله، أن الإسلام ليس مجرد عاطفة، وأن الولاء ليس مجرد حالة نفسية. الإسلام عقيدة وكلمة وموقف

وهكذا رأينا الإمام الحسين(ع) في كربلاء، يؤكّد للناس الذين تجمّعوا حوله، أن الإسلام ليس مجرد عاطفة، وأن الولاء ليس مجرد حالة نفسية. الإسلام عقيدة وكلمة وموقف، ولذلك، فإن هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، ويعتبرون أنفسهم موالين للنبي(ص) ولأهل بيته، لا يعيشون الإسلام إذا كانت قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه، لأن الإنسان المسلم هو الذي يتحرك سيفه في خطّ مبادئه، وفي خط عقيدته، ولا يعيش الازدواجية بين ما هي الرسالة والعقيدة وبين ما هو العمل.

وهكذا، أيها الأحبة، عندما نلتقي بالحسين(ع)، فإننا نلتقي بمجتمع الحسين الصغير آنذاك، مجتمع أصحابه وأهل بيته الذين باتوا ليلة عاشوراء بين راكعٍ وساجدٍ وتالٍ للقرآن ومبتهل له، كانوا يعيشون مع الله ويشهدونه على أنهم وقفوا هذا الموقف إخلاصاً له وقربةً له، فهم لا يفرِّقون بين سجودهم لله وركوعهم له وتلاوتهم للقرآن، وبين حركتهم في الجهاد في مواجهة القوم الذين عاشوا مع الشيطان وتركوا طاعة الرحمن.

حركة الحسين(ع) حركة عدل:

وهكذا، كان الحسين(ع) يؤكّد للعالم كله، أنَّ حركته الإسلامية هي حركة عدل. إنه يريد أن ينشر العدل في العالم، من أجل أن يعيش الناس في علاقتهم بالله في حالة عدل، فلا يظلموا ربهم بالشرك والمعصية، وأن يعيشوا مع أنفسهم في حالة عدل، فلا يظلموا أحداً في حقه.

كان الحسين(ع) يريد أن يقول لهم إن الله شرّع العدل في كل الرسالات، وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى في كتابه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25)، فالإنسان المسلم إذا أراد أن يؤكد صدقه في إسلامه، فعليه أن يكون الإنسان العادل. العادل في بيته مع زوجته ومع أولاده ومع أبيه وأمه وإخوانه وأخواته، والعادل مع الناس الذين يتعاملون معه ويتعامل معهم، والعادل في حركة المسؤولية إذا تسلّم أية مسؤولية، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

مجتمع يزيد، هو أن مجتمع يزيد لم يأخذ بأسباب العدل في قضية الحكم، وفي قضية الممارسة، وفي قضية المسؤولية، وفي قضية المعاملة، بينما نجد أصحاب الحسين(ع) وجمهوره ينطلقون من خلال العدل مع ربهم ومع أنفسهم ومع الناس كافة

إن الفرق بين مجتمع الحسين وجمهوره، وبين مجتمع يزيد، هو أن مجتمع يزيد لم يأخذ بأسباب العدل في قضية الحكم، وفي قضية الممارسة، وفي قضية المسؤولية، وفي قضية المعاملة، بينما نجد أصحاب الحسين(ع) وجمهوره، ينطلقون من خلال العدل مع ربهم ومع أنفسهم ومع الناس كافة. إن جمهور الحسين(ع) هو الجمهور الذي يتطلّع إلى الله ويحسب حسابه في كل كلمة يقولها، وفي كل عمل يعمله، بينما أصحاب يزيد يعيشون مع أطماعهم وشهواتهم ومكاسبهم في هذا المجال.

في جمهور يزيد، كان هناك عمر بن سعد القريب نسباً من الحسين(ع) من خلال الخؤولة، وكان ابن زياد يمنّيه بولاية الريّ إذا حارب الحسين(ع)، فكان يقلّب أمره في ليلته التي لم ينم فيها ويقول:

أأترك ملك الريّ والريّ منيتي أم أرجع مأثوماً بقتـل حسيـنِ

ثم يقنع نفسه:

فإن صدقوا في ما يقولون فإنني أتوب إلى الرحمن مـن سنتين

وقَبِل الولاية بقتال الحسين.

أما في جمهور الحسين(ع)، فنجد الحرّ بن يزيد الرياحي(رض)، الذي كان أول شخص في قيادة ابن زياد يعطل حركة الإمام الحسين(ع)، ولكن الرجل كان يحاسب نفسه، كما أنه لم يكن يستغرق في أطماعه ولا في ولايته أو وظيفته، وكان منفتحاً في تفكيره على الآخرة، وكان يودّ لو أن الأمور تنتهي إلى صلح مع الحسين(ع)، فيتفادى بذلك قتاله، ولكن عندما وجد أن المسألة وصلت إلى نقطة اللارجوع، بعد أن سأل ابن سعد: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ فأجابه: "قتالاً أهونه أن تسقط الرؤوس وتقطع الأيدي"، انطلق ليحسم موقفه، ثم بدأ يرتعد، فقال له صاحبه: أترتعد، إن الذين يرتعدون في الحرب هم الجبناء، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، قال له: ليست القضية جبناً، ولكني أخيِّر نفسي بين الجنة والنار. إني أخيّر نفسي وأخاطبها وأقول: يا نفس هل تختارين الطريق الذي يؤدي إلى الجنة وإلى رضوان الله، أو تختارين الطريق الذي يؤدي إلى النار؟ ثم حسم أمره: "فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت وأحرقت".

وهكذا سار إلى الحسين(ع) تائباً إلى الله سبحانه وتعالى، وأعطاه الإمام الحسين(ع) الوسام الأكبر: "أنت الحرّ كما سمّتك أمك، حر في الدنيا وسعيد في الآخرة". ونعرف من كلمة الإمام الحسين(ع)، أن الحرية هي أن تملك إرادتك، أن تختار طريقك، أن لا تخضع لشهواتك ولا لأطماعك، أن تؤكّد مبادئك، بأن تكون الإنسان الذي يريد الخير لنفسه، والذي يجعل حركته في خط مبادئه في هذا المجال.

هل نحن على نهج الحسين(ع)؟

أيها الأحبة، لقد قضينا مع الإمام الحسين(ع) أياماً، وربما نقضي أياماً أطول، كما يفعل الكثيرون في العالم الإسلامي في خط أهل البيت، الذين يحتفلون بالإمام الحسين(ع) في محرم وصفر، ولكن المسألة هي أننا بعد انتهاء هذا الموسم، كيف نقدّم حسابنا للحسين(ع)، ليسأل كل واحد منا نفسه، كيف يعيش مع إسلامه؟ كيف يعيش مع ربه؟ كيف يخيّر نفسه بين الجنة والنار؟ كيف يؤكّد معنى الحرية انطلاقاً من كلمة علي(ع): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، وليؤكّد العزة والكرامة، كما قال تعالى: {ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون:8).

أيها الأحبة، بعد عاشوراء، لا بد أن نبدأ التفكير، في هل نحن جمهور الحسين(ع)؟ مَن نوالي؟ ومن نعارض؟ من نؤيد؟ ومن نرفض؟ ما هو الخط الذي نتحرك فيه؟ هل هو خط الإسلام أم خط الضلال؟ "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا". {يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد واتّقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} (الحشر:18-20).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف في الدنيا والآخرة، بجهاد أنفسكم وترشيدها، وتربيتها على ما أراد الله ورسوله، والقيام بالمسؤوليات التي فرضها الله على المسلمين من الاهتمام بأمور الإسلام والمسلمين، ومن النصرة للإسلام والمسلمين في كل ساحات المعارك التي يثيرها الكافرون من جهة، والمستكبرون من جهة، فماذا هناك:

إسرائيل تعاني من مأزق المقاومة

في المشهد الفلسطيني، تقتل الطائرات الإسرائيلية في كل يوم أكثر من ناشط فلسطيني في قصف السيارات التي يركبونها، وتصيب من خلال ذلك أكثر من مدني، وينطلق الجيش الصهيوني إلى المنازل في الضفة ليقتل شبابها أو ليعتقلهم، ويهدد وزير حرب العدو بمواصلة عمليات التصفية ضد الفلسطينيين لمجرد الاتهام، ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة «كوفي أنان» إلى الاحتجاج على ذلك، لأنه اغتيال من دون محاكمة، ولكن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين الذين يدعون حماس إلى نبذ العنف والإرهاب، يوافقون إسرائيل ويشجعونها ـ عملياً ـ على إرهابها الوحشي.

ومن جانب آخر، فإن رئيس حكومة العدو بالوكالة، يتحدث بكل صلافة عن أن كيانه سوف يحتفظ لدى ترسيم حدود كيانه بالقدس وبالكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى في الضفة، إضافةً إلى غور الأردن، وذلك إلى جانب تسريع العمل بالجدار العازل، ما يعني احتفاظ إسرائيل بأكثر من 60 بالمئة من الضفة الغربية... هذا في الوقت الذي تنطلق صيحات ما يسمى العالم الحر وبعض البلدان الغربية، مطالبة حماس الاعتراف بإسرائيل وبرفض المقاومة، من دون مطالبة إسرائيل بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة منذ الـ(67) على الأقل، والامتناع عن الإرهاب المتحرك في أكثر من موقع ضد الشعب، ما يوحي بأن هذا العالم ليس صادقاً في كل شعاراته في حرية تقرير مصير الشعوب ورفض الاحتلال، وتأكيد حقوق الإنسان، إذا كانت القضية ترتبط بحقوق شعوب العالم الثالث المستضعف.

إننا، وفي موقفنا هذا، نؤكد صلابة الموقف الفلسطيني في الوقوف مع حقوقه الشرعية، فإنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وإذا كان الشعب الفلسطيني يعاني من مشكلة الاحتلال، فإن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ تعاني من مأزق المقاومة القوية التي تربك الواقع السياسي والأمني لهما معاً.

ونريد للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، أن تنسجما مع قاعدتهما العربية والإسلامية، وأن تقفا مع الشعب الفلسطيني في إرادته الواعية في اختيار المجاهدين في حماس، وفي مساعدته مالياً وسياسياً واقتصادياً.

متابعة التحرك في قضية الإساءة إلى الرسول(ص)

إننا في الوقت الذي نؤكد استخدام الوسائل السلمية الحضارية في أساليب الاحتجاج ندعو المسلمين إلى متابعة التحرك بكل ما يملكون من الضغط بحيث يعرف العالم أنه لا يسمح لأحدٍ بالهجوم على نبي الإسلام والإسلام كله بحجة حرية التعبير، لأن الحرية لا بد من أن تلتقي بالمسؤولية العامة.

وإلى جانب ذلك، تتوالى المواقف الإسلامية على جميع الأصعدة ضد الصور السيئة للنبي محمد(ص)، ما جعل المسلمين يقفون صفاً واحداً في العالم الإسلامي للاحتجاج على ذلك بمختلف الأساليب، ولا سيّما المقاطعة، في الوقت الذي أصيب العالم المستكبر بهزة سياسية ارتبكت فيها مواقفه بين مؤيد للصحف المسيئة وبين داعٍ إلى التهدئة، بقصد تخفيف القضية الإسلامية الشعبية.

أما أمريكا، فإنها بادرت إلى اتهام طهران ودمشق بإثارة الموضوع ضد الغرب في العالم الإسلامي، لأنها تريد أن تحوله إلى ورقة سياسية ضد هذين البلدين، مع العلم أن الموقف الشعبي الإسلامي كان سابقاً على موقف البلدين.

إننا في الوقت الذي نؤكد استخدام الوسائل السلمية الحضارية في أساليب الاحتجاج، ندعو المسلمين إلى متابعة التحرك بكل ما يملكون من الضغط، بحيث يعرف العالم أنه لا يسمح لأحدٍ بالهجوم على نبي الإسلام والإسلام كله بحجة حرية التعبير، لأن الحرية لا بد من أن تلتقي بالمسؤولية العامة.

وإنه لمن المؤسف حقاً، أن ينطلق الحقد الذي يتمثل ببعض التكفيريين ليستهدفوا المواكب العاشورائية في باكستان وأفغانستان، وأن يعمل هؤلاء لخدمة المستكبرين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في إثارة الفتنة في الواقع الإسلامي، في الوقت الذي كانت الأمة تتطلع إلى تعزيز وحدتها وصون كرامتها بالوقوف صفاً واحداً، سنةً وشيعة، في جبهة الدفاع عن رسول الله(ص)، وعن الإهانات التي حاولت النيل منه(ص) ومن الإسلام كله.

الفساد في العراق صنيعة الاحتلال

ويبقى العراق الذي تتوالى فيه الأعمال الإجرامية التي تستهدف المدنيين، ويواصل الاحتلال الأمريكي سرقة أمواله من خلال شركاته التي يعمل فيها نائب الرئيس الأمريكي الذي يتحرك مع رئيسه وإدارته لإفساد الواقع المالي والاقتصادي والسياسي والأمني هناك... في الوقت الذي يتحدث وزير الدفاع الأمريكي عن قلقه من الفساد في العراق، مع أن هذا الفساد صنيعة هذا الاحتلال وشركاته الاحتكارية. إننا ندعو الشعب العراقي إلى المزيد من التضامن والوحدة، والتخطيط لإزالة الاحتلال، وتقوية جيشه وأجهزة الأمن الداخلي، واختيار الفئات المخلصة الخبيرة في حكومته.

ويبقى المشروع النووي الإيراني السلمي في دائرة التجاذب الاستكباري، من خلال الضغط على وكالة الطاقة النووية من أجل تقديم هذا الملف إلى مجلس الأمن، لتشديد الضغوط السياسية والاقتصادية على إيران، ولكننا نعتقد أنهم لن ينجحوا في تحركهم هذا، لأن إيران تملك رشداً سياسياً وقوة يؤهّلانها للسيطرة على الموقف بالرغم من التحالف الأمريكي الأوروبي ضدها.

لبنان: لمواجهة كل خيوط الفتنة

أما لبنان، فإنه لا يزال في مناخ الاهتزاز السياسي الذي سقطت فيه اللغة السياسية في وحول الانقسامات التي تثير التوتر، وتخلق الكثير من أجواء التشنج، وتدفع الناس إلى مزيد من الخوف والقلق والحذر، ولاسيما عندما يرون عجز الدولة عن حماية أمن المواطن وحل مشكلاته الاقتصادية، وتحريك الكلمات على أساس تسييس الواقع الأمني والاقتصادي في لعبة الأكثرية والأقلية.

إننا ندعو إلى مواجهة كل الجهات المثيرة للفتنة، ومحاسبة الذين أربكوا الواقع الوطني كله ونقدر حركة العقلاء في تطويق كل خطوط الفتنة الطائفية والسياسية، وهذا ما نريده للوطن كله، أن يخضع لمنطق العقل والمسؤولية، ويبتعد عن الانفعال والغريزة في مواجهة الواقع.

على خطِّ الحسين ونهجه ومبادئه:
تأكيد صدق الانتماء إلى الرسالة بالعمل


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

عقيدة وموقف:

في عاشوراء كنّا مع الحسين(ع)، نتذكّره ونتابع عقله وروحه وقلبه وحركته وروحانيته، كنّا مع الحسين(ع) في ظهيرة يوم عاشوراء، والمنادي ينادي لقد حان وقت الصلاة، ويتطلّع الإمام الحسين(ع) ويقول: هذا أوّل وقتها، ويقف ليصلّي بأصحابه، فتنطلق السهام عليه وهو يصلي، فيستشهد أحد أصحابه وهو يدافع عنه. هذه الروحانية عاشها الحسين(ع) مع الله حتى في أشدّ ساعات الخطر وأقسى ساعات الألم، لأن الحسين(ع) كجدّه وأبيه وأمه وأخيه، باعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى.

كان أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في أشدّ حالات الحرب في صفين يصلي وهو في قلب المعركة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، المعركة على أشدها وأنت تصلي، أفهذا وقت صلاة؟ فقال(ع): علامَ قاتلناهم؟! إننا نقاتلهم لأنهم لا يعيشون معنى الصلاة وسرّها وانفتاحها على الله، وعلى كل ما يقرب الإنسان إليه ويبعده عن معاصيه، فهي روح المؤمن إلى الله، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فمن لا يصلي لا علاقة له بالله، ولا علاقة لله به، لأنها هي التي تربط بين المسلم وبين ربه.

الإمام الحسين(ع) في كربلاء يؤكّد للناس الذين تجمّعوا حوله، أن الإسلام ليس مجرد عاطفة، وأن الولاء ليس مجرد حالة نفسية. الإسلام عقيدة وكلمة وموقف

وهكذا رأينا الإمام الحسين(ع) في كربلاء، يؤكّد للناس الذين تجمّعوا حوله، أن الإسلام ليس مجرد عاطفة، وأن الولاء ليس مجرد حالة نفسية. الإسلام عقيدة وكلمة وموقف، ولذلك، فإن هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، ويعتبرون أنفسهم موالين للنبي(ص) ولأهل بيته، لا يعيشون الإسلام إذا كانت قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه، لأن الإنسان المسلم هو الذي يتحرك سيفه في خطّ مبادئه، وفي خط عقيدته، ولا يعيش الازدواجية بين ما هي الرسالة والعقيدة وبين ما هو العمل.

وهكذا، أيها الأحبة، عندما نلتقي بالحسين(ع)، فإننا نلتقي بمجتمع الحسين الصغير آنذاك، مجتمع أصحابه وأهل بيته الذين باتوا ليلة عاشوراء بين راكعٍ وساجدٍ وتالٍ للقرآن ومبتهل له، كانوا يعيشون مع الله ويشهدونه على أنهم وقفوا هذا الموقف إخلاصاً له وقربةً له، فهم لا يفرِّقون بين سجودهم لله وركوعهم له وتلاوتهم للقرآن، وبين حركتهم في الجهاد في مواجهة القوم الذين عاشوا مع الشيطان وتركوا طاعة الرحمن.

حركة الحسين(ع) حركة عدل:

وهكذا، كان الحسين(ع) يؤكّد للعالم كله، أنَّ حركته الإسلامية هي حركة عدل. إنه يريد أن ينشر العدل في العالم، من أجل أن يعيش الناس في علاقتهم بالله في حالة عدل، فلا يظلموا ربهم بالشرك والمعصية، وأن يعيشوا مع أنفسهم في حالة عدل، فلا يظلموا أحداً في حقه.

كان الحسين(ع) يريد أن يقول لهم إن الله شرّع العدل في كل الرسالات، وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى في كتابه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25)، فالإنسان المسلم إذا أراد أن يؤكد صدقه في إسلامه، فعليه أن يكون الإنسان العادل. العادل في بيته مع زوجته ومع أولاده ومع أبيه وأمه وإخوانه وأخواته، والعادل مع الناس الذين يتعاملون معه ويتعامل معهم، والعادل في حركة المسؤولية إذا تسلّم أية مسؤولية، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

مجتمع يزيد، هو أن مجتمع يزيد لم يأخذ بأسباب العدل في قضية الحكم، وفي قضية الممارسة، وفي قضية المسؤولية، وفي قضية المعاملة، بينما نجد أصحاب الحسين(ع) وجمهوره ينطلقون من خلال العدل مع ربهم ومع أنفسهم ومع الناس كافة

إن الفرق بين مجتمع الحسين وجمهوره، وبين مجتمع يزيد، هو أن مجتمع يزيد لم يأخذ بأسباب العدل في قضية الحكم، وفي قضية الممارسة، وفي قضية المسؤولية، وفي قضية المعاملة، بينما نجد أصحاب الحسين(ع) وجمهوره، ينطلقون من خلال العدل مع ربهم ومع أنفسهم ومع الناس كافة. إن جمهور الحسين(ع) هو الجمهور الذي يتطلّع إلى الله ويحسب حسابه في كل كلمة يقولها، وفي كل عمل يعمله، بينما أصحاب يزيد يعيشون مع أطماعهم وشهواتهم ومكاسبهم في هذا المجال.

في جمهور يزيد، كان هناك عمر بن سعد القريب نسباً من الحسين(ع) من خلال الخؤولة، وكان ابن زياد يمنّيه بولاية الريّ إذا حارب الحسين(ع)، فكان يقلّب أمره في ليلته التي لم ينم فيها ويقول:

أأترك ملك الريّ والريّ منيتي أم أرجع مأثوماً بقتـل حسيـنِ

ثم يقنع نفسه:

فإن صدقوا في ما يقولون فإنني أتوب إلى الرحمن مـن سنتين

وقَبِل الولاية بقتال الحسين.

أما في جمهور الحسين(ع)، فنجد الحرّ بن يزيد الرياحي(رض)، الذي كان أول شخص في قيادة ابن زياد يعطل حركة الإمام الحسين(ع)، ولكن الرجل كان يحاسب نفسه، كما أنه لم يكن يستغرق في أطماعه ولا في ولايته أو وظيفته، وكان منفتحاً في تفكيره على الآخرة، وكان يودّ لو أن الأمور تنتهي إلى صلح مع الحسين(ع)، فيتفادى بذلك قتاله، ولكن عندما وجد أن المسألة وصلت إلى نقطة اللارجوع، بعد أن سأل ابن سعد: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ فأجابه: "قتالاً أهونه أن تسقط الرؤوس وتقطع الأيدي"، انطلق ليحسم موقفه، ثم بدأ يرتعد، فقال له صاحبه: أترتعد، إن الذين يرتعدون في الحرب هم الجبناء، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، قال له: ليست القضية جبناً، ولكني أخيِّر نفسي بين الجنة والنار. إني أخيّر نفسي وأخاطبها وأقول: يا نفس هل تختارين الطريق الذي يؤدي إلى الجنة وإلى رضوان الله، أو تختارين الطريق الذي يؤدي إلى النار؟ ثم حسم أمره: "فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت وأحرقت".

وهكذا سار إلى الحسين(ع) تائباً إلى الله سبحانه وتعالى، وأعطاه الإمام الحسين(ع) الوسام الأكبر: "أنت الحرّ كما سمّتك أمك، حر في الدنيا وسعيد في الآخرة". ونعرف من كلمة الإمام الحسين(ع)، أن الحرية هي أن تملك إرادتك، أن تختار طريقك، أن لا تخضع لشهواتك ولا لأطماعك، أن تؤكّد مبادئك، بأن تكون الإنسان الذي يريد الخير لنفسه، والذي يجعل حركته في خط مبادئه في هذا المجال.

هل نحن على نهج الحسين(ع)؟

أيها الأحبة، لقد قضينا مع الإمام الحسين(ع) أياماً، وربما نقضي أياماً أطول، كما يفعل الكثيرون في العالم الإسلامي في خط أهل البيت، الذين يحتفلون بالإمام الحسين(ع) في محرم وصفر، ولكن المسألة هي أننا بعد انتهاء هذا الموسم، كيف نقدّم حسابنا للحسين(ع)، ليسأل كل واحد منا نفسه، كيف يعيش مع إسلامه؟ كيف يعيش مع ربه؟ كيف يخيّر نفسه بين الجنة والنار؟ كيف يؤكّد معنى الحرية انطلاقاً من كلمة علي(ع): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، وليؤكّد العزة والكرامة، كما قال تعالى: {ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون:8).

أيها الأحبة، بعد عاشوراء، لا بد أن نبدأ التفكير، في هل نحن جمهور الحسين(ع)؟ مَن نوالي؟ ومن نعارض؟ من نؤيد؟ ومن نرفض؟ ما هو الخط الذي نتحرك فيه؟ هل هو خط الإسلام أم خط الضلال؟ "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا". {يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد واتّقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} (الحشر:18-20).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف في الدنيا والآخرة، بجهاد أنفسكم وترشيدها، وتربيتها على ما أراد الله ورسوله، والقيام بالمسؤوليات التي فرضها الله على المسلمين من الاهتمام بأمور الإسلام والمسلمين، ومن النصرة للإسلام والمسلمين في كل ساحات المعارك التي يثيرها الكافرون من جهة، والمستكبرون من جهة، فماذا هناك:

إسرائيل تعاني من مأزق المقاومة

في المشهد الفلسطيني، تقتل الطائرات الإسرائيلية في كل يوم أكثر من ناشط فلسطيني في قصف السيارات التي يركبونها، وتصيب من خلال ذلك أكثر من مدني، وينطلق الجيش الصهيوني إلى المنازل في الضفة ليقتل شبابها أو ليعتقلهم، ويهدد وزير حرب العدو بمواصلة عمليات التصفية ضد الفلسطينيين لمجرد الاتهام، ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة «كوفي أنان» إلى الاحتجاج على ذلك، لأنه اغتيال من دون محاكمة، ولكن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين الذين يدعون حماس إلى نبذ العنف والإرهاب، يوافقون إسرائيل ويشجعونها ـ عملياً ـ على إرهابها الوحشي.

ومن جانب آخر، فإن رئيس حكومة العدو بالوكالة، يتحدث بكل صلافة عن أن كيانه سوف يحتفظ لدى ترسيم حدود كيانه بالقدس وبالكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى في الضفة، إضافةً إلى غور الأردن، وذلك إلى جانب تسريع العمل بالجدار العازل، ما يعني احتفاظ إسرائيل بأكثر من 60 بالمئة من الضفة الغربية... هذا في الوقت الذي تنطلق صيحات ما يسمى العالم الحر وبعض البلدان الغربية، مطالبة حماس الاعتراف بإسرائيل وبرفض المقاومة، من دون مطالبة إسرائيل بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة منذ الـ(67) على الأقل، والامتناع عن الإرهاب المتحرك في أكثر من موقع ضد الشعب، ما يوحي بأن هذا العالم ليس صادقاً في كل شعاراته في حرية تقرير مصير الشعوب ورفض الاحتلال، وتأكيد حقوق الإنسان، إذا كانت القضية ترتبط بحقوق شعوب العالم الثالث المستضعف.

إننا، وفي موقفنا هذا، نؤكد صلابة الموقف الفلسطيني في الوقوف مع حقوقه الشرعية، فإنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وإذا كان الشعب الفلسطيني يعاني من مشكلة الاحتلال، فإن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ تعاني من مأزق المقاومة القوية التي تربك الواقع السياسي والأمني لهما معاً.

ونريد للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، أن تنسجما مع قاعدتهما العربية والإسلامية، وأن تقفا مع الشعب الفلسطيني في إرادته الواعية في اختيار المجاهدين في حماس، وفي مساعدته مالياً وسياسياً واقتصادياً.

متابعة التحرك في قضية الإساءة إلى الرسول(ص)

إننا في الوقت الذي نؤكد استخدام الوسائل السلمية الحضارية في أساليب الاحتجاج ندعو المسلمين إلى متابعة التحرك بكل ما يملكون من الضغط بحيث يعرف العالم أنه لا يسمح لأحدٍ بالهجوم على نبي الإسلام والإسلام كله بحجة حرية التعبير، لأن الحرية لا بد من أن تلتقي بالمسؤولية العامة.

وإلى جانب ذلك، تتوالى المواقف الإسلامية على جميع الأصعدة ضد الصور السيئة للنبي محمد(ص)، ما جعل المسلمين يقفون صفاً واحداً في العالم الإسلامي للاحتجاج على ذلك بمختلف الأساليب، ولا سيّما المقاطعة، في الوقت الذي أصيب العالم المستكبر بهزة سياسية ارتبكت فيها مواقفه بين مؤيد للصحف المسيئة وبين داعٍ إلى التهدئة، بقصد تخفيف القضية الإسلامية الشعبية.

أما أمريكا، فإنها بادرت إلى اتهام طهران ودمشق بإثارة الموضوع ضد الغرب في العالم الإسلامي، لأنها تريد أن تحوله إلى ورقة سياسية ضد هذين البلدين، مع العلم أن الموقف الشعبي الإسلامي كان سابقاً على موقف البلدين.

إننا في الوقت الذي نؤكد استخدام الوسائل السلمية الحضارية في أساليب الاحتجاج، ندعو المسلمين إلى متابعة التحرك بكل ما يملكون من الضغط، بحيث يعرف العالم أنه لا يسمح لأحدٍ بالهجوم على نبي الإسلام والإسلام كله بحجة حرية التعبير، لأن الحرية لا بد من أن تلتقي بالمسؤولية العامة.

وإنه لمن المؤسف حقاً، أن ينطلق الحقد الذي يتمثل ببعض التكفيريين ليستهدفوا المواكب العاشورائية في باكستان وأفغانستان، وأن يعمل هؤلاء لخدمة المستكبرين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في إثارة الفتنة في الواقع الإسلامي، في الوقت الذي كانت الأمة تتطلع إلى تعزيز وحدتها وصون كرامتها بالوقوف صفاً واحداً، سنةً وشيعة، في جبهة الدفاع عن رسول الله(ص)، وعن الإهانات التي حاولت النيل منه(ص) ومن الإسلام كله.

الفساد في العراق صنيعة الاحتلال

ويبقى العراق الذي تتوالى فيه الأعمال الإجرامية التي تستهدف المدنيين، ويواصل الاحتلال الأمريكي سرقة أمواله من خلال شركاته التي يعمل فيها نائب الرئيس الأمريكي الذي يتحرك مع رئيسه وإدارته لإفساد الواقع المالي والاقتصادي والسياسي والأمني هناك... في الوقت الذي يتحدث وزير الدفاع الأمريكي عن قلقه من الفساد في العراق، مع أن هذا الفساد صنيعة هذا الاحتلال وشركاته الاحتكارية. إننا ندعو الشعب العراقي إلى المزيد من التضامن والوحدة، والتخطيط لإزالة الاحتلال، وتقوية جيشه وأجهزة الأمن الداخلي، واختيار الفئات المخلصة الخبيرة في حكومته.

ويبقى المشروع النووي الإيراني السلمي في دائرة التجاذب الاستكباري، من خلال الضغط على وكالة الطاقة النووية من أجل تقديم هذا الملف إلى مجلس الأمن، لتشديد الضغوط السياسية والاقتصادية على إيران، ولكننا نعتقد أنهم لن ينجحوا في تحركهم هذا، لأن إيران تملك رشداً سياسياً وقوة يؤهّلانها للسيطرة على الموقف بالرغم من التحالف الأمريكي الأوروبي ضدها.

لبنان: لمواجهة كل خيوط الفتنة

أما لبنان، فإنه لا يزال في مناخ الاهتزاز السياسي الذي سقطت فيه اللغة السياسية في وحول الانقسامات التي تثير التوتر، وتخلق الكثير من أجواء التشنج، وتدفع الناس إلى مزيد من الخوف والقلق والحذر، ولاسيما عندما يرون عجز الدولة عن حماية أمن المواطن وحل مشكلاته الاقتصادية، وتحريك الكلمات على أساس تسييس الواقع الأمني والاقتصادي في لعبة الأكثرية والأقلية.

إننا ندعو إلى مواجهة كل الجهات المثيرة للفتنة، ومحاسبة الذين أربكوا الواقع الوطني كله ونقدر حركة العقلاء في تطويق كل خطوط الفتنة الطائفية والسياسية، وهذا ما نريده للوطن كله، أن يخضع لمنطق العقل والمسؤولية، ويبتعد عن الانفعال والغريزة في مواجهة الواقع.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية