تأصيل للقيم وانفتاح على قضايا الأمة...

تأصيل للقيم وانفتاح على قضايا الأمة...

تأصيل للقيم وانفتاح على قضايا الأمة...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(النساء/114).

الرِّسالة الإسلامية وعالميَّة العدل:

 هذه الآية الكريمة هي من الآيات التي تجري ـ كما قال الإمام الباقر(ع) في آيات القرآن ـ مجرى اللّيل والنهار، والشمس والقمر، فالقرآن الكريم يتجدد في كل أوضاع الحياة، وفي كلِّ مسؤوليات الناس، وفي كلِّ تطورات الواقع، وهذا ما جعل القرآن الكريم كتاب الرسالة الذي يبلي الحياة ولا تبليه، ويفتح لكلِّ جيل نافذة على مسؤوليّاتهم، ويطوّر الفكر في الواقع، ولا يحتاج إلى أن يتطوَّر به، ولهذا أعطاه الله تعالى صفة النور والوسيلة التي يخرج الناس فيها من الظلمات، فهو نور كله؛ نور في حديثه عن العقيدة المضيئة، ونور في حديثه عن الشريعة المتوازنة، ونور في حديثه عن علاقات النَّاس بعضهم ببعض، وعن علاقتهم بالله وعلاقتهم بالحياة من خلال الله تعالى.

هذه الآية نزلت في مناسبة عاشها النبي (ص)، عندما اتهم المسلمون يهودياً بسرقة، وكان السَّارق مسلماً، فأرادوا أن يبرئوا المسلم على حساب اليهودي، معتبرين أنَّ العقدة ضدّ اليهود تسمح بذلك، ولكن الله تعالى أنزل آياته ليطلب من النبي(ص) أن لا يدافع عن الّذين يخونون أنفسهم ويتّخذون سبيل الخيانة، حتى لو كان المتهم يهوديَّاً والخائن مسلماً، لأنه في العدل الإسلامي، لا علاقة لانتماء الإنسان الديني للإسلام أو لغيره، لأن العدل هو للناس كافّةً، لا فرق بين مسلم وكافر في قضية العدل، فإذا كان الإنسان صاحب حق، فإنَّ الإسلام يمنحه هذا الحق حتى لو كان كافراً وحقه عند الإسلام، فالله تعالى أنزل الرسالات كلها من أجل إقامة العدل بين الناس، كل الناس؛ ولم يفرّق بين عدوّ وصديق، وبين قريب أو بعيد، أو بين كافر ومسلم.

فالله تعالى أنزل في هذه الآيات أكثر من قاعدة للعدالة، وأكَّد أنه لا يجوز للإنسان أن يكسب إثماً ويلقيه على غيره، أو أن يعمل شيئاً ويرمي به بريئاً، وأكَّد خطورة ذلك على خطِّ العدالة، وقال للناس: إذا كنتم تملكون ظروفاً تتَّهمون من خلالها البريء وتبرّئون المجرم، ودافعتم في الدنيا عن المجرم، فهل تستطيعون أن تدافعوا عنه أمام الله تعالى يوم القيامة؟.

وقد جاءت هذه الآيات متابعةً لتبرئ يهودياً ولتدين مسلماً. وهذه هي القاعدة الإسلامية التي تقول للمسلمين إنَّ عليهم أن لا يتعصّبوا للمسلمين منهم إذا كان الحقُّ عند غيرهم، ليعرف العالم كله أن الإسلام دين العدالة، وأنه لا يأخذ بالعصبية ولا بالظلم مهما كان الظالم ومهما كان المظلوم، وقد ورد عندنا في أحاديث الأئمة من أهل البيت (ع)، أن «الله أوحى إلى نبي في مملكة جبار من الجبارين أن إئتِ هذا الجبار وقل له: إني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً».

من إيجابيّات النّجوى:

