في المنهج الإسلاميّ: التّوازن بين حياة الإنسان وحياة الأمّة

في المنهج الإسلاميّ: التّوازن بين حياة الإنسان وحياة الأمّة

في المنهج الإسلاميّ: التّوازن بين حياة الإنسان وحياة الأمّة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. ويقول الله سبحانه: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير}. ويقول تعالى عن النساء في الحياة الزوجية في علاقة الرجال بهن: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}.

إخضاع المواقف للمبادىء

في هذه الآيات الكريمة، يتعرّض الله تعالى لحالةٍ تعيش في وجدان كثيرٍ من الناس، وتتمثّل في أنّ الإنسان قد يشعر بالكراهة لبعض المسؤوليات، أو لبعض الأعمال أو لبعض العلاقات، سواء كان ذلك يرتبط بالواقع الحياتي الذي يعيشه الإنسان في علاقاته الإنسانية، أو كان يرتبط بالمسؤوليات التي توجَّه إليه.

ففي الآية الأولى، يُنزل الله تعالى على رسوله(ص) بياناً للمؤمنين، فقد واجه الإسلامي التحدّيات العسكرية الحربية التي فرضها الشرك عليه في الحروب التي تتابعت، من بدر وأُحد والأحزاب وخيبر وحنين وغير ذلك، ما جعل الإسلام يشرّع الجهاد ليواجه المسلمون هذه التحدّيات، حتى يأخذوا بأسباب النصر، ولا يسقطوا أمام الهزيمة.

ومن الطبيعي أنّ كل إنسان يحبّ الحياة، لأنّ حبّ الحياة مسألة فطرية إنسانية، ولكن الله تعالى يربّي الإنسان على أن يوازن بين حياته وحياة الأمة، بين كرامته وكرامة الإسلام، بين حبِّه لنفسه وحبِّه لله ولرسوله، فالله سبحانه وتعالى لا يريد للإنسان أن يُخضع مواقفه لمزاجه الشخصي أو لمشاعره وأحاسيسه، بل يريد له أن يدرس مواقفه بحسب المصالح والمفاسد والمبادئ، فأنت عندما تؤمن بمبدأ، فإنّ عليك أن تقيس أقوالك وأفعالك وعلاقاتك على حسب انسجام ذلك مع مبادئك والتزاماتك العقيدية والحياتية، لا أن تجعل المسألة خاضعة لما تحبّه وما تكرهه، لأن قضية الحب والكراهية ترتبط بالمشاعر والأحاسيس السطحية.

تدبّر عواقب الأمور

فالله تعالى أراد أن يبيِّن حقيقةً إنسانيةً ليجعلها الإنسان قاعدةً له في واقعه، وهي أن لا يبادر في أخذ أي موقف لمجرد الإحساس، بل أن يدرس الموقف بحسب النتائج التي تحصل من ذلك على أساس مبادئه، فالله عندما شرّع للمسلمين القتال الجهادي الدفاعي الوقائي، كره ذلك الكثيرون منهم، لأن ذلك يعرّضهم للخطر وهم يحبّون الحياة، فنزلت هذه الآية: {كُتب عليكم القتال وهو كره لكم ـ لأنّكم تحبّون الحياة وتكرهون تعريض أنفسكم للخطر، الله يقول لكم: لا تحكموا على المسائل من منطلق الكراهة الشعورية بل ادرسوها في النتائج الكبرى على مستوى عزتكم وكرامتكم وقوتكم كأمة وكمسلمين، فكروا في المسألة التي تمس الأمة في حياتها وموتها ـ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ـ لأن النتائج هي نتائج العواقب ـ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.

وهذه قاعدة يريد الله تعالى للإنسان أن يلتزم بها، أن لا يفكّر في بدايات الأمور بل في نهاياتها، وهذا ما قاله رسول الله (ص) لبعض من استوصاه: "إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً ـ في العواقب ـ فأمضه، وإن يك غيّاً فانتهِ عنه".

أما الآية الثانية، فإنها تتوجّه إلى البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به، فلا يقدّمونه للفقراء الذين جعلهم الله شركاء في مالهم، ولا يقومون بالمسؤوليات التي حمّلهم الله تعالى إياها في أموالهم، عندما يقول: {والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم}، وقد ورد في الأحاديث الشريفة: "إن الله شرّك الفقراء في أموال الأغنياء بما يكفيهم، ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم"، ولكن هؤلاء الذين يملكون المال لا يتحمّلون مسؤوليته في ما حمّلهم الله من مسؤولية، ويحسبون أن حبس المال وعدم إنفاقه خير لهم، لأنه يوفّر أموالهم ويزيد في أرصدتهم، ولكن الله تعالى يقول: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ـ فالله هو الذي قدّر لهم ذلك، وأعطاهم الوسائل التي يملكون بها هذا المال، فالمال مال الله ـ هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيُطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة ـ لأنّهم منعوا الخمس والزكاة والصدقات، فغصبوا بذلك أموال الفقراء، ولذلك سيطوّقهم الله بأموالهم تماماً كما يطوّقهم بالقيود والأغلال، فنتائج حبسهم للمال قد لا يشعرون بها في الحياة، ولكنهم سيعرفون نتائجها بعد الموت ـ ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير}.

الحكمة في التعامل الزوجي

في الآية الثالثة، يتحدث الله تعالى عن علاقة الزوج بزوجته، ومن الطبيعي أن الزواج يخلق بعض المشاكل في ما يواجهه الرجل من مزاج زوجته الذي عاشته من خلال تأثرها ببيئة أهلها، أو أن تعيش الزوجة مزاج زوجها الذي تربى عليه عندما عاش مع أهله، أو ما يحدث من حالات طارئة في المعاشرة في داخل البيت الزوجي، من مشاكل الأولاد والإنفاق وما إلى ذلك. في هذه الصورة، قد يكره الزوج زوجته، وقد يتضايق من بعض مزاجها أو أوضاعها، فيضطهدها، أو يجعل إحساسه الشعوري النفسي مبرراً لأن يطلّقها، وقد يكون للزوجة بعض السلبيات في أخلاقها أو في كلماتها أو في بعض أوضاعها البيتية المتعلقة بالغذاء والكساء وتربية الأولاد، ولكن إلى جانب هذه السلبيات، قد تكون لها إيجابيات كثيرة، فقد تكون صاحبة عقل، أو من أكثر النساء عفّةً، فتحفظ زوجها في نفسها وفي ماله، وقد تكون متديّنة...

فعلى الإنسان أن لا يبادر إلى الخضوع لهذا الإحساس بالكراهة، بل أن يقارن بين السلبيات بنسبة عشرين أو ثلاثين بالمئة، وبين الإيجابيات بنسبة سبعين أو ثمانين بالمئة، أن يدرس الأمر دراسة عقلية بحيث يحسب في كل معاشرته الزوجية حساب الأرباح والخسائر، فإذا كانت الأرباح أكثر فعليه أن يتحمّل السلبيات ويعالجها بحكمته وعقله، وبكل الوسائل التي تنشر السلام في البيت: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن ـ فلا تبادروا إلى التصرف على أساس هذه الكراهة السطحية ـ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}. لا بد أن يدرس الإنسان الأمور دراسة موضوعية إنسانية عقلانية، لأنّ الحياة الزوجية ليست علاقة طارئة، بل هي مكون من العلاقات، إن في العلاقة الزوجية عائلتين تتصاهران، وجيلاً من الأولاد الذين قد ترتبط مصالحهم ويتحرك مستقبلهم من خلال علاقة الزوج بزوجته.

فعلى الزوج أن لا ينظر إلى المسألة من خلال تأثيراته النفسية، بل عليه أن ينظر إلى أنه جزء من كيان ومن عائلة قد تمتد في سلبياتها وإيجابياتها إلى العوائل الأخرى، فعلى الزوجين أن ينظرا إلى أنهما يصنعان جيلاً جديداً، وأن تصرفاتهما سوف تؤدي إلى سقوط هذا الجيل أو إلى ارتفاعه. وإذا كان القرآن قد تحدّث عن الزوج أن لا يبرِّر بعض الكراهة السطحية في الانفصال أو في بعض الأعمال القاسية تجاه زوجته، فالله تعالى يوجّه خطابه أيضاً إلى الزوجة التي تملك بعض مواقع الإرباك في الحياة الزوجية، لأن الفكرة واحدة.

النظر إلى الآخرة

فعلى الإنسان دائماً ـ في المنهج الإسلامي ـ أن لا يرتبط بالأمور السطحية، بل أن يرتبط بالعمق من الأمور، أن لا ينظر إلى الدنيا وحدها في أرباحه وخسائره، بل أن ينظر إلى الآخرة، وهذا ما قاله الإمام عليّ(ع): "ما خير بخير بعده النار، وما شر بشر بعده الجنة، وكل نعيم دون الجنة فهو محقور ـ حاول أن تحصّل ما تحصّل، كن من أصحاب الملايين والجاه الكبير والسلطة القاهرة، كن من الذين يعيشون الحياة في كل شهواتها ولذاتها وأطماعها، ولكن ذلك لا يجعلك كبيراً إذا كانت آخرتك حقيرة، لأنك ستترك ذلك كله وتواجه الآخرة وحدك: {وكلّهم آتيه يوم القيامة فرداً}، {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم} ـ وكل بلاء دون النار فهو عافية". ويقول(ع): "ما خير بخير لا ينال إلا بشر، ويسر لا ينال إلا بعسر، إن الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشرّ، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا".

هذه هي القاعدة الإسلامية، أن نفرّق بين مزاجنا فلا نستسلم له، وبين مبادئنا أن ننفتح عليها، بين حب الحياة وحب الله، بين خير الدنيا وخير الآخرة، حتى نعيش مع الله تعالى وننال رضاه، ولا شيء غير رضاه: {ورضوان من الله أكبر}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وواجهوا الموقف كما يريد تعالى: {إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، يقاتلون في سبيله قتالاً سياسياً وثقافياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً، لأن القوم الذين يعادون الله ورسوله، ويعادون المسلمين والمستضعفين، يعملون على أن يسقطوا المسلمين في دينهم وكل اقتصادهم وأمنهم، لأن المعركة مفتوحة على مستوى العالم بين المستضعفين والمستكبرين، وبين الظالمين والمظلومين، وبين المسلمين والكافرين.

وعلينا أن لا نقف على الحياد لنسقط أمام كل تحدياتهم وهجماتهم، بل علينا أن نأخذ بأسباب القوة والعزة، بأن نتحرك بكل الوسائل التي تؤكد عزتنا وقوتنا، حتى ننتصر لله تعالى في دينه، وننتصر لله في المؤمنين من عباده: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّت أقدامكم}. إن الله لا يحتاج إلى أن ننصره بالقوة لأنه القوي الذي يعطي القوة لنا جميعاً، بل أن ننصر دينه وأمته وكل القيم الكبرى التي أرادها الله تعالى. ونحن نواجه الكثير الكثير من التحديات، ولا بد أن يكون لنا وعي هذه التحديات حتى نردّها.

فلسطين: ضغوط أمريكية إسرائيلية متزايدة

ما هي الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية في فلسطين؟ أوّلاً: التلويح بالانسحاب من مستوطنات غزة كإنجاز إسرائيلي كبير للإيحاء بأنها تتحرك في خط السلام، في خطوات معقّدة للتأجيل من موعد إلى موعد، تحت تأثير المتطرفين الذين لا تتهمهم أمريكا بالإرهاب لأنهم يهود... وثانياً: اختراق المزيد من المواقع الفلسطينية، تارةً من خلال العمليات الأمنية في اعتقال أو اغتيال النشطاء الفلسطينيين من شباب الانتفاضة، وأخرى من خلال تعزيز حركة الاستيطان في الضفة الغربية من دون معارضة دولية فاعلة، وثالثة في الاستمرار بالعمل بالجدار العنصري الفاصل الذي يمتدُّ داخل المساحات الواسعة في الأراضي الفلسطينية، وطرد أهلها منها أو خنق وجودهم داخلها، من دون اعتبار للقرارات الدولية السياسية والقضائية، مع حماية أمريكية من أي إدانة لإسرائيل في ذلك كله من قِبَل المجتمع الدولي.

وإلى جانب ذلك، فإن أمريكا وإسرائيل تضغطان على السلطة الفلسطينية للقيام بتفكيك الحركات الفلسطينية من فصائل الانتفاضة ونزع أسلحتها، كشرط للدخول في المفاوضات السياسية مع السلطة، مما يعرف الجميع أنّه يؤدي إلى حرب فلسطينية داخلية، لأن الشعب الفلسطيني يرفض ذلك كله. ثم إننا نقرأ في التصريحات الصهيونية رفضها لمشاركة حماس في الانتخابات النيابية، بزعم أنها لن تكون حرة إذا شاركت حماس فيها، ثم الإعلان بأنّ السلطة لا تصلح لأن تكون شريكاً في المفاوضات.

إن الهجوم الأمريكي ـ الإسرائيلي على المحور الفلسطيني يستهدف تقديم التبريرات للتحلّل من الوعود الأمريكية في تأسيس الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، على أساس أن الفلسطينيين لا يساعدونها في ذلك، وهذا ما لاحظناه في الزيارات المتتالية التي يقوم بها المندوبون الأمريكيون للأراضي المحتلة، من دون أن يقدّموا أيّ حلّ لأية مشكلة فلسطينية ناجمة عمّا تقوم به إسرائيل من العدوان، ولكنهم يعملون على تقديم النصائح الملغومة للسلطة الفلسطينية المؤدية إلى الفوضى التي تُسقط الوضع السياسي والأمني على رؤوس الجميع.

ثم نتابع زيارات الرئيس الروسي ورئيس الوزراء التركي، من دون أن يكون لذلك أيّ فائدة في قضية التحرير، وهذا ما عبّر عنه أردوغان نفسه، بأن الفلسطينيين يعيشون في سجن كبير مفتوح، من دون أن يملك أيّ حل، لأن تركيا لا تملك أيّ موقع للقوة أو للضغط على إسرائيل.

تعثّر الخطة الأمريكية في المنطقة

أما الخطة الأمريكية في المنطقة، فلا تزال تتعثر في الإخفاقات العسكرية في العراق وفي أفغانستان، فهي لا تستطيع ـ على الرغم من تصريحات الرئيس بوش بالتقدّم في نشر الديمقراطية هناك ـ أن تثبت للعراقيين أنّها قدّمت لهم الحل الصحيح لمشاكلهم من ناحية الأمن والاقتصاد، لأن المجازر اليومية التي يسقط فيها الآلاف من القتلى والجرحى لا تزال تفرض نفسها على الواقع كله، على الرغم من تأليف حكومة منتخبة متعثرة بالخلافات في توزيع الحصص الطائفية. إنها الساحة الدموية التي أرادتها واشنطن نموذجاً للمنطقة، فتعثّرت فيها وغرقت في رمالها المتحركة.

ثم قفزت واشنطن إلى لبنان، لتقدّمه إلى الرأي العام الأمريكي كنموذج للانتصار في برنامجها تحت عنوان "نشر الديمقراطية"، في الوقت الذي يعرف الجميع أنّ لبنان كان ديمقراطياً منذ الأربعينات، وما زالت تواجه سوريا بالضغط والتشهير السياسي والإعلامي، ومحاولة العبث بأوضاعها الداخلية من خلال عملائها، لأنها لم تستجب للأوامر الإمبراطورية المفروضة عليها أمريكياً، هذا مع ضغوطها السياسية والاقتصادية على إيران، عبر الدول الأوروبية، في مشروعها النووي السلمي، لأنها لا تريد لها أن تملك الخبرة النووية السلمية التي تنمّي اقتصادها، حيث ترفض للدول العربية والإسلامية أن تحصل على القوة، مع حمايتها لإسرائيل في حصولها على الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، ومنع الأمم المتحدة من مطالبتها بتدميرها، ومنع وكالة الطاقة الذرية من الضغط عليها للتوقيع على الامتناع عن صناعتها.

إن أمريكا تستعرض أمام العالم قوّتها التدميرية، وتتباهى بقدرتها ـ من خلال جيشها ـ بالانتصار على أية دولة في العالم، وبإمكاناتها الاقتصادية الهائلة في الضغط على الاقتصاد العالمي، الأمر الذي جعلها مشكلة للشعوب المستضعفة، ما يفرض على هذه الشعوب أن تتضامن أمام هذه الإمبراطورية التي تتحدث عن حقوق الإنسان كوسيلة خادعة لإسقاط الإنسان في كل حقوقه، والتي تتحدث عن الحرية لتسيطر على المستضعفين باسم الحرية.

وعلى العراقيين ـ بالذات ـ أن يبذلوا المزيد من الجهود لتوحيد صفوفهم الداخلية، والأخذ بأسباب الوحدة الوطنية والإسلامية، وتركيز كيانهم السياسي والقانوني والأمني الموحَّد، ودعوة الاحتلال للخروج من العراق وإسقاط أحلامه في السيطرة على ثرواته الغنية لحساب شركاته الاحتكارية التي سرقت من أمواله الكثير في مشاريع وهمية حتى الآن.

لبنان: الوطن فوق الاعتبارات والأشخاص

أما في لبنان، فإن على الشعب اللبناني أن يطالب أمريكا وفرنسا بعدم التدخّل في الشؤون اللبنانية، ليمارس أموره في إدارة شؤونه بنفسه، وأن يمتنع عن إثارة المطالب والغرائز الطائفية حتى في جدالهم حول قانون الانتخاب، ولتكن المواطنية للإنسان اللبناني هي الأساس في القانون وفي الأمن والاقتصاد والعلاقات والخدمات الحيوية، وأن يدرسوا كل اللاعبين على الأرض السياسية، ليقرأوا تاريخ كل واحد منهم، بعيداً عن الصنمية في عبادة الأشخاص، وليفكروا في كل المشاريع المطروحة على أساس ما هي مصلحة الوطن لا على أساس مصلحة المقامات العليا، سواء كانت مقامات طائفية أو حزبية أو شخصانية.

إن الوطن فوق الاعتبارات والأشخاص، وعلى الجيل الجديد أن يحافظ على تطلّعاته المستقبلية، وعلى طهارته السياسية، قبل أن يقذّرها الذين يصنعون الوحول في كل مشاريعهم، ليبتعدوا بلبنان عن طهارة الينابيع الإنسانية وصفائها.

في المنهج الإسلاميّ: التّوازن بين حياة الإنسان وحياة الأمّة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. ويقول الله سبحانه: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير}. ويقول تعالى عن النساء في الحياة الزوجية في علاقة الرجال بهن: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}.

إخضاع المواقف للمبادىء

في هذه الآيات الكريمة، يتعرّض الله تعالى لحالةٍ تعيش في وجدان كثيرٍ من الناس، وتتمثّل في أنّ الإنسان قد يشعر بالكراهة لبعض المسؤوليات، أو لبعض الأعمال أو لبعض العلاقات، سواء كان ذلك يرتبط بالواقع الحياتي الذي يعيشه الإنسان في علاقاته الإنسانية، أو كان يرتبط بالمسؤوليات التي توجَّه إليه.

ففي الآية الأولى، يُنزل الله تعالى على رسوله(ص) بياناً للمؤمنين، فقد واجه الإسلامي التحدّيات العسكرية الحربية التي فرضها الشرك عليه في الحروب التي تتابعت، من بدر وأُحد والأحزاب وخيبر وحنين وغير ذلك، ما جعل الإسلام يشرّع الجهاد ليواجه المسلمون هذه التحدّيات، حتى يأخذوا بأسباب النصر، ولا يسقطوا أمام الهزيمة.

ومن الطبيعي أنّ كل إنسان يحبّ الحياة، لأنّ حبّ الحياة مسألة فطرية إنسانية، ولكن الله تعالى يربّي الإنسان على أن يوازن بين حياته وحياة الأمة، بين كرامته وكرامة الإسلام، بين حبِّه لنفسه وحبِّه لله ولرسوله، فالله سبحانه وتعالى لا يريد للإنسان أن يُخضع مواقفه لمزاجه الشخصي أو لمشاعره وأحاسيسه، بل يريد له أن يدرس مواقفه بحسب المصالح والمفاسد والمبادئ، فأنت عندما تؤمن بمبدأ، فإنّ عليك أن تقيس أقوالك وأفعالك وعلاقاتك على حسب انسجام ذلك مع مبادئك والتزاماتك العقيدية والحياتية، لا أن تجعل المسألة خاضعة لما تحبّه وما تكرهه، لأن قضية الحب والكراهية ترتبط بالمشاعر والأحاسيس السطحية.

تدبّر عواقب الأمور

فالله تعالى أراد أن يبيِّن حقيقةً إنسانيةً ليجعلها الإنسان قاعدةً له في واقعه، وهي أن لا يبادر في أخذ أي موقف لمجرد الإحساس، بل أن يدرس الموقف بحسب النتائج التي تحصل من ذلك على أساس مبادئه، فالله عندما شرّع للمسلمين القتال الجهادي الدفاعي الوقائي، كره ذلك الكثيرون منهم، لأن ذلك يعرّضهم للخطر وهم يحبّون الحياة، فنزلت هذه الآية: {كُتب عليكم القتال وهو كره لكم ـ لأنّكم تحبّون الحياة وتكرهون تعريض أنفسكم للخطر، الله يقول لكم: لا تحكموا على المسائل من منطلق الكراهة الشعورية بل ادرسوها في النتائج الكبرى على مستوى عزتكم وكرامتكم وقوتكم كأمة وكمسلمين، فكروا في المسألة التي تمس الأمة في حياتها وموتها ـ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ـ لأن النتائج هي نتائج العواقب ـ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.

وهذه قاعدة يريد الله تعالى للإنسان أن يلتزم بها، أن لا يفكّر في بدايات الأمور بل في نهاياتها، وهذا ما قاله رسول الله (ص) لبعض من استوصاه: "إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً ـ في العواقب ـ فأمضه، وإن يك غيّاً فانتهِ عنه".

أما الآية الثانية، فإنها تتوجّه إلى البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به، فلا يقدّمونه للفقراء الذين جعلهم الله شركاء في مالهم، ولا يقومون بالمسؤوليات التي حمّلهم الله تعالى إياها في أموالهم، عندما يقول: {والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم}، وقد ورد في الأحاديث الشريفة: "إن الله شرّك الفقراء في أموال الأغنياء بما يكفيهم، ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم"، ولكن هؤلاء الذين يملكون المال لا يتحمّلون مسؤوليته في ما حمّلهم الله من مسؤولية، ويحسبون أن حبس المال وعدم إنفاقه خير لهم، لأنه يوفّر أموالهم ويزيد في أرصدتهم، ولكن الله تعالى يقول: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ـ فالله هو الذي قدّر لهم ذلك، وأعطاهم الوسائل التي يملكون بها هذا المال، فالمال مال الله ـ هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيُطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة ـ لأنّهم منعوا الخمس والزكاة والصدقات، فغصبوا بذلك أموال الفقراء، ولذلك سيطوّقهم الله بأموالهم تماماً كما يطوّقهم بالقيود والأغلال، فنتائج حبسهم للمال قد لا يشعرون بها في الحياة، ولكنهم سيعرفون نتائجها بعد الموت ـ ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير}.

الحكمة في التعامل الزوجي

في الآية الثالثة، يتحدث الله تعالى عن علاقة الزوج بزوجته، ومن الطبيعي أن الزواج يخلق بعض المشاكل في ما يواجهه الرجل من مزاج زوجته الذي عاشته من خلال تأثرها ببيئة أهلها، أو أن تعيش الزوجة مزاج زوجها الذي تربى عليه عندما عاش مع أهله، أو ما يحدث من حالات طارئة في المعاشرة في داخل البيت الزوجي، من مشاكل الأولاد والإنفاق وما إلى ذلك. في هذه الصورة، قد يكره الزوج زوجته، وقد يتضايق من بعض مزاجها أو أوضاعها، فيضطهدها، أو يجعل إحساسه الشعوري النفسي مبرراً لأن يطلّقها، وقد يكون للزوجة بعض السلبيات في أخلاقها أو في كلماتها أو في بعض أوضاعها البيتية المتعلقة بالغذاء والكساء وتربية الأولاد، ولكن إلى جانب هذه السلبيات، قد تكون لها إيجابيات كثيرة، فقد تكون صاحبة عقل، أو من أكثر النساء عفّةً، فتحفظ زوجها في نفسها وفي ماله، وقد تكون متديّنة...

فعلى الإنسان أن لا يبادر إلى الخضوع لهذا الإحساس بالكراهة، بل أن يقارن بين السلبيات بنسبة عشرين أو ثلاثين بالمئة، وبين الإيجابيات بنسبة سبعين أو ثمانين بالمئة، أن يدرس الأمر دراسة عقلية بحيث يحسب في كل معاشرته الزوجية حساب الأرباح والخسائر، فإذا كانت الأرباح أكثر فعليه أن يتحمّل السلبيات ويعالجها بحكمته وعقله، وبكل الوسائل التي تنشر السلام في البيت: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن ـ فلا تبادروا إلى التصرف على أساس هذه الكراهة السطحية ـ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}. لا بد أن يدرس الإنسان الأمور دراسة موضوعية إنسانية عقلانية، لأنّ الحياة الزوجية ليست علاقة طارئة، بل هي مكون من العلاقات، إن في العلاقة الزوجية عائلتين تتصاهران، وجيلاً من الأولاد الذين قد ترتبط مصالحهم ويتحرك مستقبلهم من خلال علاقة الزوج بزوجته.

فعلى الزوج أن لا ينظر إلى المسألة من خلال تأثيراته النفسية، بل عليه أن ينظر إلى أنه جزء من كيان ومن عائلة قد تمتد في سلبياتها وإيجابياتها إلى العوائل الأخرى، فعلى الزوجين أن ينظرا إلى أنهما يصنعان جيلاً جديداً، وأن تصرفاتهما سوف تؤدي إلى سقوط هذا الجيل أو إلى ارتفاعه. وإذا كان القرآن قد تحدّث عن الزوج أن لا يبرِّر بعض الكراهة السطحية في الانفصال أو في بعض الأعمال القاسية تجاه زوجته، فالله تعالى يوجّه خطابه أيضاً إلى الزوجة التي تملك بعض مواقع الإرباك في الحياة الزوجية، لأن الفكرة واحدة.

النظر إلى الآخرة

فعلى الإنسان دائماً ـ في المنهج الإسلامي ـ أن لا يرتبط بالأمور السطحية، بل أن يرتبط بالعمق من الأمور، أن لا ينظر إلى الدنيا وحدها في أرباحه وخسائره، بل أن ينظر إلى الآخرة، وهذا ما قاله الإمام عليّ(ع): "ما خير بخير بعده النار، وما شر بشر بعده الجنة، وكل نعيم دون الجنة فهو محقور ـ حاول أن تحصّل ما تحصّل، كن من أصحاب الملايين والجاه الكبير والسلطة القاهرة، كن من الذين يعيشون الحياة في كل شهواتها ولذاتها وأطماعها، ولكن ذلك لا يجعلك كبيراً إذا كانت آخرتك حقيرة، لأنك ستترك ذلك كله وتواجه الآخرة وحدك: {وكلّهم آتيه يوم القيامة فرداً}، {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم} ـ وكل بلاء دون النار فهو عافية". ويقول(ع): "ما خير بخير لا ينال إلا بشر، ويسر لا ينال إلا بعسر، إن الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشرّ، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا".

هذه هي القاعدة الإسلامية، أن نفرّق بين مزاجنا فلا نستسلم له، وبين مبادئنا أن ننفتح عليها، بين حب الحياة وحب الله، بين خير الدنيا وخير الآخرة، حتى نعيش مع الله تعالى وننال رضاه، ولا شيء غير رضاه: {ورضوان من الله أكبر}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وواجهوا الموقف كما يريد تعالى: {إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، يقاتلون في سبيله قتالاً سياسياً وثقافياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً، لأن القوم الذين يعادون الله ورسوله، ويعادون المسلمين والمستضعفين، يعملون على أن يسقطوا المسلمين في دينهم وكل اقتصادهم وأمنهم، لأن المعركة مفتوحة على مستوى العالم بين المستضعفين والمستكبرين، وبين الظالمين والمظلومين، وبين المسلمين والكافرين.

وعلينا أن لا نقف على الحياد لنسقط أمام كل تحدياتهم وهجماتهم، بل علينا أن نأخذ بأسباب القوة والعزة، بأن نتحرك بكل الوسائل التي تؤكد عزتنا وقوتنا، حتى ننتصر لله تعالى في دينه، وننتصر لله في المؤمنين من عباده: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّت أقدامكم}. إن الله لا يحتاج إلى أن ننصره بالقوة لأنه القوي الذي يعطي القوة لنا جميعاً، بل أن ننصر دينه وأمته وكل القيم الكبرى التي أرادها الله تعالى. ونحن نواجه الكثير الكثير من التحديات، ولا بد أن يكون لنا وعي هذه التحديات حتى نردّها.

فلسطين: ضغوط أمريكية إسرائيلية متزايدة

ما هي الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية في فلسطين؟ أوّلاً: التلويح بالانسحاب من مستوطنات غزة كإنجاز إسرائيلي كبير للإيحاء بأنها تتحرك في خط السلام، في خطوات معقّدة للتأجيل من موعد إلى موعد، تحت تأثير المتطرفين الذين لا تتهمهم أمريكا بالإرهاب لأنهم يهود... وثانياً: اختراق المزيد من المواقع الفلسطينية، تارةً من خلال العمليات الأمنية في اعتقال أو اغتيال النشطاء الفلسطينيين من شباب الانتفاضة، وأخرى من خلال تعزيز حركة الاستيطان في الضفة الغربية من دون معارضة دولية فاعلة، وثالثة في الاستمرار بالعمل بالجدار العنصري الفاصل الذي يمتدُّ داخل المساحات الواسعة في الأراضي الفلسطينية، وطرد أهلها منها أو خنق وجودهم داخلها، من دون اعتبار للقرارات الدولية السياسية والقضائية، مع حماية أمريكية من أي إدانة لإسرائيل في ذلك كله من قِبَل المجتمع الدولي.

وإلى جانب ذلك، فإن أمريكا وإسرائيل تضغطان على السلطة الفلسطينية للقيام بتفكيك الحركات الفلسطينية من فصائل الانتفاضة ونزع أسلحتها، كشرط للدخول في المفاوضات السياسية مع السلطة، مما يعرف الجميع أنّه يؤدي إلى حرب فلسطينية داخلية، لأن الشعب الفلسطيني يرفض ذلك كله. ثم إننا نقرأ في التصريحات الصهيونية رفضها لمشاركة حماس في الانتخابات النيابية، بزعم أنها لن تكون حرة إذا شاركت حماس فيها، ثم الإعلان بأنّ السلطة لا تصلح لأن تكون شريكاً في المفاوضات.

إن الهجوم الأمريكي ـ الإسرائيلي على المحور الفلسطيني يستهدف تقديم التبريرات للتحلّل من الوعود الأمريكية في تأسيس الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، على أساس أن الفلسطينيين لا يساعدونها في ذلك، وهذا ما لاحظناه في الزيارات المتتالية التي يقوم بها المندوبون الأمريكيون للأراضي المحتلة، من دون أن يقدّموا أيّ حلّ لأية مشكلة فلسطينية ناجمة عمّا تقوم به إسرائيل من العدوان، ولكنهم يعملون على تقديم النصائح الملغومة للسلطة الفلسطينية المؤدية إلى الفوضى التي تُسقط الوضع السياسي والأمني على رؤوس الجميع.

ثم نتابع زيارات الرئيس الروسي ورئيس الوزراء التركي، من دون أن يكون لذلك أيّ فائدة في قضية التحرير، وهذا ما عبّر عنه أردوغان نفسه، بأن الفلسطينيين يعيشون في سجن كبير مفتوح، من دون أن يملك أيّ حل، لأن تركيا لا تملك أيّ موقع للقوة أو للضغط على إسرائيل.

تعثّر الخطة الأمريكية في المنطقة

أما الخطة الأمريكية في المنطقة، فلا تزال تتعثر في الإخفاقات العسكرية في العراق وفي أفغانستان، فهي لا تستطيع ـ على الرغم من تصريحات الرئيس بوش بالتقدّم في نشر الديمقراطية هناك ـ أن تثبت للعراقيين أنّها قدّمت لهم الحل الصحيح لمشاكلهم من ناحية الأمن والاقتصاد، لأن المجازر اليومية التي يسقط فيها الآلاف من القتلى والجرحى لا تزال تفرض نفسها على الواقع كله، على الرغم من تأليف حكومة منتخبة متعثرة بالخلافات في توزيع الحصص الطائفية. إنها الساحة الدموية التي أرادتها واشنطن نموذجاً للمنطقة، فتعثّرت فيها وغرقت في رمالها المتحركة.

ثم قفزت واشنطن إلى لبنان، لتقدّمه إلى الرأي العام الأمريكي كنموذج للانتصار في برنامجها تحت عنوان "نشر الديمقراطية"، في الوقت الذي يعرف الجميع أنّ لبنان كان ديمقراطياً منذ الأربعينات، وما زالت تواجه سوريا بالضغط والتشهير السياسي والإعلامي، ومحاولة العبث بأوضاعها الداخلية من خلال عملائها، لأنها لم تستجب للأوامر الإمبراطورية المفروضة عليها أمريكياً، هذا مع ضغوطها السياسية والاقتصادية على إيران، عبر الدول الأوروبية، في مشروعها النووي السلمي، لأنها لا تريد لها أن تملك الخبرة النووية السلمية التي تنمّي اقتصادها، حيث ترفض للدول العربية والإسلامية أن تحصل على القوة، مع حمايتها لإسرائيل في حصولها على الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، ومنع الأمم المتحدة من مطالبتها بتدميرها، ومنع وكالة الطاقة الذرية من الضغط عليها للتوقيع على الامتناع عن صناعتها.

إن أمريكا تستعرض أمام العالم قوّتها التدميرية، وتتباهى بقدرتها ـ من خلال جيشها ـ بالانتصار على أية دولة في العالم، وبإمكاناتها الاقتصادية الهائلة في الضغط على الاقتصاد العالمي، الأمر الذي جعلها مشكلة للشعوب المستضعفة، ما يفرض على هذه الشعوب أن تتضامن أمام هذه الإمبراطورية التي تتحدث عن حقوق الإنسان كوسيلة خادعة لإسقاط الإنسان في كل حقوقه، والتي تتحدث عن الحرية لتسيطر على المستضعفين باسم الحرية.

وعلى العراقيين ـ بالذات ـ أن يبذلوا المزيد من الجهود لتوحيد صفوفهم الداخلية، والأخذ بأسباب الوحدة الوطنية والإسلامية، وتركيز كيانهم السياسي والقانوني والأمني الموحَّد، ودعوة الاحتلال للخروج من العراق وإسقاط أحلامه في السيطرة على ثرواته الغنية لحساب شركاته الاحتكارية التي سرقت من أمواله الكثير في مشاريع وهمية حتى الآن.

لبنان: الوطن فوق الاعتبارات والأشخاص

أما في لبنان، فإن على الشعب اللبناني أن يطالب أمريكا وفرنسا بعدم التدخّل في الشؤون اللبنانية، ليمارس أموره في إدارة شؤونه بنفسه، وأن يمتنع عن إثارة المطالب والغرائز الطائفية حتى في جدالهم حول قانون الانتخاب، ولتكن المواطنية للإنسان اللبناني هي الأساس في القانون وفي الأمن والاقتصاد والعلاقات والخدمات الحيوية، وأن يدرسوا كل اللاعبين على الأرض السياسية، ليقرأوا تاريخ كل واحد منهم، بعيداً عن الصنمية في عبادة الأشخاص، وليفكروا في كل المشاريع المطروحة على أساس ما هي مصلحة الوطن لا على أساس مصلحة المقامات العليا، سواء كانت مقامات طائفية أو حزبية أو شخصانية.

إن الوطن فوق الاعتبارات والأشخاص، وعلى الجيل الجديد أن يحافظ على تطلّعاته المستقبلية، وعلى طهارته السياسية، قبل أن يقذّرها الذين يصنعون الوحول في كل مشاريعهم، ليبتعدوا بلبنان عن طهارة الينابيع الإنسانية وصفائها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية