الدّعوة بالّتي هي أحسن: منهج حياة متكامل
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الأحسن عملاً:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(الملك/1-2).
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(الكهف/7).
أن تكون الأحسن عملاً في إثراء الإنسان بالمعرفة وبالعلم أو إنتاج ما يرفع مستواه وفي تأكيد الحقوق الإنسانية، وفي إعطائه الحرية والعزة والكرامة والانتصار للحق والإسقاط للباطل
يريد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات، أن يؤكِّد للنّاس كافَّة، أنه لا بد للإنسان في هذه الدنيا من أن يعيش مع الإنسان الآخر على أساس التنافس في العمل الأفضل، وفي العمل الأحسن، فليست قصَّة الحياة والموت التي تتوارد على الإنسان، أن يكون الأكثر مالاً أو الأفضل جسداً، ولكن أن يتحسَّس مسؤوليته في ما حمّله الله من مسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الحياة كلها، ليكون الإنسان الأحسن عملاً في كل القضايا، وفي كل النشاطات. أن تكون الأحسن عملاً في إثراء الإنسان بالمعرفة وبالعلم، أو في إنتاج ما يرفع مستواه، وفي تأكيد الحقوق الإنسانية، وفي إعطائه الحرية والعزة والكرامة والانتصار للحق والإسقاط للباطل، ومعاونة الضعفاء، وإعانة الفقراء، وإدراك الملهوفين في الحياة كلها.
هذه هي قصَّة الحياة والموت، فالله أحيانا لنعرف كيف تتحرك الحياة بالعمل، ويميتنا لنواجهه بالعمل الأفضل، وقد أكّد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، أنه عندما يقوم الناس لربِّ العالمين، فإنه سبحانه سوف يجزي الناس أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، فالتفاضل في العمل الأحسن في الدنيا، سوف يجده الإنسان في الأجر الأحسن في الآخرة، لأنَّ الآخرة في نتائجها تمثِّل صورة حركة الدنيا في طبيعة أعمالها، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه، لأن المال يزول بزوال الإنسان، ولأن قوة البدن وجمال الجسد والجاه، كلها أمور تزول عندما تنتهي الحياة، ولكن العمل يبقى ليدخل معه في قبره، وليكون معه في حشره، وهذا ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}(الكهف/46). {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الطور/16).
وإذا أردت أن تدخل مع الآخرين في حوار وفي جدال تختلف معهم في الرأي، فإن الله يقول لك أن تجادل الآخرين، وأن تحاورهم، وأن تدخل معهم في نقاش، ولكن ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
التعامل مع أموال الأيتام:
وهكذا، يؤكِّد القرآن عنوان الأحسن في الكثير من الآيات، ومنها ما يتعلّق بطريقة تعاملنا مع أموال الأيتام التي تكون بين أيدينا، كيف نتصرف بها؟ كيف نديرها؟ كيف نحفظها؟ كيف نحركها؟
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}(الإسراء/34)،
حاولوا أن تحركوا أموال اليتيم بما يحفظه وينمّيه ويقوّيه حتى يبلغ اليتيم أشدّه، وهي مرحلة البلوغ، ومرحلة النضج، ومرحلة الرشد، {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(النساء/6).
وقد حذَّرنا اللهُ سبحانه وتعالى من أكل مال اليتيم الذي لا يملك أن يدافع عن نفسه، كما قد يحدث لدى الإخوة الكبار إذا كان لهم إخوة صغار، فإنهم قد يستولون على أموالهم{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}(النساء/10).
اتباع الأحسن في التحية:
وهكذا، يريد الله سبحانه وتعالى لنا أن نعمل على أساس اتباع الأحسن ما أمكننا ذلك حتى في التحية {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(النساء/86)، فإذا حيّاك إنسان بتحيّة، فحاول أن يكون رد التحية بأحسن منها في مناخها وفي أسلوبها وفي كلماتها، وإذا لم تختر ذلك، فحاول أن تردَّ التحيَّة بمثلها.
وقد ورد عندنا في مسألة السَّلام: «للسَّلام سبعون حسنة، تسع وتسعون للمبتدئ، وواحدة للرادّ، وإن أحسن فعشر». هذا من أجل أن تكون علاقة الإنسان بالإنسان، تجسيد للمعاني الإنسانية الطيبة.
الدعوة بالأحسن:
أما في قضيَّة الدعوة إلى الله، فيقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ـ وسبيل الله هو كلُّ ما يحبُّ الله للإنسان أن يؤمن به، وأن يعمل به، ـ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ـ والحكمة هي وضع الشيء في موضعه؛ الكلمة المناسبة في الموقع المناسب، وللشّخص المناسب، والموعظة الحسنة هي التي تنفذ إلى القلب لتليّنه وتفتحه، لتجعله ينبض للإنسان الآخر بكل محبة، ويتفاعل معه بكلِّ مودة.
الله ير منّا أن نكون أصدقاء العالم، أن نعمل على تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء، من دون أن نتنازل عن مبادئنا، أو عن مقدساتنا
وإذا أردت أن تدخل مع آخرين تختلف معهم في الرأي، في حوار وجدال، فإن الله يقول لك أن تجادل الآخرين، وأن تحاورهم، وأن تدخل معهم في نقاش، ولكن ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ بالكلمة التي هي أحسن، وبالأسلوب الذي هو أحسن، وبالكلمة التي تحبِّب ولا تبغِّض، وتجمع ولا تفرِّق، والتي يمكن للعقل الآخر أن يحتضنها كما تريد أن تحتضن كلمة الآخر ـ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل/125).
فعليك أن تهيّئ كلَّ الكلمات وكلَّ الأساليب والظروف، ليقتنع الآخر بما تؤمن به، أمّا مسألة هدياته، فلست مسؤولاً عنها، لأن مسألة الهداية والضلال خاضعة لكثير من العناصر الذاتية للإنسان، أو للظروف التي تحيط به، ولا تقتصر على كلمة تطلقها أو على موعظةٍ تحرِّكها.
ونقرأ أيضاً قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فعندما تريد أن تخاطب الآخرين، زوجاً، زوجة، أولاداً، أناساً آخرين، حاول أن تختار الكلمة الأحسن، ادرس الكلمات قبل أن تطلقها، وادرس إيحاءاتها، وادرس نتائجها. واختر الكلمة الأحسن التي تركِّز الحبَّ وتركز القربة، وتركِّز العلاقة الفضلى في هذا المجال.
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ هذه دعوة الله إلى نبيّه، أن يربي المجتمع الإسلامي كلَّه على أن يكون مجتمع الكلمة الطيبة، وقد ورد أن: «الكلمة الطيبة صدقة»، ويفسر الله هذا التوجيه بقوله تعالى:إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ـ يعني إذا كنت تتكلم بطريقة عشوائية وغير مدروسة، فربما تنطلق منك بعض الكلمات القاسية أو الكلمات الملتبسة، فيدخل الشيطان فيها لينفتح من خلال ما تتضمنه على عداوة هنا وعلى نزاع هناك _ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}(الإسراء/53).الجدال بالتي هي أحسن:
وهكذا يريد الله منّا في مسألة الحوار، وفي مسألة الجدال، عندما نجادل الذين لا يلتقون معنا في الدين، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، الذين كان المسلمون يعيشون التجربة في جدالهم معهم، وربما تنطلق من خلال أهل الكتاب إلى كل الأديان الأخرى، وإلى كل الاتجاهات الأخرى، يريد الله أن نجادلهم بالّتي هي أحسن: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ـ وهم الذين لا يؤمنون بالحوار ولا يعملون للّقاء _ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ _ فنحن نؤمن بالقرآن، والإنجيل، والتوراة، ونؤمن بالرسل كلهم، نؤمن بموسى وعيسى وإبراهيم(ع) _ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46).
دفع السيئة بالحسنة:
ثم نقرأ في القرآن الكريم كيف يوجّهنا الله في حل المشاكل التي تحدث بيننا، فقد تحدث مشكلة في البيت بين الزوج وزوجته، بين الأب وأولاده، قد تحدث مشاكل على المستوى الاجتماعي بين هذه العشيرة وتلك، أو على المستوى السياسي، بين هذا الحزب وذاك، بين هذا التيار السياسي وذاك، قد تحدث مشاكل طائفية، مذهبية، كيف يمكن لنا أن نحلّ المشكلة؟ إن الله يقول لنا هناك أسلوبان: أسلوب العنف وأسلوب اللين والرفق، فيمكن للإنسان أن يختار في ذاتياته أسلوب العنف، ويمكن أن يختار أسلوب الرفق، ولكن {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ _ لا يستوي أسلوب العنف الذي تعالج به المشكلة مع أسلوب الرفق _ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ _ بالأسلوب الأحسن، بالطريقة الأحسن، بالكلمة الأحسن، بالمناخ الأحسن _ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت/34). اختر الأسلوب الذي تحوّل فيه عدوك إلى صديق، لأن الله يريد منّا أن نكون أصدقاء العالم، أن نعمل على تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء، من دون أن نتنازل عن مبادئنا، أو عن مقدّساتنا. أن نعمل على أن نكون أصدقاء العالم، ليكون العالم صديقاً لنا في قضايانا، وفي سياستنا، وفي ديننا، وفي كل أوضاعنا.
إن أمريكا تخطط مع إسرائيل وكل أحلافها من أجل إفشال حركة حماس وإرباك حركتها، ولكننا نعتقد أنها سوف تنتصر في الحكم كما انتصرت في الجهاد، وستثبت للعالم بأنها الحركة الأمينة على مصالح شعبها في كل قضاياه
ويؤكِّد الله سبحانه أنَّ هذه المسألة تحتاج إلى جهد فكريٍّ ثقافيٍّ، وإلى جهد روحي، وإلى إرادة صادقة قوية،{وَمَا يُلَقَّاهَا _ يعني هذه الطريقة _ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصِّلت/35). وهذا هو ما أكّده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، عندما شجَّعنا على أن نكثِّر أصدقاءنا، حيث يقول: «أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم».
ويريدنا الله سبحانه وتعالى في كل ما نسمعه من الموعظة، أو ما نسمعه في السياسة، أو في الاجتماع، أو ما إلى ذلك، أن لا نتّبع منه إلاّ الأحسن، بعد أن ندرس هذا الكلام في سلبيّاته وإيجابيّاته، وفي ما يحمله من خيراً وشراً: {فبشر عبادي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(الزمر/18).
وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى لنا في كل حياتنا، إن الكلمة الأفضل هي كلمة الإسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت/33)، وهي كلمة الإنسان الذي يؤكِّد إسلامه، ويؤكِّد دعوته إلى الله، ويؤكِّد العمل الصالح، ويعلن أنّه من المسلمين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتّقوا الله، وواجهوا المواقف التي تشتدُّ في كل مرحلة من مراحل حياتنا، محلياً وإقليمياً ودولياً، لأن الاستكبار العالمي قد أعدّ عدّته وخطّط في كل مواقعه من أجل أن يقضي على مقدّراتنا، ومن أجل أن يسقط حريتنا واستقلالنا وعزّتنا وكرامتنا. فلنقف وقفة رجل واحد صفاً واحداً، من أجل أن نأخذ بأسباب القوة، وأن لا نهن ولا نحزن، كما قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(آل عمران/139-140). نحن لا نزال كما قلنا أمام التحديات الكبرى القريبة والبعيدة، فماذا هناك؟:
محاولات الإجهاز على مقومات الدولة الفلسطينية:
في المشهد الفلسطيني، إسرائيل تقصف غزَّة بين وقت وآخر، وتحرّك طائراتها لتغتال وتقتل وتدمِّر، من دون أن تتحرك اللجنة الرباعية الدولية في أيّ موقف اعتراض... وإلى جانب ذلك، تقرر ضمّ منطقة غور الأردن التي تشكّل حوالي ثلث مساحة الضفّة الغربية، بعدما شارف جدار الفصل الغربي على الانتهاء من رسم حدودها النهائية، على نحو تقضي فيه على آخر مقوّمات دولة فلسطينية مستقلة، لأنها تمنعها من التوسّع الجغرافي العمراني المستقبلي، إضافة إلى منع التواصل الجغرافي بين الضفة والأردن، والقضاء على إمكانات التوسّع الاقتصادي الزراعي والصناعي، وحرمان الفلسطينيين من مدخل إلى البحر الميت...
مخطط أمريكي ـ إسرائيلي لإفشال حماس:
وتبقى كلمات الدول الغربية في الضغط على حركة حماس التي اختارها الشعب الفلسطيني بطريقة ديمقراطية حرّة، ومطالبتها بالاعتراف بإسرائيل أولاً، من دون ممارسة أدنى ضغط على إسرائيل للاعتراف بفلسطين الأرض والإنسان والسياسة والاقتصاد، لأنَّ "الدولة" الصهيونية لا ترى حقاً للشعب الفلسطيني في أرضه وتقرير مصيره، بل ترى أنَّ ما تمنحه من بقايا الأرض الممزَّقة صدقة منها عليه...
إن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ تمثّل أعلى أنواع الإرهاب بتعذيب المعتقلين في سجن "أبو غريب" في العراق وفي غوانتانامو، وفي السجون الأمريكية المنتشرة في العالم المتعامل مع الإرهاب الأمريكي
ونلاحظ أنَّ أمريكا ـ ومعها الاتحاد الأوروبي ـ تعلن عن عقوبات ستفرضها على الشعب الفلسطيني إذا حكمته حركة حماس، لأن مساعداتها لم تكن من أجل الإنسان الفلسطيني، بل من أجل اجتذابه إلى سياستها المرتبطة بالمصلحة الإسرائيلية، لاستكمال استراتيجيتها في السيطرة على كل أرض فلسطين، ومنع اللاجئين المنتشرين في أرجاء العالم من العودة إليها، وتحويل الفلسطينيين إلى عمّال للمصانع والمواقع الصهيونية، ما يفرض عليهم الخضوع للسياسة الإسرائيلية وخدمة اقتصادها وأمنها...
إن أمريكا تخطِّط مع إسرائيل وكلِّ أحلافها، من أجل إفشال حركة حماس وإرباك حركتها، ولكننا نعتقد أنها سوف تنتصر في الحكم كما انتصرت في الجهاد، وستثبت للعالم أنها الحركة الأمينة على مصالح شعبها في كل قضاياه، ونريد للعالم الإسلامي ـ وفي مقدمة العالم العربي ـ أن يشعر بمسؤوليته لدعمها وتقويتها ومدّها بالمساعدات لرعاية الشعب الفلسطيني كله، من أجل الحصول على حريته في أرضه وإنسانه.
أمريكا: القمة في الإرهاب:
وفي المشهد الأمريكيّ، لا تزالُ الولايات المتَّحدة تخطِّط وتعمل من أجل أن تكون القوَّة المطلقة للسَّيطرة على العالم كلِّه، في اقتصاده وسياسته وأمنه، وفي توزيع الاتِّهام بالإرهاب ضدَّ كلِّ دولة وحركة تعمل من أجل تحرير مواقعها ومواقفها وإرادتها ضد الاستكبار العالمي، الذي يعمل على استنـزافها ومحاصرتها والقضاء على مقدّراتها لحساب مصالحه، ومنعها من الأخذ بأسباب النمو والتقدّم والازدهار...
وهذا ما تتحرك به أمريكا والمجموعة الأوروبية في منع إيران من الحصول على الخبرة العلمية النووية في مشروعها السلمي، بإعلان الحرب عليها واتهامها بالتخطيط لصنع السلاح النووي، في الوقت الذي تملك أمريكا آلاف الرؤوس النووية التي تهدِّد بها العالم، كما تملك الدول الكبرى أمثال ذلك، إضافة إلى إسرائيل التي تملك أكثر من مائتي رأس نووي تهدد بها المنطقة...
إن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ تمثّل أعلى أنواع الإرهاب، وهذا ما يتحدث عنه الإعلام العالمي ـ بما فيه الإعلام الأمريكي ـ بتعذيب المعتقلين في سجن "أبو غريب" في العراق وفي غوانتانامو، وفي السجون الأمريكية المنتشرة في العالم المتعامل مع الإرهاب الأمريكي، إضافةً إلى تعذيب العراقيين في السجن الكبير الذي يتمثّل في احتلال بلدهم، وفي ابتزاز ثرواتهم وتدمير أمنهم، ما جعل الحديث الأمريكي عن حقوق الإنسان يتحوّل إلى نكتة مضحكة سخيفة، لأن القضية عند أمريكا هي حقوق الإنسان الأمريكي والإسرائيلي على حساب حقوق الإنسان الآخر...
الوصاية الخارجية تتدخل في مفاصل لبنان:
وهذا ما ينبغي للعالم كله، ولا سيما العالم الثالث، أن يستوعبه من أجل حماية أوضاعه من الحرب المعلنة عليه باسم الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن أمريكا تدعم الأنظمة والحركات الإرهابية في العالم كله، وتحارب الدول الحرة والحركات التحريرية لخدمة مصالحها الاحتكارية...
وهذا ما نلاحظه في سياستها اللبنانية التي فرضت وصايتها على لبنان، حتى إنّ رئيسها ووزيرة خارجيّته يتدخّلان في كلِّ مفاصل الواقع، حتى بما يتصل بموضوع رئاسة الجمهورية، وتحريك جماعتها في النادي السياسي اللبناني لإرباك الواقع كله، واهتزاز صيغة التعايش لحساب الحصص الطائفية وخدمة المشروع الإسرائيلي، بالضغط على القرارات الدولية التي صرّح المسؤولون الصهاينة بأنهم كانوا وراءها، ولا سيما بالنسبة إلى سلاح المقاومة، الذي لم يتحرَّك من أجل الوضع الداخلي، بل ليكون احتياطياً لحماية لبنان من العدو الإسرائيلي...
أيها اللبنانيون: إن المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه أمريكا وتخطط لـه إسرائيل يلعب بالبلد ليكون ورقة للضغط في مكان آخر، وعليكم أن تعرفوا كيف تتحرك لعبة الأمم التي عانيتم منها
إنَّنا نقول للمجتمع الدُّولي: إنَّ اللّبنانيين يقبلون بتطبيق القرارات الدولية، بشرط أن تنفّذ إسرائيل كل القرارات الدولية، لأن الشرعية الدولية التي تطالبون بها وتضغطون من أجلها لا تتجزأ، على طريقة صيف وشتاء تحت سطح واحد... إننا نريد للبنان الحرية والاستقلال والسيادة، ولا يقبل أيّ لبناني أن يخضع لإرادة خارجية، بحيث يفقد إرادته في تقرير مصيره، سواء كانت قريبة أو بعيدة، وعلى اللبنانيين أن يطلقوا في خطاباتهم الكلمات العاقلة الهادئة المبرمجة التي تخطط بما يرفع مستوى الناس في إثارة عقولهم لا غرائزهم، لأن الكلمات المتشنّجة لا تخدم وطناً، ولا تصلح واقعاً، ولا تصنع مستقبلاً.
أيُّها اللبنانيون: ارحموا بلدكم ولا تتقاذفوه كما هي الكرة في حركة الأقدام لمصلحة تسجيل النقاط للمصلحة الشخصية، فإن المطلوب هو تجميع النقاط لمصلحة الجميع. إن المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه أمريكا وتخطِّط لـه إسرائيل، يلعب بالبلد ليكون ورقة للضغط في مكان آخر، وعليكم أن تعرفوا كيف تتحرك لعبة الأمم التي عانيتم منها.
الدّعوة بالّتي هي أحسن: منهج حياة متكامل
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الأحسن عملاً:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(الملك/1-2).
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(الكهف/7).
أن تكون الأحسن عملاً في إثراء الإنسان بالمعرفة وبالعلم أو إنتاج ما يرفع مستواه وفي تأكيد الحقوق الإنسانية، وفي إعطائه الحرية والعزة والكرامة والانتصار للحق والإسقاط للباطل
يريد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات، أن يؤكِّد للنّاس كافَّة، أنه لا بد للإنسان في هذه الدنيا من أن يعيش مع الإنسان الآخر على أساس التنافس في العمل الأفضل، وفي العمل الأحسن، فليست قصَّة الحياة والموت التي تتوارد على الإنسان، أن يكون الأكثر مالاً أو الأفضل جسداً، ولكن أن يتحسَّس مسؤوليته في ما حمّله الله من مسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الحياة كلها، ليكون الإنسان الأحسن عملاً في كل القضايا، وفي كل النشاطات. أن تكون الأحسن عملاً في إثراء الإنسان بالمعرفة وبالعلم، أو في إنتاج ما يرفع مستواه، وفي تأكيد الحقوق الإنسانية، وفي إعطائه الحرية والعزة والكرامة والانتصار للحق والإسقاط للباطل، ومعاونة الضعفاء، وإعانة الفقراء، وإدراك الملهوفين في الحياة كلها.
هذه هي قصَّة الحياة والموت، فالله أحيانا لنعرف كيف تتحرك الحياة بالعمل، ويميتنا لنواجهه بالعمل الأفضل، وقد أكّد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، أنه عندما يقوم الناس لربِّ العالمين، فإنه سبحانه سوف يجزي الناس أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، فالتفاضل في العمل الأحسن في الدنيا، سوف يجده الإنسان في الأجر الأحسن في الآخرة، لأنَّ الآخرة في نتائجها تمثِّل صورة حركة الدنيا في طبيعة أعمالها، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه، لأن المال يزول بزوال الإنسان، ولأن قوة البدن وجمال الجسد والجاه، كلها أمور تزول عندما تنتهي الحياة، ولكن العمل يبقى ليدخل معه في قبره، وليكون معه في حشره، وهذا ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}(الكهف/46). {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الطور/16).
وإذا أردت أن تدخل مع الآخرين في حوار وفي جدال تختلف معهم في الرأي، فإن الله يقول لك أن تجادل الآخرين، وأن تحاورهم، وأن تدخل معهم في نقاش، ولكن ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
التعامل مع أموال الأيتام:
وهكذا، يؤكِّد القرآن عنوان الأحسن في الكثير من الآيات، ومنها ما يتعلّق بطريقة تعاملنا مع أموال الأيتام التي تكون بين أيدينا، كيف نتصرف بها؟ كيف نديرها؟ كيف نحفظها؟ كيف نحركها؟
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}(الإسراء/34)،
حاولوا أن تحركوا أموال اليتيم بما يحفظه وينمّيه ويقوّيه حتى يبلغ اليتيم أشدّه، وهي مرحلة البلوغ، ومرحلة النضج، ومرحلة الرشد، {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(النساء/6).
وقد حذَّرنا اللهُ سبحانه وتعالى من أكل مال اليتيم الذي لا يملك أن يدافع عن نفسه، كما قد يحدث لدى الإخوة الكبار إذا كان لهم إخوة صغار، فإنهم قد يستولون على أموالهم{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}(النساء/10).
اتباع الأحسن في التحية:
وهكذا، يريد الله سبحانه وتعالى لنا أن نعمل على أساس اتباع الأحسن ما أمكننا ذلك حتى في التحية {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(النساء/86)، فإذا حيّاك إنسان بتحيّة، فحاول أن يكون رد التحية بأحسن منها في مناخها وفي أسلوبها وفي كلماتها، وإذا لم تختر ذلك، فحاول أن تردَّ التحيَّة بمثلها.
وقد ورد عندنا في مسألة السَّلام: «للسَّلام سبعون حسنة، تسع وتسعون للمبتدئ، وواحدة للرادّ، وإن أحسن فعشر». هذا من أجل أن تكون علاقة الإنسان بالإنسان، تجسيد للمعاني الإنسانية الطيبة.
الدعوة بالأحسن:
أما في قضيَّة الدعوة إلى الله، فيقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ـ وسبيل الله هو كلُّ ما يحبُّ الله للإنسان أن يؤمن به، وأن يعمل به، ـ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ـ والحكمة هي وضع الشيء في موضعه؛ الكلمة المناسبة في الموقع المناسب، وللشّخص المناسب، والموعظة الحسنة هي التي تنفذ إلى القلب لتليّنه وتفتحه، لتجعله ينبض للإنسان الآخر بكل محبة، ويتفاعل معه بكلِّ مودة.
الله ير منّا أن نكون أصدقاء العالم، أن نعمل على تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء، من دون أن نتنازل عن مبادئنا، أو عن مقدساتنا
وإذا أردت أن تدخل مع آخرين تختلف معهم في الرأي، في حوار وجدال، فإن الله يقول لك أن تجادل الآخرين، وأن تحاورهم، وأن تدخل معهم في نقاش، ولكن ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ بالكلمة التي هي أحسن، وبالأسلوب الذي هو أحسن، وبالكلمة التي تحبِّب ولا تبغِّض، وتجمع ولا تفرِّق، والتي يمكن للعقل الآخر أن يحتضنها كما تريد أن تحتضن كلمة الآخر ـ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل/125).
فعليك أن تهيّئ كلَّ الكلمات وكلَّ الأساليب والظروف، ليقتنع الآخر بما تؤمن به، أمّا مسألة هدياته، فلست مسؤولاً عنها، لأن مسألة الهداية والضلال خاضعة لكثير من العناصر الذاتية للإنسان، أو للظروف التي تحيط به، ولا تقتصر على كلمة تطلقها أو على موعظةٍ تحرِّكها.
ونقرأ أيضاً قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فعندما تريد أن تخاطب الآخرين، زوجاً، زوجة، أولاداً، أناساً آخرين، حاول أن تختار الكلمة الأحسن، ادرس الكلمات قبل أن تطلقها، وادرس إيحاءاتها، وادرس نتائجها. واختر الكلمة الأحسن التي تركِّز الحبَّ وتركز القربة، وتركِّز العلاقة الفضلى في هذا المجال.
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ هذه دعوة الله إلى نبيّه، أن يربي المجتمع الإسلامي كلَّه على أن يكون مجتمع الكلمة الطيبة، وقد ورد أن: «الكلمة الطيبة صدقة»، ويفسر الله هذا التوجيه بقوله تعالى:إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ـ يعني إذا كنت تتكلم بطريقة عشوائية وغير مدروسة، فربما تنطلق منك بعض الكلمات القاسية أو الكلمات الملتبسة، فيدخل الشيطان فيها لينفتح من خلال ما تتضمنه على عداوة هنا وعلى نزاع هناك _ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}(الإسراء/53).الجدال بالتي هي أحسن:
وهكذا يريد الله منّا في مسألة الحوار، وفي مسألة الجدال، عندما نجادل الذين لا يلتقون معنا في الدين، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، الذين كان المسلمون يعيشون التجربة في جدالهم معهم، وربما تنطلق من خلال أهل الكتاب إلى كل الأديان الأخرى، وإلى كل الاتجاهات الأخرى، يريد الله أن نجادلهم بالّتي هي أحسن: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ـ وهم الذين لا يؤمنون بالحوار ولا يعملون للّقاء _ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ _ فنحن نؤمن بالقرآن، والإنجيل، والتوراة، ونؤمن بالرسل كلهم، نؤمن بموسى وعيسى وإبراهيم(ع) _ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46).
دفع السيئة بالحسنة:
ثم نقرأ في القرآن الكريم كيف يوجّهنا الله في حل المشاكل التي تحدث بيننا، فقد تحدث مشكلة في البيت بين الزوج وزوجته، بين الأب وأولاده، قد تحدث مشاكل على المستوى الاجتماعي بين هذه العشيرة وتلك، أو على المستوى السياسي، بين هذا الحزب وذاك، بين هذا التيار السياسي وذاك، قد تحدث مشاكل طائفية، مذهبية، كيف يمكن لنا أن نحلّ المشكلة؟ إن الله يقول لنا هناك أسلوبان: أسلوب العنف وأسلوب اللين والرفق، فيمكن للإنسان أن يختار في ذاتياته أسلوب العنف، ويمكن أن يختار أسلوب الرفق، ولكن {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ _ لا يستوي أسلوب العنف الذي تعالج به المشكلة مع أسلوب الرفق _ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ _ بالأسلوب الأحسن، بالطريقة الأحسن، بالكلمة الأحسن، بالمناخ الأحسن _ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت/34). اختر الأسلوب الذي تحوّل فيه عدوك إلى صديق، لأن الله يريد منّا أن نكون أصدقاء العالم، أن نعمل على تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء، من دون أن نتنازل عن مبادئنا، أو عن مقدّساتنا. أن نعمل على أن نكون أصدقاء العالم، ليكون العالم صديقاً لنا في قضايانا، وفي سياستنا، وفي ديننا، وفي كل أوضاعنا.
إن أمريكا تخطط مع إسرائيل وكل أحلافها من أجل إفشال حركة حماس وإرباك حركتها، ولكننا نعتقد أنها سوف تنتصر في الحكم كما انتصرت في الجهاد، وستثبت للعالم بأنها الحركة الأمينة على مصالح شعبها في كل قضاياه
ويؤكِّد الله سبحانه أنَّ هذه المسألة تحتاج إلى جهد فكريٍّ ثقافيٍّ، وإلى جهد روحي، وإلى إرادة صادقة قوية،{وَمَا يُلَقَّاهَا _ يعني هذه الطريقة _ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصِّلت/35). وهذا هو ما أكّده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، عندما شجَّعنا على أن نكثِّر أصدقاءنا، حيث يقول: «أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم».
ويريدنا الله سبحانه وتعالى في كل ما نسمعه من الموعظة، أو ما نسمعه في السياسة، أو في الاجتماع، أو ما إلى ذلك، أن لا نتّبع منه إلاّ الأحسن، بعد أن ندرس هذا الكلام في سلبيّاته وإيجابيّاته، وفي ما يحمله من خيراً وشراً: {فبشر عبادي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(الزمر/18).
وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى لنا في كل حياتنا، إن الكلمة الأفضل هي كلمة الإسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت/33)، وهي كلمة الإنسان الذي يؤكِّد إسلامه، ويؤكِّد دعوته إلى الله، ويؤكِّد العمل الصالح، ويعلن أنّه من المسلمين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتّقوا الله، وواجهوا المواقف التي تشتدُّ في كل مرحلة من مراحل حياتنا، محلياً وإقليمياً ودولياً، لأن الاستكبار العالمي قد أعدّ عدّته وخطّط في كل مواقعه من أجل أن يقضي على مقدّراتنا، ومن أجل أن يسقط حريتنا واستقلالنا وعزّتنا وكرامتنا. فلنقف وقفة رجل واحد صفاً واحداً، من أجل أن نأخذ بأسباب القوة، وأن لا نهن ولا نحزن، كما قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(آل عمران/139-140). نحن لا نزال كما قلنا أمام التحديات الكبرى القريبة والبعيدة، فماذا هناك؟:
محاولات الإجهاز على مقومات الدولة الفلسطينية:
في المشهد الفلسطيني، إسرائيل تقصف غزَّة بين وقت وآخر، وتحرّك طائراتها لتغتال وتقتل وتدمِّر، من دون أن تتحرك اللجنة الرباعية الدولية في أيّ موقف اعتراض... وإلى جانب ذلك، تقرر ضمّ منطقة غور الأردن التي تشكّل حوالي ثلث مساحة الضفّة الغربية، بعدما شارف جدار الفصل الغربي على الانتهاء من رسم حدودها النهائية، على نحو تقضي فيه على آخر مقوّمات دولة فلسطينية مستقلة، لأنها تمنعها من التوسّع الجغرافي العمراني المستقبلي، إضافة إلى منع التواصل الجغرافي بين الضفة والأردن، والقضاء على إمكانات التوسّع الاقتصادي الزراعي والصناعي، وحرمان الفلسطينيين من مدخل إلى البحر الميت...
مخطط أمريكي ـ إسرائيلي لإفشال حماس:
وتبقى كلمات الدول الغربية في الضغط على حركة حماس التي اختارها الشعب الفلسطيني بطريقة ديمقراطية حرّة، ومطالبتها بالاعتراف بإسرائيل أولاً، من دون ممارسة أدنى ضغط على إسرائيل للاعتراف بفلسطين الأرض والإنسان والسياسة والاقتصاد، لأنَّ "الدولة" الصهيونية لا ترى حقاً للشعب الفلسطيني في أرضه وتقرير مصيره، بل ترى أنَّ ما تمنحه من بقايا الأرض الممزَّقة صدقة منها عليه...
إن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ تمثّل أعلى أنواع الإرهاب بتعذيب المعتقلين في سجن "أبو غريب" في العراق وفي غوانتانامو، وفي السجون الأمريكية المنتشرة في العالم المتعامل مع الإرهاب الأمريكي
ونلاحظ أنَّ أمريكا ـ ومعها الاتحاد الأوروبي ـ تعلن عن عقوبات ستفرضها على الشعب الفلسطيني إذا حكمته حركة حماس، لأن مساعداتها لم تكن من أجل الإنسان الفلسطيني، بل من أجل اجتذابه إلى سياستها المرتبطة بالمصلحة الإسرائيلية، لاستكمال استراتيجيتها في السيطرة على كل أرض فلسطين، ومنع اللاجئين المنتشرين في أرجاء العالم من العودة إليها، وتحويل الفلسطينيين إلى عمّال للمصانع والمواقع الصهيونية، ما يفرض عليهم الخضوع للسياسة الإسرائيلية وخدمة اقتصادها وأمنها...
إن أمريكا تخطِّط مع إسرائيل وكلِّ أحلافها، من أجل إفشال حركة حماس وإرباك حركتها، ولكننا نعتقد أنها سوف تنتصر في الحكم كما انتصرت في الجهاد، وستثبت للعالم أنها الحركة الأمينة على مصالح شعبها في كل قضاياه، ونريد للعالم الإسلامي ـ وفي مقدمة العالم العربي ـ أن يشعر بمسؤوليته لدعمها وتقويتها ومدّها بالمساعدات لرعاية الشعب الفلسطيني كله، من أجل الحصول على حريته في أرضه وإنسانه.
أمريكا: القمة في الإرهاب:
وفي المشهد الأمريكيّ، لا تزالُ الولايات المتَّحدة تخطِّط وتعمل من أجل أن تكون القوَّة المطلقة للسَّيطرة على العالم كلِّه، في اقتصاده وسياسته وأمنه، وفي توزيع الاتِّهام بالإرهاب ضدَّ كلِّ دولة وحركة تعمل من أجل تحرير مواقعها ومواقفها وإرادتها ضد الاستكبار العالمي، الذي يعمل على استنـزافها ومحاصرتها والقضاء على مقدّراتها لحساب مصالحه، ومنعها من الأخذ بأسباب النمو والتقدّم والازدهار...
وهذا ما تتحرك به أمريكا والمجموعة الأوروبية في منع إيران من الحصول على الخبرة العلمية النووية في مشروعها السلمي، بإعلان الحرب عليها واتهامها بالتخطيط لصنع السلاح النووي، في الوقت الذي تملك أمريكا آلاف الرؤوس النووية التي تهدِّد بها العالم، كما تملك الدول الكبرى أمثال ذلك، إضافة إلى إسرائيل التي تملك أكثر من مائتي رأس نووي تهدد بها المنطقة...
إن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ تمثّل أعلى أنواع الإرهاب، وهذا ما يتحدث عنه الإعلام العالمي ـ بما فيه الإعلام الأمريكي ـ بتعذيب المعتقلين في سجن "أبو غريب" في العراق وفي غوانتانامو، وفي السجون الأمريكية المنتشرة في العالم المتعامل مع الإرهاب الأمريكي، إضافةً إلى تعذيب العراقيين في السجن الكبير الذي يتمثّل في احتلال بلدهم، وفي ابتزاز ثرواتهم وتدمير أمنهم، ما جعل الحديث الأمريكي عن حقوق الإنسان يتحوّل إلى نكتة مضحكة سخيفة، لأن القضية عند أمريكا هي حقوق الإنسان الأمريكي والإسرائيلي على حساب حقوق الإنسان الآخر...
الوصاية الخارجية تتدخل في مفاصل لبنان:
وهذا ما ينبغي للعالم كله، ولا سيما العالم الثالث، أن يستوعبه من أجل حماية أوضاعه من الحرب المعلنة عليه باسم الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن أمريكا تدعم الأنظمة والحركات الإرهابية في العالم كله، وتحارب الدول الحرة والحركات التحريرية لخدمة مصالحها الاحتكارية...
وهذا ما نلاحظه في سياستها اللبنانية التي فرضت وصايتها على لبنان، حتى إنّ رئيسها ووزيرة خارجيّته يتدخّلان في كلِّ مفاصل الواقع، حتى بما يتصل بموضوع رئاسة الجمهورية، وتحريك جماعتها في النادي السياسي اللبناني لإرباك الواقع كله، واهتزاز صيغة التعايش لحساب الحصص الطائفية وخدمة المشروع الإسرائيلي، بالضغط على القرارات الدولية التي صرّح المسؤولون الصهاينة بأنهم كانوا وراءها، ولا سيما بالنسبة إلى سلاح المقاومة، الذي لم يتحرَّك من أجل الوضع الداخلي، بل ليكون احتياطياً لحماية لبنان من العدو الإسرائيلي...
أيها اللبنانيون: إن المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه أمريكا وتخطط لـه إسرائيل يلعب بالبلد ليكون ورقة للضغط في مكان آخر، وعليكم أن تعرفوا كيف تتحرك لعبة الأمم التي عانيتم منها
إنَّنا نقول للمجتمع الدُّولي: إنَّ اللّبنانيين يقبلون بتطبيق القرارات الدولية، بشرط أن تنفّذ إسرائيل كل القرارات الدولية، لأن الشرعية الدولية التي تطالبون بها وتضغطون من أجلها لا تتجزأ، على طريقة صيف وشتاء تحت سطح واحد... إننا نريد للبنان الحرية والاستقلال والسيادة، ولا يقبل أيّ لبناني أن يخضع لإرادة خارجية، بحيث يفقد إرادته في تقرير مصيره، سواء كانت قريبة أو بعيدة، وعلى اللبنانيين أن يطلقوا في خطاباتهم الكلمات العاقلة الهادئة المبرمجة التي تخطط بما يرفع مستوى الناس في إثارة عقولهم لا غرائزهم، لأن الكلمات المتشنّجة لا تخدم وطناً، ولا تصلح واقعاً، ولا تصنع مستقبلاً.
أيُّها اللبنانيون: ارحموا بلدكم ولا تتقاذفوه كما هي الكرة في حركة الأقدام لمصلحة تسجيل النقاط للمصلحة الشخصية، فإن المطلوب هو تجميع النقاط لمصلحة الجميع. إن المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه أمريكا وتخطِّط لـه إسرائيل، يلعب بالبلد ليكون ورقة للضغط في مكان آخر، وعليكم أن تعرفوا كيف تتحرك لعبة الأمم التي عانيتم منها.