نأتي إلى هذه الآية التي جاءت لتوجّه المسلمين إلى الجانب الإيجابي بعد أن حذّرتهم من الجانب السَّلبي: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ـ وكلمة النّجوى تعني الاجتماعات السرّية التي يتحدَّث فيها النَّاس بشكل خفيّ لا يطّلع عليها أحد، ومن المعروف أنَّ الجلسات الخفية عادةً ما يغلب عليها الحديث عن الأشياء السلبية التي تتصل بالناس وبالحياة، مما يلتقي بالشرّ لا بالخير، ولكن ربما نحتاج إلى جلسات خفية، وربما معلنة، من أجل التّخطيط لبعض القضايا العامَّة التي تتَّصل بالحياة العامة للناس ـ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ـ وكلمة الصَّدقة تختزن في داخلها العطاء، وتختزن في خلفيّاتها وعمقها هذه الحالة النفسيَّة والشعورية والمبدئية التي تهتمُّ بشؤون الناس وآلامهم في ما يحتاجونه، ومشاكلهم في ما يتطلّبونه، فالصدقة هي عنوانٌ للانفتاح الإنساني على آلام النَّاس وأحزانهم وحاجاتهم وجهالتهم، فالإنسان يتصدّق بخبرته على من لا خبرة له، وبعلمه على من لا علم له، وبقوّته على من لا قوة له، وبماله على من لا مال له، وبهذا تشكِّل الصَّدقةُ كلَّ عطاء الإنسان للإنسان الآخر، فرداً كان أو جماعةً أو أمّةً، بما يملكه من طاقات علمية وثقافية وسياسية ومالية، فالله قسّم الطاقات على الناس وجعلهم شركاء فيها، فطاقتك ليست شيئاً تملك حرية أن تحبسه عن الناس، إنك جزء من المجتمع والأمَّة، وعليك أن تعمل لكي يعطي الجزء الكل. فالصَّدقة عنوانٌ كبير يمتدُّ من العطاء للفرد إلى العطاء للأمة.

ـ أَوْ مَعْرُوفٍ ـ وكلمة المعروف تمثّل كل ما يرفع مستوى الإنسان الأخلاقي والروحي والنفسي والحركي والاجتماعي، فكلّ ما يرفع مستوى الإنسان مما يحبّه الله ويرضاه هو معروف، لأنَّ الله أراد للإنسان الذي جعله خليفةً في الأرض، أن ينمّي نفسه وقدراته، وأن ينمّيه الآخرون مما يملكون من قدراتٍ، ليكون في مستوى الخلافة، لأن قضيَّة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة/30) تقول إنّ على الإنسان أن ينفّذ كلَّ ما يريده الله في بناء الحياة وإعمارها وتطويرها وتقدّمها وجعلها الموقع الذي يملك الإنسان فيه أن يرقى إلى المستويات العليا، وأن يجسّد إرادة الله تعالى في أن يحوّل الأرض إلى جنة يعيش فيها برنامج الجنة قبل أن ينتقل إليها.

ولذلك شدَّد الإسلام على وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المنكر يمثِّل كل ما ينزل مستوى الإنسان في الحياة، وقد ورد عن النبي (ص): «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلِّطنّ الله شراركم على خياركم، ثمّ يدعوا خياركم فلا يُستجاب لهم»، لأنهم قصّروا في مسؤولياتهم وفي بناء الحياة على أساس المعروف وإسقاط المنكر .

ـ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ـ أن ينطلق المجتمع كله والأمة كلها لمواجهة كل النـزاعات والخلافات والمشاكل التي تؤدي إلى الحروب والتقاطع بين الناس من أجل الإصلاح، وقد قال الله تعالى: إِصْلاح بَيْنَ النَّاسِ، ولم يقل: إصلاح بين المؤمنين، ما يجعلُ المجتمع كلَّه والأمَّة كلها منفتحةً على قضيَّة ملاحقة كلِّ المنازعات والمشاجرات التي يمكن أن تهدِّم السِّلم في العالم، وأن تؤدّي إلى نتائج سلبيّة على جميع المستويات ـ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ـ من يأمر بالصّدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ـ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ـ لا لطمع شخصي ـ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}، وعندما يتحدث الله عن الأجر العظيم، فإن معنى ذلك أن على الإنسان أن يأمل بأن يعطيه الله سبحانه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن الله تعالى هو الذي يعطي، وعطاؤه لا حدّ له.

تأصيل القيم الأخلاقيَّة:

إنَّ علينا ـ كمسلمين ـ أن نعمل لنرتفع إلى مستوى القيمة الأخلاقية التي تجعلنا مسؤولين عن تأكيد أخلاقنا وتأصيلها كقيمة تمثِّل عنصراً أساسياً في ذاتياتنا، وتحرّكنا من أجل أن نواجه مسؤولياتنا في الحياة، لأنَّ الله تعالى أرادنا في هذه الحياة أن لا نعيش ذاتياتنا، بل أن نعيش المجتمع كلَّه: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».

علينا ونحن نعيش المشاكل الكثيرة على المستوى النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أن نعيش ذلك كلَّه بمسؤوليَّة من أجل أن نغيّر الواقع، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد/11)، غيّر نفسك في أفكارها ومشاعرها وأحاسيسها وتطلّعاتها يتغيّر الواقع، وعندما يتغيّر الواقع يتغيّر التَّاريخ.

إنَّ الذين تقدمونا صنعوا تاريخهم في سلبياته وإيجابياته، وعلينا أن نعرف كيف نصنع تاريخنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(البقرة/134). هذا هو منهج الإسلام، أن تكون مسلماً أن تلتزم المنهج، وتحرك المفردات من خلال المنهج.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله في كلِّ مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إيَّاها، لأنَّ الله أراد لنا أن نواجه المسؤوليَّة في ما كلّفنا في إطاعة أوامره ونواهيه، بأن ننفّذ أوامره وننتهي عما نهانا عنه، وأن نواجه أوضاعنا كلَّها على المستوى الفردي والاجتماعي وعلى مستوى الأمة كلها، لأن الله أراد للمسلمين أن يكونوا في موقع واحد من أجل يقاتلوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، سواء كان القتال ثقافياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، أن نعتبر أنفسنا أمّةً واحدة تنطلق في ساحة التحديات كأمّة واحدة، لأن الآخرين من الكافرين والمستكبرين انطلقوا من أجل أن يحاربوا الإسلام كلَّه والاستضعاف كلَّه، وعلى الإسلام كله والاستضعاف كله أن يواجه ذلك بكل قوة ومسؤولية، ولا نزال نعيش التحديات من خلال بعض الذكريات التي هُزم فيها المسلمون، أو بعض الأوضاع التي نعيشها في هذا الواقع المتأزّم في المرحلة الحاضرة.

في ذكرى اغتصاب فلسطين: الشعب الفلسطيني وحيد:

تحتفل إسرائيل بالذكرى السابعة والخمسين لتأسيس كيانها على حساب الشعب الفلسطيني الذي طردته من أرضه بمجازرها الوحشية، أو حبسته في بعض من أرضه بحيث تحوّل سجيناً في داخلها، بفعل التخطيط الأوروبي أوَّلاً ثم الأمريكي ثانياً، وبذلك تحوَّل الموقع الإسرائيليّ إلى موقعٍ يرتبط بالإمبراطورية الأمريكية العالمية التي ترى في إسرائيل حليفاً عضوياً تلتزم به أمريكا كما تلتزم بالأمن المطلق الإسرائيلي، حتى إنّها مستعدّةٌ للدخول في حرب عالمية لحماية هذا الأمن على جميع المستويات.

ولذلك، فقد أعلنت أمريكا الحرب على الدول العربية والإسلامية، لإخراجها من الموقف المبدئي المستند إلى ركائز الإنتماء الإسلامي والعربيّ، ما أدى بفعل التعقيدات السياسية والاعتداءات العسكرية إلى فرض الصلح بين العدو الصهيوني وبعض هذه الدول بشكل كامل وبطريقة جانبية، من خلال المكاتب الاقتصادية وغيرها وبعض المحادثات الخفيّة، ما جعل وزير خارجية العدو يصرّح بأن هناك عشر دول ستبادر إلى الصلح بإقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الدولة العبرية، الأمر الذي ترك الشعب الفلسطيني وحده في المسألة السياسية والأمنية والعسكرية، من دون أيّ اهتمام به في خطة متكاملة في حمايته الوجودية، وفي استعادة حريته الاستقلالية، الأمر الذي حوّل الخط العربي والإسلامي إلى خطِّ خيانة الهوية العربية والإسلامية، في عملية انسحاب متدرّج، بينما لا يزال العدو ـ بالتنسيق مع أمريكا ـ يؤكِّد الصفة اليهودية للدولة بما يهدِّد العرب في فلسطين في وجودهم المستقبلي فيها.

إنَّ الفرق بيننا ـ كعرب ومسلمين على مستوى الأنظمة ـ وبين إسرائيل، أنها أخلصت لكلمتها الأولى في خطتها اليهودية الصهيونية، ولم تتنازل عنها في المبدأ ولا في التفاصيل، بينما تساقطت كلمات هؤلاء على مستوى المؤتمرات المتعددة، وقدّموا كلَّ التنازلات لها في مطالبة بالصلح معها، ولم تقبل منهم ذلك، لأنها تحتقر مستوى ضعفهم بفعل الضغط الأمريكي الساحق الذي بدأ يتحدث عن ضعف بعض الدول العربية، طالباً من إسرائيل أن لا تتجاوب معها في الاستعداد للصلح.

لنجدِّد الرفض للكيان الصهيوني:

إن هذه الذكرى لا بد أن تثير الكثير من المواقف في العالمين العربي والإسلامي، وفي وجدان العالم الحرّ الذي يؤمن بحرية الشعوب في تقرير مصيرها، وعلينا أن نجدد الموقف الرافض لهذه الدولة، والابتعاد عن الاعتراف بشرعيتها، وأن تتحرك الشعوب العربية والإسلامية من جديد في دعم الشعب الفلسطيني مادياً ومعنوياً وسياسياً، ومواجهة الدَّعم الأمريكي لمجازر إسرائيل الوحشية المتتابعة في الاغتيالات والاعتقالات، والتدمير للبنية التحتية، وتمييع كلِّ الوعود في الحديث عن الدولة الفلسطينية، انسجاماً مع الخطة الإسرائيلية التي لا تريد حلاًّ عادلاً للشعب الفلسطيني، في عملية نفاق أمريكي سياسي، بفعل الخلفيات الحاقدة للإدارة الأمريكية التي لا تعترف بحق هذا الشعب في الحرية والاستقلال والعيش الإنساني الكريم.

لبنان وفدرالية الطوائف:

أما الرَّئيس الأمريكي الذي يطوف العالم، مستعرضاً عضلاته الخطابية في انتصاراته الديمقراطية في العراق وأفغانستان التي فرضها الاحتلال بفعل الحرب المدمِّرة التي لا يزال يقاسي منها الشعب، في الفوضى السلبية لا البنّاءة التي يتحدَّث عنها، والتي أنتجت المزيد من المجازر الوحشية للشعب العراقي الجريح الذي يعاني من اللامبالاة التي تتمثَّل في الخطِّ السياسي الأمني الذي يتحرك به الاحتلال الأمريكي للعراق، وهذا ما لاحظناه في الضغوط التي فرضها القائمون على الاحتلال في تأليف الحكومة الحاضرة...

إنَّ هذا الرئيس الأمريكي الذي يتدخّل يومياً في الواقع السياسي اللّبناني، يحاول الإيحاء بأنه هو الذي منح الشعب اللبناني الديمقراطية من خلال تعقيدات تدخّلاته، والجميع يعرف أن الديمقراطية اللبنانية انطلقت منذ نشوء الدولة اللبنانية وليست منحةً منه. إننا نريد للبنانيين أن يعيشوا وعي الطريقة الدولية ـ وفي مقدمتها أمريكا ـ التي تريد أن تفرض وصايتها السياسية والأمنية المخابراتية على قراراتهم، من خلال الكواليس المظلمة التي تصنع فيها القرارات.

وفي هذا الجو، فإننا نرى أن السجال الانتخابي اللبناني قد دخل في كهوف الطائفية، ومغارات العنصرية الخانقة، في منطق يحاول أصحابه أن يغلّفوه بغلاف الوطنية والتعايش الشعبي، ولكنه ـ مهما حاولوا ـ يشفُّ عمّا تحته.

إننا نسأل هؤلاء: هل يعني ذلك أن يترك اللبنانيون قانون المحافظة أو القضاء، ليقدّموا قانوناً تنتخب فيه الطوائف المتنوّعة نوابها بعيداً عن الدوائر الصغيرة أو الكبيرة، لينتخب المسيحيون نوابهم من دون تدخّل المسلمين، وينتخب المسلمون نوابهم من دون تدخّل المسيحيين، وليكون هناك مجلس نيابي للمسلمين وآخر للمسيحيين، أو مجلس لهذه الطائفة أو تلك؟ وهل هذا هو الذي يحقق العدالة؛ عدالة الطوائف بعيداً عن الإلغاء الطائفي؟! إن هذا المنطق يقود إلى هذه النتيجة، حيث يتحوّل البلد إلى فدرالية الطوائف لا فدرالية المناطق. والسؤال: هل هذا هو ما يريده اللّبنانيون؟

إن المشكلة ليست في مسألة الدوائر، ولكنها مشكلة السياسيين في المعارضة والموالاة الذين أوصلوا لبنان إلى هذا المصير الأسود من خلال التجربة السلبية التي حكمت هذا البلد.

أين الكلام عن الاهتزاز النقدي والمالي!!

إننا نريد لبنان بلداً حراً مستقلاً، يملك شعبه قراره بعيداً عن الشّعارات الفضفاضة التي تثير الحماس الضبابي، وإننا ندعو الجيل الجديد أن يفكر في المستقبل بطريقة حضارية مستقبلية، وأن يخطِّط لولادة بلده إذا أراد البقاء في بلده من دون أن يضطر إلى الهروب منه.

ومن المؤلم أننا لم نسمع طيلة هذا الجدل كلاماً عن الاهتزاز النقدي والمالي والاقتصادي وحلِّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والدَّين العام. إن المصالحة الوطنية تنطلق من مصالحة الشعب اللبناني مع قضاياه الحيوية، لا من تأكيد على جانب محدود مما تركه التاريخ من المشاكل المعقّدة التي فرضتها أوضاع الحرب السابقة.

تأصيل للقيم وانفتاح على قضايا الأمة...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(النساء/114).

الرِّسالة الإسلامية وعالميَّة العدل:

 هذه الآية الكريمة هي من الآيات التي تجري ـ كما قال الإمام الباقر(ع) في آيات القرآن ـ مجرى اللّيل والنهار، والشمس والقمر، فالقرآن الكريم يتجدد في كل أوضاع الحياة، وفي كلِّ مسؤوليات الناس، وفي كلِّ تطورات الواقع، وهذا ما جعل القرآن الكريم كتاب الرسالة الذي يبلي الحياة ولا تبليه، ويفتح لكلِّ جيل نافذة على مسؤوليّاتهم، ويطوّر الفكر في الواقع، ولا يحتاج إلى أن يتطوَّر به، ولهذا أعطاه الله تعالى صفة النور والوسيلة التي يخرج الناس فيها من الظلمات، فهو نور كله؛ نور في حديثه عن العقيدة المضيئة، ونور في حديثه عن الشريعة المتوازنة، ونور في حديثه عن علاقات النَّاس بعضهم ببعض، وعن علاقتهم بالله وعلاقتهم بالحياة من خلال الله تعالى.

هذه الآية نزلت في مناسبة عاشها النبي (ص)، عندما اتهم المسلمون يهودياً بسرقة، وكان السَّارق مسلماً، فأرادوا أن يبرئوا المسلم على حساب اليهودي، معتبرين أنَّ العقدة ضدّ اليهود تسمح بذلك، ولكن الله تعالى أنزل آياته ليطلب من النبي(ص) أن لا يدافع عن الّذين يخونون أنفسهم ويتّخذون سبيل الخيانة، حتى لو كان المتهم يهوديَّاً والخائن مسلماً، لأنه في العدل الإسلامي، لا علاقة لانتماء الإنسان الديني للإسلام أو لغيره، لأن العدل هو للناس كافّةً، لا فرق بين مسلم وكافر في قضية العدل، فإذا كان الإنسان صاحب حق، فإنَّ الإسلام يمنحه هذا الحق حتى لو كان كافراً وحقه عند الإسلام، فالله تعالى أنزل الرسالات كلها من أجل إقامة العدل بين الناس، كل الناس؛ ولم يفرّق بين عدوّ وصديق، وبين قريب أو بعيد، أو بين كافر ومسلم.

فالله تعالى أنزل في هذه الآيات أكثر من قاعدة للعدالة، وأكَّد أنه لا يجوز للإنسان أن يكسب إثماً ويلقيه على غيره، أو أن يعمل شيئاً ويرمي به بريئاً، وأكَّد خطورة ذلك على خطِّ العدالة، وقال للناس: إذا كنتم تملكون ظروفاً تتَّهمون من خلالها البريء وتبرّئون المجرم، ودافعتم في الدنيا عن المجرم، فهل تستطيعون أن تدافعوا عنه أمام الله تعالى يوم القيامة؟.

وقد جاءت هذه الآيات متابعةً لتبرئ يهودياً ولتدين مسلماً. وهذه هي القاعدة الإسلامية التي تقول للمسلمين إنَّ عليهم أن لا يتعصّبوا للمسلمين منهم إذا كان الحقُّ عند غيرهم، ليعرف العالم كله أن الإسلام دين العدالة، وأنه لا يأخذ بالعصبية ولا بالظلم مهما كان الظالم ومهما كان المظلوم، وقد ورد عندنا في أحاديث الأئمة من أهل البيت (ع)، أن «الله أوحى إلى نبي في مملكة جبار من الجبارين أن إئتِ هذا الجبار وقل له: إني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً».

من إيجابيّات النّجوى:

نأتي إلى هذه الآية التي جاءت لتوجّه المسلمين إلى الجانب الإيجابي بعد أن حذّرتهم من الجانب السَّلبي: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ـ وكلمة النّجوى تعني الاجتماعات السرّية التي يتحدَّث فيها النَّاس بشكل خفيّ لا يطّلع عليها أحد، ومن المعروف أنَّ الجلسات الخفية عادةً ما يغلب عليها الحديث عن الأشياء السلبية التي تتصل بالناس وبالحياة، مما يلتقي بالشرّ لا بالخير، ولكن ربما نحتاج إلى جلسات خفية، وربما معلنة، من أجل التّخطيط لبعض القضايا العامَّة التي تتَّصل بالحياة العامة للناس ـ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ـ وكلمة الصَّدقة تختزن في داخلها العطاء، وتختزن في خلفيّاتها وعمقها هذه الحالة النفسيَّة والشعورية والمبدئية التي تهتمُّ بشؤون الناس وآلامهم في ما يحتاجونه، ومشاكلهم في ما يتطلّبونه، فالصدقة هي عنوانٌ للانفتاح الإنساني على آلام النَّاس وأحزانهم وحاجاتهم وجهالتهم، فالإنسان يتصدّق بخبرته على من لا خبرة له، وبعلمه على من لا علم له، وبقوّته على من لا قوة له، وبماله على من لا مال له، وبهذا تشكِّل الصَّدقةُ كلَّ عطاء الإنسان للإنسان الآخر، فرداً كان أو جماعةً أو أمّةً، بما يملكه من طاقات علمية وثقافية وسياسية ومالية، فالله قسّم الطاقات على الناس وجعلهم شركاء فيها، فطاقتك ليست شيئاً تملك حرية أن تحبسه عن الناس، إنك جزء من المجتمع والأمَّة، وعليك أن تعمل لكي يعطي الجزء الكل. فالصَّدقة عنوانٌ كبير يمتدُّ من العطاء للفرد إلى العطاء للأمة.

ـ أَوْ مَعْرُوفٍ ـ وكلمة المعروف تمثّل كل ما يرفع مستوى الإنسان الأخلاقي والروحي والنفسي والحركي والاجتماعي، فكلّ ما يرفع مستوى الإنسان مما يحبّه الله ويرضاه هو معروف، لأنَّ الله أراد للإنسان الذي جعله خليفةً في الأرض، أن ينمّي نفسه وقدراته، وأن ينمّيه الآخرون مما يملكون من قدراتٍ، ليكون في مستوى الخلافة، لأن قضيَّة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة/30) تقول إنّ على الإنسان أن ينفّذ كلَّ ما يريده الله في بناء الحياة وإعمارها وتطويرها وتقدّمها وجعلها الموقع الذي يملك الإنسان فيه أن يرقى إلى المستويات العليا، وأن يجسّد إرادة الله تعالى في أن يحوّل الأرض إلى جنة يعيش فيها برنامج الجنة قبل أن ينتقل إليها.

ولذلك شدَّد الإسلام على وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المنكر يمثِّل كل ما ينزل مستوى الإنسان في الحياة، وقد ورد عن النبي (ص): «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلِّطنّ الله شراركم على خياركم، ثمّ يدعوا خياركم فلا يُستجاب لهم»، لأنهم قصّروا في مسؤولياتهم وفي بناء الحياة على أساس المعروف وإسقاط المنكر .

ـ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ـ أن ينطلق المجتمع كله والأمة كلها لمواجهة كل النـزاعات والخلافات والمشاكل التي تؤدي إلى الحروب والتقاطع بين الناس من أجل الإصلاح، وقد قال الله تعالى: إِصْلاح بَيْنَ النَّاسِ، ولم يقل: إصلاح بين المؤمنين، ما يجعلُ المجتمع كلَّه والأمَّة كلها منفتحةً على قضيَّة ملاحقة كلِّ المنازعات والمشاجرات التي يمكن أن تهدِّم السِّلم في العالم، وأن تؤدّي إلى نتائج سلبيّة على جميع المستويات ـ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ـ من يأمر بالصّدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ـ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ـ لا لطمع شخصي ـ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}، وعندما يتحدث الله عن الأجر العظيم، فإن معنى ذلك أن على الإنسان أن يأمل بأن يعطيه الله سبحانه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن الله تعالى هو الذي يعطي، وعطاؤه لا حدّ له.

تأصيل القيم الأخلاقيَّة:

إنَّ علينا ـ كمسلمين ـ أن نعمل لنرتفع إلى مستوى القيمة الأخلاقية التي تجعلنا مسؤولين عن تأكيد أخلاقنا وتأصيلها كقيمة تمثِّل عنصراً أساسياً في ذاتياتنا، وتحرّكنا من أجل أن نواجه مسؤولياتنا في الحياة، لأنَّ الله تعالى أرادنا في هذه الحياة أن لا نعيش ذاتياتنا، بل أن نعيش المجتمع كلَّه: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».

علينا ونحن نعيش المشاكل الكثيرة على المستوى النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أن نعيش ذلك كلَّه بمسؤوليَّة من أجل أن نغيّر الواقع، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد/11)، غيّر نفسك في أفكارها ومشاعرها وأحاسيسها وتطلّعاتها يتغيّر الواقع، وعندما يتغيّر الواقع يتغيّر التَّاريخ.

إنَّ الذين تقدمونا صنعوا تاريخهم في سلبياته وإيجابياته، وعلينا أن نعرف كيف نصنع تاريخنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(البقرة/134). هذا هو منهج الإسلام، أن تكون مسلماً أن تلتزم المنهج، وتحرك المفردات من خلال المنهج.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله في كلِّ مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إيَّاها، لأنَّ الله أراد لنا أن نواجه المسؤوليَّة في ما كلّفنا في إطاعة أوامره ونواهيه، بأن ننفّذ أوامره وننتهي عما نهانا عنه، وأن نواجه أوضاعنا كلَّها على المستوى الفردي والاجتماعي وعلى مستوى الأمة كلها، لأن الله أراد للمسلمين أن يكونوا في موقع واحد من أجل يقاتلوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، سواء كان القتال ثقافياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، أن نعتبر أنفسنا أمّةً واحدة تنطلق في ساحة التحديات كأمّة واحدة، لأن الآخرين من الكافرين والمستكبرين انطلقوا من أجل أن يحاربوا الإسلام كلَّه والاستضعاف كلَّه، وعلى الإسلام كله والاستضعاف كله أن يواجه ذلك بكل قوة ومسؤولية، ولا نزال نعيش التحديات من خلال بعض الذكريات التي هُزم فيها المسلمون، أو بعض الأوضاع التي نعيشها في هذا الواقع المتأزّم في المرحلة الحاضرة.

في ذكرى اغتصاب فلسطين: الشعب الفلسطيني وحيد:

تحتفل إسرائيل بالذكرى السابعة والخمسين لتأسيس كيانها على حساب الشعب الفلسطيني الذي طردته من أرضه بمجازرها الوحشية، أو حبسته في بعض من أرضه بحيث تحوّل سجيناً في داخلها، بفعل التخطيط الأوروبي أوَّلاً ثم الأمريكي ثانياً، وبذلك تحوَّل الموقع الإسرائيليّ إلى موقعٍ يرتبط بالإمبراطورية الأمريكية العالمية التي ترى في إسرائيل حليفاً عضوياً تلتزم به أمريكا كما تلتزم بالأمن المطلق الإسرائيلي، حتى إنّها مستعدّةٌ للدخول في حرب عالمية لحماية هذا الأمن على جميع المستويات.

ولذلك، فقد أعلنت أمريكا الحرب على الدول العربية والإسلامية، لإخراجها من الموقف المبدئي المستند إلى ركائز الإنتماء الإسلامي والعربيّ، ما أدى بفعل التعقيدات السياسية والاعتداءات العسكرية إلى فرض الصلح بين العدو الصهيوني وبعض هذه الدول بشكل كامل وبطريقة جانبية، من خلال المكاتب الاقتصادية وغيرها وبعض المحادثات الخفيّة، ما جعل وزير خارجية العدو يصرّح بأن هناك عشر دول ستبادر إلى الصلح بإقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الدولة العبرية، الأمر الذي ترك الشعب الفلسطيني وحده في المسألة السياسية والأمنية والعسكرية، من دون أيّ اهتمام به في خطة متكاملة في حمايته الوجودية، وفي استعادة حريته الاستقلالية، الأمر الذي حوّل الخط العربي والإسلامي إلى خطِّ خيانة الهوية العربية والإسلامية، في عملية انسحاب متدرّج، بينما لا يزال العدو ـ بالتنسيق مع أمريكا ـ يؤكِّد الصفة اليهودية للدولة بما يهدِّد العرب في فلسطين في وجودهم المستقبلي فيها.

إنَّ الفرق بيننا ـ كعرب ومسلمين على مستوى الأنظمة ـ وبين إسرائيل، أنها أخلصت لكلمتها الأولى في خطتها اليهودية الصهيونية، ولم تتنازل عنها في المبدأ ولا في التفاصيل، بينما تساقطت كلمات هؤلاء على مستوى المؤتمرات المتعددة، وقدّموا كلَّ التنازلات لها في مطالبة بالصلح معها، ولم تقبل منهم ذلك، لأنها تحتقر مستوى ضعفهم بفعل الضغط الأمريكي الساحق الذي بدأ يتحدث عن ضعف بعض الدول العربية، طالباً من إسرائيل أن لا تتجاوب معها في الاستعداد للصلح.

لنجدِّد الرفض للكيان الصهيوني:

إن هذه الذكرى لا بد أن تثير الكثير من المواقف في العالمين العربي والإسلامي، وفي وجدان العالم الحرّ الذي يؤمن بحرية الشعوب في تقرير مصيرها، وعلينا أن نجدد الموقف الرافض لهذه الدولة، والابتعاد عن الاعتراف بشرعيتها، وأن تتحرك الشعوب العربية والإسلامية من جديد في دعم الشعب الفلسطيني مادياً ومعنوياً وسياسياً، ومواجهة الدَّعم الأمريكي لمجازر إسرائيل الوحشية المتتابعة في الاغتيالات والاعتقالات، والتدمير للبنية التحتية، وتمييع كلِّ الوعود في الحديث عن الدولة الفلسطينية، انسجاماً مع الخطة الإسرائيلية التي لا تريد حلاًّ عادلاً للشعب الفلسطيني، في عملية نفاق أمريكي سياسي، بفعل الخلفيات الحاقدة للإدارة الأمريكية التي لا تعترف بحق هذا الشعب في الحرية والاستقلال والعيش الإنساني الكريم.

لبنان وفدرالية الطوائف:

أما الرَّئيس الأمريكي الذي يطوف العالم، مستعرضاً عضلاته الخطابية في انتصاراته الديمقراطية في العراق وأفغانستان التي فرضها الاحتلال بفعل الحرب المدمِّرة التي لا يزال يقاسي منها الشعب، في الفوضى السلبية لا البنّاءة التي يتحدَّث عنها، والتي أنتجت المزيد من المجازر الوحشية للشعب العراقي الجريح الذي يعاني من اللامبالاة التي تتمثَّل في الخطِّ السياسي الأمني الذي يتحرك به الاحتلال الأمريكي للعراق، وهذا ما لاحظناه في الضغوط التي فرضها القائمون على الاحتلال في تأليف الحكومة الحاضرة...

إنَّ هذا الرئيس الأمريكي الذي يتدخّل يومياً في الواقع السياسي اللّبناني، يحاول الإيحاء بأنه هو الذي منح الشعب اللبناني الديمقراطية من خلال تعقيدات تدخّلاته، والجميع يعرف أن الديمقراطية اللبنانية انطلقت منذ نشوء الدولة اللبنانية وليست منحةً منه. إننا نريد للبنانيين أن يعيشوا وعي الطريقة الدولية ـ وفي مقدمتها أمريكا ـ التي تريد أن تفرض وصايتها السياسية والأمنية المخابراتية على قراراتهم، من خلال الكواليس المظلمة التي تصنع فيها القرارات.

وفي هذا الجو، فإننا نرى أن السجال الانتخابي اللبناني قد دخل في كهوف الطائفية، ومغارات العنصرية الخانقة، في منطق يحاول أصحابه أن يغلّفوه بغلاف الوطنية والتعايش الشعبي، ولكنه ـ مهما حاولوا ـ يشفُّ عمّا تحته.

إننا نسأل هؤلاء: هل يعني ذلك أن يترك اللبنانيون قانون المحافظة أو القضاء، ليقدّموا قانوناً تنتخب فيه الطوائف المتنوّعة نوابها بعيداً عن الدوائر الصغيرة أو الكبيرة، لينتخب المسيحيون نوابهم من دون تدخّل المسلمين، وينتخب المسلمون نوابهم من دون تدخّل المسيحيين، وليكون هناك مجلس نيابي للمسلمين وآخر للمسيحيين، أو مجلس لهذه الطائفة أو تلك؟ وهل هذا هو الذي يحقق العدالة؛ عدالة الطوائف بعيداً عن الإلغاء الطائفي؟! إن هذا المنطق يقود إلى هذه النتيجة، حيث يتحوّل البلد إلى فدرالية الطوائف لا فدرالية المناطق. والسؤال: هل هذا هو ما يريده اللّبنانيون؟

إن المشكلة ليست في مسألة الدوائر، ولكنها مشكلة السياسيين في المعارضة والموالاة الذين أوصلوا لبنان إلى هذا المصير الأسود من خلال التجربة السلبية التي حكمت هذا البلد.

أين الكلام عن الاهتزاز النقدي والمالي!!

إننا نريد لبنان بلداً حراً مستقلاً، يملك شعبه قراره بعيداً عن الشّعارات الفضفاضة التي تثير الحماس الضبابي، وإننا ندعو الجيل الجديد أن يفكر في المستقبل بطريقة حضارية مستقبلية، وأن يخطِّط لولادة بلده إذا أراد البقاء في بلده من دون أن يضطر إلى الهروب منه.

ومن المؤلم أننا لم نسمع طيلة هذا الجدل كلاماً عن الاهتزاز النقدي والمالي والاقتصادي وحلِّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والدَّين العام. إن المصالحة الوطنية تنطلق من مصالحة الشعب اللبناني مع قضاياه الحيوية، لا من تأكيد على جانب محدود مما تركه التاريخ من المشاكل المعقّدة التي فرضتها أوضاع الحرب السابقة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية