الإسلام أمانة الله وأمانة الرسول في أعناقنا...

الإسلام أمانة الله وأمانة الرسول في أعناقنا...

في ذكرى المبعث وذكرى الإسراء والمعراج:
الإسلام أمانة الله وأمانة الرسول في أعناقنا...

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

المبعث: ولادة الإسلام:

في السابع والعشرين من شهر رجب مناسبتان: المناسبة الأولى هي مبعث النبي(ص)، والمناسبة الثانية هي مناسبة الإسراء والمعراج. وفي هاتين المناسبتين، ننفتح على الإسلام وعلى الرسول. فذكرى المبعث هي ذكرى ولادة الإسلام الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد(ص) ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، لأنهم كانوا في جاهلية عمياء، وفي ظلمة الشرك الّذي جعلهم يتحركّون بالخرافة، ليعبدوا حجارة صمّاء، لأنهم كانوا لا يرتكزون على قاعدة عقلية ينفتحون من خلالها على الحقيقة في معرفة الله، وفي الالتزام بتوحيده وبطاعته وعبادته، ولا ينطلقون في علاقاتهم الإنسانية على أساس احترام الإنسان للإنسان والعدالة التي تعطي لكل إنسان حقه.

وقد تحدَّث الله تعالى عن هذه البعثة في أكثر من آية، فقد قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الجمعة/2). فالنبي(ص) جاء بالكتاب الذي أوحى الله به إليه من أجل أن يتلو عليهم آياته، ومن أجل أن يزكّي عقولهم وقلوبهم وحياتهم، وليعلّمهم القرآن في كل أسرار آياته وآفاق معانيه، حتى يكون الإنسان المسلم قرآنياً يفكّر على أساس استلهام القرآن، ويتحرك على أساس حركة القرآن، تماماً كما هو الرسول الذي كان أول المسلمين وكان خُلقه القرآن، فكان(ص) يجسّد في كلِّ أخلاقه أخلاق القرآن، بحيث كان الناس يقرأون القرآن في الكتاب ويقرأونه في سيرة الرسول(ص).

ولذلك، أراد الله تعالى للناس أن يقتدوا بالرسول(ص) عندما يريدون التحرك بسيرته، وأن يتّبعوه، لأنه كان إسلاماً يتجسّد وكتاباً يتحرك. كان الرسول هو القرآن الناطق، وكان القرآن هو الرسول الصامت. وقد تحدث الله تعالى عن الرسول في أخلاقيته وإنسانيته وانفتاحه على آلام الناس من حوله ورأفته بهم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة/128). وهكذا أطلق الله تعالى الرسالة في حجم الناس كلهم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}(البقرة/119). فلم يكن(ص) رسولاً لأهل مكة أو العرب، بل كان رسولاً للإنسانية كلها، وكان يخطط من أجل أن يفتح قلوب الناس كلهم على الحق والإنسانية، وكل ما يقيم العلاقات بينهم في خط إنسانيتهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات/13).

العدالة في العلاقات بين الناس:

وقد أكّد الإسلام العدالة في كلِّ علاقات الناس بعضهم ببعض، فلكل صاحب حق أن يحصل على حقه، وليس لأحد أن يظلم أحداً، فالعدالة للناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم، فليس للمسلمين أن يظلموا الكافرين إذا كان لهم حق، وليست هناك قرابة في قضية العدالة، كما أنه ليست هناك عداوة في الانحراف عن خطِّ العدالة: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(الأنعام/152)، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة/8). فالله تعالى أنزل كلَّ رسالاته من أجل العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(الحديد/25).

لذلك، معنى أن تكون مسلماً، أن تكون العادل مع العدوّ والصديق، ومع القريب والبعيد، أن تكون عادلاً في علاقتك بربك، لأن لربك حقاً عليك في توحيده، وأن تكون عادلاً في علاقتك بنفسك، لأنه لا يجوز لك أن تظلم نفسك فتورّطها في ما يغرقها في الدنيا والآخرة، وأن تكون عادلاً مع أبيك وأمك وأخوانك، ومع زوجك وكلّ الناس الذين تتعامل معهم ويتعاملون معك في الحياة، ولذلك، فإن شعار يوم القيامة: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}(غافر/17)، هو يوم العدل كله، ويأتي الناس ـ كل الناس ـ ليقفوا أمام الله تعالى، يوم المحكمة العادلة، ليقول المظلوم: "يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان، فقد ظلمني حقي في مال أو عرض أو ما إلى ذلك".

لذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يعي موقفه وموقعه، ليأتي إلى الله نقي الثوب، وتلك هي قيمة الإسلام؛ أنه دين العدل. وعلى ضوء هذا، فإن الإسلام يريد من المسلمين أن يقفوا في أية قضية عدل إلى جانب المظلوم، ليعاونوه على أن يأخذ حقه من ظالمه، ولعلكم تعرفون وصية عليّ(ع) لولديه الحسن والحسين(ع) في آخر أيامه، عندما قال: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».

إن عظمة الإسلام، أنه جاء من أجل أن يجعل العقل الحجة بين الله وبين عباده، وأن يجعله المنطلق الذي ينتج للإنسان الحقيقة، فيميّز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الاستقامة والانحراف. وأراد الله للإنسان أن يأخذ بأسباب العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(الزمر9)، وأراد له أن يستزيد من العلم، فالله لا يكتفي من المسلمين أن يتعلّموا، بل أن يبلغوا القمة في ما يأخذونه من أسباب العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(طه/114).

الصبر على الأذية ومواجهة التحدي:

في ذكرى المبعث، الذي هو يوم ولادة الإسلام، والذي تحرك فيه الرسول(ص) وانطلق ليواجه الشرك والمشركين، وتعرّض لكل أنواع الأذى، حتى قال: «ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت»، علينا أن ننطلق في خط الرسول(ص) الذي كان شعاره: «إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي». وهذا ما يجب أن يقوله كلُّ الدعاة إلى الله، مهما سبّهم الناس واضطهدوهم أن يقولوا: «إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي»، فبذلك انتصر النبي(ص)؛ بصبره وجهاده ومواجهته للتحدي، وهكذا انطلق بهجرته وأسَّس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، وخاض كل الحروب الدفاعية ضد الشرك والمشركين، حتى جاء النصر الإلهي بفتح مكة.

إنَّ الإسلام هو أمانة الله في أعناقنا، وأمانة رسول الله في أعناقنا، وعلينا أن نلتزمه ونثبت عليه، وأن نربي نساءنا ورجالنا وأولادنا عليه. إننا مسؤولون في جيلنا هذا عن نقل الإسلام إلى الأجيال الأخرى، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومسؤولون عن الإسلام في مواجهة كلِّ الذين يكيدون له ويريدون إسقاطه وتشويه صورته، وعلى كل واحد منا أن يتقدّم الصفوف ليكون أول المسلمين والداعية إلى الإسلام: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(آل عمران/104).

إنَّ الكفر العالمي من جهة، والاستكبار العالمي من جهة أخرى، يعملان على إسقاط مواقعنا، فلا يجوز لأيِّ مسلم أن يتحرك بالفتنة بين المسلمين، ولا يجوز للمسلمين أن يسبّ بعضهم مقدّساتهم بعض، لأن الشرك كله والاستكبار كله، زحفاً إلى الإيمان كله وإلى التوحيد كله. إننا نتحدث عن كلمة رسول الله(ص)، عندما عاش المسلمون الزلزال في وقعة الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}(الأحزاب/10-11). وانطلق عمرو بن عبد ودّ ليتحدى المسلمين، والنبي(ص) يقول لهم: «من لعمرٍ وأنا ضامن له على الله الجنة»، ثلاث مرات، ولم يقم في المرات الثلاث إلا عليّ(ع)، وهو يقول: «أنا له يا رسول الله»، وبرز إلى الميدان، والنبي(ص) يقول: «لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله». إنّ علينا أن نتقمّص شخصية عليّ(ع)، أن تكون الأمة عليّاً، بحيث تتجمّع كل صلابة عليّ وجهاده وإخلاصه في الأمة، ليبرز الإيمان كله إلى الكفر كله والاستكبار كله.

الإسراء: المعجزة الإلهية:

وعندما ننطلق إلى الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الإسراء/1)، نجد رسول الله(ص)، بقدرة الله، وبالمعجزة الإلهية، ينطلق في ليلة واحدة ليصل إلى بيت المقدس، ليلتقي ـ كما جاء في الرواية ـ بالأنبياء كلّهم، لأنه يمثّل خاتمة الأنبياء، وليصلّي بهم، ولينفتح على كل آيات الله، وليربط في إسرائه بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، لتكون كرامة المسجد الحرام من كرامة المسجد الأقصى، وليكون المسلمون مسؤولين عن المسجد الأقصى كما هم مسؤولون عن المسجد الحرام، في كل ما يواجهونه، لأن المسجد الأقصى يمثل مسجد الرسالات الأولى، ولأن المسجد الحرام يمثل موقع رسالة إبراهيم(ع) التي انتهت برسالة النبي محمد(ص).

علينا أن نعيش في أجواء الإسراء، كما نعيش في أجواء المعراج الذي رفع الله تعالى فيه نبيّه إلى مواقع القرب منه، ليعطيه ثقافة السماء، كما أعطاه ثقافة الأرض. وهكذا جمع الله تعالى لنبيّه، في كتابه الذي أوحى به إليه، وبما ألهمه إيّاه في كل مواقع التشريع، وفي رحلته إلى المسجد الأقصى، وفي رحلته إلى السماء، جمع له علم السماء والأرض، هذا العلم الذي أعطاه لعليّ(ع) الذي قال: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب»، حتى قال النبي(ص): «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليدخل من الباب».

إنّ هذه الذكريات الإسلامية التي تفتح عقولنا بالحق، وتفتح قلوبنا بالمحبة والرحمة، وتفتح حياتنا بالخير كلِّه، وتجعلنا نعمل من أجل أن نحصل على مواقع القرب من الله، علينا أن نعيشها حتى نستطيع أن نتحمّل مسؤوليتها.

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المرحلة الصعبة التي تعيشونها في هذه الأيام، بالوحدة التي تشدّكم جميعاً إلى مسؤولياتكم، لتكونوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، ولتواجهوا الاستكبار كله والكفر كله بالموقف القويّ الصامد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ولتتحمَّلوا كل مسؤولياتكم عن كل مواقع المسلمين، استجابةً لقول النبي(ص): «من أصبح لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»، و«من سمع منادياً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم». أن ننطلق جميعاً كأمة واحدة، لا تفرقنا مذاهبنا ولا قومياتنا ولا أعراقنا. أن نكون مسلمين، لنفتح كل حركتنا في كل مواقعنا على أساس أن يكون الإسلام هو القاعدة التي تخططِّ وتنظّم وتدفع الجميع إلى مواقع النصر أو الشهادة. فتعالوا لنواجه ما يحيطنا من مشاكل وتحديات.

أمريكا: الخضوع للاستراتيجية الإسرائيلية:

لا تزال القضية الفلسطينية في دائرة الاهتزاز على الصعيدين الأمني والسياسي، فالصراع في داخل "الليكود" بين شارون ونتنياهو، قائم على أساس التنافس بينهما أيّهما الذي يصادر أكثر من الأرض الفلسطينية، ويضغط على الشعب الفلسطيني كوسيلة لإلغاء مشروع الدولة الفلسطينية، الأمر الذي يوحي بأن هناك عملاً يستهدف إقفال الملف الفلسطيني عند النقطة التي يريدها اليهود بقيادة "الليكود"، ولا سيما من قِبَل شارون، في عملية تأكيد على تفكيك البنية التحتية لفصائل الانتفاضة بالقوة من قِبَل السلطة، تحت تأثير معالجة ما يسمّونه "الإرهاب"، ما قد يؤدي إلى فتنة داخلية، مع الحديث عن فقدان الشريك الفلسطيني، لاستبعاد مفاوضات الحلِّ النهائي، وإرباك مسألة الانسحاب من غزة، بإثارة الجدل، وتمييع الموقف حول المعابر على مستوى البر والبحر والجوّ، إضافةً إلى توسعة المستوطنات، واستكمال الجدار العنصري الذي يجتاح الضفة الغربية ومعها القدس.

أما أمريكا، فلا تزال تتحدث عن "شجاعة" شارون بالانسحاب من مستوطنات غزة، ولكنها تهمل مسألة الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وإلغاء الجدار، وتنفيذها خارطة الطريق إلا بالشروط الإسرائيلية، من خلال موعظة الرئيس الأمريكي المتكرّرة عن "الحقائق الساطعة على الأرض" في واقع المستوطنات الكبرى في الضفة، والتي هي ـ باعترافه ـ تمنع قيام الدولة الفلسطينية.

إنَّ أمريكا ـ ومعها اللّجنة الرباعية الدولية ـ تخضع للاستراتيجية الإسرائيلية، لأنها لا تملك الضغط على إسرائيل التي تعطي الانطباع بأنها تحكم الغرب كله، وتُخضع سياسته في المنطقة لسياستها، حتى إنّ أمريكا تطوف العالم العربي والإسلامي للضغط على دوله للاعتراف بإسرائيل، لأن ذلك هو الذي يطوّر علاقاتها بها، وقد أعلنت باكستان اعترافها بإسرائيل، والتخطيط لعلاقات دبلوماسية معها، بموافقة دول عربية وإسلامية ـ بما فيها السلطة الفلسطينية ـ ووساطة تركية، كما أعلن وزير حرب إسرائيل، أن الدول العربية بأجمعها "تعترف بالدولة العبرية سراً".

إننا نرى في ذلك كله تشجيعاً لإسرائيل في الاستمرار بالضغط على الشعب الفلسطيني واستكمال حصارها لـه، وممارسة اعتقال شبابه وقتل مجاهديه، لأن الدول العربية والإسلامية لا تريد الاعتراض عليها، لأنَّ أمريكا التي تسيطر على العالمين العربي والإسلامي، تأمر الجميع بالخضوع للدولة العبرية في قيادتها للشرق الأوسط، بالاشتراك مع أمريكا في سياستها وأمنها، على أساس التحالف المخابراتي بين الموساد والسي. أي. إيه.

إننا نريد للفلسطينيين أن ينتبهوا إلى خطورة ما يجري، وألا ينساقوا وراء أوهام قد يزرعها بعض العرب ممن يرتبطون بإسرائيل أو باللعبة الأمريكية، من دون أن يحصلوا على أيّ قدر من الاحترام منهما، لأن إسرائيل وأمريكا تحتقران العالم العربي والإسلامي اللذين سقطا تحت سيطرتهما بالضربة القاضية، ونريد للشعوب العربية والإسلامية ألا يغفلوا عن القضية الفلسطينية، التي إذا سقطت فلن يبقى لها أيّ عزة أو كرامة أو مستقبل كبير.

العراق: الاحتلال يتحمل مسؤولية المجزرة:

أما في العراق، فإن شبح الموت يخيّم في كل مكان، حتى في المواكب الدينية، وخصوصاً ما حدث في مناسبة زيارة المؤمنين إلى مقام الإمام موسى الكاظم(ع) في الكاظمية، من المجزرة التي حصدت المئات في موقع الجسر بالتدافع الجماهيري، بفعل الإشاعة الوحشية أو بقصف الزائرين، ما جعل المسألة في حجم الكارثة، حيث سقطت أجساد الطفولة البريئة إلى جانب النساء والكهول والشيوخ والشباب، في مشهد جنائزي يعيدنا إلى ذاكرة التاريخ بكل مآسيه ومظالمه.

إننا في الوقت الذي نواجه كلَّ هذه المأساة الدامية الفظيعة بالألم والاستنكار، ونستمطر الرحمة للضحايا ونعزي أهاليهم، وندعو الله تعالى بالشفاء للجرحى، نرى أن الاحتلال هو الذي يتحمّل المسؤولية عن ذلك كله، لأنه هو الذي أدخل العراق في هذا المناخ الأمني الذي أدى إلى الفوضى الأمنية المتعددة الأبعاد والأهداف والوسائل والاتجاهات، إضافةً إلى استراتيجيته في إرباك المنطقة كلها بما يسمّيه "الفوضى البنّاءة"، للوصول إلى مشاريعه الاستكبارية ومصالحه الاستراتيجية، في الوقت الذي يوزّع تهديداته واتهاماته لإيران، كتلك التي أطلقها الرئيس شيراك في الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا في الخارج، والذي هدد فيه إيران باللجوء إلى مجلس الأمن لفرض العقوبات عليها "إذا لم تعد إلى التزاماتها بتعليق النشاطات المتعلقة بالمواد الانشطارية، وفقاً لما يطالب به اتفاق باريس"، لأن الغرب لا يريد لإيران أن تملك الاستقلال بالخبرة العلمية التي تبني اقتصادها بشكل فاعل. وإلى جانب ذلك، فإن أمريكا وفرنسا تهددان سوريا بعقوبات وشيكة عليها، بداعي حصولهما على قرائن قاطعة بأنها تملك أسلحة بيولوجية، أو باتهامها باغتيال الرئيس الحريري، ممّا اعتدناه من الاتهامات المخابراتية لدول المنطقة، مع السكوت عن كلِّ أسلحة الدمار الشامل لدى إسرائيل ، وعن كلِّ جرائمها الوحشية للمنطقة كلها.

إننا ندعو العراقيين ـ أمام هذه المآسي والكوارث ـ إلى التوحّد حول هدف واحد يتمثَّل في إخراج المحتل، والعمل لبناء عراق موحّد جديد بعيد عن أشكال التقسيم بعناوينه القديمة والمستحدثة، وأن يصار إلى اعتماد مسودة دستور يراعي حقوق الجميع، بعيداً عن الاستغراق في الجوانب الطائفية والعرقية، ووصولاً إلى العمل بروحية الإسلام الجامعة الشاملة التي تحتضن الأديان والأعراق كلَّها، لأن ذلك هو الذي ينقذ العراق ـ والأمَّة معه ـ قبل أن تفقد الأمة توازنها في الساحات الأخرى بين ما هو وحش الاحتلال وما هو وحش الفوضى الداهمة على كلِّ المستويات.

لبنان: إعادة قضية الصدر إلى دائرة الضوء:

أما لبنان، فإنَّنا نستذكر غياب شخصية قيادية رائدة منفتحة على الخير كله، والحق كله، والأمة كلها، وهي شخصية السيد موسى الصدر الذي كانت جريمة إخفائه جريمة في مستوى العصر، من دون أن نجد هناك اهتماماً دولياً بالضغط على الدولة التي تتحمّل المسؤولية كلها في ذلك، وربما في اغتياله _ وقد كانت أهمية هذا الحدث _ الجريمة، أن ينطلق لبنان في المطالبة بلجنة تحقيق دولية، ولكن قواعد اللعبة اللبنانية والعربية والدولية، أهملت القضية في بُعدها المتنوّع، واكتفت بالإعلام الاحتفالي من دون أية مسؤولية واقعية. إننا نطالب بإعادة هذه القضية إلى دائرة الضوء، بالتحرك الجاد لكشف النقاب عنها، وتحميل المسؤولية للقائمين على هذه الجريمة الكبرى.

الوعي للمكائد ومخطّطات الفتنة:

ومن جانب آخر، فإننا نريد للبنانيين الغارقين في أجواء التهويل والتخويف والإرباك الأمني والسياسي، أمام بعض الخطوات الأمنية والتفاعلات السياسية في دائرة التقرير، والاهتزازات الداخلية والإشاعات التي يتداولها الناس، مما يثيره المخططون للفتنة، إننا نريد لهم جميعاً، أن يكونوا الواعين لكل ما يثار في ساحاتهم من مواضيع، وما يُطرح من قضايا، لأننا في الوقت الذي نريد جميعاً أن تبرز الحقيقة واضحةً بكل معطياتها وخلفياتها وامتداداتها، نؤكِّد ضرورة عدم استباق الأمور، وعدم السَّير في طريق التَّأويلات والتحليلات التي قد تفتح النوافذ للفتنة، من حيث تأتي الرياح الدولية والإقليمية، وحيث نزعم أن ثمة أطرافاً دولية تستغل الواقع اللبناني لإثارته في الاتجاه الذي يعزِّز مصالحها في المنطقة.

إننا نريد للدولة وسط هذه الأجواء، للدولة ألا تغفل عن واجباتها الأخرى، وبخاصة في الأمور الاقتصادية والأمنية والحياتية بشكل عام، لأننا نريد للعدالة أن تشمل كل خطط الدولة في كل قضايا الشعب، ولا سيما كشف الحقيقة في الذين قادوا البلد إلى جهنم المديونية، أو الذين سرقوا وأهدروا وجعلوا الطريق سهلاً أمام الوصايات الخارجية، ثم جاؤوا ليضعوا اللبنانيين أمام خيارين: الارتهان للخارج، أو انتظار فتنة تأكل الأخضر واليابس.

أيها المسؤولون: لقد جئتم لحل مشكلة الإنسان في لبنان بالحلول الواقعية العادلة، فلا تكرروا التجربة لتكونوا، كما كان الذين من قبلكم، مشكلة لبنان.

في ذكرى المبعث وذكرى الإسراء والمعراج:
الإسلام أمانة الله وأمانة الرسول في أعناقنا...

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

المبعث: ولادة الإسلام:

في السابع والعشرين من شهر رجب مناسبتان: المناسبة الأولى هي مبعث النبي(ص)، والمناسبة الثانية هي مناسبة الإسراء والمعراج. وفي هاتين المناسبتين، ننفتح على الإسلام وعلى الرسول. فذكرى المبعث هي ذكرى ولادة الإسلام الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد(ص) ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، لأنهم كانوا في جاهلية عمياء، وفي ظلمة الشرك الّذي جعلهم يتحركّون بالخرافة، ليعبدوا حجارة صمّاء، لأنهم كانوا لا يرتكزون على قاعدة عقلية ينفتحون من خلالها على الحقيقة في معرفة الله، وفي الالتزام بتوحيده وبطاعته وعبادته، ولا ينطلقون في علاقاتهم الإنسانية على أساس احترام الإنسان للإنسان والعدالة التي تعطي لكل إنسان حقه.

وقد تحدَّث الله تعالى عن هذه البعثة في أكثر من آية، فقد قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الجمعة/2). فالنبي(ص) جاء بالكتاب الذي أوحى الله به إليه من أجل أن يتلو عليهم آياته، ومن أجل أن يزكّي عقولهم وقلوبهم وحياتهم، وليعلّمهم القرآن في كل أسرار آياته وآفاق معانيه، حتى يكون الإنسان المسلم قرآنياً يفكّر على أساس استلهام القرآن، ويتحرك على أساس حركة القرآن، تماماً كما هو الرسول الذي كان أول المسلمين وكان خُلقه القرآن، فكان(ص) يجسّد في كلِّ أخلاقه أخلاق القرآن، بحيث كان الناس يقرأون القرآن في الكتاب ويقرأونه في سيرة الرسول(ص).

ولذلك، أراد الله تعالى للناس أن يقتدوا بالرسول(ص) عندما يريدون التحرك بسيرته، وأن يتّبعوه، لأنه كان إسلاماً يتجسّد وكتاباً يتحرك. كان الرسول هو القرآن الناطق، وكان القرآن هو الرسول الصامت. وقد تحدث الله تعالى عن الرسول في أخلاقيته وإنسانيته وانفتاحه على آلام الناس من حوله ورأفته بهم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة/128). وهكذا أطلق الله تعالى الرسالة في حجم الناس كلهم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}(البقرة/119). فلم يكن(ص) رسولاً لأهل مكة أو العرب، بل كان رسولاً للإنسانية كلها، وكان يخطط من أجل أن يفتح قلوب الناس كلهم على الحق والإنسانية، وكل ما يقيم العلاقات بينهم في خط إنسانيتهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات/13).

العدالة في العلاقات بين الناس:

وقد أكّد الإسلام العدالة في كلِّ علاقات الناس بعضهم ببعض، فلكل صاحب حق أن يحصل على حقه، وليس لأحد أن يظلم أحداً، فالعدالة للناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم، فليس للمسلمين أن يظلموا الكافرين إذا كان لهم حق، وليست هناك قرابة في قضية العدالة، كما أنه ليست هناك عداوة في الانحراف عن خطِّ العدالة: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(الأنعام/152)، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة/8). فالله تعالى أنزل كلَّ رسالاته من أجل العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(الحديد/25).

لذلك، معنى أن تكون مسلماً، أن تكون العادل مع العدوّ والصديق، ومع القريب والبعيد، أن تكون عادلاً في علاقتك بربك، لأن لربك حقاً عليك في توحيده، وأن تكون عادلاً في علاقتك بنفسك، لأنه لا يجوز لك أن تظلم نفسك فتورّطها في ما يغرقها في الدنيا والآخرة، وأن تكون عادلاً مع أبيك وأمك وأخوانك، ومع زوجك وكلّ الناس الذين تتعامل معهم ويتعاملون معك في الحياة، ولذلك، فإن شعار يوم القيامة: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}(غافر/17)، هو يوم العدل كله، ويأتي الناس ـ كل الناس ـ ليقفوا أمام الله تعالى، يوم المحكمة العادلة، ليقول المظلوم: "يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان، فقد ظلمني حقي في مال أو عرض أو ما إلى ذلك".

لذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يعي موقفه وموقعه، ليأتي إلى الله نقي الثوب، وتلك هي قيمة الإسلام؛ أنه دين العدل. وعلى ضوء هذا، فإن الإسلام يريد من المسلمين أن يقفوا في أية قضية عدل إلى جانب المظلوم، ليعاونوه على أن يأخذ حقه من ظالمه، ولعلكم تعرفون وصية عليّ(ع) لولديه الحسن والحسين(ع) في آخر أيامه، عندما قال: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».

إن عظمة الإسلام، أنه جاء من أجل أن يجعل العقل الحجة بين الله وبين عباده، وأن يجعله المنطلق الذي ينتج للإنسان الحقيقة، فيميّز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الاستقامة والانحراف. وأراد الله للإنسان أن يأخذ بأسباب العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(الزمر9)، وأراد له أن يستزيد من العلم، فالله لا يكتفي من المسلمين أن يتعلّموا، بل أن يبلغوا القمة في ما يأخذونه من أسباب العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(طه/114).

الصبر على الأذية ومواجهة التحدي:

في ذكرى المبعث، الذي هو يوم ولادة الإسلام، والذي تحرك فيه الرسول(ص) وانطلق ليواجه الشرك والمشركين، وتعرّض لكل أنواع الأذى، حتى قال: «ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت»، علينا أن ننطلق في خط الرسول(ص) الذي كان شعاره: «إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي». وهذا ما يجب أن يقوله كلُّ الدعاة إلى الله، مهما سبّهم الناس واضطهدوهم أن يقولوا: «إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي»، فبذلك انتصر النبي(ص)؛ بصبره وجهاده ومواجهته للتحدي، وهكذا انطلق بهجرته وأسَّس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، وخاض كل الحروب الدفاعية ضد الشرك والمشركين، حتى جاء النصر الإلهي بفتح مكة.

إنَّ الإسلام هو أمانة الله في أعناقنا، وأمانة رسول الله في أعناقنا، وعلينا أن نلتزمه ونثبت عليه، وأن نربي نساءنا ورجالنا وأولادنا عليه. إننا مسؤولون في جيلنا هذا عن نقل الإسلام إلى الأجيال الأخرى، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومسؤولون عن الإسلام في مواجهة كلِّ الذين يكيدون له ويريدون إسقاطه وتشويه صورته، وعلى كل واحد منا أن يتقدّم الصفوف ليكون أول المسلمين والداعية إلى الإسلام: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(آل عمران/104).

إنَّ الكفر العالمي من جهة، والاستكبار العالمي من جهة أخرى، يعملان على إسقاط مواقعنا، فلا يجوز لأيِّ مسلم أن يتحرك بالفتنة بين المسلمين، ولا يجوز للمسلمين أن يسبّ بعضهم مقدّساتهم بعض، لأن الشرك كله والاستكبار كله، زحفاً إلى الإيمان كله وإلى التوحيد كله. إننا نتحدث عن كلمة رسول الله(ص)، عندما عاش المسلمون الزلزال في وقعة الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}(الأحزاب/10-11). وانطلق عمرو بن عبد ودّ ليتحدى المسلمين، والنبي(ص) يقول لهم: «من لعمرٍ وأنا ضامن له على الله الجنة»، ثلاث مرات، ولم يقم في المرات الثلاث إلا عليّ(ع)، وهو يقول: «أنا له يا رسول الله»، وبرز إلى الميدان، والنبي(ص) يقول: «لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله». إنّ علينا أن نتقمّص شخصية عليّ(ع)، أن تكون الأمة عليّاً، بحيث تتجمّع كل صلابة عليّ وجهاده وإخلاصه في الأمة، ليبرز الإيمان كله إلى الكفر كله والاستكبار كله.

الإسراء: المعجزة الإلهية:

وعندما ننطلق إلى الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الإسراء/1)، نجد رسول الله(ص)، بقدرة الله، وبالمعجزة الإلهية، ينطلق في ليلة واحدة ليصل إلى بيت المقدس، ليلتقي ـ كما جاء في الرواية ـ بالأنبياء كلّهم، لأنه يمثّل خاتمة الأنبياء، وليصلّي بهم، ولينفتح على كل آيات الله، وليربط في إسرائه بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، لتكون كرامة المسجد الحرام من كرامة المسجد الأقصى، وليكون المسلمون مسؤولين عن المسجد الأقصى كما هم مسؤولون عن المسجد الحرام، في كل ما يواجهونه، لأن المسجد الأقصى يمثل مسجد الرسالات الأولى، ولأن المسجد الحرام يمثل موقع رسالة إبراهيم(ع) التي انتهت برسالة النبي محمد(ص).

علينا أن نعيش في أجواء الإسراء، كما نعيش في أجواء المعراج الذي رفع الله تعالى فيه نبيّه إلى مواقع القرب منه، ليعطيه ثقافة السماء، كما أعطاه ثقافة الأرض. وهكذا جمع الله تعالى لنبيّه، في كتابه الذي أوحى به إليه، وبما ألهمه إيّاه في كل مواقع التشريع، وفي رحلته إلى المسجد الأقصى، وفي رحلته إلى السماء، جمع له علم السماء والأرض، هذا العلم الذي أعطاه لعليّ(ع) الذي قال: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب»، حتى قال النبي(ص): «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليدخل من الباب».

إنّ هذه الذكريات الإسلامية التي تفتح عقولنا بالحق، وتفتح قلوبنا بالمحبة والرحمة، وتفتح حياتنا بالخير كلِّه، وتجعلنا نعمل من أجل أن نحصل على مواقع القرب من الله، علينا أن نعيشها حتى نستطيع أن نتحمّل مسؤوليتها.

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المرحلة الصعبة التي تعيشونها في هذه الأيام، بالوحدة التي تشدّكم جميعاً إلى مسؤولياتكم، لتكونوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، ولتواجهوا الاستكبار كله والكفر كله بالموقف القويّ الصامد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ولتتحمَّلوا كل مسؤولياتكم عن كل مواقع المسلمين، استجابةً لقول النبي(ص): «من أصبح لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»، و«من سمع منادياً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم». أن ننطلق جميعاً كأمة واحدة، لا تفرقنا مذاهبنا ولا قومياتنا ولا أعراقنا. أن نكون مسلمين، لنفتح كل حركتنا في كل مواقعنا على أساس أن يكون الإسلام هو القاعدة التي تخططِّ وتنظّم وتدفع الجميع إلى مواقع النصر أو الشهادة. فتعالوا لنواجه ما يحيطنا من مشاكل وتحديات.

أمريكا: الخضوع للاستراتيجية الإسرائيلية:

لا تزال القضية الفلسطينية في دائرة الاهتزاز على الصعيدين الأمني والسياسي، فالصراع في داخل "الليكود" بين شارون ونتنياهو، قائم على أساس التنافس بينهما أيّهما الذي يصادر أكثر من الأرض الفلسطينية، ويضغط على الشعب الفلسطيني كوسيلة لإلغاء مشروع الدولة الفلسطينية، الأمر الذي يوحي بأن هناك عملاً يستهدف إقفال الملف الفلسطيني عند النقطة التي يريدها اليهود بقيادة "الليكود"، ولا سيما من قِبَل شارون، في عملية تأكيد على تفكيك البنية التحتية لفصائل الانتفاضة بالقوة من قِبَل السلطة، تحت تأثير معالجة ما يسمّونه "الإرهاب"، ما قد يؤدي إلى فتنة داخلية، مع الحديث عن فقدان الشريك الفلسطيني، لاستبعاد مفاوضات الحلِّ النهائي، وإرباك مسألة الانسحاب من غزة، بإثارة الجدل، وتمييع الموقف حول المعابر على مستوى البر والبحر والجوّ، إضافةً إلى توسعة المستوطنات، واستكمال الجدار العنصري الذي يجتاح الضفة الغربية ومعها القدس.

أما أمريكا، فلا تزال تتحدث عن "شجاعة" شارون بالانسحاب من مستوطنات غزة، ولكنها تهمل مسألة الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وإلغاء الجدار، وتنفيذها خارطة الطريق إلا بالشروط الإسرائيلية، من خلال موعظة الرئيس الأمريكي المتكرّرة عن "الحقائق الساطعة على الأرض" في واقع المستوطنات الكبرى في الضفة، والتي هي ـ باعترافه ـ تمنع قيام الدولة الفلسطينية.

إنَّ أمريكا ـ ومعها اللّجنة الرباعية الدولية ـ تخضع للاستراتيجية الإسرائيلية، لأنها لا تملك الضغط على إسرائيل التي تعطي الانطباع بأنها تحكم الغرب كله، وتُخضع سياسته في المنطقة لسياستها، حتى إنّ أمريكا تطوف العالم العربي والإسلامي للضغط على دوله للاعتراف بإسرائيل، لأن ذلك هو الذي يطوّر علاقاتها بها، وقد أعلنت باكستان اعترافها بإسرائيل، والتخطيط لعلاقات دبلوماسية معها، بموافقة دول عربية وإسلامية ـ بما فيها السلطة الفلسطينية ـ ووساطة تركية، كما أعلن وزير حرب إسرائيل، أن الدول العربية بأجمعها "تعترف بالدولة العبرية سراً".

إننا نرى في ذلك كله تشجيعاً لإسرائيل في الاستمرار بالضغط على الشعب الفلسطيني واستكمال حصارها لـه، وممارسة اعتقال شبابه وقتل مجاهديه، لأن الدول العربية والإسلامية لا تريد الاعتراض عليها، لأنَّ أمريكا التي تسيطر على العالمين العربي والإسلامي، تأمر الجميع بالخضوع للدولة العبرية في قيادتها للشرق الأوسط، بالاشتراك مع أمريكا في سياستها وأمنها، على أساس التحالف المخابراتي بين الموساد والسي. أي. إيه.

إننا نريد للفلسطينيين أن ينتبهوا إلى خطورة ما يجري، وألا ينساقوا وراء أوهام قد يزرعها بعض العرب ممن يرتبطون بإسرائيل أو باللعبة الأمريكية، من دون أن يحصلوا على أيّ قدر من الاحترام منهما، لأن إسرائيل وأمريكا تحتقران العالم العربي والإسلامي اللذين سقطا تحت سيطرتهما بالضربة القاضية، ونريد للشعوب العربية والإسلامية ألا يغفلوا عن القضية الفلسطينية، التي إذا سقطت فلن يبقى لها أيّ عزة أو كرامة أو مستقبل كبير.

العراق: الاحتلال يتحمل مسؤولية المجزرة:

أما في العراق، فإن شبح الموت يخيّم في كل مكان، حتى في المواكب الدينية، وخصوصاً ما حدث في مناسبة زيارة المؤمنين إلى مقام الإمام موسى الكاظم(ع) في الكاظمية، من المجزرة التي حصدت المئات في موقع الجسر بالتدافع الجماهيري، بفعل الإشاعة الوحشية أو بقصف الزائرين، ما جعل المسألة في حجم الكارثة، حيث سقطت أجساد الطفولة البريئة إلى جانب النساء والكهول والشيوخ والشباب، في مشهد جنائزي يعيدنا إلى ذاكرة التاريخ بكل مآسيه ومظالمه.

إننا في الوقت الذي نواجه كلَّ هذه المأساة الدامية الفظيعة بالألم والاستنكار، ونستمطر الرحمة للضحايا ونعزي أهاليهم، وندعو الله تعالى بالشفاء للجرحى، نرى أن الاحتلال هو الذي يتحمّل المسؤولية عن ذلك كله، لأنه هو الذي أدخل العراق في هذا المناخ الأمني الذي أدى إلى الفوضى الأمنية المتعددة الأبعاد والأهداف والوسائل والاتجاهات، إضافةً إلى استراتيجيته في إرباك المنطقة كلها بما يسمّيه "الفوضى البنّاءة"، للوصول إلى مشاريعه الاستكبارية ومصالحه الاستراتيجية، في الوقت الذي يوزّع تهديداته واتهاماته لإيران، كتلك التي أطلقها الرئيس شيراك في الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا في الخارج، والذي هدد فيه إيران باللجوء إلى مجلس الأمن لفرض العقوبات عليها "إذا لم تعد إلى التزاماتها بتعليق النشاطات المتعلقة بالمواد الانشطارية، وفقاً لما يطالب به اتفاق باريس"، لأن الغرب لا يريد لإيران أن تملك الاستقلال بالخبرة العلمية التي تبني اقتصادها بشكل فاعل. وإلى جانب ذلك، فإن أمريكا وفرنسا تهددان سوريا بعقوبات وشيكة عليها، بداعي حصولهما على قرائن قاطعة بأنها تملك أسلحة بيولوجية، أو باتهامها باغتيال الرئيس الحريري، ممّا اعتدناه من الاتهامات المخابراتية لدول المنطقة، مع السكوت عن كلِّ أسلحة الدمار الشامل لدى إسرائيل ، وعن كلِّ جرائمها الوحشية للمنطقة كلها.

إننا ندعو العراقيين ـ أمام هذه المآسي والكوارث ـ إلى التوحّد حول هدف واحد يتمثَّل في إخراج المحتل، والعمل لبناء عراق موحّد جديد بعيد عن أشكال التقسيم بعناوينه القديمة والمستحدثة، وأن يصار إلى اعتماد مسودة دستور يراعي حقوق الجميع، بعيداً عن الاستغراق في الجوانب الطائفية والعرقية، ووصولاً إلى العمل بروحية الإسلام الجامعة الشاملة التي تحتضن الأديان والأعراق كلَّها، لأن ذلك هو الذي ينقذ العراق ـ والأمَّة معه ـ قبل أن تفقد الأمة توازنها في الساحات الأخرى بين ما هو وحش الاحتلال وما هو وحش الفوضى الداهمة على كلِّ المستويات.

لبنان: إعادة قضية الصدر إلى دائرة الضوء:

أما لبنان، فإنَّنا نستذكر غياب شخصية قيادية رائدة منفتحة على الخير كله، والحق كله، والأمة كلها، وهي شخصية السيد موسى الصدر الذي كانت جريمة إخفائه جريمة في مستوى العصر، من دون أن نجد هناك اهتماماً دولياً بالضغط على الدولة التي تتحمّل المسؤولية كلها في ذلك، وربما في اغتياله _ وقد كانت أهمية هذا الحدث _ الجريمة، أن ينطلق لبنان في المطالبة بلجنة تحقيق دولية، ولكن قواعد اللعبة اللبنانية والعربية والدولية، أهملت القضية في بُعدها المتنوّع، واكتفت بالإعلام الاحتفالي من دون أية مسؤولية واقعية. إننا نطالب بإعادة هذه القضية إلى دائرة الضوء، بالتحرك الجاد لكشف النقاب عنها، وتحميل المسؤولية للقائمين على هذه الجريمة الكبرى.

الوعي للمكائد ومخطّطات الفتنة:

ومن جانب آخر، فإننا نريد للبنانيين الغارقين في أجواء التهويل والتخويف والإرباك الأمني والسياسي، أمام بعض الخطوات الأمنية والتفاعلات السياسية في دائرة التقرير، والاهتزازات الداخلية والإشاعات التي يتداولها الناس، مما يثيره المخططون للفتنة، إننا نريد لهم جميعاً، أن يكونوا الواعين لكل ما يثار في ساحاتهم من مواضيع، وما يُطرح من قضايا، لأننا في الوقت الذي نريد جميعاً أن تبرز الحقيقة واضحةً بكل معطياتها وخلفياتها وامتداداتها، نؤكِّد ضرورة عدم استباق الأمور، وعدم السَّير في طريق التَّأويلات والتحليلات التي قد تفتح النوافذ للفتنة، من حيث تأتي الرياح الدولية والإقليمية، وحيث نزعم أن ثمة أطرافاً دولية تستغل الواقع اللبناني لإثارته في الاتجاه الذي يعزِّز مصالحها في المنطقة.

إننا نريد للدولة وسط هذه الأجواء، للدولة ألا تغفل عن واجباتها الأخرى، وبخاصة في الأمور الاقتصادية والأمنية والحياتية بشكل عام، لأننا نريد للعدالة أن تشمل كل خطط الدولة في كل قضايا الشعب، ولا سيما كشف الحقيقة في الذين قادوا البلد إلى جهنم المديونية، أو الذين سرقوا وأهدروا وجعلوا الطريق سهلاً أمام الوصايات الخارجية، ثم جاؤوا ليضعوا اللبنانيين أمام خيارين: الارتهان للخارج، أو انتظار فتنة تأكل الأخضر واليابس.

أيها المسؤولون: لقد جئتم لحل مشكلة الإنسان في لبنان بالحلول الواقعية العادلة، فلا تكرروا التجربة لتكونوا، كما كان الذين من قبلكم، مشكلة لبنان.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية